في الأعوام الخمسة التي تلت شروعَ المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية في تحقيقها الأولي في جرائم الحرب المحتملة في الأرض الفلسطينية المحتلة، قتلَ الجيشُ الإسرائيلي ما يزيد على 700 فلسطيني، وجَرحَ عشرات الآلاف الآخرين، ووسَّع المستوطنات غير القانونية، واستمر في حرمان الفلسطينيين حقَّهم في حرية الحركة، بالإضافة إلى انتهاكات أخرى عديدة. وبالرغم من الانتهاكات المستمرة، تُعدُّ المحكمة الجنائية الدولية الهيئةَ القضائية المستقلة الوحيدة القادرة على إنهاء الإفلات من العقاب عن الجرائم السابقة، ومنع وقوع جرائم مستقبلية.
تقوم المحكمة الجنائية الدولية على مبدأ التكامل القضائي الذي لا يمنحها الحقَّ في ممارسة ولايتها القضائية إلا عندما تفشل النُظم القضائية الوطنية في ممارسة ولاياتها القضائية وفقًا للمعايير الدولية. والجدير بالملاحظة أن هذا يشمل الحالات التي تَزعم فيها تلك النُظم ممارسةَ ولاياتها القضائية ولكنها تكون فعلًا غير راغبة أو غير قادرة على اتخاذ إجراءات قانونية حقيقية.
هناك على الأقل ثلاثة عوامل تثبت عدم رغبة إسرائيل في اتخاذ إجراءات قضائية وطنية بحق الأشخاصِ المزعومِ ارتكابُهم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في فلسطين. العامل الأول هو عددُ الشكاوى المرتفع من انتهاكات الجيش الإسرائيلي في السنوات الأخيرة والتي أُغلقت ملفاتها دون تحقيقٍ نزيه ومستقل وحقيقي. وهذه هي النتيجة المتوقعة عندما يكون المسؤولون الذين يساهمون في صياغة التعليمات واللوائح وإقرارها هم أيضًا مَن يقرر البدء في التحقيق والمقاضاة، إذ يمارسُ النائبُ العسكري العام في إسرائيل سلطات رئيسية ثلاث: سلطة تشريعية (تحديد قواعد السلوك في الجيش)، وسلطة تنفيذية (تقديم المشورة القانونية "الآنية" أثناء العمليات العسكرية) وسلطة شبه قضائية (إصدار القرار بشأن التحقيقات والملاحقات القضائية).
ثانيًا، حينما تَصدر فعلًا لوائح اتهام على خلفية انتهاكات الجيش، لا يُحاسبُ إلا الجنود ذوو الرُتب الدنيا، ولا تكون عقوبُتهم متناسبةً وجسامة انتهاكاتهم على الإطلاق. وبذلك تستطيع إسرائيل أن تُلقي اللوم على "الأفراد السيئين" وليس على سياساتها، وتتهرب من الإقرار بطابع العنف المنظم الذي ترتكبه بحق الفلسطينيين، ومن التحقيق في القرارات على مستوى السياسات، وتُحصِّن المسؤولين العسكريين والمدنيين رفيعي المستوى من تحمل المسؤولية عن أي جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
ثالثًا، لا تلتزم إسرائيل بالقانون الدولي الإنساني ولا بالقانون الدولي لحقوق الإنسان في الضفة الغربية، حيث تمضي في تشييد المستوطنات ومصادرة الأراضي وتهجير الفلسطينيين، وتُنكر أن أنشطتها الاستيطانية في الضفة الغربية تُمثل جريمةَ حرب، بالرغم من أن تلك الأنشطةَ محظورةٌ صراحةً بموجب نظام روما الأساسي. ويؤكد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن إسرائيلَ سوف تظل تتصرف كما تراه مناسبًا بالرغم من أن تصرفاتها تنتهك اتفاقيةَ جنيف الرابعة لعام 1949 (التي تُعدّ إسرائيل طرفًا فيها) ونظامَ روما الأساسي الذي وقَّعت عليه إسرائيل.
تُبين هذه العوامل الثلاثة أن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية لن تجد طريقها إلى المحاكم الوطنية في إسرائيل. ومع ذلك، تستطيع المحكمة الجنائية الدولية أن تُسخِّر هذا الإحجام، الذي ما انفك يصب في مصلحة إسرائيل، وتحوِّله إلى فرصةٍ للشروع في إجراءات قضائية ومحاكمات. وينبغي للمحكمة، عند تقييم مبدأ التكامل القضائي، أن تأخذَ في الحسبان عدم صدور أي اتهام بارتكاب جرائم حرب، وأن تنظر أيضًا في عدد حالات القتل في صفوف المدنيين التي لا تزال تنتظر التحقيق. غير أن المقاضاة أمام المحكمة الجنائية الدولية قد تواجه تعقيدات بسبب دور مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. ففي حين تستطيع وكالات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية أن تحثَّ المحكمة على فتح تحقيق، تنص المادة 16 من نظام روما الأساسي على أن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة يستطيع إرجاء البدءِ في تحقيق أو مقاضاة لمدة اثني عشر شهرًا قابلةٍ للتجديد. ومع أن مجلس الأمن لم يستخدم صلاحية الإرجاء حتى هذه اللحظة، إلا أن احتفاظه بها يُشكِّل خطرًا على المحاسبة والمساءلة، ولاسيما إذا ما نظرنا إلى موقف الولايات المتحدة من قضية فلسطين.
غير أن هذا لا يعني أن تحقيق المحكمة الجنائية الدولية الحالي قضيةٌ خاسرة. فبالنظر إلى إفلات إسرائيل من العقاب عن انتهاكاتها الكثيرة والموثقة للقانون الدولي الإنساني، ينبغي للمدعية العامة للمحكمة أن تواصل تحقيقَها وإقامةَ الدليل على ارتكاب الجرائم وتحديدَ الأفراد بغرض محاكمتهم ضمن محاكمات فاعلة وذات مصداقية، ومن أجل منع الجرائم المستقبلية. وتجدر الإشارة إلى أن "الأنشطة الاستيطانية لا تخضع لأي تحقيق جنائي قضائي [في إسرائيل]"، وأن القرار بشأن التحقيق في هذا النوع من الجرائم، مقارنةً بالجرائم الأخرى الواردة، ينطوي على تحديات أقل بكثير بالنسبة إلى المدعية العامة للمحكمة. وينبغي لمنظمة التحرير الفلسطينية والمجتمع المدني الفلسطيني أن ينشروا هذه الحقيقة على نطاق واسع، وأن يُطلقوا نداءات من أجل التحرك بهذا الاتجاه.