مقال - عقود من تهجير الفلسطينيين: كيف تفعل ذلك إسرائيل؟

نظرة عامة

تُركِّز معظم النقاشات الدائرة حول تهجير الفلسطينيين – بما فيها نقاشات الفلسطينيين أنفسهم – على نكبة 1948 والتهجير القسري لِما يزيد على 700,000 فلسطيني على يد القوات الصهيونية لغرض إقامة دولة إسرائيلية على أرض فلسطين التاريخية. ومع ذلك، حظيت التدابير المتنوعة التي تتبعها إسرائيل في تهجير الفلسطينيين قسرًا منذ العام 1948 باهتمامٍ أقل بكثير رغم التقديرات التي تشير بأن إسرائيل هجَّرت %66 من العدد الكلي لسكان فلسطين قسرًا كجزءٍ من خطتها المدروسة وطويلة الأجل لخلق أغلبية يهودية والحفاظ عليها. يذكر مستشار الشبكة للسياسات، منير نسيبة، في هذه المقالة ستةً من الأساليب التي تستخدمها إسرائيل في تهجير الفلسطينيين، ويناقش اثتين منها وهما التهجير بأسلوبي هندسة الوضع القانوني وتخطيط المدن والقرى. كما يحاجج الكاتب بأن المقاربة الحقوقية التقليدية للقضية ليست كافية، وإنما يدعو المنظمات المدافعة عن حقوق الإنسان إلى تطبيق نهج العدالة الانتقالية الأحدث عهدًا على النزاع من أجل التعامل مع انتهاكات حقوق الإنسان الجماعية المرتكَبة بموجب سياسات، إذ إن ذلك هو السبيل الوحيد المُجدي لجبر الضرر وإحلال السلام العادل.1

السياق المفقود من أجل المطالبة بالحقوق

تُظهِر البحوث الأرشيفية التي يجريها “المؤرخون الجدد” الإسرائيليون أن كبار زعماء الحركة الصهيونية ما فتئوا يدعون منذ أمد طويل إلى ترحيل الفلسطينيين أو “الترانسفير” لضمان قيام أغلبيةٍ يهودية على أرضٍ كان اليهود فيها أقلية. وقد ترجم مؤسسو دولة إسرائيل ومَن خَلَفَهم هذه الدعوات إلى سياسةٍ وممارسةٍ واقعة مستخدمين أساليب متنوعة لا تزال ساريةً حتى يومنا هذا.2 غير أن دوافع إسرائيل والطبيعة الممنهجة لترحيل السكان لم يُتطرَّق لها. فعلى سبيل المثال، لا يأتي إعلان المبادئ المبرم سنة 1993 بين إسرائيل وحركة التحرير الفلسطينية، والذي يشير إلى “اللاجئين” باعتبارهم قضيةً من القضايا المطروحة على طاولة مفاوضات الوضع النهائي، على ذكر آلاف الضحايا الآخرين المهجَّرين المستحقين للتعويض وجبر الضرر. (ناهيك عن أن الإعلان لم يتطرق لحقوق اللاجئين ولم يُقدَّم أي سُبل لمعالجة مشكلتهم).

إن من الشائع في أدبيات المنهج الحقوقي أن ينصبَّ التركيزُ على لاجئي الحرب بمعزلٍ عن موجات النزوح الأخرى. ولكن من الأهمية بمكانٍ في السياق الفلسطيني أن ينظر إلى لاجئي الحرب في إطار الصورة الكلية للنزاع. فكما يلاحظ رائف زريق، “لم يفقد الفلسطينيون حقوقهم وأراضيهم وحسب، بل فقدوا أيضًا السياق الذي يُمكِّنهم من المطالبة بتلك الحقوق بطريقةٍ منطقية.3 فلا يمكن اعتبار اللاجئين الفلسطينيين من الأعوام 1947-1948 و1967 كلاجئي حرب وحسب، بل هم ضحايا سياسةٍ عنصريةٍ لترحيل السكان نُفِّذت تحت غطاء الحرب وأسفرت بصورتها الكلية عن تهجير مجموعات أخرى من الضحايا.

إن تطبيق إطار العدالة الانتقالية على السياق الفلسطيني-الإسرائيلي يمكن أن يعالج مسألة السياق المفقود الذي تحدث عنه زريق. لقد طُبِّق إطار العدالة الانتقالية لغاية الآن على نزاعات أخرى ولكنه لم يخضع للدراسة الكافية في الحالة الفلسطينية رغم أنه يقدم وسائل لتعويض الضحايا تعويضًا شاملًا عن انتهاكات حقوق الإنسان الجسيمة التي تعرضوا لها، كما سيأتي في القسم الأخير من هذه المقالة.

أساليب إسرائيل الستة في التهجير القسري

سخَّرت إسرائيل نظامَها القانوني ومؤسساتها القانونية منذ نشأتها وحتى اليوم من أجل تطبيق سياسة التهجير القسري داخل الأرض الفلسطيني المحتلة وإسرائيل. وتندرج أساليبها المتبعة ضمن ست فئات عامة، على الأقل، تتسبب في التهجير الدائم للفلسطينيين من جانبي الخط الأخضر على السواء.

  1. استخدام العنف في زمن الحرب كما حدث إبان حروب 1948 و1956 و1967، وهو ما تسبب في واحدةٍ من أعقد مشاكل اللاجئين في العالم، فضلًا عن العدد الكبير من المشردين داخليًا.
  2. هندسة الوضعية القانونية الشخصية في إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة على نحو يحرم المقيمين بصفة اعتيادية أو الأشخاص المستحقين للإقامة من الحق في العيش في ديارهم.
  3. التخطيط الحضري والقُطري التمييزي الذي يشجع التوسع اليهودي ويكبح العمران الفلسطيني في مناطق معينة مثل القدس وغور الأردن وصحراء النقب. وبسببه تُهدَم منازلُ وقرى بأكملها بذريعة “البناء غير المشروع.”
  4. تجريد الفلسطينيين من ممتلكاتهم بموجب قوانين ولوائح تمييزية تُسفر عن إخلاء الأسر من مساكنها قسرًا.
  5. الترحيل بموجب مبررات أمنية وقانون الطوارئ. وقد استُخدمت هذ الطريقة على نطاق واسع في الأراضي الفلسطينية المحتلة في بداية الاحتلال، ولا تزال تُستَخدم بين الفينة والأخرى.
  6. خلق ظروفٍ لا تطاق في مناطق معينة تحمل السكان المدنيين في نهاية المطاف على ترك منازلهم والانتقال إلى مناطق أخرى. وقرية الشيخ سعد في القدس وقرية النعمان في الضفة الغربية هما مثالان لهذا الأسلوب حيث اشتد الخناق على سكان كلتا القريتين بسبب تشييد جدار الفصل العنصري.

تساهم أساليب التهجير الستة المذكورة جميعها في ترحيل السكان الفلسطينيين المدنيين قسرًا سواء إلى مناطق أخرى داخل حدود فلسطين/إسرائيل أو عبر الحدود الدولية. وتشير التقديرات إلى أن إسرائيل قد هجَّرت قسرًا بحلول نهاية عام 2011 حوالي %66 من الشعب الفلسطيني كافة. ونتناول فيما يلي بتفصيل أكبر أسلوبين من الأساليب الإسرائيلية – وهما هندسة الوضعية القانونية الشخصية والتخطيط الحضري.

التهجير من خلال هندسة الوضعية القانونية الشخصية

استخدمت إسرائيل في أعقاب حرب 1948 تعريفات خاصة الأوضاع القانونية الشخصية لإحداث التغييرات الديموغرافية اللازمة لتحويل الأقلية اليهودية في المناطق التي احتلتها إبان الحرب إلى أغلبية. واستحدثت قوانين الجنسية التمييزية على نحو من شأنه أن يستثني جميع اللاجئين من الحصول على جنسيتها. تخضع الجنسية الإسرائيلية لأحكام قانون العودة لعام 1950 وقانون الجنسية لعام 1952. وبموجب هذين القانونين، اكتسب يهودُ العالم قاطبةً ميزةً إذ أصبحوا “رعايا” يهودًا لإسرائيل يمتلكون الحق في الهجرة إليها واكتساب المواطنة الكاملة. وفي الوقت نفسه، منح القانون الجنسية4 للفلسطينيين الذين بقوا في إسرائيل واستثنى اللاجئين الفلسطينيين كافة رغم أنهم أقاموا قبلها لقرونٍ في الأرض التي أصبحت فيما بعد دولةَ إسرائيل.5 ‪ وبالإضافة إلى ذلك، جرَّم قانون منع التسلل الإسرائيلي لعام 1954 (الجرائم والاختصاص القضائي) محاولات اللاجئين في العودة إلى ديارهم.‬

وفي أعقاب حرب عام 1967، استحدثت إسرائيل تدابير مماثلة من خلال النظام القانوني العسكري الذي أدارت بواسطته الاحتلال. وبُعيد الحرب، التي تشرَّد إبانها نحو ثلث السكان، أجرت إسرائيل تعدادًا سكانيًا في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ثم استحدثت نظامًا جديدًا لإقامة الفلسطينيين استبعد كل مَن لم يشمله التعداد بصرف النظر عن ارتباطه بالأراضي الفلسطينية المحتلة، ثم أصدرت عددًا من أوامر “منع التسلل” العسكرية التي تجرم العودة غير المصرح بها على نحو يكاد يطابق قانون 1954 المذكور آنفًا، ممّا أوصد باب العودة أمام اللاجئين المهجَّرين سنة 1967.

إن السياسة المتمثلة في سنّ قواعد جديدة للإقامة ومن ثم تجريم مَن يحاول العودة من الفلسطينيين لم تكن نهاية الهندسة الإسرائيلية للأحوال الشخصية. فبعد أن احتلت إسرائيل الضفة الغربية وقطاع غزة، ضمّت القدس الشرقية واستحدثت ثلاثة أنواع مختلفة من الإقامة في قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية. وبموجبها، حصل سكان الأراضي الفلسطينية المحتلة المشمولون في التعداد على بطاقات هوية إسرائيلية (بطاقات الهوية) حملت ثلاثة ألوان مختلفة: البطاقة الحمراء لقطاع غزة، والبرتقالية للضفة الغربية، والزرقاء للقدس الشرقية. وحصل سكان القدس الشرقية على إقامةٍ إسرائيلية وخضعوا للقوانين المحلية والولاية القانونية الإسرائيلية، في حين اعتُبر باقي السكان مقيمين في أراضيهم وخضعوا للنظام العسكري الإسرائيلي.

اشتمل كلا النظامين القانونيين على طُرق لإلغاء الإقامة. ففي الضفة الغربية وقطاع غزة، حصل المسافرون إلى الخارج على تصاريح خروج تحمل تاريخ صلاحية. وعندما لم يرجع المسافر قبل انتهاء صلاحية التصريح، أصبحت إقامته “إقامةً متوقفة” ولم يُسمح له بالعودة. وقد توقف العمل بسياسة إلغاء الإقامة هذه في الضفة الغربية وقطاع غزة بعد انطلاق عملية السلام.

وفي القدس الشرقية، كانت سياسة إلغاء الإقامة مماثلةً من حيث التأثير للسياسة المتبعة في الضفة الغربية وقطاع غزة، رغم أنها كانت خاضعةً لولاية إسرائيل القانونية المحلية، وليس للقانون العسكري. فقد احتاج المقدسيون أيضًا للحصول على تصاريح الخروج عند السفر إلى الخارج، وكانوا يفقدون إقامتهم إذا لم يعودوا قبل انتهاء صلاحية التصريح. ومع ذلك، وخلافًا لسكان الضفة الغربية وقطاع غزة، لم توفر عملية السلام أي حماية لسكان القدس. بل على العكس، غيَّرت إسرائيل الإطار القانوني بحيث سرَّعت وتيرة إلغاء الإقامات.

كانت إسرائيل تلغي إقامة المقدسيين، قبل عملية السلام، إذا ما اعتبرت أنهم قد “تركوا إسرائيل واستقروا في بلد آخر”.6 يورد قانون الدخول إلى إسرائيل تعريفَ الاستقرار خارج إسرائيل لغرض إلغاء الإقامة بأنه: العيش في الخارج لمدة 7 سنوات أو الحصول على إقامة في بلدٍ أجنبي أو التجنس بجنسية ذاك البلد. ولم تدخل الإقامة في الضفة الغربية وقطاع غزة ضمن تعريف الاستقرار خارج إسرائيل.

وما إن بدأت عملية السلام حتى غيرت إسرائيل بغتةً قواعد إلغاء الإقامة دون تعديلات قانونية رسمية ودون إخطار العامة. وعلى حين غِرّة، أخذت إسرائيل تتبع معيارًا جديدًا في تحديد إقامة الشخص خارج إسرائيل يُعرَف باسم “مركز الحياة.” ووفقًا للسياسة الجديدة، إذا تبين أن “مركز حياة” المقدسي كان خارج إسرائيل فإن ذلك المقدسي يُصبح عرضةً لإلغاء إقامته. والأدهى من ذلك أن الإقامة في الضفة الغربية أو قطاع غزة باتت تُعتبر إقامةً في الخارج، ممَّا عرَّض إقامة آلاف الفلسطينيين الذين بنوا منازلهم في ضواحي القدس للخطر. ووفقًا لأرقام وزارة الداخلية الإسرائيلية، أُلغيت إقامات 14,152 فلسطينيًا في الفترة بين عامي 1967 و2011، منهم ما يزيد على 11,000 بعد انطلاق عملية السلام. وهذه الأرقام تصرِّح بما هو أقل بكثير من الأرقام الفعلية للفلسطينيين الذين فقدوا حقهم في الإقامة. فهي، مثلًا، لا تشمل سوى بيانات جزئية مستمدة من الفترة 1967-1990 كما تشير وزارة الداخلية الإسرائيلية نفسها.7 ولا تزال إسرائيل تطبِّق سياسة “مركز الحياة” الصارمة بقسوة.

وبالإضافة إلى إلغاء الإقامة، وضعت إسرائيل قيودًا على تسجيل المواليد. ولا تنطبق هذه القيود على المقيمين في القدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة وحسب، بل على المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل أيضًا. فإسرائيل تمنع الانتقال التلقائي للجنسية لأبناء المواطنين الإسرائيليين المولودين في الخارج. ورغم أن هذا القيد ينطبق على المواطنين اليهود وغير اليهود على حدٍ سواء، فإن بوسع المولود اليهودي أن يكتسب الجنسية بفضل “العودة،” بينما لا يتمتع المولود غير اليهودي بهذا الحق.

تتسم الظروف التي تحكم تسجيل أبناء المقدسيين بأنها أكثر تعقيدًا وتقييدًا. فبما أن السكان الفلسطينيين في القدس ليسوا من مواطني إسرائيل، فإنهم لا يستطيعون نقل إقامتهم إلى أبنائهم تلقائيًا. وقد رفضت وزارة الداخلية الإسرائيلية في الفترة بين عامي 1967 و1994 تسجيل أبناء المقيمات على أساس أنه ينبغي للأبناء أن يتبعوا لوضع الأب. وحاليًا، إذا كان كلا الوالدين مقيمًا، فإن وزارة الداخلية تسجل أبناءهما ولكن دون الاعتراف به كحق. وفي الواقع، دأبت إسرائيل على زيادة قيودها المفروضة على منح الأبناء إقامةً دائمةً في الحالات التي تقتصر فيها الإقامة على أحد الوالدين وفي الحالات التي يولَد فيها الأبناء في الخارج، وبالتالي قللت عمليًا عدد الأطفال المقدسيين المسجلين. وفي عام 2002، بدأت إسرائيل في التعامل مع طلبات تسجيل أبناء المقدسيين المولودين في الخارج كحالات للمِّ الشمل الأسري، وطبقت ذلك أيضًا في الضفة الغربية وقطاع غزة.

وفي نقس الوقت، قرَّرت الحكومة الإسرائيلية التوقف عن مراجعة طلبات لم الشمل المقدَّمة من المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل والمقدسيين الفلسطينيين للعيش مع أزواجهم الفلسطينيين من الضفة الغربية أو قطاع غزة. وصعَّبت إجراءات تسجيل الطفل المولود في إسرائيل اذا كان أحد والديه فقط مقيمًا، وهي سياسة زادت المقدسيين تضررًا. قدَّرت إحدى المنظمات غير الحكومية الفلسطينية في عام 2003 بأن هذه القيود أسفرت عن وجود أكثر من 10000 طفلاً غير مسجلٍ في القدس الشرقية، ولكن ليس هناك مصدرٌ آخر للبيانات فيما يتعلق بعواقب هذه الأداة المستخدمة في تهجير الفلسطينيين قسرًا والتي لم تحظَ بتغطيةٍ كافية. وتجدر الإشارة إلى أن قيودًا مماثلة قد فُرِضت على تسجيل المواليد في الضفة الغربية وقطاع غزة حتى بعد قيام السلطة الفلسطينية في عام 1994.

التهجير من خلال التخطيط الحضري

التخطيط الحضري هو أسلوبٌ آخر ما انفكت إسرائيل تستخدمه على جانبي الخط الأخضر منذ قيامها وحتى يومنا هذا من أجل تهجير الفلسطينيين وإحلال المستعمرين اليهود مكانهم. ففي صحراء النقب، على سبيل المثال، هُجِّرت الغالبية العظمى من السكان المدنيين إبان حرب 1948 وكنتيجة لموجات التهجير القسري في عقد الخمسينيات. ومع ذلك، لا تزال إسرائيل تستهدف سكان هذه المنطقة، واختارت التخطيط الحضري هذه المرة لتحقيق مآربها، حيث ترفض الحكومة الإسرائيلية الاعتراف بعشرات القرى والبلدات البدوية الفلسطينية التي يعود تاريخ بعضها إلى ما قبل عام 1948، في حين أُنشئ بعضها الآخر كنتيجةٍ لسياسات التهجير الإسرائيلية السابقة. وإسرائيل عازمةٌ على تنفيذ خطةٍ من شأنها أن تدمر نحو 35 قريةٍ بدوية وتهجير البدو قسرًا إلى أماكن مكتظة بُغية “تطوير” المنطقة للتوسع اليهودي.

ومن الجدير بالذكر أن البدو هم أيضًا من بين المجموعات السكانية الفلسطينية التي هُجِّرت في الأراضي الفلسطينية المحتلة لإفساح المجال أمام الاستعمار اليهودي الذي يُعتبر غير قانوني بموجب القانون الدولي. فما برح البدو يتعرضون للتهجير من حول القدس، على سبيل المثال، من أجل توسيع مستوطنة معاليه أدوميم التي تأوي نحو 40,000 مستعمرٍ يهودي. وهذا من شأنه أن يُهجِّر بدو الجهالين الذين سبق تهجيرهم من تل عراد في النقب.

لقد كُتب الكثير عن استعمار إسرائيل للضفة الغربية والقدس الشرقية باستخدام أساليب التخطيط الحضري المماثلة لتلك المذكورة آنفًا. ولكن تجدر الإشارة إلى الدور المهم الذي يضطلع به التخطيط الحضري ولا سيما في تهجير الفلسطينيين في القدس الشرقية التي ضمتها إسرائيل بصورةٍ غير قانونية. فمنذ بداية الاحتلال عام 1967، صادرت إسرائيل %35 من الأراضي الفلسطينية في القدس الشرقية وخصصتها للاستعمار اليهودي. واستخدمت إسرائيل أيضًا سياسات تنظيم الأراضي لجعل %22 من الأراضي الفلسطينية “مناطق خضراء” لم يُسمح للفلسطينيين بالبناء عليها. وحاليًا، لا تتجاوز المساحة المرصودة للعمران الفلسطيني في القدس الشرقية ما نسبته %13 من مساحتها الكلية، وأغلب هذه النسبة الضئيلة مبنيةٌ ومسكونةٌ بالفعل حاليًا. وتَعتبر إسرائيل أي بناءٍ لا يحمل رخصةً “غير قانوني”، وكثيرًا ما تهدم تلك الأبنية، ممًا يتسبب في التهجير القسري لقاطنيها.

سياسةٌ ممنهجة للتهجير القسري من البداية

يظهر من النقاش أعلاه وما سيق من أمثلةٍ للأساليب المستخدمة في التهجير أن سياسةَ إسرائيل التمييزيةَ المتمثلة في تهجير الفلسطينيين قسراً هي سياسةٌ ممنهجة ومستمرة ومتجذرة في فلسفة قيامها كدولة. وسوف يكتسب هذا الإدراك أهميةً عند إطلاق عمليةِ سلامٍ حقيقية. وفي السياق الفلسطيني، ليس هناك مبررٌ للتركيز على لاجئي الحرب وتجاهل ضحايا الأساليب المتنوعة للتهجير والتي تصب بمجملها في سياسةٍ شاملةٍ ومدروسة ترمي إلى إحلال المستعمرين من السكان اليهود في إسرائيل أو اليهود حديثي الهجرة إليها محل السكان الأصليين.

سوف تقتضي عملية السلام الحقيقية تجاوزَ الإطار التقليدي لحقوق الإنسان وتطبيق إطار العدالة الانتقالية على الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. فإطار العدالة الانتقالية يُقدِّم مقاربةً شاملةً لا تقتصر على توفير تدابير جبر الضرر بل تتيح أيضًا تحديد انتهاكات حقوق الإنسان الواجب تداركها. ففي تيمور الشرقية، على سبيل المثال، أُنيطت بلجنة تقصي الحقائق ولايةٌ شاملة اقتضت منها التحقيق في “السياق والأسباب والسوابق والدوافع ووجهات النظر التي قادت إلى الانتهاكات” و”ما إذا كانت جزءًا من نمطٍ أو اعتداءٍ ممنهج” و”ما إذا كانت بسبب تخطيطٍ متعمدٍ أو سياسة أو تفويض من جانب الدولة أو الجماعات السياسية أو الميليشيات أو حركات التحرر أو غيرهم من الجماعات أو الأفراد.”‪8

ومن دون هذا الفهم الشامل للانتهاكات، سيستحيل جبر الضرر الذي لحق بضحايا انتهاكات حقوق الإنسان وسيستحيل وقف الجرائم. وبالإضافة إلى المشاكل الجمّة الأخرى المرتبطة “بعملية سلام” أوسلو، تجاهلت العملية تمامًا موجات ترحيل المدنيين الكثيرة والأساليب المتبعة فيها، بل إن وتيرة التهجير القسري قد ازدادت بعد انطلاق عملية السلام.

ينبغي لمنظمات حقوق الإنسان والأكاديميين والممارسين أن يعيدوا رسم الصورة وهم يحددون العناصر التي ينبغي تناولها في مرحلةٍ انتقالية تنقلنا إلى السلام والعدالة في الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. إن الدراسة الشاملة لانتهاكات حقوق الإنسان أمرٌ ضروري ليس لفهمها في حد ذاتها وحسب وإنما لتحديد وسائل الانتصاف المناسبة، بما فيها الإصلاحات القانونية والمؤسسية التي لا غنى عنها في جبر الضرر، كما يتضح من الأمثلة الواردة أعلاه. ويجب ألا تتكرر أخطاء أوسلو: فلا يمكن للسلام أن يَحلَّ أبدًا في ظل قوانين ومؤسسات تمييزية لا تنفك توقع ضحايا أكثر فأكثر.

  1. لقراءة هذا النص باللغة الفرنسية، اضغط/ي هنا. تسعد الشبكة لتوفر هذه الترجمات وتشكر مدافعي حقوق الإنسان على هذا الجهد الدؤوب، وتؤكد على عدم مسؤوليتها عن أي اختلافات في المعنى في النص المترجم عن النص الأصلي.
  2. كتب نور مصالحة، “وُلدت فكرة الترانسفير في الوقت نفسه تقريبًا الذي وُلِدت فيه الصهيونية السياسية حين أعرب هرتزل عن أمله في ‘طرد الشعب المفلس إلى الجانب الآخر من الحدود.'” طرد الفلسطينيين: مفهوم “الترانسفير” في الفكر والتخطيط الصهيونيين 1882-1948 (واشنطن: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1992)، 207.
  3. “Palestine, Apartheid and the Rights Discourse” مجلة الدراسات الفلسطينية 34، رقم 1 (1 تشرين الأول/أكتوبر 2004): 78.
  4. لقد أعطت إسرائيل الجنسية لأغلب الفلسطينيين الذين بقوا في المساحة التي سيطرت عليها إسرائيل في أغقاب الحرب. ومع ذلك، فقد قسمت المواطنين الإسرائيليين إلى أقوام، كالقوم اليهودي والعربي والأرمني والدرزي وغيرها. وحتى يومنا هذا، فإن النظام القانوني الإسرائيلي يميز في بعض الحقوق الممنوحة للمواطنين بناءً على قوميتهم.
  5. يمكن للمرء اكتساب الجنسية من خلال الإقامة إذا كان: (1) مواطنًا فلسطينيًا قبل قيام دولة إسرائيل، (2) ومشمولًا في تعداد عام 1952، (3) ومن “سكان إسرائيل”، (4) وحاضرًا بشخصه في إسرائيل أو دخلها بوجه “قانوني” في الفترة الواقعة بين إقامة الدولة وسنَ هذا القانون. وهذا يستبعد عمليًا مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين أُجبروا على اللجوء.
  6. قانون الدخول إلى إسرائيل (1974)، المادة 11.
  7. للاطلاع على سرد شامل للسياسات الإسرائيلية الصارمة والجائرة المطبقة على حقوق الفلسطينيين في الإقامة، انظر http://www.civiccoalition-jerusalem.org/human-rights-resources/publications/reports/israeli-laws-and-policies-denying-palestinians-right-fre
  8. Commission for Reception, Truth and Reconciliation in East Timor, Part 2: Mandate of the Commission, Chega! Final Report of the Reception, Truth and Reconciliation in East Timor, 2005, 2.‬
منير نسيبة هو أكاديمي حقوقي من جامعة القدس في فلسطين، وهو أستاذ مساعد في كلية الحقوق في جامعة القدس بالإضافة إلى شغله منصب مدير (وأحد...

أحدث المنشورات

 السياسة
تكشفُ تغطيةُ وسائل الإعلام الرئيسية في الغرب لمجريات الإبادة الجماعية في غزة تحيزَها الشديد للنظام الإسرائيلي، وتُبرزُ أيضًا سهولةَ نزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين. تتناول يارا هواري في هذا التعقيب استراتيجيةَ إسرائيل في نزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين في المجال العام، ودور وسائل الإعلام الغربية في تحقيق أهداف إسرائيل. وتبين أنماطَ التقصير الصحفي المستمرة منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وتخلُص إلى أنّ وسائل الإعلام الغربية متواطئة حتمًا في الإبادة الجماعية التي يرتكبها النظام الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني في غزة.
Al-Shabaka Yara Hawari
يارا هواري· 03 أبريل 2024
لعبت كل من مصر والأردن عبر التاريخ أدواراً جيوسياسية مهمة في القضية الفلسطينية، حيث شكلت حدودهم مع قطاع غزة والضفة الغربية على التوالي المنفس الوحيد للعمق العربي وخاصة بعد حرب 1967. تزايدت وتضاءلت نفاذية هذه الحدود مع اختلاف الحكومات والظروف في المنطقة، لكن يمككنا الجزم أن مع مرور الزمن أصبحت هذه الحدود بشكل تدريجي جزءاً من الحصار على الشعب الفلسطيني وأداة ضغط على الفلسطينيين.
تعكف المصادر الإسرائيلية الرسمية على تضليل العالم إعلاميًا على نطاق واسع لتبرير الإبادة الجماعية التي ترتكبها في غزة. وقد أجَّجَ الصحفيون ومحللو استخبارات المصادر المفتوحة الحملةَ المسعورة لشيطنة الفلسطينيين بنشرهم الأنباء الكاذبة دون تدقيقها كما ينبغي. يتناول طارق كيني الشوا، في هذا الموجز السياساتي، أساليبَ الحرب الإعلامية الإسرائيلية، ويبيِّن كيف أسهمت هذه الجهود في تآكل الحقيقة وإعاقة الجهود الرامية إلى تنظيم استجابة عالمية. ويقدم توصيات للصحفيين والمحللين وعامة الجمهور للاستفادة من الأدوات مفتوحة المصدر لدحض الدعاية الإسرائيلية والمعلومات المضللة السائدة.
Skip to content