في رثاء فيتوريو أريغوني
بعد مرور عامين على بدء الحصار الخانق على قطاع غزة كنا قد تساءلنا, و بحق, عن الدعم الدولي و الضمير الانساني! تساءلنا: هل سنترك لمواجهة الموت البطيئ لوحدنا؟
و صرخنا!
لم يكن هناك مجال للصمت .صرخة أهل غزة وقرارهم الواعي بأن (يرفعوا صوتهم بالغنا) قد وصل مشارف الأرض. الرسالة التي ارسلت من غزة هي أنه يجب ألا يسمح لنا بالموت البطيء.
و دقت غزة جدران الخزان!
وصل صوتنا لأرجاء المعمورة. حيث قرر العديد من المتضامنين الدوليين التوجه إلى القطاع الصامد ، والذي يحمل عبء 62عاماً من النكبة على كتفيه ، في قوارب صغيرة لايصال
زهرة حب و تضامن للقطاع الصامد ، رسالة واضحة تطالب بإنهاء الحصار فوراً والدعوة للتخلص من الإحتلال الغاشم .
و كان الايطالي فيتوريو اريغوني الدائم البسمة, الوسيم وسامة تشي جيفارا, على ظهر أول قارب يصل غزة المحاصرة منذ عام 1967. فيتوريو ,ذلك (الطلياني) الذي يضع وشم حنظلة على جسده و الذي يغني أغنية (أناديكم) و الذي جسد على الأرض بمجرد وصوله ليقبلها, دخل قلب كل غزي بابتسامته الطفولية و كأنه حالة نادرة من حالات (الحب من أول نظرة!) جاء لغزة مغنيا:
يا رفاقي في غزة الأبية
عندي لكم من بلدي تحية
إن اغتيال فيتوريو, و من قبله جوليانو خميس, لن يمر مرور الكرام. ان قصته ستسجل في كتب التاريخ على أنها قد كرست بالدم عمود رئيسي من أعمدة النضال ضد الاحتلال و الأبارتهيد الا و هو التضامن الدولي كما نعرفه و نريده. حينما يعجز المجتمع الدولي ممثلاً فيما يسمى مجلس الأمن والاتحاد الأوروبي ، وحتى جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الاسلامي ،في تطبيق الشرعية الدولية, وهو مطلبنا ، فإننا نتوجه للمواطنين العاديين بأن يتدخلوا تدخلاً مباشراً لتطبيق الحد الأدنى من حقوق الإنسان و نصرة المضطهد (بفتح الهاء).
وحينما تسيطر علينا الطفولة السياسية و انشغالنا بمماحكات جانبة ، فإن المجتمع المدني والحركات الشعبية عليها أن ترفع صوتها بأننا لن نسمح بأن تذهب دماء الشهداء هباء ، لا مهزلة القاضي جولدستون أوالركض وراء سراب المفاوضات العبثية و الهدنة طويلة المدى ، لأنها ,وبكل بساطة, مريحة للإحتلال ولن تؤد إلى إنهاء الحصار الظالم الذي حول القطاع الى "حديقة حيوانات!" ان البديل الذي تطرحه هذه الحركات من خلال التعبئة الجماهيرية, وفي ظل الخلل الهائل في ميزان القوى بين المضطهد الاسرائيلي و المضطهد الفلسطيني, هو التوجه للمجتمع المدني الدولي, لمحبي الحرية من أمثال فيتوريو الذي لبى نداءنا و لم يتوان للحظة و احدة عن تلبية الواجب و هو في غزة. لم يتخل عن مسيرة واحدة ضد (الحزام الأمني), و لم يفوت فعالية واحدة لحملة المقاطعة لايمانه بأنها الأسلوب الأنجع لاجبار أسرائيل على الانصياع لقرارات الشرعية الدولية و على رأسها عودة اللاجئين الى الديار التي طهروا منها عرقيا عام 1948.
إن سيرته النضالية هي البديل العملي و الأوحد لما فشل المجتمع الدولي في تحقيقه.. انها التعبير عن هذه القوة المتدحرجة ككرة الثلج في اتجاه واحد واضح لا يختلف كثيراً عن حركة وحركة التضامن الدولية ضد نظام التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا.
إنها استمرار للنضال الأممي ضد نظام الأبارتهيد البغيض, واستمرار لنضال أبطال القوارب الذين كسروا الحصار ، أولئك الذين يأتون من اعالي البحار ، و نضال المشاركين في مسيرة غزة نحو الحرية و شريان الحياة, ونضال الطلاب البريطانيين الذين احتلوا 34 مبنى جامعيا خلال الحرب الإبادية على غزة عام 2009، وطلاب كلية هامشير في أمريكا, و عمال جنوب أفريقيا و ايرلندا و اسكتلندة و بريطانيا الذين قرروا مقاطعة البضائع الاسرائيلية.
إن فيتوريو قد جرب لهيب غزة و حصارها و الحرب عليها, جاء للمساهمة في فك الحصار و رفع شعار (يدا بيد) ليجد نفسه محاصرا, فما كان منه الا أن أعلن فلسطينيته, و بعناد غير مسبوق, وأن محبي الحرية لن يتهاونوا مع جرائم الحرب و الجرائم ضد الانسانية.
تذكرنا (قصة) فيتوريو بالأهمية القصوى للتنسيق بين قيادات المجتمع المدني الفلسطيني و لجان الكفاح الشعبي , و بالأخص حملة المقاطعة, و حملات التضامن الدولي . كما تذكرنا بأهمية اعادة الاعتبار لمفهوم التحرير و أن ما يمر به الشعب الفلسطيني في هذه اللحظة التاريخية عبارة عن مرحلة تحرر وطني هدفها اعادة الأعتبارلانسانية الفلسطيني من خلال تحالف فلسطيني أممي لا ينتظر صدقات البيت الأبيض و الاتحاد الأوروبي, و لا أوهام الاعلان عن بانتوستان (معزل عرقي) جديد!