إسرائيل ليست دولة كولونيالية بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، بل هي دولة استعمار استيطاني. وبالتالي فإن سبل المواجهة التي اعتمدتها المقاومة الفلسطينية منذ انطلاقتها تحتاج لمراجعات نقدية مبينة على أساس هذا الفهم.على الرغم مما قد يمثله العمل العسكري الذي تمارسه بعض الفصائل، وهو حق كفلته الشرعية الدولية، من تحدٍ وإحراجٍ لنظام الأبارتهايد والاستعمار في أحيانٍ كثيرة، فإنها كانت ولا تزال الخصم المفضل والحل الأسهل أمام المنظومة الاستعمارية مقارنةً مع المقاومة المدنية، لا سيما إذا كانت متسعة وتستند إلى قاعدةٍ شعبيةٍ عريضة. بيد أن وصول الصراع إلى مرحلة السجال المسلح، يجعل اليد العليا لإسرائيل من دون أدنى شك، بسبب الخلل الهائل في موازين القوى. قد يكون في مقدور المواطن العادي أن يقاطع المنتجات، أو أن يشارك في مسيرة، وأن يعتصم في الشارع أو يتظاهر، إلا أنه سيجفل حتمًا عن المواجهة المسلحة العنيفة، خاصةً مع نظام يمارس جرائم الحرب بكل أريحية ولا يقيم وزنًا أو اعتبارًا للحياة البشرية طالما أنها تتبع ديانة أخرى، وطالما أن المحاسبة لم يتم تطبيقها حتى اليوم.
إن معركة المؤسسة الحاكمة الصهيونية في الأساس هي ضد فتح أي إمكانية للحديث عن الحرية والعدالة والمساواة، كونها مجتمعة تشكل النقيض الأساسي لمشروعها. ويكمن الغرض الأساسي لتلك المؤسسة ليس بناء نظام ديمقراطي مدني لكل المواطنين على أرض فلسطين التاريخية، وإنما في احتكار أدوات العنف، وإرساء مبدأ رد الفعل غير المتناسب مع أبسط أشكال الاحتجاج والتعبير، ليصبح معلومًا أن أي اعتراضٍ سيتم الرد عليه بمنتهى القسوة.

ولمقاومة سياسات الاحتلال القمعية، لابد من التطرق لنضال المقاومة الجنوب أفريقية ضد نظام استعمار استيطاني، والتي هي من أكثر التجارب قربا من القضية الفلسطينية. أعتمدت المقاومة الجنوب أفريقية في مقاومتها لنظام الأبرتهايد على ما أطلقت عليه “أعمدة النضال الأربعة”، والتي تمثلت في الكفاح المسلح، النضال التحت أرضي، التعبئة الجماهيرية (المقاومة الشعبية)، والتضامن الأممي ممثلًا بحركة مقاطعة عالمية. ما يهم في هذا السياق هو تبني الكل الجنوب أفريقي للعمودين الأخيرين بالذات في مرحلة الثمانينات وبداية التسعينيات وصولا لسقوط نظام الأبارتهايد عام 1994. أثرت التعبئة الجماهيرية والتضامن الأممي في جعل الوضع داخليًا “غير طبيعي”، من خلال جعل إمكانية حكم البلاد صعبة، وخارجيًا من خلال عزل كل ما ينتمي للطغمة البيضاء الحاكمة، أي مجتمع الاستعمار الاستيطاني العنصري.

في الحالة الفلسطينية الغنية بأشكال المقاومة المتنوعة، نجحت حركة المقاطعة الفلسطينية بالبناء على التراث الكفاحي الفلسطيني من ثورة 1936 إلى انتفاضة 1987 المجيدة والهبات الجماهيرية المتلاحقة، بالإضافة للدرس الجنوب أفريقي. وبالرغم من الإنجازات الكبيرة التي حققتها حركة المقاطعة منذ انطلاقتها عام 2005 بإصدار نداء المقاطعة الذي تبنته الغالبية الساحقة من منظمات المجتمع المدني والقوى السياسية، إلا إن رد الفعل العملي للكثير من الفصائل التي اعتمدت العمل العسكري أسلوبًا وحيدًا للمقاومة، وأحيانًا احتكاريًا، تميز بفوقية لا تنم عن فهم ثوري حقيقي للعمل المقاوم الجماهيري والإبداعي. بل أن النجاح اللافت للنظر لحركة المقاطعة (BDS) في تشكيل “خطر إستراتيجي” على إسرائيل، أسال لعاب بعض الفصائل المهيمنة ذات التوجه الأيديولوجي الإقصائي، لمحاولة ركوب الموجة والبدء بإعادة خلق العجلة من جديد بعد سنوات من انطلاق المقاطعة. ولكن كل هذا يأتي في إطار تفضيل العمل العسكري واعتباره أرقى أشكال المقاومة/ الجهاد، على الرغم من نخبويته وعدم شموله قوى الشعب المتعددة. أو على أساس اعتبار أنها محاولة من المؤكد ستفشل وأننا سنعود للقاعدة الوحيدة التي ثبت صحتها، أي العمل المسلح العنيف.