مقال - تحت الحصار: ذكريات لينينغراد وواقع غزة

في الحصار، يصير الزمان مكاناًتحجّر في أبده
في الحصار، يصير المكان زماناً
تخلّف عن أمسه وغده

محمود درويش، حالة حصار

لمحة عامة

كيف لأحدٍ أن يصف شكل الحياة تحت الحصار؟ رغم الكثير الذي كُتب في وصف قطاع غزة المحاصر، تطرح العضوة السياساتية في الشبكة، آية بشير، والكاتبة الضيف استير رابابورت رؤى ومنظورات جديدة في هذا المقال. تعيش آية بشير تحت الحصار في غزة حاليًا، أمّا استير رابابورت فقد عاشت عائلتها حصار لينينغراد إبان الحرب العالمية الثانية. تعرَّفت آية واستير إلى بعضهما عبر وسائل الإعلام الاجتماعية إبان العدوان الإسرائيلي على غزة في صيف 2014، وخطرت لهما آنذاك فكرة كتابة هذا المقال. وفي تأملاتهما وتحليلهما للحصارين، تصف الكاتبتان باقتدار الواقعَ القاسي للحياة تحت الحصار. وتحكي كلٌ منهما تأملاتها بلسانها، وتعرضان أيضًا حقائقَ ومعلوماتٍ أساسيةً، ويجري هذا الجزء من حديثهما وحوارهما على لسان “الراوي”.

آية بشير واستير رابابورت: نحن متفقتان على أن هذا النص ليس مشروعًا تطبيعيًا لأنه مبني على إيماننا المشترك ورسالتنا السياسية الواحدة بأن الحصار والاحتلال الإسرائيلي غير المشروع لأراضي عام 1967 لا بد وأن يزولا، وأن اللاجئين الفلسطينيين لا بد وأن يكونوا قادرين على العودة إلى مدنهم وقراهم. ونحن نسعى جاهدتين لإعمال حقوق الفلسطينيين كما نصَّ عليها القانون الدولي، ولمساواة الفلسطينيين بالإسرائيليين من حيث الحقوق.

ما هو الحصار؟ لينينغراد وقطاع غزة

استير رابابورت: وقعت مدينة لينينغراد، مسقط رأس أمي، تحت الحصار الألماني لعامين ونصف إبان الحرب العالمية الثانية. وفي أيام الحصار الأولى، شب حريقٌ في مخازن الإمدادات الغذائية الطارئة، تاركًا المدينة فعليًا بلا طعام. وطوال فترة الحصار، حاولت الحكومة السوفيتية إدخال المواد الغذائية إلى المدينة عبر بحيرة لادوغا وبواسطة الطائرات، ولكن جُلَّ تلك الإمدادات لم تصل بسبب القصف الألماني المتواصل. وعانى السكان مجاعةً تسببت في مقتل نحو مليون إنسان. ولجأ البعض إلى أكل الحيوانات الأليفة وجثث الموتى، بينما أخذ آخرون يكشطون أوراق الجدران لأكل الغراء المصنوع من نشا البطاطا والذي كان يحوي بعض العناصر المغذية.

ولمّا كان الحصار في منتصف مدته، فُتح ممرٌ ضيق أتاح إجلاءَ السكانِ الأكثر عرضةً للخطر عن المدينة. وصار يُعرَفُ هذا الممر، الذي كان يقطع بحيرة لادوغا المتجمدة، باسم “طريق الحياة،” وفي كثير من الأحيان كان يُسمى “طريق الموت” أيضًا نظرًا لخطورته. توفي جدي الذي ناهزَ الأربعين في لينينغراد المحاصرة جراءَ مرض هيِّن بسبب نقصِ الإمدادات الغذائية والطبية، ودُفن في مقبرةٍ جماعية. وبعد وفاته، أُجليت أمي وجدتي وأخوالي عن المدينة عبر طريق الحياة/الموت مع رياض الأطفال التي عملت فيها جدتي.

آية بشير: قليلون مَن يعيشون في الخارج ويدركون معنى الحصار. قطاعُ غزة، حيث أحيا منذ ولادتي، يرزح تحت حصارٍ وحشي متواصل منذ العام 2007. فبعد أن سيطرت حماس على قطاع غزة في 2006، أغلقت إسرائيل، بمساعدة مصر، الممرات المؤدية إلى القطاع، أي المعابر الستة مع إسرائيل ومعبر رفح مع مصر، وأحكمت قبضتها على الداخل والخارج من بشرٍ وبضائع بما فيها الإمدادات الإنسانية والطبية.

لا يقتصر حرماننا من حقوقنا الأساسية في ظل الحصار على الأوجه المادية بل يشمل النواحي العقلية والنفسية أيضًا. فلمّا كنت، على سبيل المثال، طالبةً في المدرسة الثانوية في 2006، كنت أحلم بالحياة الأكاديمية في الجامعة، وبذلت قصارى جهدي لأحرز معدلًا مرتفعًا يحقق حلمي بالدراسة في جامعة بيرزيت في الضفة الغربية، وحصلت على معدل 98.6%. ولكن، كغيري من الطلبة الكثيرين، لم أتمكن من مغادرة غزة، وكان علي أن أتقبل هذه الحقيقة. فدرست البكالوريوس في غزة، وعانيت من انقطاع الكهرباء ونقص الكتب، حيث اقتصرت مكتبة الجامعة على الكتابات الأدبية لتشارلز ديكنز وشكسبير وخلت من كتب الأدب المعاصر أو الدراسات النسوية، وهي مجال اهتمامي الأكبر. ثمة آلاف البنود المقيدة من دخول غزة، والكتب أحد هذه البنود. وهكذا، تخرجت بدرجة البكالوريوس في الأدب الإنجليزي دون أن أتمكن من شراء روايةٍ واحدة أو كتاب. واعتمدت أنا والطلاب الآخرون دومًا على نسخ الكتب وعلى المصادر المتوفرة على شبكة الانترنت. لقد أعادنا النظام التعليمي في غزة إلى العصور الوسطى بسبب الحصار والاحتلال الإسرائيلي.

الراوي: الحصار في حد ذاته ليس محظورًا في النزاعات المسلحة بموجب القانون الدولي الإنساني. لكن المتحاربين مطالبون باحترام بنود القانون الدولي الإنساني الأخرى وبنود قانون حقوق الإنسان الدولي، كالامتناع عن تجويع السكان المدنيين وفرض العقاب الجماعي. وحصار غزة، من منظور شريحة واسعة، هو عقابٌ جماعي تحظره المادة 50 من قواعد لاهاي لعام 1907 والمادة 33 من اتفاقية جنيف الرابعة. وقد أكدت اللجنة الدولية للصليب الأحمر في العام 2010 أن الإغلاق هو عقوبةٌ جماعية تُخلُّ بالتزامات إسرائيل بموجب القانون الدولي.

آية بشير: موقف القانون الدولي، بالنسبة لي شخصيًا، هو موقفٌ إشكالي بالطبع لأنه لا يحظر الحصار صراحةً. غير أن القانون الدولي يصف غزة بوضوح بأنها محتلة وخاضعة لحصار غير قانوني تمارس إسرائيل في إطاره العقابَ الجماعي وترتكبُ جرائم حرب. لذا فإن مشكلتي هي أن أفرادًا وصناعَ قرار كثيرين ومنظماتٍ وجهات مانحةً كثيرةً تتعامل مع قطاع غزة كما لو كانت قضية إنسانية. ولكن مشكلةُ غزة هي مشكلةٌ سياسية، ولا بد من معالجة الأسباب الجذرية “للنزاع” بدلاً من معالجة التحديات الإنسانية المحددة، ولا بد من تطبيق القانون الدولي إذا ما أراد العالم حدوثَ تغيير إيجابي مستدام في حياة الفلسطينيين. فالسياسة هي التي ما انفكت تحول دون تطبيق القانون على فلسطين/إسرائيل منذ 1948.

استير رابابورت: رغم قلقي الشديد على غزة، ومتابعتي أخبارَها بشغف، فإني أجدُ صعوبةً في تكوين إحساسٍ واضح بماهية الحياة اليومية هناك تحت الحصار. إن المعلومات التي ترشح من هناك محدودةٌ، وغالبًا ما تكون غير دقيقة (فنحن نعرف، مثلًا، ما هي بنود المعونة المسموح نظريًا بدخولها، ولكننا لا نعرف ما يدخل فعليًا منها). وأنا لا أستطيع زيارةَ غزة، بخلاف الضفة الغربية التي أزورها باستمرار، وأطِّلع بنفسي على الواقع القاسي المعاش فيها. ورغم وجود صحفيين كثيرين يبثون تقاريرهم من غزة، فإنهم يميلون إلى التركيز على القضايا السياسية، بينما تقصر منظمات الإغاثة تقاريرَها في العادة على الشواغل الإنسانية الأكثر إلحاحًا. وأعتقد أن هذا النقص في المعلومات هو جزءٌ من الحصار: فغزةُ معزولةٌ عن العالم حتى إنه يصعب على المرء أن يعرف ما يجري هناك.

آية بشير: اتضحَ لي من حواري مع استير أنها تقرأ كثيرًا عن غزة، وأنها تعي جيدًا الحقائق والسياسة ومجريات الأمور هنا. ومع ذلك، بدت عليها الدهشة في كثير من الأحيان وأنا أتحدث عن معاناة الناس في غزة. والحقيقة هي أنه بالرغم من توفر المعلومات، فإنها لا تعكس تفاصيل الواقع الذي يحياه الناس في غزة. بل إن الناس هنا في بعض الأحيان يعجزون عن استيعاب الأمور أو تخيلها. فعلى سبيل المثال، ذهبتُ إلى خزاعة قبل العدوان الأخير ضمن عملي مع منظمةٍ غير حكومية دولية لمقابلة إحدى المستفيدات من تلك المنظمة باعتبارها قصةَ نجاح، فقد تمكَّنت تلك السيدة من زراعة حديقة بهيجة بأنواع متنوعة من الأشجار بما فيها كروم العنب. وبعد العدوان، ذهبتُ لرؤيتها مجددًا، وكان كل شيء مدمَّرًا! توقعت أن أرى بقايا أشجار، ولكني دهشت إذ لم أجد حتى جذوعًا متفحمة، وكأن تلك الأرض لم تُنبِت شجرةً يومًا! وفكرت في نفسي لو أنني لم أشاهدها بأم عيني، لَما صدَّقت أو تخيلت أن هذا المكان كان عامرًا بالحياة.

الراوي: تُختَزل الحياةُ زمن الحصار في الوجود أو البقاء على قيد الحياة. وتنحدر التنميةُ الاقتصادية والتجارة إلى حدودها الدنيا ويَضطَّر السكان إلى الاعتماد على المساعدات الإنسانية. وتُصيب الحياةَ الثقافيةَ حالةُ ركود، فقِلةٌ فقط يملكون الموارد أو الفراغ الذهني للتفكير بأي شيء سوى متاعب الحياة اليومية. ومع الحصار، يستحيل للمرء أن يتخيل المستقبل، ويصعب عليه أن يتمسك بالأمل.

في لينينغراد، كان الحصار جزءًا من حربٍ عالمية. كان الجيش السوفيتي العتيد يقاتل الجيش الألماني، وكان السكان يؤمنون بأن الحرب ستضع أوزارها يومًا ما، وسيزول حينها الحصار. لكن غزةَ لا تملك جيشًا، وإنما جماعات مقاتلة، وحصارُها ليس جزءًا من حالة حربٍ معلنة، وإنما حالةٌ مزمنةٌ وجزءٌ من الاضطهاد المنظم القاتل الذي تمارسه سلطة الاحتلال بحق الفلسطينيين. ثمانون في المائة من سكان غزة لاجئون من أماكن أخرى في فلسطين التاريخية (المعروفة الآن بإسرائيل)، ويحق لهم بموجب القانون الدولي أن يعودوا إلى ديارهم، ولكنهم غير قادرين على إعمال هذا الحق. لقد مضت الآن سبع سنوات على الحصار ولا نهايةً تلوح في الأفق.

نعم، هو يشبه المحرقة

استير رابابورت: أعتقدُ أن العيش تحت الحصار يشبه العيش في الأحياء اليهودية إبان المحرقة. فلا يسعك الدخول والخروج بسهولة، وظروفك المعيشيةُ صعبةٌ جدًا، وحياتك لا تساوي الكثير، وأنت عرضةٌ للقتل والتجويع في أي لحظة. لقد أقرَّ المجتمع اليهودي الدولي وألمانيا بأوجه الشبه بين الحصار والمحرقة، ففي عام 2009، اعترفت ألمانيا باليهود الناجين من حصار لينينغراد باعتبارهم ناجين من المحرقة وصرفت لهم تعويضات مالية بعد نضالٍ طويل بقيادة مؤتمر المطالبات، وهو منظمةٌ يهودية تناضل للحصول على تعويضات من ألمانيا لصالح الناجين من المحرقة. وأنا لست متأكدةً من السبب الذي جعل الاعتراف والتعويض يقتصر على اليهود من بين سكان لينينغراد، رغم أن ما جرى على اليهود في المدينة المحاصرة جرى على مَن سواهم أيضًا، وأنا أعتقد أن مردَّ ذلك هو أن أحدًا لم يناضل من أجل الناجين من غير اليهود كما ناضل مؤتمرُ المطالبات من أجل اليهود.

إن العيشَ في غزة إبان عمليةٍ عسكرية إسرائيلية لربما يكون أسوأ من العيش في تلك الأحياء اليهودية، وهو أكثر شبهًا بالعيش في معسكرات الاعتقال، لأن كل مدني في غزة، مهما كان سنُّه أو انتماؤه السياسي أو مكان سكنه، هو عرضةٌ للقتل أو التشويه في أي لحظة، ولا يجد ملاذًا يفرُّ إليه ويحتمي به.

أنا أُدرك أن مقارنةَ معاناة الفلسطينيين بمعاناة المحرقة تجرحُ مشاعر الكثير من اليهود. وبصفتي طبيبة نفسانية أعالج ضحايا ما بعد الصدمة، فإنني أفهم ردودَ الفعل تلك، ولا أرغب في إيذاء مشاعر أحد. ومع ذلك، أعتقد أن التشابهات الموضوعية بين بعض الجوانب في تجارب الناجين من المحرقة وتجارب سكان غزة المحاصرين هي تشابهات كبيرة ولا يمكن تجاهلها.

ولأن والدي ووالدتي من الناجين من المحرقة، أشعر أن لدي الحق الكافي لأقول ذلك.

آية بشير: أحسست من كل قلبي وأنا أقرأ عن لينينغراد أني قادرةٌ على استشعار هول ما مرَّ به أهلُها. ولطالما حيرني كثيرًا كيف أن أحفادَ اليهود أنفسهم الذين عانوا الكثير تاريخيًا كأمة قادرون على نزع الصفة الإنسانية عنّا. حاول النازيون تجويع لينينغراد حيث قررَّ هتلر أن يتجاوز لينينغراد ويخنق المدينة كي تركع بدلا من مهاجمتها مباشرة. أمّا إسرائيل فأظن أنها تفعل الاثنين، تقتلُ المدنيين الفلسطينيين في مجازر متكررة، وتقتلهم ببطء وجماعيًا وتجعل حياتنا لا تطاق بحرماننا احتياجاتِنا الأساسيةَ كالماء والكهرباء. وأنا أتذكر قول عمتي أثناء إحدى “الهدنات الإنسانية” إبان العدوان الأخير على غزة: “لماذا يسمونها هدنةً كما لو كنا – نحن الأحياء – لا نموت أثناءها أيضًا؟ نحن نموت، ولكن ببطء، دون دواء ودون غذاء كاف، ودون كهرباء وغاز للطهي.”

تعيشُ غزةُ الآن في ظلام شبه دائم، إذ لا تتجاوز فترة توصيل التيار الكهربائي إلى معظم الأسر مدةَ أربع ساعات يوميًا لأن القصف الإسرائيلي المباشر والمتكرر ألحق أضرارًا فادحة بمحطة توليد الكهرباء الوحيدة في قطاع غزة، وبالبنية التحتية للطاقة الكهربائية. وأتذكر بوضوح تلك الليالي حين كان مصدرنا الوحيد للضوء هو مشاعل المدفعية المضيئة في السماء. والمحظوظُ آنذاك مَن كانت بطاريةُ هاتفه مشحونةً ويستطيع الاتصال بصديق أو قريب ليتفقد أحواله. وأذكر اللحظات المؤلمة الطويلة حين كنا معزولين عن العالم، وحتى عن بعضنا. فلم أستطع الخروجَ لأعانق صديقتي التي فرَّت من منزلها في حي الشجاعية بسبب القصف المتواصل، بل ولم أستطع حتى الاتصال بها هاتفيًا بسبب انقطاع التيار الكهربائي. وكانت المياه شحيحة. لينينغراد أيضًا عانت من انقطاع الماء والكهرباء في شتاء 1941-1942.

استير رابابورت: مئات الآلاف من سكان لينينغراد إمّا قُتلوا أو قضوا بسبب البرد أو الجوع، حيث كانت حصة الخبز اليومية 125 غرامًا (4.4 أونصة) للشخص الواحد في كانون الأول/ديسمبر عام 1941. أمّا في غزة، فإن معظم الناس لا يتضورون جوعًا بالمعنى الحرفي للكلمة ولكن الحكومة الإسرائيلية تعتقد بحقها في التحكم في قوت أهل غزة، وهي تحدد بدقة ما يستحقون من طعام، كمًا ونوعًا. وبعد فرض الحصار على غزة، وصفَ مسؤولٌ إسرائيلي رفيع المستوى ردّ إسرائيل المزمع بقوله: “الأمر يشبه الجلوسَ إلى اختصاصي تغذية. علينا أن نجعلهم نحيلين جدًا، ولكن ليس بما يكفي ليموتوا.” ومنذئذٍ عكفت وزارة الصحة الإسرائيلية على حساب احتياجات سكان غزة اليومية من السعرات الحرارية – وهو شكلٌ من أشكال السيطرة والتحكم يثير الاشمئزاز.

آية بشير: قررت إسرائيل أن سكان غزة يحتاجون 2,279 سعرة حرارية كمعدلٍ يومي – أي 170 شاحنة يوميًا. تلك كانت نظريتهم. ولكن ما يُسمَح بدخوله في الواقع هو أقل بكثير من نصف هذه المتطلبات الدنيا.

كيف تسير عجلة الاقتصاد – أو تتوقف – تحت الحصار

الراوي: في لينينغراد، أُبقي على الصناعات والنشاطات التجارية غير الحربية ضمن حدودها الدنيا زمن الحصار. وذهب بعض السكان لأعمالهم وقعد آخرون. وفي بعض المناسبات، استمرت المتاجر ببيع السلع غير الضرورية للبقاء على قيد الحياة بما فيها السلع الكمالية، ولكن النشاط الصناعي والتجاري انخفض بكثير عمّا كان عليه قبل الحرب. واعتمد العسكريون والمدنيون في المدينة في مستلزماتهم الغذائية على الحصص التي كانت تصرفها الحكومة.

رغم أن ذريعة إسرائيل الرسمية لحصار غزة هي منع هجمات حماس الصاروخية على الأراضي الإسرائيلية أو مواجهتها، فإن التصريحات الرسمية الإسرائيلية تفيد أن من غايات الحصار الأخرى الحيلولةَ دون تطور الاقتصاد الفلسطيني.

ونُقل عن الحكومة الإسرائيلية قولُها: “يحق لأي بلد أن يمتنع عن إقامة علاقات اقتصادية بالطرف الآخر في النزاع، أو عن تقديم المساعدة الاقتصادية له، أو أن يشنّ ’حربًا اقتصاديةً‘ عليه.”

وفي غزة، خلافًا لِما شهدته لينينغراد، لا توجد محاولةٌ لتجويع السكان ماديًا بالمعنى الحرفي، وإنما لتجويعهم مجازًا بجعل وجودهم في حدوده الدنيا وإبقائهم عالةً إلى ما لا نهاية، وبلا أمل في تحقيق الاستدامة أو الاستقلال أو النمو.

وعلى أرض الواقع، توقفت عجلة الاقتصاد في غزة بسبب الحصار. فلا يسمح بخروج الصادرات، باستثناء صادرات محدودة ومتقطعة من المنتجات الزراعية تخرج تحت رقابة إسرائيلية صارمة. وقد خلَّفت العمليات العسكرية الثلاث التي شنتها إسرائيل في غضون السنوات السبع الماضية القطاعَ مدمرًا، وجعلت شريحةً كبيرة من سكانه يعيشون أزمةً إنسانية دائمة، معتمدين على المساعدات دون إمكانية تحقيق الاستدامة الاقتصادية.

آية بشير: مثلًا في دير البلح في وسط قطاع غزة حيث أقطن دُمِّر مصنع العودة عن بكرة أبيه أثناء العدوان الأخير. وهو مصنعٌ للحلويات والبسكويت والبوظة منذ العام 1977، يعمل فيه ما يزيد على 400 عامل في ثلاث ورديات على مدار الساعة. والآن اختفى المصنع وصار عماله عاطلين عن العمل.

الراوي: وفقًا لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، فإن 178,000 فلسطيني يتضررون مباشرة بسبب القيود المفروضة على الوصول برًا وبحرًا في غزة. تغطي القيود المفروضة على الوصول إلى الأراضي مساحة 62,2 كيلومترًا مربعًا، أي ما يعادل 35% من الأراضي الزراعية في قطاع غزة و17% من مساحة القطاع الكلية. وتبلغ الخسارة السنوية في الإنتاج الزراعي 75,000 طن (نحو 50 مليون دولار) بحسب تقديرات مركز رصد التشرد الداخلي. وفي الوقت نفسه، تستفيد إسرائيل من غزة والضفة الغربية كسوقين كبيرين أسيرين لمنتجاتها من خلال حظرها البدائلَ الممكنةَ للبضائع الإسرائيلية.

آية بشير: قبل عدوان صيف 2014، كانت نسبةٌ كبيرة من السكان تحصل على الغذاء والماء باستخدام قسائم المعونة. وبعد المجزرة والدمار الإنساني الهائل الذي أفقدَ الناسَ منازلَهم وممتلكاتهم، اضطر الكثيرون لشراء حتى ملابسهم باستخدام القسائم التي توزعها المنظمات غير الحكومية.

لقد أدى الحصار الإسرائيلي والمصري المفروض على غزة إلى ارتفاعٍ حاد في معدلات البطالة، الأمر الذي يولِّد اليأس والاكتئاب والإدمان على المخدرات، ويقود إلى محاولات مميتة للهجرة كالتي شهدناها مؤخرًا حين غرق أبناء غزة وهم يفرّون منها بحرًا. إن مواصلة الحصار وتشديده على القطاع ليس من أجل تدمير حماس أو هدم الأنفاق أو وقف إطلاق الصواريخ على إسرائيل، بل هو وسيلةُ إسرائيل في التحكم بحياتنا وأرضنا وحدودنا، والإمعان في قتلنا.

هذه الاستراتيجية ليست جديدةً على الإطلاق. فما فتئنا نكابد تاريخًا طويلًا من المجازر، وعقودًا من التطهير العرقي الممنهج، و47 عامًا من الاحتلال العسكري، وسياسات الفصل العنصري والتهجير القسري منذ العام 1948. وهذا كله مستمرٌ حتى يومنا هذا. غير أن المجزرة الأخيرة أو الإبادة الجماعية أو المحرقة – سمِّها ما شئت – المرتكبة في غزة سنة 2014 هي الأكثر شراسة من بين المجازر التي شهدتُها. فاستهداف المدنيين العُزل، اللاجئين في معظمهم، وقتلهم بوحشية، وهدم المنازل، وتدمير أحياء بأكملها مثل الشجاعية وخزاعة ورفح قد تسبَّب بصدمة عميقة.

إن ما يحدث في غزة هو صدمةٌ للأجيال على تعددها. فقد أضرَّت سنون الحرب والعدوان بكل شيء – البشر والحجر والشجر والحيوان، ولا سيما سبل العيش، والبنية التحتية، والمنازل، والمستشفيات، والإمدادات الطبية، والمدارس، والمساجد، والمصانع، والموارد المائية، وحتى محطة توليد الكهرباء الوحيدة في غزة. وكل ذلك كان أصلًا في حالةٍ سيئة قبل حرب صيف 2014 بسبب الحصار الذي تفرضه إسرائيل وتعززه مصر على القطاع منذ سبع سنوات.

المقاومة والفرار والمناخ السياسي

الراوي: حين كانت لينينغراد محاصرة، خاض الجيش السوفيتي المنظم الحربَ بالنيابة عن السكان المدنيين المحاصرين. وقامت الحكومتان المحلية والوطنية بتعبئة السكان المدنيين، بمن فيهم الأطفال، لإعانة جهود المقاومة بطرقٍ عديدة منها صنع الذخائر وإقامة الحواجز المضادة للدبابات.

وبخصوص غزة، تصدر ادعاءات في أحيان كثيرة بأن الميليشيات والأجنحة العسكرية تستخدم السكان المدنيين دروعًا بشرية حين تطلق الصواريخ من مناطق مدنية على سبيل المثال. ثم توظَّف تلك الادعاءات كمبررٍ لشن هجمات على المدنيين. ولكن مثال لينينغراد يبين أنَّ من الصعب في حالة الحصار التمييزُ بين العسكري والمدني، لأن السكان المدنيين كلهم يعانون مشقةً شديدة بسبب الحصار، وهم يتوقون لُتصار تعبأتهم من أجل دعم جهود المقاومة بالسبل الممكنة كافة. لقد كان دعم السكان المحاصرين للمقاتلين بالنيابة عنهم من أجل إنهاء الحصار شبهَ مطلقٍ في لينينغراد، رغم القمع الذي كانت تمارسه حكومتهم. وهذا أمرٌ جوهري في حالة غزة أيضًا، ولا سيما إبان العمليات العسكرية. ولأن الحصار خانقٌ ولا يطاق، يرى السكان أن إنهاءه هو الهدفُ الأكثر إلحاحًا، وهم مستعدون في الوقت الراهن لتجاهل أوجه القصور التي يتسم بها حُكّام القطاع.

الفرار من لينينغراد المحاصرة كان صعبًا، كما هو الفرار من غزة المحاصرة. فالجلاء عن لينينغراد كان يقتضي السير على بحيرة متجمدة في مواجهة خطر الغرق إذا ما تسبب قصف الجيش الألماني في كسر الجليد. (لم يكن بالإمكان حفر الأنفاق للخروج من لينينغراد لأن أرضها متجمدةٌ معظم أيام السنة). أمّا الفرار من غزة فيقتضي أن يكون المرءُ إمّا من القلائل القادرين على إثبات ظروف خاصة (الحاصلون على منحة للدراسة في الخارج، مثلًا، يمكن أن يحصلوا على إذن للخروج عن طريق إسرائيل)، أو المحظوظين الذين يُسمَح لهم بالعبور إلى مصر من معبر رفح، الذي يُفتح على نحو متقطع وغير منتظم، أو الذين يسافرون إلى مصر عبر الأنفاق والتي قامت مصر بتدميرها. وما يثير الرعب هو أن المخارج تغلق تمامًا حين يبلغ الخطر في غزة أشدَّه – أي إبان العمليات العسكرية الإسرائيلية – وتصبح مغادرة القطاع شبه مستحيلة. وفي أحيان أخرى، تكون سياسة إسرائيل في إصدار التصاريح متضاربةً إلى حدٍ ما: فمن ناحية، هناك رغبة في تشجيع الهجرة، ومن ناحية أخرى، هناك رغبة مساوية في حرمان سكان القطاع حريةَ التنقل.

آية بشير: أعتقد أن النظرة إلينا، نحن فلسطينيو غزة، بأننا تعساء هي نظرة لاإنسانية ومهينة. فصحيحٌ أن معاناتنا هائلة وأننا نحيا ظروفًا مأساوية، ولكننا أيضًا نقاوم دفاعًا عن الكرامة والعدالة. نحن جميعًا نصلي كي لا نصبح رقمًا آخر من ضحايا غزة. بعد نجاتي من مجزرة عام 2008-2009 التي شعرت فيها بعجزٍ كامل، انضممت إلى الحركة الفلسطينية لمقاطعة إسرئيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها التي منحتني شعورًا متجددًا بالتفاؤل وإحساسًا بالقوة. ونجوت أيضًا من العدوان الوحشي في العام 2012. وتزامن الرعب الإسرائيلي عام 2014 مع الذكرى السنوية التاسعة لنداء المقاطعة والذكرى العاشرة لصدور الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية القاضي بعدم قانونية جدار الفصل العنصري الإسرائيلي في الضفة الغربية المحتلة. إن وحشية إسرائيل لا تساهم وحسب في توطيد حركة المقاطعة المتنامية، بل تبدد وهم الواهمين بأن لإسرائيل اليوم نيةً لإحلال السلام العادل.

استير رابابورت: أتمنى لو كان الناس في إسرائيل والغرب أكثر وعيًا بالمقاومة السلمية التي يمارسها فلسطينيون كثيرون ضد الاحتلال والحصار. لكن الصورة الوحيدة التي يكترث لها العالم من بين صور المقاومة القادمة من غزة هي إطلاق الصواريخ، للأسف. فلمّا يحصل ذلك، تتصدر غزة نشرات الأخبار، ويفطن العالم لوجودها ولمحنتها ولرغبتها في التغيير. ولكن متى ما توقف إطلاق النار، يفتر العالم ويرتاح، كما لو باتت المشكلة محلولة، وينسى غزة تمامًا. لا شيء يقوله فلسطينيو غزة أو يفعلونه بخلاف إطلاق الصواريخ قادرٌ على تحطيم جدران التغاضي واللامبالاة، وهذا وضعٌ لا يُطاق.

الدكتورة استير رابابورت هي طبيبة نفسانية سريرية مستقلة في تل أبيب. تحاضر وتكتب عن علم النفس النقدي، ونظرية التحليل النفسي، والثقافة، والنوع الاجتماعي. وهي ناشطةٌ...
آية أبو بشير حاصلة على درجة الماجستير في السياسة العالمية من كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية. لها مقالات منشورة في Electronic Intifada, Palestine Chronicle, Mondoweiss,Middle...

أحدث المنشورات

 السياسة
تكشفُ تغطيةُ وسائل الإعلام الرئيسية في الغرب لمجريات الإبادة الجماعية في غزة تحيزَها الشديد للنظام الإسرائيلي، وتُبرزُ أيضًا سهولةَ نزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين. تتناول يارا هواري في هذا التعقيب استراتيجيةَ إسرائيل في نزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين في المجال العام، ودور وسائل الإعلام الغربية في تحقيق أهداف إسرائيل. وتبين أنماطَ التقصير الصحفي المستمرة منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وتخلُص إلى أنّ وسائل الإعلام الغربية متواطئة حتمًا في الإبادة الجماعية التي يرتكبها النظام الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني في غزة.
Al-Shabaka Yara Hawari
يارا هواري· 03 أبريل 2024
لعبت كل من مصر والأردن عبر التاريخ أدواراً جيوسياسية مهمة في القضية الفلسطينية، حيث شكلت حدودهم مع قطاع غزة والضفة الغربية على التوالي المنفس الوحيد للعمق العربي وخاصة بعد حرب 1967. تزايدت وتضاءلت نفاذية هذه الحدود مع اختلاف الحكومات والظروف في المنطقة، لكن يمككنا الجزم أن مع مرور الزمن أصبحت هذه الحدود بشكل تدريجي جزءاً من الحصار على الشعب الفلسطيني وأداة ضغط على الفلسطينيين.
تعكف المصادر الإسرائيلية الرسمية على تضليل العالم إعلاميًا على نطاق واسع لتبرير الإبادة الجماعية التي ترتكبها في غزة. وقد أجَّجَ الصحفيون ومحللو استخبارات المصادر المفتوحة الحملةَ المسعورة لشيطنة الفلسطينيين بنشرهم الأنباء الكاذبة دون تدقيقها كما ينبغي. يتناول طارق كيني الشوا، في هذا الموجز السياساتي، أساليبَ الحرب الإعلامية الإسرائيلية، ويبيِّن كيف أسهمت هذه الجهود في تآكل الحقيقة وإعاقة الجهود الرامية إلى تنظيم استجابة عالمية. ويقدم توصيات للصحفيين والمحللين وعامة الجمهور للاستفادة من الأدوات مفتوحة المصدر لدحض الدعاية الإسرائيلية والمعلومات المضللة السائدة.
Skip to content