!!قمع, وحدة, استقلال
يتسم الاضطهاد الاسرائيلي ضد السكان الأصليين في فلسطين بتعدد الأدوات القمعية بسبب كونه اضطهادا مركبا يقوم على أساس أنه احتلال عسكري مباشر للضفة الغربية, حصار قروسطي بنزعة ابادية لقطاع غزة, و نظام أبارتهيد-تفرقة عنصرية ضد فلسطيني48. هذا بالاضافة لكونه استعمارا استيطانيا قام, كأي استعمار كولونيالي, اما على الابادة الجماعية للسكان الأصليين, او التطهير العرقي الممنهج, كما حصل عام 1948.
ان الأثر السيكولوجي الذي يتركه هكذا اضطهاد مركب, بسبب عقدة أضطهاد تاريخية مورست ضد جزء كبير من مكوناته السكانية في مكان اخر خارج فلسطين, على سكان الأرض الأصليين يتميز بعنف داخلي يمارس من قبل نخب محلية. فكما كانت قيادات المعازل العرقية السوداء في جنوب أفريقيا , و حكومة فيشي الفرنسية تحت الاحتلال النازي, و الحكومة المحلية في الجزائر تحت الاحتلال الفرنسي, باستخدام وسائل قمعية ضد أبناء جلدتهم, فاننا في فلسطين, و على الرغم من (تميزنا) فاننا لم نسلم من هذه المصيدة القمعية, مصيدة بدأت تجلياتها تأخذ بعدا و اضحا ( و مبررا!) منذ عام 1993 لأسباب عديدة منها تصنيم فكرة الاستقلال و الاستعداد لتقديم (تنازلات مؤلمة!) كى نتمكن من تحقيق (الحلم الفلسطيني) الذي صغر ليصبح (اقامة دولة مستفلة على حدود 1967), و رفع العلم الفلسطيني , و عزف النشيد الوطني, مع التخلى (بدون ذكر ذلك) عن حق عودة اللاجئين الفلسطينيين, المكفول شرعيا, و غير المستساغ دوليا!
و لقد صاحب هذة الهيمنة البراغماتية-التبريرية على صناعة القرار الفلسطيني تغيير ادراكي يدعو (لتفهم) حاجة اسرائيل للأمن و حماية حدودها, و حقها في الوجود كما كانت تطالب, و ان كان طلبها الان يركز على الاعتراف بها كدولة يهودية, بما يعنيه ذلك من من انكار كامل لأي حق شرعي بعودة اللاجئين, و تشريع سياسة التطهير العرقي و الأبارتهيد في مناطق 48.
و لكن الوجه الاخر لهذا التغير الادراكي هو الشعور لدى المضطهد (بفتح الهاء) الفلسطيني بعقدة الدونية, و التي تميز فكر و ممارسات العديد من النخب و القيادات التي تعيش, كما أسلفنا, تحت احتلال كولونيالي. و هذا ما أسهب في شرحه, و بشكل نقدي خلاق, المفكر الترندادي المعادي للكولونيالية, فرانتز فانون, الذي شارك يشكل مباشر في النضال الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي. و في هذا السياق, فان ثنائية المضطهد (بفهح الهاء) - المضطهد (بكسر الهاء), المستعمر(بكسر الميم)-المستعمر, السيد-العبد تترك أثرا سيكولوجيا حادا يتجلى في ممارسة العنف الداخلي في المجتمع المقموع. و هذا على سبيل المثال ما يفسر انتشار الجريمة , بشكل يدق ناقوس الخطر في جمهورية جنوب أفريقيا الان و بعد سنوات من التخلص من نظام الأبارتهيد البغيض. و حتى خلال مرحلة النضال العظيمة ضد هذا النظام, كان هناك ,ما سمي عنصريا من قبل المضطهد الأبيض و بتحريض منه ب(العنف الأسود), ما بين حزب الأنكاتا و حزب المؤتمر الوطني الأفريقي. كما تجلى ذلك أيضا من خلال قمع (حكومات) المعازل العرقية السوداء (التي كانت تسمى أوطان مستقلة!) للسكان المحليين و المناضلين ضد نظام التفرقة العنصرية.
و بالتالي كثيرا ما يحصل نوع من التماهي ما بين المضطهد و المضطهد (بكسر الهاء.) و تتجلى التطبيقات العملية لهذا التماهي من خلال استخدام نفس الأدوات و الأساليب القمعيه من قبل المستعمر (بفتح الميم) ضد أبناء جلدته. يقول فرانتز فانون أن أكثر ما كان يقلقه هو انتقال الأدوات القمعية من أياد بيضاء الى أياد سوداء! و كأنه يقرأ الغيب, فلقد تكرر هذا المشهد في الكثير من الدول التي نالت استقلالها, و حكمت من قبل برجوازبة وطنية غير أصيلة.
و لكن الوضع الفلسطيني مختلف أيضا من حيث أننا لم نصل بعد الى مرحلة (الاستقلال) البعد كولونيالي, ناهيك عن التحرير, الذي تحدث عنه الراحل الكبير ادوارد سعيد, كبديل للأصنام الرمزية التي خلقتها اتفاقيات أوسلو (المجيدة) التي مكنت الشعب الفلسطيني من رفع العلم الوطني, تشكيل وزارات, رئاسات و زارة (لدينا اثنتين الان!)و بساط استقبال أحمر و نشيد وطني....الخ. و أصبح المشروع الوطني يتمثل في هذه الأصنام التي كان من المفترض أن تساعدنا في الوصول للصنم الأكبر الا و هو الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود 67 و عاصمتها القدس الشريف! و كل من لا يتفق مع هذا الفهم (للمشروع الوطني الفلسطيني) الذي سالت الدماء من أجله, اما (متطرف) أو خائن, و للتخيف (جاهل لا يفهم ضرورات المرحلة!)
و للو صول للصنم الأكبر كان لابد من استخدام أدوات قمعية ,تتناسب مع (طبيعة المرحلة), تجلت في اعتقال, تعذيب, مطاردة, وفي بعض الأحيان اغتيال جسدي, لكل من يعمل على اعاقة تجسيد هذا (الحلم) الفلسطيني, و الذي يتميز بأنه دائم الانزلاق! و هذا ما يفسر تنامي القمع الفلسطيني للفلسطيني بطريقة تميزت ببروز عقدة التماهي التي تحدث عنها فانون, تماهي, ليس فقط مع المحتل الصهيوني, بل حتى مع الأنظمة الرجعية (و التقدمية!) العربية التي تثور عليها شعوبها الان في هبات شعبية غير مسبوقة.
ان النضال الفلسطيني هو أساسا نضال تحرري ضد التركيبة القمعية الصهيونية من احتلال و استيطان و أبارتهيد, و هو نضال بالضرورة شبيه بالنضال ضد نظام الأبارتهيد الجنوب أفريقي. و كما كان ذلك النضال يتميز بقراءة واضحة للهدف التحرري و ربطه بأدوات نضالية معاصرة و شعارات عالمية من ديمقراطية و حقوق انسان, فان نجاح هذا النضال بتحقيق الديمقراطية أدى في المحصلة النهائية الى التخاص من نظام الأبارتهيد بشكل كامل, و ليس الى تحسين شروط الأضطهاد العنصري. أن الديمقرطية, بطريقة أخري, كان لا يمكن ان (تتعايش) مع التفرقة العنصرية بأي شكل من الأشكال. و هذا لا شك يفسر خوف اسرائيل الوجودي من المخاض الديمقراطي الذي تمر به المنطقة العربيةو عدم قبولها بنتائج انتخابات 2006 في جزء صغير من فلسطين.
و لكن السؤال المؤلم الذي تحاول هذه المقالة الاجابة عليه يتمحور حول القمع الداخلي الفلسطيني و الذي بالضرورة يأتي في سياقات ما تم طرحه. ان تحول العمل المقاوم, و المثير للاعجاب في كثير من المراحل, الى عمل وظيفي مهمته الحفاظ على (الأمن) و تعزيز دور السلطتين, حيث انه, و في سابقة تاريخية تمكن المستعمر (بفتح الميم) من اقامة حكومتين تحت حراب الاحتلال, و احتكار مفهوم المقاومة, بعد تصغيره ليتناسب مع مصلحة, و احيانا التوجه الأيديولوجي للسلطة الحاكمة فيما اتفقت السلطتان على تسميته (شطري الوطن!)
من المثير للاستغراب ان الكثير من محققي الأمن الفلسطيني الذين مارسوا التحقيق و التعذيب في التسعينيات من القرن الماضي كانوا في الأساس مناضلين مورس ضدهم التعذيب من قبل رجال الشاباك الساديين. و لكن من ناحية أخرى فان العديد من محققي الأمن الداخلي في غزة كانوا قد تعرضوا للتعذيب على أيدي اخوانهم من محققي الأمن الفلسطيني! ان القمع غير المبرر الذي مارسته الأدوات السلطوية في كل من الضفة و غزة, مع اختلاف اهدافهما, يتطلب وقفة جادة و حازمة بعد دراسة موضوعية تضع التحرير, و ليس بمعزل عن الديمقراطية و حقوق الانسان, نصب عينيها. ان التصدي لهذا التدهور الهائل في سجل حقوق الانسان الفلسطيني, المضطهد أصلا من اسرائيل, يتطلب التخلي عن الرداء الأيديولوجي الضيق الذي ثبت أنه يفتقد لأية رؤية استراتيجية للتحرير, مع ادعائه المتكرر بعدائه لاتفاقيات أوسلو . كما يتطلب أيضا مضاد حيوي شديد الفعالية ضد فيروس أوسلو,و الذي بقوة تحسده عليها جراثيم انفلونزا الخنازير و سارس و حتى الأيدز, استطاع أن يصيب حتى القوى التي تميزت تاريخيا بثورية و فكر كان يوما ما نقديا و خلاقا! و كنت قد سميت هذه التحولات التراجعية نحو اليمين, بالذات لدى اليسار الفلسطيني, بعملية أسلوة بما صاحبها من أنجزة و تحييد للفكر الثوري عبر التمويل الغربي أدى الى تحول الخطاب اليساري نحو براغماتية يمينية و تطعيمه بمصطلحات (المشاريع و التمويل التمكين وبناء مؤسسات الدولة في "شطري الوطن" ...)!
و من ناحية أخرى فان الانغلاق الفكري المصاحب لعقدة البارانويا السياسية, و الخوف من الأخر الوطني, بل عدم قبوله مطلقا, و الايمان المطلق بأنك تحمي مشروعا أمميا مستهدفا من الجميع, و رؤية العالم من خلال نظارات أيديولوجية استقصائية, و فوزك ديمقراطيا برأس (سلطة) ليست بسلطة, لا شك يؤدي الى تبريرات مرة براغماتية, ومرة أخرى عدمية, لقمع الأخر الوطني. و الضحية ؟ الديمقراطية و حقوق الانسان. ولكن, و كالأنظمة العربية, فان الانكار, و اتهام عناصر (معادية) أو خارجية, واستهداف المشروع الاسلامي (أو الوطني), دائما معلبة و جاهزة للاستعمال.
من المضحك المبكي أن نفس مبررات القمع التي ساقها نظام الد يكتاتور المخلوع زين العابدين بن علي, قد تم تكرارها و بصورة روبوتية من قبل نظام الطاغية حسني مبارك, و الان من قبل نيرون ليبيا, و حكام اليمن و البحرين و سوريا. و لكن نفس المبررات استخدمت في فلسطين أيضا! ان كل تحرك لم يتناسب مع المصلحة المباشرة و الرؤية الضيقة للسلطة الحاكمة, اما مشبوه, او عميل للطرف الأخر, او طرف أجنبي, وفي أفضل الأحوال (مغرر به!) لذلك تم قمع اعتصامات نادت بالوحدة. و لكن الأن علينا أن نحتفل بتقاسم السلطة و المحاصصة على أساس أنها الوحدة المنشودة (لشطري الوطن!).
ان فلسطين لاديمقراطية, معادية لحقوق الانسان, و مستنسخة عن الأنظمة العربية لا تمثل التضحيات الهائلة التي , و عبر التاريخ, تراكمت, و بالرغم من عدم استثمارها سياسيا, لفتت الأنظار اليها. عندما يتم ضرب نساء خرجن للاحتفال بيوم الأرض, و تفريق اعتصامات نادت بالوحدة الوطنية, و حرق خيم لمعتصمين, و التنسيق الأمني مع الاحتلال, و ممارسة التعذيب في المعتقلات, و فرض وجهة نظر محافظة أيدولوجيا, و عندما تمنع مظاهرات التأييد للثورة المصرية في بداياتها, بحجة عدم استعداء النظام المصري المعادي لنا أصلا و الذي أعلنت من عاصمته الحرب على غزة, فانه يحق لنا أن نقف و نتساءل: الى أين؟
الا يحق لنا أن نتساءل عن جدية ما أعلن عنه في القاهرة من( وحدة وطنية) التي من الواضح انها زواج بالاكراه بسبب غياب نظام مبارك, و الوضع الذي يتعرض له النظام السوري؟ هل هي وحدة الأدوات الأمنية في (شطري الوطن) بشكل يشابه وحدة البانتوستانت في ج. أفريقيا لو انها قررت ذلك؟ و هل الوطن عبارة عن قطعتين معزولتين جغرافيا محصورتين في حدود 67؟ ان تكرار, وبشكل ملفت للنظر خلال الاحتفال و في مقابلات صحفية أجراها ممثلو الطرفين أن هدفنا هو دولة على حدود 67 يثير الكثير من الأسئلة عن مدى جدية الحديث عن حق العودة, و عن حقوق فلسطينيي ال48. لقد تمت ادانة (الارهاب) في الاحتفال المذكور 7 مرات بدون تحديد نوع هذا الارهاب! و تم فيما بعد تكرارالالتزام بالمفاوضات و القبول ببانتوستان على حدود 67. و لم يذكر على الاطالق أساليب المقاومة المتنوعة, و على رأسها حملة المقاطعة المتنامية بشكل غير مسبوق. و التبريرات المعلبة دائما جاهزة حيث يجب علينا (تحسين معيشة سكان الأرض المحتلة!), و ليسس التخلص الكامل من الاضطهاد. يحضرني في هذاالسياق الخطاب الذي ألقاه المناضل نلسون مانديلا أمام الجمعية العامة للامم المتحدة بعد اطلاق سراحه عام 1990 و خلال المفاوضات مع النظام الأبيض, حيث طلب منديلا من المجتمع الدولي عدم ايقاف حملة المقاطعة الدولية حتى جراء الانتخابات الديمقراطية و التخلص نهائيا من نظام التفرقة العنصرية.و لم يطالب بالاعتراف ببنانتوستان, أو تحسين شروط الأضطهاد!
لا شك أن التغريد خارج السرب في هذا السياق أمر في غاية الصعوبة, و لكن النظرة النقدية التي اسس لها كبار المفكرين و المناضلين الفلسطينيين, الذين نفتقدهم الأن, و الأمميين يجب أن تكون نبراسنا في هذه اللحظات. وكما قال شيخنا التونسي: (لقد هرمنا...هرمنا!) و نحن بدورنا نقول: لن نهرم سيدي الجليل! لن نهرم قبل أن نصل الى تلك اللحظة التاريخية الأن...هنا! لأننا يجب أن نرفع سقف مطالبنا في هذه اللحظة الثورية.
حيدر عيد: أستاذ مشارك في أدب ما بعد الاستعمار و الدراسات الثقافية. و مستشار "الشبكة"، "شبكة السياسات الفلسطينية".