Article - Unifying Palestinians Through Education: Lessons from Experience

ظل نظام التعليم العالي الفلسطيني يساهم في التشرذم الوطني ويتأثر به على مر العقود. وبالنظر إلى الانقسامات السياسية والحواجز المادية القائمة داخل الأرض الفلسطينية المحتلة، وبين الأرض الفلسطينية المحتلة والمواطنين الفلسطينيين في إسرائيل وبين اللاجئين الفلسطينيين، فإن من الصعوبة بمكان أن يتذكر المرء متى اضطلع التعليم العالي بجمع شمل الفلسطينيين. فقبل أقل من 20 سنة، وتحديدًا في العام 2000، بلغ عدد طلاب جامعة بيرزيت الآتين من قطاع غزة 350 طالبًا وهو عددٌ كبير انخفض إلى 35 فقط بحلول 2005. أما اليوم، فقد بات من الصعب لطالب من رام الله أن يفكر في الدراسة في الخليل. وصارت كل جامعة تخدم المناطق المحيطة بها بشكل أساسي.

لقد بُذلت جهودٌ على مر العقود من أجل تحرير النظام التعليمي من نِير الاحتلال الإسرائيلي، وتسخير التعليم كوسيلة لإعادة توحيد الجسم السياسي الفلسطيني، ولكن هذه الجهود لم تنجح إلى الآن. وكان آخر هذه المحاولات في العام 2015، وسعت إلى تأسيس جامعة فلسطينية خارج فلسطين لتفادي القيود الجغرافية التي تفرضها القوى الأجنبية من احتلال عسكري وحكومات. وهدفت تلك المحاولة أيضًا إلى إعداد جيلٍ من قادة المستقبل من الطاقات الفلسطينية في الوطن والمهجر. ومع أن الجامعة لم ترَ النور، إلا أن دراسة الجدوى لهذا المشروع أوجدت كمًا قيِّمًا من الوثائق والدروس المستفادة من المبادرة نفسها ومن المشاريع الأخرى السابقة التي سعت بالمثل إلى تمكين الفلسطينيين وجمع شملهم من خلال التعليم العالي.

يستهل المحلل السياساتي في الشبكة سام بحور هذا التعقيب بالحديث عن العملية المتبعة في تلك المبادرة والتي تولى خلالها، مع فريق العمل الذي قاده، في العام 2015 إنشاء جامعة فلسطينية في قبرص. ومن ثم يستعرض محاولة تأسيس جامعة في الضفة الغربية وجامعة في قطاع غزة في مطلع السبعينات، ويناقش الدور الإشكالي الذي اضطلع به المسؤولون الإسرائيليون في كلتا المحاولتين. كما يستعرضُ مبادرةً أطلقتها منظمة التحرير الفلسطينية بالتعاون مع منظمة اليونسكو والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي لإقامة جامعة فلسطينية مفتوحة في الفترة ما بين منتصف السبعينات وأواخرها. ويسرد في الختام دروسًا مستفادة وتوصيات تنفع مَن قد ينبري لمشاريعَ مشابهةٍ في المستقبل.1

جامعة فلسطينية في قبرص

شرعت مع فريق عملي في 2015 في العمل على الاستفادة من الخبرة الواسعة لدى مؤسسات التعليم العالي الفلسطينية العاملة في الأرض الفلسطينية المحتلة بهدف إنشاء جامعة خارج فلسطين. كان هدفنا أن نجمعَ في الغرفة الدراسية الواحدة طلابًا فلسطينيين من الأرض الفلسطينية المحتلة ومن داخل إسرائيل ومن الأقطار الإقليمية المختلفة بمن فيهم اللاجئون في لبنان وسوريا والأردن وغيرها وكذلك الفلسطينيون في المهجر والشتات. وارتأينا أن تضم الجامعة كذلك طلابًا ومدرسين وموظفين عربًا وأجانب متضامنين مع النضال الفلسطيني.

كانت تلك الجامعة ستكون أول جامعة فلسطينية في الخارج، كمؤسسة مستقلة وعلمانية ومختلطة توالف بين أفضل المزايا في النُظم التعليمية المختلفة، وتطبق معايير الجودة، وتحمل فلسفة دولية، وتقوم على أُسس أصلية توحد الفلسطينيين وغيرهم من خلال التعليم. وكان من الأسباب الجوهرية التي دعتنا إلى التفكير في إنشاء جامعة فلسطينية خارج فلسطين أنه تبيَّن جليًا أن المؤسسات التعليمية الفلسطينية القائمة في الفترة التالية لأوسلو ما كانت لتقدرَ على التعاطي مع كلية الشعب الفلسطيني المعقدة حيثما وُجد نظرًا إلى التجزؤ الجغرافي والأجندة التعليمية المتأثرة برغبات المانحين في تلك الفترة.

وقع الاختيار على جمهوريةِ قبرص كموقعٍ محتمل للمشروع نظرًا لموقعها الجغرافي المتميز المتوسط بين أوروبا وبين الشرق الأوسط، وتاريخ العلاقات التجارية والثقافية الوثيقة التي تربطها بالعالم العربي. فكونها دولةً عضو في الاتحاد الأوروبي يقتضي منها أن تتبع معايير الاتحاد في التعليم، ويجعلها أيضًا مكانًا مثاليًا نظرًا إلى أن فلسطين نفسها صغيرة المساحة وتسعى إلى الاندماج في المنطقة. فضلًا على أن قبرص دأبت على تقديم الدعم للنضال الفلسطيني من أجل التحرر والاستقلال، وهي تخضع لاحتلال عسكري تركي، ما كان سيجعلها حالةً دراسية مقارنةً مثالية للطلاب الفلسطينيين.

إن من الصعوبة بمكان أن يتذكر المرء متى اضطلع التعليم العالي بجمع شمل الفلسطينيين Share on X

أشركنا في المشروع جامعةً فلسطينية رائدة كشريك أكاديمي، بيد أنها كانت مستنزَفةً من حيث الموارد البشرية والمالية لدرجة أنه بالكاد كان باستطاعتها أن تمنح المشروع أكثر من رؤيتها واسمها لكي يبدأ العمل. استجابت ثلاث شركات فلسطينية رائدة لدعوتنا إذ منحتنا من مخصصات مسؤوليتها الاجتماعية دعمًا ماليًا أساسيًا لإنجاز دراسة جدوى أولية للمشروع. وعلى الرغم من أن المبلغ الممنوح كان صغيرًا، إلا أننا شعرنا بوجود قيمةٍ استراتيجية في إقدام الفلسطينيين في فلسطين على تقديم الدعم المادي لأجل التواصل مع الفلسطينيين في الخارج. وقام فريقنا الاستشاري، الذي ضمَّ خبيرًا فلسطينيًا في التعليم العالي مقيمًا في أوروبا، بزيارة قبرص حيث التقى بالعديد من أصحاب المصلحة المحتَملين، وبإداريين في جامعات قبرص، وأساتذةٍ قبارصة وغير قبارصة، وخبراءَ قانونيين، ومستثمرين.

أنشأنا مجموعةً على موقع لينكد إن باسم الشبكة الأكاديمية من أجل فلسطين للتعرف إلى الأكاديميين الذين قد يكون لهم دورٌ مستقبلي في هذا المشروع. وتواصلنا مع باحثين في فلسطين، وفي جامعة هارفارد، وآخرين في الوطن العربي، حتى انضم إلى المجموعة قرابة 250 شخصًا مهتمًا معظمهم من الأكاديميين والباحثين. وبحثنا عن نموذجٍ أكاديمي يوفر أقصى قدرٍ في التعلم من حيث المرونة وتصميم التعلم بحسب احتياجات كل متعلم. وقد قادنا هذا البحث إلى جامعة كويست كندا، أول جامعة علمانية مستقلة وغير ربحية في كندا ذات فلسفة تعليمية مبتكرة. وبخلاف الجامعات التقليدية التي يدرس فيها الطلاب مساقاتٍ عديدةً في آن واحد في الفصل الدراسي، يركز طلاب جامعة كويست على “مجموعة” مساقات واحدة تُدرَّس لثلاث ساعات في اليوم كل يوم لمدة ثلاثة أسابيع ونصف. وقد رأينا في ذلك فرصةً للتركيز والتبحر والمرونة كقيمة مضافة للطلاب الآتين من منطقة بالكاد تعرف شيئًا عن هذه الأمور.

أظهرت دراسة الجدوى الأولية مؤشرات إيجابية، وبناءً عليها توجهنا إلى شريكنا الأكاديمي وممولينا الأساسيين لإنجاز دراسة جدوى كاملة. غير أن شريكنا الأكاديمي، الجامعة الفلسطينية، كان لا يزال غير قادرٍ على المساهمة بالمال أو بغيره في سبيل إنجاز دراسة الجدوى الكاملة. ومن دون شريكنا الاستراتيجي، شعرَ ممولونا الأساسيون أنَّ المضي في هذا الاستثمار، بينما الطلب يتزايد في فلسطين، كان فوق استطاعتهم. وهكذا توقفت الجهود فجأة وبسرعة.

لكن جهودنا لم تذهب سدى، فقد تعلمنا أن هناك اهتمامًا في مبادرة كهذه، وتعرفنا إلى شخصيات وجهات مهمة، وصارت لدينا قائمة أسماء نستند إليها في المستقبل. ومن الدروس الجلية المفيدة للجهود المستقبلية أهميةُ العمل مع شريك أكاديمي إضافي خارج فلسطين يكون لديه مقيدات أقل من المؤسسات الفلسطينية، والعمل أيضًا على تنويع مصادر التمويل الأساسي. ومن أهم ما استفدناه أثناء عملنا في هذا المشروع هو أننا اكتشفنا محاولات فلسطينية أخرى لاستخدام التعليم كوسيلة لتوحيد الفلسطينيين. فتلك المحاولات، كما هي محاولتنا، ستنفع الآخرين في المستقبل وتُعينهم على تفادي عثرات السابقين.

جهود لإنشاء جامعتين في الأرض الفلسطينية المحتلة – دور إسرائيل

لربما قلةٌ سوف تذكر محاولةَ إنشاء جامعةٍ عربية في الضفة الغربية وفي قطاع غزة في مطلع عقد السبعينات من القرن الماضي. وهذه المحاولة موثقة جيدًا في مصادر عدة بما في ذلك بقلم محمود فلاحة في عدد شهر تشرين الأول/أكتوبر 1973 من مجلة الشؤون الفلسطينية الصادرة عن مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية.

أشار فلاحة إلى أن الغاية من إنشاء جامعتين عربيتين تتمثل في تمكين الطلاب الفلسطينيين من الحصول على درجات علمية عليا دون الحاجة إلى السفر إلى الخارج. وفي سبيل ذلك، تشكلت لجنة تحضيرية في آب/أغسطس 1972 في الضفة الغربية، وكان من بين أعضائها رئيس بلدية الخليل الشيخ محمد الجعبري. ومن ثم حصلت اللجنة التحضيرية على موافقة الحاكم العسكري الإسرائيلي، وتقدمت بطلب رسمي إلى ييغال آلون وزير المعارف والثقافة الإسرائيلي آنذاك.2

وفي واقعة منفصلة في السنة نفسها، وافقت السلطات الإسرائيلية على إنشاء مؤسسة للدراسات العليا تضم أربعة فروع.3 وبالفعل، أعلن آلون عن إنشاء المؤسسة العربية للتعليم العالي في اجتماع مع الجعبري وغيره من أعضاء اللجنة التحضيرية.4 وفي الوقت نفسه، اعترف آلون أيضًا باللجنة وبأعمالها، ووافق رسميًا على طلب الجعبري بأن تسمحَ إسرائيلُ بمشاركة محاضرين من الدول العربية وغيرها، وأن تقوم اللجنة بجمع التبرعات من الخارج. واقترح آلون على اللجنة أن تستعين بمؤسسات التعليم العالي الإسرائيلية. وفي آذار/مارس 1973 وافقت سلطات الحكم العسكري الإسرائيلية على إقامة الجامعة.

نشرت صحيفة هاآرتس أنباء عن إنشاء جمعية خيرية بغرض تأسيس الجامعة وصياغة أهدافها ونظامها الداخلي.5 توقع المؤسسون بدء العمل بحلول تشرين الأول/أكتوبر 1973 في مرحلة أولى تضم نحو 1,000 طالب وتغطي مدنًا عديدة في الضفة الغربية موزعة على النحو التالي: كلية الحقوق في رام الله، وكلية الآداب والعلوم الاجتماعية في نابلس، وكلية العلوم الطبيعية والزراعة في طولكرم، وكلية الدراسات الإسلامية في الخليل. ونصَّ النظام الداخلي على أن الجامعة لن تخوض في القضايا السياسية وستركز حصرًا على الشؤون الأكاديمية. فضلًا على أن إقرار البرامج الدراسية في الجامعة كان مرهونًا بضمان ألا تشتمل تلك البرامج على “تحريض” ضد “إسرائيل والشعب اليهودي.”

لقد أدركنا أيضًا أن إنشاء جامعةٍ في غزة منفصلةٍ عن الجامعة في الضفة الغربية لم يكن أمرًا جديدًا. ففي الوقت الذي كانت الجهود تُبذَل لإقامة جامعة في الضفة الغربية، قدَّم وفد من غزة مذكرةً إلى موشيه دايان بشأن إقامة جامعة عربية في غزة.6 كان الوفد حينها قد عاد مؤخرًا من القاهرة حيث أُبلِغَ أن مصر سوف تدعم مشروع الجامعة ماليًا بعد مبادرة لإنشائها من جانب سكان القطاع. كان من المقرر أن تكون الجامعة مستقلة ولكنها كانت ستحتاج إلى الدعم الأكاديمي وكانت ستطلبه من الجامعة العبرية. وكانت ستبدأ بفتح كليات علمية من هندسة وزراعة وطب، وستوظف أساتذةً فلسطينيين من الدول العربية وغيرها، حالما تُصدر السلطات الإسرائيلية موافقتها.

وبعد فترة طويلة من الانقطاع، وردت تقارير تُفيد بوقوع خلاف بين آلون ودايان حول إنشاء الجامعة في غزة.7 وقد عكسَ الخلافُ مخاوفَ حزب العمل الدفينة بشأن السياسة ومستقبل “المناطق.” فكان دايان يفضِّل ارتباط الجامعة بمصرلأنه كان يرغب بأن يكون سكان المناطق المحتلة مرتبطين بالدول العربية المجاورة كحَمَلةٍ لجنسياتها، بينما أراد آلون لجامعة غزة أن ترتبط في المستقبل بالجامعة التي كانت قيد الإنشاء في الضفة الغربية. وهكذا لم يكن الخلاف بين آلون ودايان نابعًا من حرصهما على التعليم في غزة، وإنما كان بين رؤيتين إسرائيليتين متنافستين حول طبيعة الحل في الأرض الفلسطينية المحتلة منذ العام 1967.

ما برح الفلسطينيون يواجهون صعوبةً متزايدة في العثور على حيزٍ جغرافي حيث يمكنهم التخطيط لمستقبلهم Share on X

يرى فلاحة أن الدافع الأساسي لإسرائيل في التفكير في إنشاء هاتين الجامعتين كان مشابهًا لدعمها الانتخابات البلدية، وهو التنصل من مسؤولياتها تجاه الشعب الذي تحتله، بينما تُلبِس احتلالها العسكري قناعًا مدنيًا. وعلاوةً على ذلك، اتضح أن اللجنة التحضيرية كانت تروج لهذا المشروع بتأثيرٍ من الصهيونية التي كانت توجهه من وراء الكواليس. وقد قال آلون في مقابلة صحفية أجرتها معه مجلة نيو ميدل إيست اللندنية في أيار/مايو 1973 إن من “الطبيعي” أن جامعةً عربية تُقام باشتراك ممثلي كافة المستوطنات الهامة في الضفة الغربية يمكن أن يكون لها معنى سياسي في المستقبل.

وثَّقت مؤسسةُ الدراسات الفلسطينية المعارضَةَ الشعبيةَ لهذا المشروع.8 وكانت المعارضة الفلسطينية تقوم على أسباب عدة: 1) استبعاد القدس كمركز للجامعة؛ 2) الخوف من أن تهيمن السلطات الإسرائيلية على الجامعة بالنظر إلى تأسيسها في ظل الاحتلال؛ 3) الخلاف على ما إذا كان ينبغي للجامعة أن تكون مستقلة أم مرتبطة بالجامعة الأردنية. وقد تجاوز النقاش أوساط الضفة الغربية وانتقل إلى جامعة الدول العربية، حيث عورضت فكرة إنشاء الجامعة في الضفة الغربية وطُرحت مقترحات لتمكين الفلسطينيين من مواصلة تعليمهم العالي في جامعات الدول العربية، ومنها مقترحٌ لإنشاء جامعة عربية للطلاب الفلسطينيين خارج فلسطين.

وفي الدورة التاسعة والخمسين لجامعة الدول العربية، المنعقدة بالقاهرة في أيار/مايو 1973، اتخذَ مجلس الجامعة التعليمي القرار رقم 3028 (7/4/1973) القاضي بأن تُعِدَّ جامعة الدول العربية، بالتعاون مع منظمة التحرير الفلسطينية، دراسةً لإنشاء جامعةٍ عربية للطلاب الفلسطينيين في إحدى الدول العربية، وتقوم الدول العربية بالمساهمة في تمويلها. غير أن هذا القرار لم يُنفَّذ قط. وفي هذا الصدد، أشار محمود فلاحة إلى أن الحل الأنسب كان بأن تفتح الدول العربية أبواب جامعاتها أمام الطلاب الفلسطينيين، وأن تمنحهم الدعم المالي المطلوب، بما يخفض التكاليف الإجمالية ويوفر بديلًا فوريًا للخطة الإسرائيلية.

جامعة فلسطينية مفتوحة في الدول العربية

كانت هناك محاولةٌ أخرى إبان عقد السبعينات أيضًا لإنشاء جامعةٍ عربية للفلسطينيين كما علمنا من مشاوراتنا مع المعنيين في التعليم العالي في فلسطين، ومن مراجعتنا للوثائق المحفوظة لدى مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية ومؤسسة الدراسات الفلسطينية. انطلقت المبادرة في 1975 بفكرةٍ مشابهة ونيةٍ مختلفة، حيث سعت لإقامة جامعة فلسطينية مفتوحة. وكانت منظمة التحرير قد لمست المشاكل التي يواجهها الفلسطينيون عند مواصلة التعليم العالي، وكذلك التباين بين التعليم وبين احتياجات المجتمع الفلسطيني. وفي إطار هذه المحاولة، توجه الصندوق الوطني الفلسطيني إلى اليونسكو طالبًا تقييم الجدوى من إنشاء “نظام تعليم مفتوح” للفلسطينيين.9

شكَّلت اليونسكو، بالتعاون مع الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي ومنظمة التحرير الفلسطينية، فريقًا من الخبراء أعدّوا دراسة جدوى أولية في 1976، ومن ثم أوصوا بإعداد دراسة جدوى كاملة. قاد الدكتور إبراهيم أبو لغد فريق دراسة الجدوى الذي ضم بعضًا من كبار التربويين الفلسطينيين آنذاك.

ذكرت دراسة الجدوى مسوِّغات المشروع ووضعت في طليعتها المسوِّغ “العددي”، الذي كان مبنيًا على تقديرات تفيد بوجود 2,285,000 فلسطيني في “المنطقة الواقعة خارج فلسطين التاريخية،” و1,175,000 فلسطيني “داخل فلسطين التاريخية” (إسرائيل والضفة الغربية وقطاع غزة). وفي المجموع، كان هناك 40,000 فلسطيني يتخرج سنويًا بشهادة التعليم الثانوي، و30,000 منهم لا “يملكون أي سبيلٍ لمواصلة تعليمهم العالي.”

ذكرت الدراسة أيضًا أبعادًا أخرى كان على رأسها “الجودة والنوعية،” حيث جاء في الدراسة: “لا يتلقى الفلسطينيون حيثما كانوا اليوم التعليمَ وفقًا لأولويات المجتمع الفلسطيني أو الشعب الفلسطيني،” كما أنهم لم يتلقوا التعليم وفقًا لمناهج من تصميمهم، بل كانوا مشتتين ما بين مناهج إسرائيل والأرض الفلسطينية المحتلة والدول العربية والمؤسسات غير العربية. وكما جاء آنفًا، كان هذا هو السبب الرئيسي الذي دفعنا في 2015 إلى إطلاق مبادرتنا لإنشاء جامعة فلسطينية خارج فلسطين.

تبنت الدراسة المنجزة في 1976 “نظامًا تعليميًا مفتوحًا،” يسخِّر التكنولوجيا الحديثة في الوصول إلى أكبر عدد من الفلسطينيين بصرف النظر عن مواقعهم الجغرافية، ومن أجل استيعاب أعدادٍ كبيرة. كان ذلك النظام سيوالف ما بين التعليم عن بعد والتعليم الوجاهي والخبرة العملية. وحين ينظر المتأمل اليوم إلى تلك المبادرة، فإنه يُصدَم من منطقها “المفتوح” حيث إن فكرة الجامعة تولدت قبل وجود الإنترنت عند شعب يواجه تهديدًا جسيمًا يتمثل في الإمعان في طرده وتجريده من حقوقه وأرضه.

تناولت الدراسة أيضًا المبدأ الأساسي نفسه الذي جعلناه العمود الفقري لمشروعنا، ألا وهو إيجاد مقاربةٍ “للتغلب على مشاكل التشرذم الوطني عند الفلسطينيين.” وقالت إن الاشتمال على التفاعل الوجاهي بنسبة كبيرة سوف يعزز التعليم عن بعد، والأهم من ذلك أنه “سيكون وسيلةً للتغلب على مشاكل التشرذم الوطني.” وكان سيساعد في التغلب على “المعوقات الممأسسة التي تحول دون تفاعل الفلسطينيين فيما بينهم.” خططت الجامعة المفتوحة لإنشاء مراكز إقليمية في مناطق تركز الفلسطينيين تشمل مرافق مثل المكتبة وغرف العرض المشتركة، ومعدات الوسائط السمعية والبصرية.

تطابقت التوصية التالية أيضًا مع أهداف مشروعنا الأخير: يجب على المنهاج أن يكون فلسطينيًا خالصًا في كامل المشروع حتى يؤدي الغرض المطلوب. فمَن كان سينهل من علوم الجامعة لم يكن الفلسطينيون وحسب، بل القادة الفلسطينيون المستقبليون، كلٌّ في مجال خبرته.

لقد بيَّنت التوصية كيف أنَّ نوع التعليم وهيكل التدريب سيختلف عمّا في المجالات الأخرى لأنه سيكون مرهونًا بالاحتياجات الحالية والمستقبلية للمجتمع الفلسطيني. فعلى سبيل المثال، “يساهم التعليم في الجامعات التقليدية في تقديم مهن معينة…ولكنه لا يساهم في تدريب كوادر الموظفين الذين تحتاجهم إدارات المستشفيات والعيادات، ولا في تطوير تكنولوجيا الغذاء وما شابه.” ونوع التعليم وهيكل التدريب ذاك سوف يستثمر في الهوية الفلسطينية والتراث الثقافي، بما فيه جوانب الثقافة الفلسطينية المرتبطة بالثقافة العربية ككل – “وهذه تحديدًا ما تفتقر إليه المناهج التي يستقي منها الفلسطينيون تعليمهم اليوم.”

يعلم القادة الإسرائيليون جيدًا أنه كلما أمعنوا في حرمان الفلسطينيين حقَّهم في الاختلاط فيها بينهم ضمن حيز مشترك، قلَّت احتمالات أن يشكلوا تهديدًا للهيمنة الإسرائيلية Share on X

إنَّ ما كان سيتعلمه الفلسطينيون لم يكن ليقتصر على الهوية الوطنية، ولكنه كان سَيُوجَّه نحو تطبيق العلوم والمعارف المكتسبة من أجل إنقاذ مجتمعٍ يتعرض لهجوم. لقد قَطعت الدراسةُ شوطًا كبيرًا على صعيد تحديد أنواع المساقات والمواضيع المطلوبة “لتعليم الشباب الفلسطيني كما ينبغي لفهم طبيعة مأزقهم.” فارتأت أنه يجب على نظام القيم المنضوية في إطار الجامعة الفلسطينية المفتوحة أن يشجع المهندسَ الزراعي مثلًا على الإقامة في المناطق الريفية “بدلاً من أن يصبح بيروقراطيًا حضريًا يصدر الأوراق حول الزراعة،” وأن يدرِّب الباحث الاجتماعي على خدمة المؤسسات والبلديات ومكاتب المقاطعات الصغيرة. “إن تشتتَ الشعب الفلسطيني، وصغر حجم البلدات كافة في فلسطين… وكثرة مخيمات اللاجئين من الأسباب التي تدعو إلى وجود مُخطِّطين ومديرين وباحثين اجتماعيين… يتمتعون بمهارات فريدة في حل المشاكل.”

ثم طُرحَ السؤال الجوهري: أين؟ وهذا السؤال تحدى القائمين على دراسة الجدوى مثلما شكَّل تحديًا لنا في 2015. ارتأت دراسة الجدوى لعام 1975 إنشاءَ مقر الجامعة في بيروت أو عَمان وإقامة مراكز إقليمية في لبنان ودمشق وعَمان والكويت. وفي المقابل، كان واقع العالم العربي من حيث سماحه للفلسطينيين بحرية العمل قد تغيَّر جذريًا بحلول 2015، ما حدا بنا إلى اختيار موقعٍ لمشروعنا أقرب ما أمكن إلى المنطقة ولكن بعيدًا عن قبضة الحكومات العربية.

عُيِّنت اليونسكو باعتبارها “الوكالة المنفذة” في 1975، وساهمت في الدراسة بمبلغ 72,000 دولار. بينما ساهم الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي بمبلغ 382,000 دولار. وكانت هاتان المنظمتان إلى جانب منظمة التحرير الفلسطينية أطراف الاتفاق الثلاثي المبرم في كانون الأول/ديسمبر 1977 الذي نُفذت الدراسة بموجبه. كلفت دراسةُ جدوى الجامعة الفلسطينية المفتوحة 454,000 دولار في 1977 (ما يعادل نحو 1.9 مليون دولار في 2018). وفي المقابل، لم نتمكن أنا وفريقي من تأمين نزرٍ يسير من ذاك المبلغ لتنفيذ دراسة الجدوى في 2018، وهذا يؤكد أن جهودًا وطنيةً على هذا المستوى تتطلب استثمارًا من القطاع العام وليس تدخلات مقتصرة على القطاع الخاص.

دروس لتربوي المستقبل

سبعون عامًا من التشريد وخمسون عامًا من الاحتلال العسكري كفيلةٌ بأن تنال من أي شعبٍ مهما كانت قضيته عادلة ومهما ظل صامدًا. يتأثر الفلسطينيون جميعًا باستمرار الصراع بينما تواصل إسرائيل تمزيق نسيجهم الاجتماعي. ولكنهم لم ينهاروا ولم يستسلموا. وإنما تعلموا. فعلى الرغم من توقف مشروعنا، إلا أن هناك دروسًا مستفادة من تجربتنا في 2018 والتجربة السابقة في عقد السبعينات تستحق التوثيق.

ولعل أهمها أن أيَّ جهةٍ سواء عموميةً أم خاصة لا تستطيع أن تضطلع بمسؤولية تطوير أي قطاعٍ بمفردها. ومهما كانت الجهود نبيلة، فإن مشروعًا وطنيًا، مثل توحيد الفلسطينيين من خلال التعليم، لا بد وأن يُنفَّذ بقيادة وطنية.

لا يمكن للمرء أن يتوقع من القطاع الخاص في فلسطين أن يبذل الكثير على الصعيد الوطني المحلي، ناهيك على الصعيد الدولي الخارجي. فباستثناء حفنةٍ من الشركات، التي يزدهر العديد منها بفضل الترتيبات الريعية، فإن غالبية مؤسسات القطاع الخاص في فلسطين تتحمل أعباءً تفوق طاقتها. ولا يجب أن تتعدى مسؤوليات القطاع الخاص توفيرَ فرص عملٍ مستدامة، والتنافسَ بنزاهة لإبقاء تكاليف العيش تحت الاحتلال العسكري أقل ما يمكن. فهذه أقصى قيمةٍ مضافة يمكن توقعها من القطاع الخاص في هذه المرحلة من النضال الفلسطيني. ونحن نطلب منه ما لا يُحتمل حين نتوقع منه الاضطلاع بمهام الفاعل السياسي – أي منظمة التحرير الفلسطينية.

أما مؤسسات التعليم العالي العاملة في فلسطين تحت الاحتلال العسكري، فهي غير قادرة، لا من الناحية المالية ولا خلافها، على الاضطلاع بمسؤولية تعليم الفلسطينيين في الخارج. والتوقع من وزارة التربية والتعليم العالي الفلسطينية أن تقود هذه المهمة ليس إلا ضَربًا من التمني. فبالرغم من أن الوزارة رحّبت بفكرتنا، إلا أن ولايتها تقتصر على الفلسطينيين القاطنين في الأرض الفلسطينية المحتلة.

وهكذا فإن جهود الجامعة المفتوحة المبذولة في السبعينات تمتعت بمشاركة المجموعة الصحيحة والمناسبة من أصحاب المصلحة المعنيين. وكانت منظمة التحرير الفلسطينية في وقت ما في تاريخها المبكر تمتلك النظرة الثاقبة والنزاهة لتحشدَ ألمع العقول الفلسطينية للاضطلاع بهذه المشاريع الطموحة. أما اليوم، فقد أُضعِفت قواها، وباتت تفتقر إلى ما يكفي من التمثيل والشرعية. فقد كَبُر جيلٌ من الفلسطينيين دون أدنى فكرة عمّا يعنيه وجود فاعل سياسي كمنظمة التحرير. وهذه النتيجة الكارثية لم تسببها الأفعال الإسرائيلية وإنما صِنعة أيدينا.

لا تزال مسألة اختيار المواقع الحاضنة للمشاريع الوطنية تسبب معضلةً فلسطينية. فما برح الفلسطينيون يواجهون صعوبةً متزايدة في العثور على حيزٍ جغرافي حيث يمكنهم التخطيط لمستقبلهم. ولا تزال فلسطين تحت نير الاحتلال العسكري الإسرائيلي، بينما يرقى التمييز الممارس ضد الفلسطينيين المواطنين في إسرائيل إلى درجة الأبرتهايد. وفي المنطقة العربية، يواجه الفلسطينيون تحدي عدم الاستقرار السياسي وغياب الحريات. أمّا عالميًا، فإن البلدان التي قد تبدو اليوم ملاذًا مقبولًا فإنها قد تغدو ببساطة غير مناسبة لأن مصالح الدول تتبدل مع الوقت. فلطالما كانت قبرص صديقةً للفلسطينيين كما كانت اليونان، غير أن حقول الغاز المكتشفة في المياه القبرصية غيَّرت ذلك الموقف.

إن التشتت الجغرافي وما يستتبعه من تداعيات اقتصادية وثقافية واجتماعية يُعدُّ كارثةً لأي شعب. وكلما تدارسنا المجموعات المختلفة للطلاب المحتمل انضمامهم إلى الجامعة، تعلمنا أكثر كيف تطورَ كل جزءٍ جغرافي بطريقة مختلفة عن الآخر. وإذا ما وضعنا الوطنية جانبًا، فسنجد أن الطالب الفلسطيني القادم من أريحا مثلًا لا يرتبط بالضرورة بقواسم مشتركة كثيرة مع هؤلاء القادمين من الناصرة أو غزة أو دبي أو مخيم عين الحلوة أو بوسطن. والقادة الإسرائيليون يعلمون جيدًا أنه كلما أمعنوا في حرمان الفلسطينيين حقَّهم في الاختلاط فيها بينهم ضمن حيز مشترك، قلَّت احتمالات أن يشكلوا تهديدًا حقيقيًا للهيمنة الإسرائيلية على المنطقة الممتدة ما بين البحر الأبيض المتوسط ونهر الأردن.

غير أن الفلسطينيين، وهم شعب أصلي مكافح، لن يتلاشوا، كما يُظهر تاريخنا. وبإمكان التعليم أن يضطلع بدوري جوهري في توحيد شعبنا. وإلى أن يأتي الوقت الذي تتمكن فيه هيئةٌ تمثيليةٌ وطنية من تولي مسؤولياتها من جديد، تستطيع شبكةٌ من التربويين والعاملين في قطاع التعليم أن تستفيد من نموذج الجامعة المفتوحة والتجارب الأخرى المعروضة أعلاه. فهذه التجارب والخبرات توفر العناصر الأساسية لتعليم فلسطيني موحد يمكن تعميمه عالميًا والاستفادة منه محليًا.

  1. يعرض بحور سردًا أكثر تفصيلًا يستشهد بمقتطفات من وثائق ويذكر المشاركين في المبادرات السابقة، ويمكن الاطلاع على هذا السرد في موقع جدلية وكذلك مدونة سام بحور epalestine.com.
  2. صحيفة هاآرتس 24/9/1972.
  3. دافار 5/9/1972.
  4. دافار 4/10/1972.
  5. صحيفة هاآرتس 14/3/1973.
  6. صحيفة دافار 21/9/1972.
  7. هاآرتس 1/6/1973.
  8. مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1/4/1973.
  9. الجامعة الفلسطينية المفتوحة، دراسة جدوى، الجزء الأول، التقرير العام، اليونسكو، باريس، 30 حزيران/يونيو، 1980.
يقطن سام بحور مدينتي البيرة ورام الله في فلسطين. ويعمل في تقديم الاستشارات التجارية وإدارة المعلومات التطبيقية، وهو مختص في تطوير قطاع الأعمال وتحديدًا قطاع...

أحدث المنشورات

في 5 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، صوَّت الناخبون الأمريكيون لدونالد ترامب رئيسًا لولاية ثانية في الانتخابات الرئاسية الستين. وفي حين لا تزال العديد من أوجه خطط السياسة الخارجية للإدارة القادمة غير مؤكدة، فإن تبعاتها الكارثية على الشعب الفلسطيني ستستمر بلا شك. وفي هذه الحلقة النقاشية، يُقدِّم محللو الشبكة طارق كيني الشوا وعبد الله العريان وأندرو كادي وهناء الشيخ رؤيتهم إزاء ترامب مقارنةً بسلفه، وتأثير رئاسته على السياسة الأمريكية في المنطقة العربية، وما تعنيه لفعاليات التضامن مع فلسطين في الولايات المتحدة، وتأثيرها المادي على الأرض في فلسطين.
 السياسة
بعد عام من المعاناة تحت وطأة العنف والدمار المستمرين ، يقف الفلسطينيون عند لحظة مفصلية. تتناول يارا هواري، في هذا التعقيب، الخسائر الهائلة التي تكبدها الشعب الفلسطيني منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023 والفرص المنبثقة عنها للعمل نحو مستقبل خالٍ من القمع الاستعماري الاستيطاني. وترى أنّ الوقت قد حان الآن لكي تتحول الحركة من رد الفعل إلى تحديد أولوياتها الخاصة. وكجزء من هذا التحول، تحدد يارا ثلاث خطوات ضرورية: تجاوز التعويل على القانون الدولي، وتعميق الروابط مع الجنوب العالمي، وتخصيص الموارد لاستكشاف الرؤى الثورية لمستقبل متحرر.
Al-Shabaka Yara Hawari
يارا هواري· 22 أكتوبر 2024
منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، قتلت القوات الإسرائيلية ما يزيد عن 40,000 فلسطيني في غزة، وجرحت 100,000 آخرين، وشرَّدت كامل سكان المنطقة المحتلة تقريبًا. وفي ذات الوقت شرَعَ النظام الإسرائيلي في أكبر اجتياح للضفة الغربية منذ الانتفاضة الثانية مما أدى إلى استشهاد ما يزيد عن 600 فلسطيني واعتقال 10,900 آخرين. كما وسعت إسرائيل نطاق هجومها الإبادي الجماعي في لبنان، مما أسفر عن مقتل ما يزيد على ألف شخص ونزوح أكثر من مليون آخرين. يسلط هذا المحور السياساتي الضوء على مساعي الشبكة في الاستجابة لهذه التطورات على مدار العام الماضي، من وضع أحداث السابع من أكتوبر في سياق أوسع للاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، إلى استجواب آلة الحرب الإسرائيلية متعددة الأوجه، إلى تقييم العلاقات الإقليمية المتغيرة بسرعة. هذه المجموعة من الأعمال تعكس جهد الشبكة المستمر في تقديم رؤية فورية للوضع الفلسطيني.
Skip to content