لا تزال السلطة الفلسطينية عاجزةً عن تلبية احتياجات موظفيها العموميين. وباتت مسألة الراتب في الضفة الغربية وغزة تحظى بتغطية إعلامية واسعة في الآونة الأخيرة. تُبرز هذه الورقة السياساتية ممارسة السلطة الفلسطينية في تسييس الوظيفة والراتب في القطاع العام الفلسطيني، وكيف تستغلهما في المقايضات السياسية وليس كحقٍ طبيعي للموظفين. ويرى المؤلفان أن الفجوةَ الهائلة في الرواتب بين موظفي القطاع العام تمثِّل مصدرًا أساسيًا لعدم المساواة في المجتمع الفلسطيني.
دون الانتقاص من دور استراتيجيات النظام الإسرائيلي في التلاعب بمصادر تمويل السلطة الفلسطينية، مثل أموال المقاصة والتسرب المالي، ومن دور التداعيات الاقتصادية المترتبة على جائحة كوفيد-19، تركز هذه الورقة على التعرف إلى الآليات الداخلية المستخدمة في السلطة الفلسطينية في توزيع الموارد المالية على شكل وظائف ورواتب كوسيلةٍ لخدمة أجندة النخبة المهيمنة. وتختم الورقة بتوصيات حول سُبل معالجة هذا الوضع وتحقيق مساواة اقتصادية حقيقية.
تأسَّست السلطة الفلسطينية عام 1994، واتسمت بقطاعها العام الموسَّع على المستويين المدني والأمني، حيث بلغ عدد العاملين في القطاع العام 39,000 موظف في 1994، وبحلول العام 2003 ارتفع هذا العدد إلى 124,000. تستند التعيينات في السلطة الفلسطينية إلى الولاء الفصائلي والمحسوبية، ما يؤدي إلى تعيين موظفين غير مؤهلين في مناصب رفيعة. ومن صلاحيات رئيس السلطة الفلسطينية تعيين وكلاء الوزارات، والمدراء، والمحافظين، ورؤساء السلطات والهيئات العامة، والمؤسسات العامة غير الوزارية والذين في معظمهم من أتباع حركة فتح.
اضطُرت السلطة الفلسطينية بسبب عجزها عن تلبية معظم التزاماتها الاقتصادية إلى الاستجداء من الوكالات المانحة الدلية، واضطُرت بالتالي إلى الامتثال إلى معاييرها وشروطها التي زادت تشددًا. واشتمل ذلك على فرض التنسيق الأمني على السلطة مع إسرائيل والولايات المتحدة، ما أفضى إلى تأخيرٍ إضافي في دفع رواتب موظفي القطاع العام.
تفاقم الوضع سوءًا بسبب الانقسام السياسي الذي أصاب القيادة الفلسطينية عقب فوز حماس في انتخابات 2006. فقد ردت إسرائيلُ بالامتناع عن تحويل عائدات المقاصة إلى الفلسطينيين، بينما توقفت تقريبًا كل المساعدات والمنح الدولية المقدمة للحكومة الفلسطينية. وثم في 2008، نفَّذ رئيس الوزراء سلام فياض سياسات نيوليبرالية تبنت مقاربةً تقشفية إزاء التوظيف في القطاع العام. ولكن الخطة فشلت في تغيير واقع التضخم الوظيفي في الجهاز البيروقراطي للسلطة أو التعيينات المرتبطة بالولاءات السياسية والزبائنية والمحاباة.
وفي 2017، فرضت السلطة الفلسطينية سلسلةً من العقوبات على حكومة الأمر الواقع في غزة. وتجلَّت العقوبات في عدة أشكال أبرزها قطع رواتب الموظفين مما أثَّرَ كثيرًا في كافة القطاعات الاقتصادية في غزة. كما استمر العمل بالعقوبات التي جاءت بإحالة عدد من الموظفين إلى التقاعد المبكر. واستمرت العقوبات حتى نهاية النصف الأول من العام 2018، حيث استلم 32,000 موظف في غزة 50-70% فقط من رواتبهم.
وعلاوة على ذلك، يعاني القطاع العام من التفاوت الاقتصادي واللامساواة، حيث يتقاضى أكثر من نصف العاملين في القطاع العام راتب 2200 شيقل (664 دولار) فأقل، في حين تصل رواتب بعض مدراء المؤسسات العامة أكثر من 10 آلاف دولار شهريًا. وتزداد الفجوة اتساعًا بنحو 15% لصالح العاملين في قطاع الأمن مقارنة بموظفي القطاع المدني.
تتجه السلطة لتخفيف وطأة الضغوطات الاقتصادية التي تواجهها، وتناقص المساعدات الدولية، من خلال إلقاء هذا العبء على كاهل السكان باستخدام أساليب مثل خفض مصاريف الرعاية الاجتماعية على ذوي الدخل المحدود، وقطع مدفوعات موظفي غزة، وزيادة الضرائب على المزارعين والتجار الصغار. بينما تُحجِم السلطة عن وضع خطط استراتيجية لعمل استقطاعات واسعة من رواتب كبار الموظفين وإعادة توزيعها بشكل أكثر عدالة.
إنَّ ما تمارسه السلطة الفلسطينية من تسييس القطاع العام والراتب يمثل إساءةً جليةً لاستخدام السلطة. ولمعالجة هذا الوضع، لا بد من تنفيذ التدابير التالية:
- يجب على الحكومة إعادة بناء الهياكل التمثيلية وإبطال سياسة حكم الحزب الواحد.
- يجب تعزيز استقلال القضاء، بما في ذلك تعيين قضاة على أساس الجدارة والاحتراف.
- يجب على الحكومة أن تُقرَّ بطاقات الوصف الوظيفي.
- يجب على الحكومة أن تلتزم بمعايير تضمن حق الفلسطيني في العمل في الوظائف العامة.
- يجب على الحكومة أن تضع سياسة ومعايير لتحديد رواتب ومكافآت رؤساء المؤسسات العامة.
- يجب إعادة إحياء النقابات العمالية المستقلة، والتي تمثِّل العمال والموظفين ومصالحهم بشكل ديمقراطي وشفاف، بعيدًا عن تأثيرات النخب السياسية والاقتصادية والحزبية أو التهديدات الأمنية.
- يجب على منظمات المجتمع المدني أن تدعم الحِراكات النقابية المطلبية، ويجب أن تكون هذه الحِراكات القاعدية جزءًا من جُهد وطني جاد لإعادة النظر في بنية السلطة جذريًا، مع الأخذ في الحسبان الدورَ الأوسع لإعادة بناء الحركة الوطنية ومؤسساتها التمثيلية.