أخذت مشاريعُ "من شعب إلى شعب،" التي توالف بين الجهات الفاعلة في المجتمع المدني الإسرائيلي والفلسطيني بدعوى التعاون والحوار، تعود مجددًا بعد أن تراجعت في مطلع الألفية. ولأنها تؤكد مفاهيم التعاون والتفاهم وبناء السلام، فإنها قد تبدو واعدةً في ظاهرها، ولكنها إشكاليةٌ في جوهرها، إذ تفرض عقباتٍ أساسيةً تعوق محاسبة إسرائيل على انتهاكاتها لحقوق الإنسان الفلسطيني وتحقيق السلام العادل.
تبني هذه الورقةُ السياساتية نقدَها لمشاريع "من شعب إلى شعب" على نص قانون الشراكة الشرق أوسطية من أجل السلام، الذي سنَّه الكونغرس الأمريكي في كانون الأول/ديسمبر 2020، وتوضِّحُ الخطرَ الكامن في هذا الإطار وتأثيراته في إقامة أي عدالة تُذكر للفلسطينيين. يُؤكد إطارُ عمل "من شعب إلى شعب" أهميةَ "التعاون عبر الحدود" بين الأطراف المتنازعة لتحقيق السلام الدائم. ولكن من الواضح أن ذلك لا ينطبق على حالة فلسطين، لأن النزاع ليس بين طرفين متكافئين منخرطين في صراع متناظر على امتداد حدودهما المشتركة، وإنما هو صراعٌ مع الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي المتواصل بلا هوادة، ومع الاضطهاد الواقع على الفلسطينيين، حيث تبسط إسرائيلُ سيادتَها بحكم الواقع على الأراضي الواقعة بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط.
يروِّج إطار عمل "من شعبٍ إلى شعب" الافتراضَ الخاطئ بأن مبادراته وقنواته التمويلية قادرةٌ على "إنعاش" الاقتصاد الفلسطيني، وهذا الافتراض مُضلل، ولا يكفل محاسبة النظام الإسرائيلي على ممارساته المستمرة في تدمير الاقتصاد الفلسطيني، حيث بات النظامُ الإسرائيلي يملك اليوم سيطرةً كاملةً مباشرة وغير مباشرة على مقاليد الاقتصاد الفلسطيني. ويتمكَّنُ بفضل الاحتلال العسكري من بسط سيطرته على أنشطة الفلسطينيين الاقتصادية اليومية، ومن التوسع في مصادرة الأراضي الفلسطينية. وهكذا، فإن ما يحتاجه الاقتصاد الفلسطيني ليس ضخَّ الأموالِ في هذا النظام من خلال المبادرات الممولة في إطار "من شعب إلى شعب."
وعلاوةً على ذلك، تكشف القراءة المتفحصة لنص القانون ثغرةً مقلقةً فيه تسمح بتقويض حقوق الشعب الفلسطيني بالكامل. فقد أشارت المحامية الحقوقية والمحللة السياساتية في الشبكة، زها حسن، في أيلول/سبتمبر 2020 إلى أن مسودة مشروع القانون تحظر "التمييز الجغرافي" بين طالبي المنح من "إسرائيل والضفة الغربية وقطاع غزة." أي أن الجميع، بمن فيهم المستوطنون الإسرائيليون في الضفة الغربية، يمكنهم التقدم بطلب الحصول على تمويل. وحين لا يحظر قانون الشراكة من أجل السلام على المستوطنين في المستوطنات غير القانونية التقدمَ بطلب الحصول على التمويل، فإنه يُحفِّز النشاط الاستيطاني ويُثري المستوطنين.
اشتملَ مشروع قانون المخصصات الأمريكي الذي اقترحه أعضاء في مجلس النواب الأمريكي في تموز/يوليو 2020 للسنة المالية 2020-2021 بنودًا لقانون الشراكة من أجل السلام تفرض مجموعةً من الشروط الواجب استيفاؤها لتلقي التمويل، مثل حجب التمويل عن الفلسطينيين إذا قدَّمت السلطة الفلسطينية طلبًا للمحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في جرائم الحرب الإسرائيلية. إنَّ هذه البنود، التي تسيِّسُ التمويل بربطه بشروط جائرة، تضرُّ مساعي تأمين حقوق الفلسطينيين الأساسية، وتقوِّض أجهزة القانون الدولي، إذ تُرسِّخ إفلات إسرائيل من العقاب، وتتغاضى عن محاسبتها على انتهاكاتها الجسيمة لحقوق الإنسان.
بالرغم من هذه الخصائص الإشكالية لمشاريع "من شعبٍ إلى شعب،" إلا أن جهودًا متنامية تُبذَلُ لترويجها، حيث أعلن التحالف من أجل السلام في الشرق الأوسط، بعد سنّ القانون، أنَّ له الفضلَ في بلورة هذه المبادرة، موضحًا إنها كانت ثمرةَ "عقدٍ ونيِّف من جهود الدعوة والمناصرة" التي بذلها من أجل "إنشاء صندوق دولي للسلام الإسرائيلي الفلسطيني." وقبل صدور القانون بشهر، استشهد التحالف بمناقشةٍ برلمانية بريطانية طرحت فكرة إقامة صندوق مماثل في المملكة المتحدة.
قانونُ الشراكة من أجل السلام لا يدعو للتفاؤل بالتأكيد، فهو أداةٌ سياسية تُستخدَم ضد الفلسطينيين الذين قد يسعون إلى توظيف الوسائل القانونية لمحاسبة النظام الإسرائيلي على معاناتهم المستمرة في ظل الاحتلال. وهو بمثابة نهاية الطريق للفلسطينيين الساعين إلى إحقاق العدالة من خلال القنوات القانونية الرسمية للنظام الدولي.
تتمثل العقبة الرئيسية أمام "تحقيق السلام" في الانتهاكات التي يرتكبها النظام الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني منذ ما يزيد على سبعة عقود، فضلًا على استعماره المستمر للأرض الفلسطينية. ويقتضي إيقاف مشاريع "من شعب إلى شعب" وإقامة السلام العادل وقفة حزمٍ من مناصري حقوق الفلسطينيين في وجه تلك المبادرات التي تُسخِّر الحوار كغطاء للالتفاف على المساءلة والمحاسبة، وبذلك تقوِّض القانون الدولي.
ينبغي للساسة وصناع القرار أن يدعموا المشاريع والمبادرات القائمة على المبادئ الأساسية للقانون الدولي وحماية حقوق الإنسان الفلسطيني. وينبغي أن يدعموا الآليات القائمة التي تتصدى للتوسع الاستيطاني الاستعماري والاحتلال العسكري الإسرائيلي. وهذا يشمل حظر منتجات المستوطنات غير القانونية على الأسواق الدولية، وسحب الاستثمارات من المؤسسات والشركات المتواطئة في الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الإنسان. فالمساءلة والمحاسبة هي السبيل الوحيدة لتحقيق السلام العادل.