لمحة عامة
يخلُص تقرير البنك الدولي بشأن النمو في الأراضي الفلسطينية المحتلة – كما هو متوقع – إلى أن النمو غير مستدام لأنه مبني على المساعدات، ومع ذلك فإن التقرير يوصي باتباع نموذج للنمو يقوده القطاع الخاص كسبيلٍ للمضي قدمًا. ولكن هل يمكن لنموذج النمو هذا أو لأي شكلٍ من أشكال التنمية المستدامة أن يُصبح حقيقةً واقعةً مع استمرار الاحتلال والاستعمار والتجريد من الممتلكات؟ هذا السؤال بحاجةٍ ماسة للمناقشة لأن قلةً قليلة من منظمات التنمية، وأقلها البنك الدولي، تتطرق إليه. يتناول مدير برامج الشبكة علاء الترتير والكاتب الضيف جيريمي وايلدمان هذا السؤال بواسطة تحليل تقرير البنك الدولي، وإبراز خطورة التوصيات الحالية والسابقة، والدعوة إلى اتباع مقاربةٍ جديدةٍ تمامًا.
ممارسةُ نفوذٍ غير مطلوب
أصدر البنك الدولي في تموز/يوليو 2012 تقريرًا جديدًا بعنوان “نحو استدامة اقتصادية لدولة فلسطينية مستقبلية: تعزيز النمو بقيادة القطاع الخاص” يُشخِّص فيه حالة الاقتصاد الفلسطيني، والعقبات التي يواجهها، ومواطن ضعفه الرئيسية، وتشوهاته الهيكلية والبنيوية. ويقدم التقرير أيضًا توصيات سياساتية من أجل تطوير نموذجٍ اقتصادي فلسطيني مستدام يعتمد في نموه على التصدير والقطاع الخاص. ويخلُص التقرير صراحةً إلى أن النمو الاقتصادي الفلسطيني الحاصل في السنوات الأخيرة هو نمو وهميٌ وغير مستدام لأنه يعتمد تحديدًا على المساعدات الدولية الخارجية، ولأن مستويات المعونة تلك يُتوقَع أن تتراجع بمرور الوقت. ولم يكن هذا الاستنتاج مفاجئًا للكثيرين من المراقبين الذين رحبوا بالتقرير باعتباره دليلًا آخر من مؤسسةٍ دولية كبرى على أن نموذج المساعدات الحالي قد فشل1 وأنه بحاجة إلى إصلاح. وبالنسبة لآخرين غيرهم، تقدم استنتاجات التقرير دليلًا آخر على أن الفلسطينيين ليسوا مستعدين بعد لإقامة دولتهم المستقلة.
إن ما يثير الدهشة، بغض النظر عن التفسيرات المختلفة لنتائج التقرير، أن البنك الدولي لم يتعلم، على ما يبدو، من التجارب والأخطاء في توصياته السياساتية بعد عشرين عامًا من المشاركة في تخطيط الاقتصاد الفلسطيني والمساعدات. فما فتئ يقدم توصيات غير ذات صلة بالسياق لا تأخذ في الاعتبار واقعَ الاحتلال اليومي، وتبدو مفتقرةً إلى الفهم التاريخي للسياسات التي تمارسها حكومة إسرائيل تجاه الفلسطينيين منذ زمنٍ بعيدٍ. فهو يقدم توصيات تدعو إلى اتباع نموذجٍ في النمو يعتمد على تكاملٍ اقتصادي أوثق مع إسرائيل واقتصادٍ يقوم على التصدير على غرار اقتصادات شرق آسيا (النمور الآسيوية)، وهو بذلك يقدم مقترحات مصيرها الفشل تضيع الوقت والموارد الثمينة في وقتٍ يحتاج إليها الفلسطينيون أمسَّ الحاجة. إن إقامة اقتصاد سوق حرٍ معتمدٍ على التصدير لهو ضربٌ من المستحيل في ظل الاحتلال. وما توصيات البنك الدولي، في أحسن الأحوال، إلا إلهاءٌ عن الحاجة الأساسية للفلسطينيين ألا وهي إنهاء الاحتلال والحكم العسكري الإسرائيلي وليس إيجاد أساليبَ جديدةٍ خلاقةٍ للتكيف معه.
ما انفك البنك الدولي يهيمن بنفوذه على عملية المساعدة الإنمائية في فلسطين المحتلة. ورغم “الحكمة التقليدية” القائلة إن متلقي المعونة هو مَن ينبغي أن يقود استراتيجيته الوطنية بنفسه2 – وله كل الحق في ذلك – فقد اضطلعت مؤسساتٌ دولية كالبنك الدولي بأدوارٍ قياديةٍ في وضع تلك الاستراتيجية الخاصة بالأراضي الفلسطينية المحتلة منذ مطلع التسعينيات من القرن الماضي في مستهل عملية أوسلو للسلام التي غدت منحلةً الآن. وغالبًا ما تؤخذ تلك القرارات بمصادقةٍ من حكومةٍ فلسطينيةٍ غير منتخبة وغير كفؤة في الغالب. فعلى سبيل المثال، أصدر البنك الدولي، بمساهمة من الفلسطينيين والمانحين، سلسلةً من التقارير كانت بمثابةِ أول دراسةٍ شاملة للاقتصاد الفلسطيني ومتطلبات إعادة تأهيله، وشكّلت الأساس الذي انطلق منه المانحون الدوليون في تصميم برامجهم للمعونة بعد توقيع اتفاقات أوسلو. إن من أسباب الاهتمام الكبير الذي حظي به تقرير البنك الدولي الأخير عن النمو هو أن المانحين الدوليين لا يزالون يرجعون إلى تقارير البنك الدولي من أجل وضع استراتيجياتهم. فالبنك الدولي إذن مستشارٌ لشؤون السياسات ويكاد يكون صانعَ سياسات ويتحمل بالتالي مسؤوليةً تفوق مسؤوليةَ مقدم الخدمات عن نتائج المعونة في فلسطين وعن حالة استراتيجية “التنمية مقابل السلام” التي تستند إليها المعونة. وإذا ما نظرنا إلى الأرقام فسنجد أن القطاع الخاص في العام 1991 كان مسؤولًا عن 80% من الناتج المحلي الإجمالي ولكنه أُضعِف بشدة بحلول العام 2009 حتى بلغت مساهمة المساعدات الدولية نسبة 49% من الناتج المحلي الإجمالي.3
مشورةٌ سياساتية مفتقرة إلى السياق
إن بالإمكان تحليل التصريحات والافتراضات والفرضيات والاستنتاجات والتوصيات الواردة في تقرير البنك الدولي عن النمو وربطها بالآثار السياسية والواقع الاقتصادي في فلسطين المحتلة. فتلك الفقرة الافتتاحية من التقرير تقول “في حين أن السلطة الفلسطينية حققت نجاحًا كبيرًا على صعيد بناء المؤسسات لدولةٍ مستقبلية، فإنها أحرزت تقدمًا أقل على صعيد إنشاء قاعدةٍ اقتصاديةٍ مستدامة.” لقد ظل بناء المؤسسات بؤرة تركيزٍ تجتذب دعم المانحين منذ العام 1994 انطلاقًا من توصية البنك الدولي والافتراض السائد بأن وجود مؤسسات قويةٍ ومستقرةٍ سوف يُفضي إلى النمو الاقتصادي والسلام. غير أن الفلسطينيين أضحوا بعد سنوات من بناء المؤسسات والإعلانات المتكررة عن التقدم في تقارير البنك الدولي أبعدَ عن الاستقلال من أي وقت مضى وفي وضعٍ اقتصادي أسوأ بكثيرٍ من ذي قبل. وعلاوةً على ذلك، تغاضى البنك الدولي ومجتمع المانحين طوال تلك الفترة عن شبكة الفساد المعقدة ومنظومة الحكم الأبوي الجديد، واحتفوا كيفما كان بالعوائد غير المرئية لعملية السلام.4
لقد أخطأ البنك الدولي التقدير بشدة إذ لم يُحِط بالتأثير المترتب على افتقار السلطة الفلسطينية للسيادة اللازمة لتنفيذ سياساتها. فالفضل الأكبر في بقاء السلطة الفلسطينية موسرةً يعود إلى المانحين الدوليين الذين يولي معظمهم الأولويةَ لعلاقتهم بإسرائيل و/أو الولايات المتحدة، التي تحابي إسرائيل. وحينما تتخذ الحكومة الفلسطينية قرارات لا تتفق والمانحين، فإن بوسعهم التهديد وسحب التمويل، كما حصل فعلًا من قبل، بهدف صياغة السياسات بما يلائم المصالح الإسرائيلية على نحو أفضل. ويمكن لهذا أن يتغلب على المصالح الفلسطينية مثلما حدث عند قطع المساعدات في أعقاب انتخابات عام 2006. وعلاوةً على ذلك، يتأتى الكثير من مخصصات موازنة السلطة الفلسطينية الشهرية من الأموال التي تحولها إسرائيل بواسطة الاتحاد الجمركي أحادي الاتجاه الذي أُنشئ بموجب بروتوكول باريس الصادر سنة 1994. وتأخذ إسرائيل نسبةً إدارية من تلك الأموال، وتحجبها في الحال حين تشعر بالحاجة إلى معاقبة السلطة الفلسطينية على قراراتها السياسية التي لا تتفق معها، كقرار طلب صفة الدولة في الأمم المتحدة.5 وكنتيجة لهذه العلاقات التمويلية والاعتماد على المعونة، يكون وجود السلطة الفلسطينية قائمًا بالأساس بأمرٍ من المانحين الدوليين وإسرائيل، ممّا يمنحها حيزًا ضيقًا لتطبيق سياسات مستقلة. بل إنه لا يمكنها سنّ القرارات الوطنية الاستراتيجية على صعيد السياسات ما لم تحظَ بموافقة المانحين وإسرائيل والمؤسسات الدولية مقدمة النصح والمشورة للجهات المانحة كالبنك الدولي.
ولزيادة الطين بِلة، لا تستطيع السلطة الفلسطينية أن تُنشئ قاعدةً ضريبيةً مستقلة لأن حدودها تقع خارج سيطرتها. فالأراضي الفلسطينية مقسمةٌ إلى بانتوستانات صغيرةٍ غير قابلةٍ للحياة اقتصاديًا تُسمى مناطق (أ) و(ب) و(ج) في اتفاقات أوسلو. وإضافةً إلى هذه الأراضي المجزأة، فقدت السلطة الفلسطينية/حركة فتح السيطرة على قطاع غزة المحاصر سنة 2007. وتعيش السلطة الفلسطينية حالةً دائمةً من الطوارئ وانعدام الأمن، ولا تستطيع جمع حاجتها من الأموال بسبب افتقارها للسيادة وبسبب التراجع الاقتصادي وما ينجم عنه من إفقار في ظل الاحتلال. فمن غير المنطقي إذن أن يتوقع البنك الدولي بأن السلطة الفلسطينية قادرةٌ على اتخاذ قرارات سيادية جوهرية على صعيد السياسات أو أن يقيس تقدمها إنمائيًا بالمقارنة مع الدول النامية في شرق آسيا التي نمت اقتصاداتها دون تدخلات خارجية أو احتلال. ولعل أعجب ما في الأمر هو أن البنك الدولي لا يركز على الاحتلال صراحةً بوصفه السبب الرئيس في عدم التقدم في النمو الفلسطيني. وفي حين أن البنك الدولي يذكر في كافة تقاريره حول فلسطين أوجهًا للاحتلال يصفها بأنها تضر النمو، فإنه لا يركز عليها باعتبارها السبب وراء انعدام التقدم، وبالتالي فإن تحليله لا يُترَجم إلى توصيات ذات صلة.
يكشف البنك الدولي، في تقريره عن النمو، أنه يقدم توصيات سياساتية يكتنفها جهلٌ تام – أو تجاهلٌ متعمد – بالسياق التاريخي الفعلي للسياسات التي ما انفكت الحكومة الإسرائيلية تنتهجها تجاه الفلسطينيين منذ النكبة عام 1948. وتنطوي تلك السياسات على التطهير العرقي، ومصادرة الأراضي، ونهب الممتلكات الخاصة، والاعتقال التعسفي، والعنف المدبَّر،6 وحظر التجول على نطاق المدن، والحواجز، ونقاط التفتيش، وتقسيم السكان على أساس أعراقهم ودياناتهم، واللامساواة المتعمدة في النظام القانوني الإسرائيلي.7 وفي حين أن الإسرائيليين سعوا في بعض الأحيان إلى الحد من نمو الاقتصاد الفلسطيني لتقييد استقلال الفلسطينيين أو معاقبتهم على عصيانهم، فإن الدولة الإسرائيلية تتصرف في الكثير من الأحيان الأخرى كطفيلٍ يستمد مزايا اقتصاديةً كبيرةً من الاقتصاد الفلسطيني الأفقر بكثير.8 وبإصدار تقريرٍ لا يعترف بأن تنمية اقتصاد ناجعٍ وتحريك عجلة النمو يستحيل في مثل هذه الظروف القاسية، فإن البنك الدولي يُثبت بأنه غير راغبٍ في النظر إلى الصراع في سياقه، وتقبل حقيقية دورِ إسرائيل في تقويض التنمية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهو بذلك يتحول – بعلمه وغير علمه – إلى شريكٍ في هذه العملية.
تحييد الاحتلال
لا يكتفي البنكُ الدولي بإخراج عملية التنمية من سياقها بالتقليل من شأن الاحتلال والمشروع الاستيطاني الاستعماري وحسب، وإنما يرفض أيضًا النظرَ في توصياته السابقة الخاطئة بشأن السياسات. وهو يُفضِّل، عوضًا عن ذلك، أن يُحمِّل الفلسطينيين مسؤوليةَ الإخفاق إذ يلومهم على ضعف تنفيذ السياسات، رغم أن الفلسطينيين أنفسهم لا يملكون سوى حيزٍ ضيقٍ للمناورة بحرية نظرًا لاعتمادهم على المعونة وبسبب الآثار المدمرة المترتبة على الاحتلال. ولا شيء يكشف ذلك أفضل من انتقادات البنك الدولي الموجهة إلى تضخم الرواتب الحكومية وتوصياته الهادفة إلى إقامة اتحاد جمركي أوثق مع إسرائيل، بينما تُعتبر تلك الرواتب ضروريةً لحماية الأسر الفلسطينية من الانزلاق أكثر في براثن الفقر، ولإبقاء الفلسطينيين فاعلين ضمن النموذج المعيب المتمثل في عملية “التنمية مقابل السلام” التي يعكف المجتمع الدولي على تقديم المعونة لها. ولا يعبأ البنك الدولي بما يكفي بالفلسطينيين الكثيرين الذين يكافحون من أجل إقامة أعمال تجارية، ليس لأجل النمو، وإنما لأجل البقاء على قيد الحياة.
يُقلل البنك الدولي في تقاريره المتتالية منذ أوائل التسعينيات من أهمية الإشارة بوضوح إلى إسرائيل ودورها إذ يستخدم عبارات مُلطِّفة ومصطلحات محيَّدة. فتقرير النمو الحالي يستخدم عبارات من قبيل “نظام الإغلاق القاسي” و”الحالة المشوهة للتنمية”، وهي عبارات لا تعكس بدقةٍ حقيقة أنظمة القمع وجسامتها مثل التطويق العسكري وسياسات الإفقار المتعمد المتبعة لفرض العقاب الجماعي. إن المصطلحات المحيَّدة تموِّه حقيقة المشروع الصهيوني الاستعماري وعملية تقويض التنمية الذين يُعدان جزءًا من السياسات الإسرائيلية قديمة العهد المتمثلة في نهب الممتلكات الخاصة، ومصادرة الأرض الفلسطينية، وممارسة التطهير العرقي. وعلى سبيل المثال، يستخدم البنك الدولي في الغالب مصطلح “القيود الأمنية” بدلًا من مصطلح “الاحتلال،” وكلمة “الأمن” هنا تعني ضمنيًا أن لإسرائيل الحقَّ المشروعَ في تنفيذ أي سياسات من أجل حماية مواطنيها. وتُستّخدم تلك الكلمة من الناحية المفاهيمية حتى عندما تعني تلك السياسات تدميرَ قريةٍ فلسطينية في سياق التمرين العسكري أو عندما يفصل تشييد الجدار إحدى القرى عن الأراضي التابعة لها. ولم تُذكَر كلمة “الاحتلال” سوى خمس مرات في التقرير رغم أن سير الحياة اليومية في فلسطين يخضع في أوجهه كافة للاحتلال.
إن التقليل من شأن الاحتلال يؤدي إلى تصميم برامج المعونة بما لا يتناسب وظروف الاحتلال الفعلية، ويوحي بأن آثار الاحتلال ليست مخيفةً كما هي على أرض الواقع، ويساهم في تغذية الوهم الزائف بأن التنمية ممكنةٌ في ظل الاحتلال. ومحصلة ذلك أن البنك الدولي يُبدي رضوخًا للمستعمر مثلما يفعل الكثيرون في مجتمع المانحين العاملين في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
ومن المشاكل الرئيسية الأخرى في التقرير كيفيةُ تعامله مع الفقر. فهو يقدم تقديرات لمستويات الفقر والبطالة منخفضةٍ لدرجةٍ مستحيلة وتعتبَرُ مضللةً على الأرجح. فهو يذكر أن نسبة الفقر في الضفة الغربية تبلغ 16% ونسبة البطالة تبلغ 20% فقط، رغم أن تقاريرَ عديدةً أخرى تقدم نسبًا أعلى بكثير. فمؤشرات انعدام الأمن الغذائي وحدها تُظهر خلاف ذلك. ولعل السبب يكمن في أن أرقام البنك الدولي تعكس تغيرات طرأت على منهجية الاحتساب المتبعة لدى الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني بناءً على تغذيةٍ راجعة وتمويلٍ مستمدين من البنك الدولي. فهذه الأرقام “المحوَّرة” تولِّد انطباعًا بأن توصيات البنك الدولي السياساتية تُحرز نجاحًا وإنْ كان في بعض الجوانب على الأقل.
يعكس استخدام هذه الإحصاءات أيضًا إشكاليةً في فهم الفقر. فلا يُشار إلى الفقر في الأراضي الفلسطينية المحتلة على أنه كارثةٌ إنسانيةٌ ذات منشأ سياسي، أو نتيجةٌ لعدم التمكين ونزع القدرة، وإنما فقرٌ لعدم الكفاية. وهذا ناجمٌ من سلخ الصراع عن سياقه ممّا يتيح الفهم المغلوط لأصل الفقر. فالتقرير يَحتسِب مستويات الفقر في الأراضي الفلسطينية المحتلة “على أساس النفقات” ويُدخِل فيها المساعدات الغذائية والطارئة وغيرها، وهو يُخفي بالتالي الوجه الحقيقي للفقر المبني “على أساس الدخل.” فإذا احُتسب الفقرُ استنادًا إلى تعريفه على أساس الدخل، فسنجد أن نصف الفلسطينيين تقريبًا يعيشون تحت خط الفقر. وعلاوةً على ذلك، لا تشمل أرقام البطالة العمالَ العاطلين عن العمل والمحبطين الذين ما فتئوا يعانون تراجعًا اقتصاديًا حادًا لقرابة عقدٍ من الزمن. وبالتالي فإن الأرقام التي يقدمها البنك الدولي لا تُعطي صورةً دقيقةً لمستويات الفقر والبطالة الفعلية في الضفة الغربية وقطاع غزة.
توصيات سخيفة وخطرة
إن من أغرب التوصيات الواردة في هذا التقرير، وفي تقارير سابقة للبنك الدولي، توصيةٌ تقول إنه “ينبغي للسلطة الفلسطينية أن تسعى جاهدةً لتهيئة بيئةٍ للأعمال لا تكون مساويةً لجيرانها وحسب وإنما من بين الأفضل في العالم.” غير أن هذا محال في ظل الاحتلال، إذ تتجاهل الدولةُ الإسرائيليةُ حقوقَ الفلسطينيين المدنيةَ وحقوقَهم في الملكية وتعمد في الوقت نفسه إلى مصادرة الأراضي الفلسطينية بالجملة. فهو مقترحٌ يدعو للسخرية إذن. إن مناخَ الأعمال، في الواقع، سيءٌ جدًا لدرجة أن بعض الأبحاث تُظهر بأن هناك من أرباب الأعمال الفلسطينيين من يفضلون الاستثمار في إسرائيل بسبب انعدام الأمن في فلسطين المحتلة. وجاء أيضًا في تقرير النمو أن “قطاع غزة يقع بالكامل تحت السيطرة الفلسطينية،” في حين أن 17% من مساحة القطاع المكتظ سكانيًا صودرت لتكون منطقةً عازلةً “لأسبابٍ أمنيةٍ إسرائيلية،” وثمة ما يبلغ 30% من أراضي القطاع يتعذر الوصول إليها. بالإضافة إلى أن الصيادين الفلسطينيين لا يستطيعون الصيد في مياههم الساحلية بسبب الحصار المفروض على القطاع، وهذا مؤشرٌ واحدٌ فقط يدل على انعدام حرية الحركة. إن تهيئة مناخٍ للأعمال والاستثمار من الطراز العالمي أمرٌ مستحيلٌ في ظل الاحتلال، ولا يمكن إصدار توصيةٍ كهذه إلا بتحييد المصطلحات وتجاهل واقع الاحتلال.
وثمة اعتقادٌ خطيرٌ آخر ظل يُبشر به البنك الدولي ومفاده أن الاقتصاد الفلسطيني يمكن أن يستفيد من تعميق التكامل مع الاقتصاد الإسرائيلي. غير أن التجربة الواقعية على مر عقودٍ من التفاعل الفلسطيني مع الاقتصاد الإسرائيلي تُثبت عكس ذلك، وهي بحد ذاتها فصلٌ من فصول تقويض التنمية،9 حيث جرى تدمير الصناعة الفلسطينية عمدًا لصالح الصناعة الإسرائيلية، وأضحى الفلسطينيون عمال يدويين يشتغلون بأجورٍ متدنية.10 ولم تتبنى إسرائيل في يومٍ من الأيام الافتراضات الاقتصادية التقليدية للبنك الدولي التي توصي بإبرام “اتفاقات تجارةٍ حرة بين الدولة الفلسطينية المستقبلية وإسرائيل والدول المجاورة” باعتبارها نموذج النمو الاقتصادي الأكثر بِشارةً بالخير الذي يستطيع بموجبه “المصنِّعون الإسرائيليون الاستفادةَ من العمالةِ الفلسطينيةِ الماهرة وغير المكلفة للتصدير إلى الخارج بما في ذلك إلى العالم العربي” (ص 5). وعلاوةً على ذلك، يعجز الفلسطينيون عن كسب المنافسة النزيهة في الاقتصاد الإسرائيلي للاستفادة ممّا يدّعي البنك الدولي أنها مزايا تنافسية في مجالات معينة، لأن إسرائيل تعمد إلى منعهم من ذلك. وهذا يعني أن البنك الدولي ينصح السلطات الفلسطينية أن تساعد مستعمرها الإسرائيلي في استغلال العمالة الفلسطينية ومن ثمَّ في ولوج الأسواق العربية.
وهناك سببٌ آخر يعلل ضرورةَ عدم تعميق التكامل مع إسرائيل، ويستند إلى تجربة إحدى توصيات البنك الدولي المتمثلة في تعزيز الاتحاد الجمركي الناشئ بموجب بروتوكول باريس الصادر سنة 1994. لم تتبع بروتوكول باريس تدابيرُ متبادلة من الجانب الإسرائيلي لفتح سوقه أمام الفلسطينيين، وهو إجراءٌ أساسيٌ متوقع ضمن إطار عملية أوسلو للسلام. وقد تذرعت إسرائيل “بأسبابٍ أمنية”، في حين أن إحجامها عن فتح سوقها أمام الفلسطينيين كان، في الواقع، جزءًا من سياسة إغلاقٍ ترسخت في زمن أوسلو وأفضت إلى تراجعٍ اقتصادي في منتصف عقد التسعينيات أسفر عن إعطاب خطط التنمية التي وُضِعت بوصفة من البنك الدولي. يعتمد النموذج الذي يطرحه البنك الدولي بأسره على التضافر الاقتصادي المتناظر والمتكافئ، بيد أن البنك يرفض توجيه اللوم إلى الطرف المذنب الذي يحول دون تحقيق ذلك. وفي الوقت نفسه، تستفيد إسرائيل من التكامل القائم بحكم الواقع مع الاقتصاد الفلسطيني واحتوائه اللامتكافئ. وتمارس إسرائيل علاقةً تجاريةً احتكارية تجاه الاقتصاد الفلسطيني الأسير الذي يعتاش على دولارات المعونة التي تغطي جزءًا كبيرًا من العجز التجاري مع إسرائيل.11
ولعل الأكثر تضليلًا من بين التوصيات الواردة في تقرير البنك الدولي الأخير عن النمو ما يتعلق بالفلسطينيين وكيف أنه ينبغي لهم “محاكاة البلدان الآسيوية التي نجحت في استدامة مستويات عالية من النمو الاقتصادي معتمدةً على التوجه نحو الخارج والاندماج في سلاسل التوريد العالمية” (ص 4). أمّا السبيل إلى تنفيذ هذه السياسة فلم يتناولها التقرير بالشرح الوافي، وإنّ من شأن التحليل الجاد أن يُظهر عدم قابلية هذا النموذج للتطبيق في دولةٍ تخضع للاحتلال ولا تمارس أي سلطةٍ حقيقيةٍ على أرضها أو حدودها أو مواردها الاقتصادية الاستراتيجية. وتلك البلدان الآسيوية، ولا سيما الصين، النامية بشروطٍ وضعتها بنفسها، ليست كالأنظمة الدكتاتورية المفلسة في الشرق الأوسط المدعومة من الغرب والتي تعتمد في نهاية المطاف على أموال النفط المتأتية من الخليج من أجل النمو الإقليمي، بل إنها أحكمت تنظيم صناعاتها وأمّمتها، حتى وهي تنتهج وصفات الهيئات الدولية الكبرى كالبنك الدولي بخصوص رسم السياسات. ويتبين بالنظر عن كثب إلى تاريخ مسارات تجربة شرق آسيا (النمور الآسيوية) أن الحمائية، وليس فتح الأسواق، كانت ضروريةً لنجاحها.
وأخيراً، يرى التقرير أن “من الضروري تعزيز أسواق الائتمان والتوسع في الإيجار المنتهي بالتمليك، والبنية التحتية لنقاط البيع، وتمويل الرهن العقاري، وغيرها من المنتجات التي يتطلبها القطاع الخاص ليكون حيويًا” (ص 22). وإذا ما اتُبع هذا النهج، فسيجلب معه الخطر المتمثل في دفع عجلة النمو بزيادة الدين. ويقوم هذا النموذج على أساس النمو المدفوع من القطاع الخاص وهو يتجاهل واقع الاحتلال، ويغدو فشله بذلك حتميًا، شأنُه شأن المشاريع الاقتصادية الأخرى المجرَّبة مُذ بدأت حقبة أوسلو. والفرق يكمن في أن هذا النموذج يمثل استثمارًا خاسرًا حيث تتراكم بموجبه الديون المعدومة على الفلسطينيين جراء اتباع نماذج نموٍ رديئة التصميم. وهذا أسوأ حتى من المعونة السيئة التي لا يكون الفلسطينيون مطالبين بموجبها بسداد الأموال المصروفة باسمهم. والمحصلةُ تعني إضافةَ مشاكلَ جسيمةٍ جراء الديون إلى ما يكابده الاقتصاد الفلسطيني من مِحن وإلى البؤس المتفشي أصلًا.
دعوةٌ مُلحّة للتيقظ
ما الذي يسعى واضعو السياسات الفلسطينيون لتحقيقه عندما يأخذون بالمشورة السياساتية من منظماتٍ كالبنك الدولي، في حين أن تلك المنظمات لن تدعمهم من أجل إنهاء الاحتلال، وإقامة الدولة الفلسطينية ذات السيادة، وإدراك حقوق الإنسان الفلسطيني؟ هل كان من الحكمة بالنسبة للجهات المانحة والسلطة الفلسطينية أن تشرع في برنامج بناءٍ مؤسسي جديدٍ في العقد الماضي دون ربطه بالتوصل إلى تسويةٍ سياسيةٍ مع إسرائيل، ولا سيما أن إسرائيل دمرت الكثير من البنية المؤسساتية والتحتية المقامة في حقبة أوسلو إبان اجتياحها لمدن الضفة الغربية وإعادة احتلالها سنة 2002؟ وهل انتقصت عملية البناء المؤسساتي الجديدة تلك وقتًا وطاقةً محدودةً من المهمة المتمثلة في تحقيق تسويةٍ سياسيةٍ فعلية تكفل الحرية والعدالة؟ وما هي المؤسسات التي بُنيت فعلًا في العقد الماضي؟ وما هو الغرض من بناء الأجهزة الأمنية والسجون دون التوصل إلى تسويةٍ سياسية؟ فلمصلحة مَن تعمل تلك الأجهزةُ المعَسكَرة في غياب التسوية وغياب الحكم الذاتي الديمقراطي الذي يحول دونه المانحون؟ وهل من الحكمة أن تتحرك الجهات المانحة الصادقة والسلطة الفلسطينية بناءً على توصيات سياساتية وضعتها مؤسساتٌ مثل البنك الدولي لا تعي سياق الاحتلال ولا تتعلم من تجاربها السابقة؟
يُظهر تقرير البنك الدولي الأخير عن النمو بأن البنك لا زال يفترض أن السلطة الفلسطينية قادرةٌ على التنمية دون تسويةٍ سياسيةٍ تكفل السيادة وإعمال الحقوق الفلسطينية، وهذا خطـأٌ فادحٌ في التقدير ظل يُودي بوصفات السياسات الصادرة من البنك الدولي منذ أوسلو إلى الفشل الحتمي. وفي الوقت نفسه، لا تتطرق تقارير البنك الدولي إلى إسرائيل بالنقد إجمالًا، بل تُقدم مبررات بديلة لغياب النمو الاقتصادي المستدام في الأراضي الفلسطينية المحتلة. فالبنك الدولي يبدو إما غير قادرٍ وإما غير راغبٍ في التخلي عن عملية أوسلو التي غدت فاقدةً مصداقيَّتها على نطاق واسع، والاعتراف بأن الأراضي الفلسطينية المحتلة لا تمثل حالةً من حالات ما بعد الصراع. فلا تزال فلسطين والشعب الفلسطيني برمته أسرى في خضمّ صراعٍ تدور رحاه منذ عقود يُجرَّدون فيه من ممتلكاتهم ويخضعون للاستعمار. ولا يكفي البنكَ الدولي أنه يرفض إجراء مراجعة ذاتية في فترةٍ دقيقةٍ بشأن توصياته السياساتية للفلسطينيين، بل يُصرّ على تقديم توصيات منزوعة السياق بناءً على سياسات فشلت في أماكن أخرى من العالم، ولا سيما إبان فترة برامج التكيف الهيكلي المنفذة في عقد التسعينيات والتي فقدت حُظوتها الآن.
يستخدم تقرير البنك الدولي الأخير عن النمو مصطلحات تقنية ملتوية تتجاهل إطار القانون الدولي وتتستر على العواقب السياسية والإنسانية والقانونية الوخيمة.
لقد مضى ما يقرب من قرنٍ الآن على احتلال الفلسطينيين واستعمارهم وتجريدهم من ممتلكاتهم. والاندماج أكثر في اقتصاد المحتل بينما يعكف هو على تجريدهم من ممتلكاهم وتقويض تنميتهم واستغلالهم يناقض احتياجات الفلسطينيين تناقضًا تامًا. ويُعد هذا الاندماجُ مشورةً خاطئة مقدّمةً للفلسطينيين، إذ ينبغي أن يسعوا جاهدين لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي ووقف الانتهاكات التي تطال حقوقهم المدنية وحقهم في تقرير المصير وحقهم في العودة. ولا سبيل لبلوغ السلام والنمو الحقيقيين إلا بالتصدي للأيديولوجية العنصرية التي تتغلغل في السياسات الإسرائيلية اتجاههم. وإلى أن يبدأ البنك الدولي في فهم الظروف الحقيقية للاحتلال والأسباب الحقيقية للظرف الفلسطيني فهمًا أفضل، فإنه سيظل يقدم توصيات سياساتيةً غير واقعيةٍ مبنيةٍ على حقبة التقارب زمن أوسلو البائدة التي ما بقيت حيةً إلا بالنسبة للمانحين الذين يتلقون المشورة من مؤسسات كالبنك الدولي. وفي نهاية المطاف، يرجع السبب الوحيد وراء تقويض التنمية الفلسطينية وانتشار الفقر إلى وجود الاحتلال الذي لا بد أن يزول أولًا من أجل إحراز النمو الحقيقي وتحقيق التنمية المستدامة.
- Le More, Anne. (2008) International Assistance to the Palestinians after Oslo: Political Guilt, Wasted Money. New York, New York: Routledge
- للاطلاع على ما يعنيه هذا النهج على أرض الواقع، انظر مثلًا: Taghdisi-Rad, Sahar. (2010) The Political Economy of Aid in Palestine: Relief from Conflict or Development Delayed, Routledge and LMEI, London, U.K, particularly Chapter 2. وانظر أيضًا: ياش تاندون (2008) “إزالة الغموض عن المعونة”، دار فاهامو للنشر ومنشورات بامبزوكا، وياش تاندون (2011) “إزالة الغموض عن المعونة”، A Pambazuka Insight (متوفر بالعربية: http://www.palestine.rosalux.org/fileadmin/ab_palestine/pdf/Arabic_publications
Tandon_Demystifying_Aid_Arabic.pdf/) - انظر علاء الترتير (2011) The Role of International Aid in Development: The Case of Palestine 1994-2008. Lambert Academic Publishing.
- See Brynen, Rex. (2000) A Very Political Economy: Peace building and Foreign Aid in the West Bank and Gaza, United States Institute of Peace Press, Washington D.C. And Khan, Mushtaq., George, Giacaman, and Inge Amundsen. (2004) State Formation in Palestine: Viability and Governance during a Social Transformation, Routledge Curzon, U.K.
- مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد). (15 تموز/يوليو 2011) “Report on UNCTAD assistance to the Palestinian people: Developments in the economy of the occupied Palestinian territory.” Trade and Development Board, Fifty-eighth session, Geneva, 12–23 September 2011, Item 11(b) of the provisional agenda. United Nations Conference on Trade and Development. Pg. 8. http://unctad.org/en/docs/tdb58d4_en.pdf
- Pappé, Ilan. (2006) Ethnic Cleansing of Palestine , Oneworld Publications, Oxford, England.
- See White, Ben. (2009) Israeli Apartheid: A Beginner’s Guide, Pluto Press, London, U.K. and Tilley, Virginia. (2012) Beyond Occupation: Apartheid, Colonialism and International Law in the Occupied Palestinian Territories, Pluto Press, London, U.K.
- Hever, Shir. (2010) The Political Economy of Israel’s occupation: Repression Beyond Exploitation. London: Pluto Press. And UNCTAD (2011) Report on UNCTAD assistance to the Palestinian people: Developments in the economy of the occupied Palestinian territory, UNCTAD http://unctad.org/en/docs/tdb58d4_en.pdf
- Roy, Sara. (1999) ‘De-development revisited: Palestinian economy and society since Oslo’, Journal of Palestine Studies, vol. XXVIII, no.3, pp.64-82 and Roy, Sara. (1995) The Gaza Strip: The Political Economy of De-development, Institute for Palestine Studies, Beirut, Lebanon.
- Hever, Shir. (2010) The Political Economy of Israel’s occupation: Repression Beyond Exploitation. London: Pluto Press. Pg. 145-146.
- المرجع السابق، صفحة 38.