ما برحت العديد من المجتمعات حول العالم تتحدى منذ عقود فكرة أن مؤسسات الشرطة والعدالة الرسمية تمثل قوى الخير. وتحتج بأن تلك المؤسسات لا توفر، ولا تستطيع أن توفر، مستوى العدالة المطلوب لتعافي ضحايا الإيذاء والناجين منه والمجتمع عمومًا. تعمل حركة "حياة السود مهمة" على إبراز الجهود التي تتحدى نظم الشرطة والعدالة الرسمية في وسائل الإعلام الرئيسية. وبوجه الخصوص، اكتسبت الحركة الداعية إلى إلغاء الشرطة والسجون قدرًا من الزخم. وهي تعتقد بأن نُظم الشرطة والسجون ترسخ الاضطهاد الاستعماري والعرقي والطبقي والجنساني، وأن الحبس لا يكاد يُسهم في التصدي للأسباب الجذرية.
لقد بات المجتمع الفلسطيني في فلسطين المستعمرة منهكًا بسبب نظام الاعتقال والسجن الإسرائيلي، وهي قضية توحد الفلسطينيين بلا شك. غير أن هذه الوحدة لم تُفضِ حتى الآن إلى تحدي ممارسات الشرطة والحبس على نطاق أوسع. يُفرِّق العديد من الفلسطينيين تفريقًا قطعيًا بين "السجناء السياسيين" المتهمين من النظام الإسرائيلي بارتكاب "مخالفات أمنية" وبين "السجناء الجنائيين." ويعني التفريق بين السجناء كسياسيين وغير سياسيين بأن الأسباب الجذرية "للجرائم" ليست سياسية، وهذا ادعاء خطير ومضلل. فكل السجناء هم سجناء سياسيون.
يواصل الفلسطينيون سعيهم الحثيث لنيل الاعتراف الدولي بوضعهم "كسجناء سياسيين." وقد دأبوا من خلال مقاطعة المحاكم العسكرية والإضراب عن الطعام والكتابات والشهادات الشفوية على التأكيد على أهمية هذا التصنيف السياسي لأنه يُبرزُ الحبس بوصفه الأسلوب الأمثل الذي تنتهجه الدولة الاستعمارية لممارسة السيطرة. ويُفرِّق أيضًا بين المعتقلين "السياسيين" والسجناء "الجنائيين" الذين يحتجزهم النظام الإسرائيلي والسلطة الفلسطينية على حد سواء.
منذ توقيع اتفاقات أوسلو عام 1993، احتكرت قوات الأمن ونظام العدالة الجنائية التابع للسلطة الفلسطينية عمليات فض المنازعات وملاحقة مرتكبي الجرائم قضائيًا. ومع ذلك، لم يكن إنشاء المؤسسات الأمنية والشرطية الفلسطينية خطوةً نحو التحرير، وإنما كان امتدادًا للنظام الاستعماري السجَّان وذراعًا له، حيث تعمل تلك الأجهزة الأمنية ضمن إطار "أمننة السلام"، أي أنها تعمل بموجب تعاون كامل مع النظام الإسرائيلي. وباتت ميزانية القطاع الأمني التابع للسلطة الفلسطينية، ومن ضمنه الشرطة المدنية، تفوق ميزانية قطاعات الصحة والزراعة والتعليم مجتمعة. ولا تكمن المشكلة في انحراف الأولويات وحسب، فما يثير القلق بوجه خاص هو أن قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية تعكف على نحو ممنهجٍ ومستمر على قمع المعارضة السياسية.
اضطلعت المجتمعات المحلية برد المظالم والتصدي للعنف قبل ظهور الدول القومية بفترة طويلة. واليوم، أخذت المجتمعات حول العالم تُحيي ممارسات المساءلة المجتمعية والعدالة الإصلاحية المبنية على فهمٍ متعدد الجوانب لهياكل السلطة، كتلك القائمة على الأبوية والطبقية والعرق. المساءلة المجتمعية هي استراتيجية تهدف إلى رد المظالم والتصدي للعنف داخل المجتمعات دون مشاركة مؤسسات الشرطة. ولذلك كثيرًا ما تتضمن العدالة الإصلاحية، التي تسعى إلى فهم سبب وقوع العنف أو الأذى أو المظلمة، وسُبل منع حدوثه مرة أخرى في المستقبل.
استُخدمت الصُلحة في فلسطين على الدوام لمحاسبة المخطئين والمصالحة بين الأطراف المتنازعة. ومع ذلك، فإن آلية الصلحة إشكاليةٌ وغير تمثيلية وتكتنفها الاعتبارات الأبوية والطبقية. ولذلك ضافرت المجتمعات الفلسطينية في الآونة الأخيرة جهودها من أجل التصدي للعنف والأذى خارج إطار الصلحة، كما حصل في بلدة كفر قاسم الفلسطينية، حيث تشكَّلت مجموعة شبابية حملت اسم "حَرَس البلد" من أجل التعبئة ضد الغوغاء المحليين الذين كانوا يبتزون إتاوات من الناس. وإبان انتفاضة الوحدة في أيار/مايو 2021، حال حَرس البلد دون شرطة الاحتلال ودخول البلدة واعتقال ناشطين.
تتمثل الطريقة الأنسب لاختيار نموذج المساءلة المجتمعية الملائم في الاستفادة من تجارب الآخرين وتكييف النموذج ليناسب سياق المجتمع المعني واحتياجاته. وفيما يلي توصيات للمجتمع المدني الفلسطيني ومجتمع المانحين الدولي لممارسة المساءلة المجتمعية والعدالة الإصلاحية التي تنأى عن عقوبة الحبس:
المجتمع المدني:
- ينبغي لمنظمات المجتمع المدني الفلسطينية، ومجموعات المناصرة، والمجموعات الشعبية إيلاء الأولوية لتطوير مهارات المساءلة المجتمعية.
- ينبغي للمؤسسات التعليمية ومنظمات المجتمع المدني والشركات الفلسطينية أن تُصمِّمَ وتتبنى بروتوكولات لحالات الطوارئ تتفادى تدخل الشرطة.
- ينبغي للمجتمع المدني الفلسطيني، بمنظماته وهيئاته وأفراده، أن يؤازر السياسات التي تُحجِّم دور الشرطة وأنظمة الحبس في جميع أنحاء فلسطين المستعمرة، بما في ذلك من خلال الدعوة إلى إلغاء مخصصات تمويل الشرطة وقوات الأمن.
مجتمع المانحين:
- ينبغي للمانحين أن يُنهوا تعاونهم مع قوات الأمن الفلسطينية ويولوا الأولوية لتمويل مبادرات العدالة البديلة والإصلاحية.
- ينبغي للمانحين أن يوفروا الموارد للمجتمع المدني الفلسطيني والمنظمات الشعبية لممارسة المساءلة المجتمعية، مثل خدمات الصحة النفسية والتعليم ومجموعات الدعم المجتمعي.