ملخص تنفيذي
فلسطين في المحكمة؟ التداعيات غير المتوقعة للتقاضي أمام المحكمة الجنائية الدولية
للاطلاع على الورقة كاملةً وقراءة المزيد أو تحميلها انقر هنا.
لمحة عامة
أصبحت فلسطين عضوًا في المحكمة الجنائية الدولية رسميًا في 1 نيسان/أبريل 2015 – ولكن السعي لتفعيل اختصاص المحكمة قد أُخضعَ للسياسة والتنازلات المرتبطة بمسعى إقامة الدولة الفلسطينية، ممّا يعرض آليات المحكمة للخطر. تناقش فالنتينا أزاروف الوضعَ الراهن لعضوية فلسطين في المحكمة ومسارها المحتمل، وتناقش الهجومَ القانوني الإسرائيلي على هذه الخطوة الفلسطينية، وتناقش فرص تعزيز الجهودِ الأخرى المبذولة من أجل المساءلة، والخطرَ المتمثل في أن يقوم مجلسُ الأمن التابع للأمم المتحدة بتعليق التحقيق. وتتصدى الكاتبة للعديد من المفاهيم المغلوطة المتداولة بشأن ما تقدر المحكمة الجنائية الدولية عليه وما لا تقدر عليه، وتختتم مقالتها بتوصيات سياساتية من أجل المضي قدمًا.
فلسطين والمحكمة الجنائية الدولية: الوضع الراهن
في كانون الثاني/يناير 2009، أودع وزير العدل في السلطة الفلسطينية آنذاك علي خشان إعلانًا رسميًا بموجب المادة 12(3) من نظام روما الأساسي لدى مكتب المدعي العام، الذي كان يرأسه آنذاك لويس مورينو أوكامبو. ودخلت العملية طي النسيان بعد أن أبطأها المدعي العام بإثارة جدلٍ أكاديمي غير ضروري حول مسألة وضع فلسطين كدولةٍ في القانون الدولي.
وفي 1 كانون الثاني/يناير 2015، أودعت فلسطين إعلانًا جديدًا بموجب المادة 12(3) ووثائق الانضمام إلى نظام روما الأساسي لدى الأمين العام للأمم المتحدة. وفي 16 كانون الثاني/يناير 2015، أعلن مكتب المدعي العام أنه شَرع في دراسة أولية على أساس الإعلان الصادر بموجب المادة 12(3).
إن التصريحات التي أدلى بها مسؤولون فلسطينيون في أعقاب الإعلان الأخير والانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية - وما أوردته تقارير - بأن "الطلب المقدم إلى المحكمة الجنائية الدولية سوف يُسحَب لو جمَّدت إسرائيل بناء المستوطنات" تشير إلى المحاولات المتواصلة لاستخدام المحكمة الجنائية الدولية كورقة مساومة سياسية. ومع ذلك، وباستثناء أن تسحب فلسطين إعلانها أو انضمامها، فإنها لا تملك سلطة الرجوع عن هذه الخطوة. ويستطيع مجلس الأمن أن يؤجل التحقيق أو الملاحقة القضائية بموجب الفصل السابع لمدة 12 شهرًا قابلةٍ للتجديد.
وبالرغم من المحاولات الرامية للحيولة دون انضمام فلسطين إلى المحكمة، فإنه لا يوجد إجراء رسمي للطعن في الانضمام. وقد جرى بالفعل تحديث نظام المعاهدات في الأمم المتحدة ليضم فلسطين باعتبارها الدولة الطرف الثالثة والعشرين بعد المائة في نظام روما الأساسي، وفعل موقع المحكمة الجنائية الدولية على شبكة الإنترنت الشيء نفسه.
المسائل الإجرائية: خيارات فلسطين (من عدمها)
إن قيام مكتب المدعي العام بفتح دراسة أولية لا يعني أن تحقيقًا من المرجح أن يتبعها؛ فمعظم الدراسات الأولية التي أجراها المدعي العام أُغلقت دون فتح تحقيقات.
واعتبارًا من 1 نيسان/أبريل، تستطيع فلسطين بموجب المادة 14 من النظام الأساسي، بوصفها دولةً طرفًا فيه، أن تحيل "وضعًا" مع إبراز حالات محددة. ولا ينبغي للإحالة أن تقيد نوع الحالات أو الأدلة التي ينظر فيها مكتب المدعي العام، ومن المستبعد للغاية أن تشيح انتباه المدعي العام عن الانتهاكات الفلسطينية.
إذا رفض المدعي العام فتح تحقيق مستندًا إلى اعتبارات "مصالح العدالة،" فيتسنى لفلسطين أن تلتمس من الدائرة التمهيدية أن تشرعَ في مراجعة "صارمة" مع إمكانية الرجوع عنها. وأمّا إذا كان قرار رفض التحقيق مستندًا إلى مخاوف بشأن المقبولية - بما في ذلك انتفاء خطورة الوضع أو توفر آليات محلية للملاحقة القضائية كما حدث لإحالة جزر القمر – فإنه لا يسع الدائرة التمهيدية إلا أن تطلب من المدعي العام إعادة النظر، ولكن لا يمكنها أن تأمره بذلك، ومن المستبعد أن تنتقد قرار المدعي العام بعدم التحقيق.
المعوقات الموضوعية: محاولات إسرائيل للمقاومة
تستند العتبة المستخدمة في تقييم عدم رغبة الدولة الحقيقية في فتح تحقيقات إلى وجود نية لحماية الجناة، أو تأخر الإجراءات دون مبرر، أو الافتقار إلى الاستقلال والنزاهة، أو عدم وجود نية حقيقية لتقديم الجناة إلى العدالة (المادة 17(2)).
إن سجلَّ إسرائيل منذ عملية الرصاص المصبوب الذي ينطوي على محاكمة وإدانة أربعةَ جنودٍ فقط، وإصدار أقسى عقوبة بحقهم في قضية سرقة بطاقات ائتمان، سوف يُعتَبر في نظر المدعي العام، بوجه شبه مؤكد، غير كافٍ لاستبعاد اختصاص المحكمة الجنائية الدولية.
لا تكمن المسألة فيما إذا كانت إسرائيل "قادرةً" على إجراء تحقيقات، بل فيما إذا كانت "راغبةً" في ذلك، نظرًا لممارساتها القانونية والمؤسسية المعهودة كرفض تطبيق القانون الإنساني الدولي بمجمله في الأراضي الفلسطينية، وتوسعة نطاق تطبيق الاختصاص القضائي المحلي الإسرائيلي ليشمل الضفة الغربية، ورفض الإجماع الدولي القاضي بأن قطاع غزة هو أرضٌ محتلة.
تُدرك إسرائيل مبدأ التكامل جيدًا، لذا تعكف على اتخاذ خطواتٍ لحماية نفسها من تحقيق المحكمة الجنائية الدولية. ومن ذلك أن مراقب الدولة في إسرائيل، القاضي يوسف شابيرا، قرَّر في آب/أغسطس 2014 التحقيق في عملية صنع القرار على المستويين العسكري والسياسي إبان عملية الجرف الصامد، مع الإشارة إلى "جوانب في القانون الدولي."
إن إحجام إسرائيل عن التعاون قد لا يعرقل الحالات الجلية والواضحة مثل أنشطة إسرائيل الاستيطانية وآثار الحصار المفروض على غزة وبعض الهجمات الإسرائيلية إبان عملية الجرف الصامد. ولكنه سوف يعوق قدرة المدعي العام على التحقيق في الحالات الأكثر تعقيدًا المتعلقة بالأعمال العدائية التي نفذتها إسرائيل في قطاع غزة، وبعض العمليات الإسرائيلية لإنفاذ القانون في الضفة الغربية.
وفي حين لا ينبغي للمحكمة أن تتدخل في فرص إحلال السلام عند تحديد مصالح العدالة، فإنها قد تخلُص إلى أن هناك "أسبابًا جوهريةً تدعو للاعتقاد بأن التحقيق لن يخدم "مصالح العدالة" (المادة 53(1)). ومن المنطقي أن نتوقع بأن المحكمة سترى ضرورةً في التدخل، بحذر، في نزاع طويل الأمد يعيش ضحاياه فراغًا على صعيد المساءلة والمحاسبة.
ما الحالات المحددة التي قد يقع عليها الاختيار؟
كافة الجرائم التي تدخل ضمن اختصاص المحكمة، وفقًا لممارستها عمومًا، هي خطيرة بما يكفي لمتابعتها، غير أن الجرائم التي تجري متابعتها فعليًا تتوقف على سياسة مكتب المدعي العام. وعلى سبيل المثال، رغم أن الأشخاص الذين قضوا بسبب الصواريخ وقذائف الهاون التي أطلقتها الفصائل الفلسطينية المسلحة في قطاع غزة على إسرائيل قليلون نسبيًا، فإن الهجمات سوف تُعتَبر على الأرجح خطيرةً بما يكفي لإدراجها ضمن الحالات المحددة في إطار الوضع العام، ولا سيما في ضوء الأهمية السياسية المعلَّقة على التحقيق مع كلا الطرفين.
إن محدودية الموارد المتاحة لمكتب المدعي العام وحساسيته السياسية تدفعه على الأرجح إلى ملاحقة أسلم القضايا من الناحيتين القانونية والعملية. تنطوي المستوطنات الإسرائيلية على مصادرة غير مشروعة ومكثفة للأراضي على نطاق واسع، ونقل المدنيين في دولة الاحتلال إلى الأراضي المحتلة بطرق مباشرة وغير مباشرة، لذا تُعتبر قضية المستوطنات من القضايا الأسلم والأكثر أمانًا من الناحية الاستراتيجية في سياق الوضع الإسرائيلي الفلسطيني. ينطوي النجاح في محاكمة المتهمين رفيعي المستوى على إثبات إساءتهم في استخدام السلطة وانتهاكهم سيادةَ القانون: فما كان يتسنى بناء المستوطنات لولا الآليات القانونية والإدارية في المؤسسات الإسرائيلية.
ومن المسائل القانونية الرئيسية بخصوص قضية المستوطنات (وقضايا أخرى كذلك) مسألةُ ما إذا كانت طبيعة العمل الإجرامي المتمثل في مصادرة الأرض ونقل المستوطنين "مستمرة" طوال فترة وجود المستوطنة قيد النظر، أو ما إذا كانت الجرائم الواقعة ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية ستقتصر على عمليات المصادرة غير القانونية أو نقل المدنيين الإسرائيليين إلى الأراضي المحتلة بعد 13 حزيران/يونيو 2014، وهو تاريخ سريان الاختصاص الزمني للمحكمة (وهو التاريخ الذي حددته فلسطين في إعلانها الصادر في كانون الثاني/يناير 2015 بموجب المادة 12(3)).
وفيما يخص قضية نظام الفصل العنصري، فإن مكتب المدعي العام، رغم الأدلة الدامغة، قد يعتبر ملاحقةَ هذه الجريمة تحديًا مشحونًا سياسيًا. وبما أن جريمة الفصل العنصري تتألف من مجموعة جرائم الحرب، فلربما يرى المدعي العام في التحقيق في جرائم الحرب هذه وملاحقتها استراتيجيةً أسلم.
الحملة الإسرائيلية لمنع المحكمة الجنائية الدولية
لم يأت الرد الرسمي الإسرائيلي على تحركات فلسطين في المحكمة الجنائية الدولية مستَغربًا. فقد بدأت إسرائيل هجمتها القانونية ضد انضمام فلسطين إلى المحكمة الجنائية الدولية في العام 2009 حين انبرت لنفي صفة فلسطين كدولة بُغية إبطال أهلية إعلانها الصادر في كانون الثاني/يناير 2009 بموجب المادة 12(3). ولأن المدعي العام لم يعد يرى مشكلةً في وضع فلسطين كدولة، ولا سيما بعد تشرين الثاني/نوفمبر 2012، فإن الهجوم القانوني الإسرائيلي على اختصاص المحكمة الجنائية الدولية تحوّل على ما يبدو إلى مسألة التكامل.
ظل داعمو المحكمة وممولوها الرئيسيون، مثل ألمانيا والمملكة المتحدة وفرنسا، يقاومون حتى هذه اللحظة دعوةَ إسرائيل إلى قطع التمويل عن المحكمة. وليس واضحًا ما ستفعله هذه الحكومات حين يقرر مكتب المدعي العام بشأن خطواته القادمة.
تظهر البحوث الكمية والنوعية بشأن تأثيرات إجراءات المحكمة الجنائية الدولية على الضرر غير القانوني اللاحق بالمدنيين، فضلاً على حملةِ إسرائيل الرامية لمنع المحكمة، إلى أن إسرائيل تحسب في حساباتها السياسية تأثير التحقيقات والملاحقات القضائية التي تجريها المحكمة الجنائية الدولية. وفي هذا الصدد، يقول أحد الخبراء إن "غضب إسرائيل وحَنقها يعطي مصداقية للرأي القائل بأن المحكمة هي [...] مؤسسةٌ ذات أهمية بالغة في السياسة الدولية."
بعد الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية: استراتيجية لتوسيع نطاق المساءلة
حتى لو تباطأ المدعي العام في الدراسة الأولية، فإن تلك لن تكون نهاية المطاف، لأن هناك عمليات أخرى لإنفاذ القانون الدولي، وبعضها جارٍ بالفعل، يمكنها أن تستفيد بصورة غير مباشر من آثار دراسة المحكمة الجنائية الدولية للانتهاكات الإسرائيلية.
إن وجود استراتيجية فلسطينية تهدف إلى الاستكثار من آليات وعمليات المساءلة الدولية والمشتركة بين الدول يمكن أن يخفف العبء السياسي على كاهل المدعي العام. إن سعي فلسطين للتصديق على المعاهدات الدولية يتيح طائفة من الآليات والعمليات المحلية والدولية.
يمكن للدراسة التي تجريها المحكمة الجنائية الدولية بشأن سلوك إسرائيل أن تحفزَ الدولَ الأعضاء الثالثة، والشركات، والمنظمات الدولية على مراجعة تعاقداتها مع الكيانات الإسرائيلية وأن تحرص على عدم إضفاء صبغةٍ قانونية على السلوك الإسرائيلي غير القانوني. وفي بعض الحالات، يمكن للدول الثالثة أن تكون ملزمةً بإطلاق عمليات إنفاذ مشتركة بين الدول.
ما بعد مسعى الانضمام: الاستنتاجات والتوصيات
بناءً على الممارسات السالفة والاعتبارات السياسية المحتملة، يتنبأ بعض الخبراء بأن المحكمة الجنائية الدولية قد تستغرق سنوات قبل أن تفتح تحقيقًا تعقبه تحقيقات أخرى لإصدار قرارات، إلا إذا قررت عدم فتح تحقيق. إن الرهانات الكبيرة المتوقفة على إجراءات المحكمة الجنائية الدولية تعني أن من الأهمية القصوى بمكان أن تعمل فلسطين ومؤيدوها بطريقة استراتيجية، وأن تدرك أن خدمة مصالحها لا تكمن في إساءة تفسير المحكمة الجنائية الدولية كأداة سياسية بل في عدم تسييس دراسة المحكمة للوضع في فلسطين.
تحتاج فلسطين بصورة ملحة إلى أن تقرنَ استراتيجيتَها القانونيةَ المتبعة في المحكمة الجنائية الدولية وخارجها بتدابير رئيسية داخلية تُظهر التزامها بالقانون الدولي. وينبغي أن تضمن الامتثال المحلي للقانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني، والقانون الجنائي من خلال التشريعات الكافية والممارسة المؤسسية.
وهناك أيضًا ضرورةٌ ملحةٌ أخرى للتمييز بين السلطة الفلسطينية وحكومة دولة فلسطين ومنظمة التحرير الفلسطينية التي تمثل الدولة في علاقاتها الخارجية، وتوضيح موقف حماس داخل هياكل الحكومة الفلسطينية لأن مسؤولي حماس يُعتبرون جزءًا من حكومة الوفاق الفلسطينية.
وختامًا، ولأن الطريقَ أمام تحقيقات المحكمة الجنائية الدولية يُتوقعُ أن تكون طويلةً ومضطربة، فإن من الضرورة بمكان أن نكسب دعم الدول الصديقة لضمان استقلال التحرك على صعيد المحكمة.