Defeating Dependency, Creating a Resistance Economy

كشفَ مستشار الشبكة لشؤون السياسات في رام الله، سام بحور، في مقالةٍ مهمة نشرها مؤخرًا بعنوان “Economic Palestine’s Hallucination” [هذيان اقتصادي فلسطيني]، التمثيليةَ التي يؤديها المانحون الغربيون والسلطة الفلسطينية للتغطية على الانهيار الحتمي لاقتصاد الأرض المحتلة بعد عقود من الاحتلال العسكري الإسرائيلي. ويقول بحور إن المقاربة المشتركة المتبعة لدى المانحين والسلطة الفلسطينية تضع معوقات رئيسية في طريق الحرية ونيل الحقوق، ويخلُص إلى أنه “قد آن الأوان لاتباع نموذجٍ اقتصادي جديد، نموذجٍ قائمٍ على العدالةِ الاقتصادية والرفاه الاجتماعي والتضامن والاستدامة.” فما هو شكل هذا النموذج الاقتصادي وكيف يتسنى للفلسطينيين القاطنين في ظل الاحتلال التحول من الواقع الراهن القاتم إلى اقتصادٍ يستديم السعي نحو تقرير المصير؟ ينضم مستشار الشبكة لشؤون السياسيات علاء الترتير إلى بحور وإلى مستشار الشبكة لشؤون السياسيات سامر عبد النور لمناقشة هذين السؤالين وتحري البدائل المتاحة.

المطلوب: أدوات للتعريف بالواقع الاقتصادي والاجتماعي

كثيرًا ما يوصف قطاع غزة بأنه سجنٌ كبير، كيف لا والحصار الإسرائيلي يجعل من المستحيل وصفه بغير ذلك. كما إن الضفة الغربية ومن ضمنها القدس الشرقية أصبحت سجنًا أيضًا، إذ إن السكان الفلسطينيين كافةً، مِن رئيس السلطة الفلسطينية (الذي جردته إسرائيل مؤخرًا من صفة “كبار الشخصيات” ومنحته بالمقابل تصريح سفر صالحًا لمدة شهرين فقط) إلى عمال المياومة، مضطرون للاعتماد على إسرائيل في حرية التنقل والوصول. فإسرائيل تسيطر على نحو مباشرٍ وغير مباشر على جميع الموارد الاقتصادية الفلسطينية. وعلاوةً على ذلك، فإن 60 في المئة من أراضي الضفة الغربية المصنفة بموجب اتفاقات أوسلو بأنها المنطقة (ج) مغلقةٌ تمامًا في وجه التنمية الفلسطينية. ومع ذلك، تظلّ تلك الحقائق التي تحكي واقع الضفة الغربية مخفيةً بسبب الحديث عن “نموٍ” اقتصادي بلغ 9 في المئة سنويًا، وجهودٍ مذهلةٍ على صعيد بناء المؤسسات، وسوق أوراقٍ ماليةٍ مزدهرة. وهذه الرواية الضارة ناتجةٌ من التدابير الاقتصادية الكلية “المتجاهلة للناس” والدعاية السياسية الفعّالة في تطبيع الوضع الراهن للعلاقة القائمة بين الاحتلال والسلطة الفلسطينية والمانحين.

يقول جيرمي وايلدمان في مقالته عن وهم المعجزة الاقتصادية الفلسطينية إن “الحقيقة المخيِّبة هي حقيقة الفقر وانعدام الأمن الشخصي والتدهور الاقتصادي المديد…[والحديث عن معجزةٍ اقتصاديةٍ من شأنه فقط أن] يُشغِل العالم ويلهيه عن تنفيذ حلولٍ صعبةٍ للمشاكل الحقيقية.” أمّا بالنسبة إلى مدى صعوبة هذه المشاكل، فقد خاض رشيد الخالدي في صلب هذه القضية حين تساءل عن كيفية “هدم العلاقة بين الاستيطان وصناعته – وهي علاقة تتجاوز المستوطنين في الضفة الغربية والقدس الشرقية المحتلة البالغ عددهم 600,000 مستوطن لتشمل “مئات الألوف العاملين في الحكومة والقطاع الخاص الذين ترتبط سُبل عيشهم ومصالحهم البيروقراطية بمواصلة فرض السيطرة على الفلسطينيين.”

وتجدر الإشارة إلى أنه لا مفرّ من الحقيقة، فحتى تلك التقارير التي تتحدث بكلامٍ معسولٍ عن جهود رئيس الوزراء الفلسطيني سلام فياض على صعيد بناء المؤسسات لا تستطيع الهرب تمامًا منها. وثمة تقارير عديدة صدرت من البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، والاتحاد الأوروبي تعترف بأن القطاع الخاص بات لا يقوى على العمل بسبب القيود التي يفرضها الاحتلال واضمحلال القاعدة الانتاجية الفلسطينية. ومن تلك، تقريرٌ أصدره البنك الدولي في عام 2010 وجاء فيه أن “جهاز الرقابة” الإسرائيلي قد “أضحى أكثر تطورًا وفعاليةً من حيث قدرته على التدخل والتأثير في جوانب الحياة الفلسطينية كافة بما فيها فرص التوظيف، والعمل، والكسب…[ممّا يُحوِّل] الضفة الغربية إلى مجموعةٍ مجزأةٍ من جُزرٍ أو جيوبٍ اجتماعية واقتصادية معزولة عن بعضها.”

وعلى الرغم من أن السياسات الاقتصادية الليبرالية الجديدة التي تسارعت في عهد رئيس الوزراء سلام فياض قد جلبت ثروةً وقوةً شرائيةً لشرائح صغيرة من سكان الضفة الغربية، فقد كان مكتوبًا لتلك الظاهرة أن تكون مؤقتة، إذ جاء محلها اليوم تكاليفُ متصاعدةٌ وعجزٌ متفاقمٌ تسعى الحكومة إلى معالجته عبر التدابير التقشفية ذاتها المفروضة على العديد من البلدان النامية وهي تشمل تقليص حجم القطاع العام، وزيادة الضرائب، وتقليل حوافز الاستثمار.

يتساءل الخبير الاقتصادي رجا الخالدي، في مقالةٍ نُشِرت مؤخرًا، عن قابلية تطبيق سياسات التكيف الهيكلي في السياق الفلسطيني، مشيرًا إلى أن المشاكل المالية التي طال أمدها في الأراضي الفلسطينية المحتلة لا علاقةَ لها بالمشاكل الهيكلية التي يمكن “تكييفها” وإنما هي نتيجةٌ مباشرةٌ للاحتلال. فبالإضافة إلى تذبذب القاعدة الضريبية وضعف مستوى النشاط الاقتصادي والإغلاق الإسرائيلي والمواجهات العسكرية المتكررة، تمتلك إسرائيل سيطرةً تامةً على عوائد الضرائب والتخليص الجمركي التي تُحصِّلها بالنيابة عن السلطة الفلسطينية. ويُظهر تقريرٌ منبثقٌ من مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) بأن الواردات المنتَجة في بلدان ثالثةٍ والمُعاد تصديرها إلى الأراضي الفلسطينية كما لو كانت منتجةً في إسرائيل (الواردات غير مباشرة) تتسبب في خسائر تبلغ 480 مليون دولار سنويًا – أي نحو 25 في المئة من الإيرادات العامة، و10 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي و30,000 فرصة عملٍ سنويًا. وما انفكت إجراءات السلطة الفلسطينية تؤدي إلى احتجاجات واسعة النطاق ضد ما اصطُلح على تسميته “الفياضية” وسياسات الليبرالية الجديدة التي تمثلها.

يواجه الاقتصاديون والمحللون الفلسطينيون تحدياتٍ عِدة، منها التساؤل حول ماهية الأدوات والتدابير التي يُمكن تطويرها أو استخدامها من أجل التعريف على نحوٍ أكثر فعاليةٍ بحقيقة الاحتلال الإسرائيلي، من حيث آثاره الاعتيادية والكارثية من الناحيتين الاقتصادية والبشرية. فعلى سبيل المثال، هل من الممكن طرح تكاليف الإنشاءات أو الاستهلاك المرتبطة بنقاط التفتيش وغيرها من أشكال القيود المفروضة على الحركة (أي فرص العمل لإنشاء الطرق، الوقود الإضافي، وخدمات المواصلات) والتكاليف الأخرى المترتبة على الاحتلال من الناتج المحلي الإجمالي عِوضًا عن إضافتها له؟ وبالمثل، عندما لا يتمكن طالب من غزة من الدراسة في جامعة بيرزيت، أو عندما يقبع أحدهم في السجن لأشهر أو سنوات دون تهمة، فكم تكون التكلفة السلبية على الاقتصاد الفلسطيني؟ إن هذه الحقائق بلا شك تؤثر في الرفاه الاقتصادي والاجتماعي للفلسطينيين، ومع ذلك فإن قياسها أصعب بكثير من قياس التكلفة المترتبة على مصادرة الأراضي والموارد – والتي تحتاج أيضًا إلى القياس من حيث خسارة القيمة السياسية والبشرية والاجتماعية والاقتصادية. وبحسب تقديرات معهد الأبحاث التطبيقية في القدس (أريج)، فقد بلغت التكلفة الكلية القابلة للقياس التي تكبدها الاقتصاد الفلسطيني في عام 2010 جراء الاحتلال الإسرائيلي 6.897 مليار دولار، ما يعادل نسبةً هائلةً مقدارها 84,9 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي الفلسطيني للعام ذاته.

ثمة حاجة لوضع مقاييس جديدة ليس لقياس تكلفة الاحتلال وحسب وإنما لحساب تكلفة الفساد أيضًا. وهناك منظماتٌ وطنيةٌ ودوليةٌ مثل مركز بيسان للبحوث والإنماء، ومعهد أريج، ومركز دراسات التنمية في جامعة بيرزيت، والأونكتاد، ومؤسسة روزا لوكسمبورغ تضطلع بعملٍ مهم وبوسعها أن تساعد في تطوير أدوات دقيقة لقياس تلك التكاليف وتحليلها. ومن الأهمية بمكان أيضًا مناقشةُ هذه التكاليف علنًا ونشرها وعلى نطاق واسع والتوصل إلى توافق في الآراء بشأن ما تتوصل إليه تلك المنظمات وبشأن اجراءاتها المحتملة.

أولوية قصوى: التصدي للاتكال على المساعدات

تعود النقاشات حول اعتماد الفلسطينيين على المساعدات الدولية إلى زمن النكبة الفلسطينية على الأقل. تشير صوفيا ستاماتوبولو روبنز في تحليلها لمبادرات المعونة السابقة إلى أن تلك المبادرات حملت “دلالات ملموسة على الطرد” وتحدثت عن نفي مشترك. أما في الوقت الراهن، فقد غدت مبادرات المعونة أكثر وبالًا لأن مصادر المساعدات ودلالاتها على الطرد والنفي باتت تُطمس بسهولة: “فما عاد الظاهر مصدرًا موثوقًا لِما هو حاصل. فالواردات المباشرة ليست بمباشِرة. والزي الرسمي للشرطة الفلسطينية يعني تنسيقًا إسرائيليًا، وإنشاء طريق “فلسطيني” جديد يعني على الأرجح مزيدًا من المستوطنين.”

لقد كُتب الكثير عن مشاكل صناعة المساعدات في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وثمة حاجةٌ لتجاوز المقولات التي تُفيد بأن المساعدات تستديم الاحتلال ولبذل تكاليف سياسية تُفضي إلى تغييرٍ حقيقي. ويجب على الفلسطينيين حثّ صناعة المساعدات على التوقف عن هدر الموارد تحت ذرائع المساعدة الزائفة، ولِمدّ يد العون لإرساء صمودٍ اقتصادي حقيقي من أجل إنهاء الاحتلال. والمانحون مدركون لهذه القضايا ولكن ينقصهم الحافز لمواءمة سياسيات التنمية العامة مع واقع التجربة الفلسطينية. ويرجع بعض السبب في هذا إلى عدم رغبة الوكالات المانحة في تحدي الأجندات السياسية للبلدان المانحة، وإلى الواقع العالمي القاضي بأن سياسة المساعدات منفصلة إلى حدٍ بعيد عن التحسين الحقيقي للواقع الاجتماعي والاقتصادي. ويُضاف إلى ذلك قبول السلطة الفلسطينية بالوضع الراهن. ومع ذلك، لا يمكن للمرء أن يتجاهل أن الدول المانحة تستفيد استفادةً كبيرةً من الترتيب الحالي لصناعة المساعدات. وهذا ينطبق بصفة خاصة على الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (يو أس إيد) والوكالة اليابانية للتعاون الدولي (جايكا) حيث يستنزف متعاقدوهما ومستشاروهما الكثير من المساعدات ذاتها التي تقدمها الوكالتان. وبالإضافة إلى ذلك، يذكر كتاب سحر تغديسي-راد الصادر مؤخرًا بأن قدرًا كبيرًا من المساعدات المقدمة للفلسطينيين يساهم في رفد الاقتصاد الإسرائيلي. وفي نهاية المطاف، لا يصل إلى الفلسطينيين سوى الكم القليل من المساعدات؛ وهذا الجزء الذي يصل بالفعل يُعبِّر عن كلفةٍ سياسيةٍ باهظة عندما يتجاهل الحقوق غير القابلة للتصرف في الحرية، وتقرير المصير، والعودة.

لم يأخذ المانحون مطالبات الفلسطينيين على محمل الجد قط. ويرجع بعض السبب في ذلك إلى أن استثمار المانحين فيما يُسمى “عملية السلام” لم يواجه اعتراضًا جديًا قط. لذا، ثمة حاجةٌ ماسّة لحملةٍ يقودها المجتمع المدني لفضح هذه العمليات وجعل استمرار المانحين في عملهم كالمعتاد أمرًا صعبًا. إن إخراج حفنةٍ من المانحين “السيئين” من فلسطين كنتيجةٍ للضغط الاجتماعي سوف يتجاوز مجرد “إصلاح” المساعدات وربما يستعيد صمود الفلسطينيين ومقاومتهم في نضالهم من أجل حقوق الإنسان.

وهناك نقطة انطلاق أخرى جيدة في هذا السياق وهي الضغط وحشد التأييد لإلغاء الإعفاءات التي منحها الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات إلى الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية. فبحسب تقريرٍ أصدره الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة (أمان) في العام 2010، يبلغ عدد المنظمات الأجنبية المسجلة 146 منظمة، أي ما يعادل 40 في المئة فقط من العدد الكلي للمنظمات العاملة في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ويرجع بعض السبب في ذلك، بحسب التقرير، إلى أن عرفات قد أعفى المؤسسات والفروع والهيئات والشركات التابعة للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية من متطلب التسجيل. وعلاوةً على ذلك، تمنح وزارة الاقتصاد الوطني العديد من الفروع التابعة للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية تصاريح لتسجيلها بصفة شركات غير ربحية دون أن تطلب منها تقديم أي أوراقٍ رسمية. وتلك الشركات ليست مطالبةً بتقديم ميزانياتها وهي لا تخضع لرقابة مراقب الشركات الفلسطيني. والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية ليست المنظمة الوحيدة التي تعمل دون تسجيلٍ أو رقابة، فهناك مؤسسة كونراد أديناور، ومؤسسة فريدريش إيبرت، ومؤسسة فورد، والمنظمة الدولية للمعوقين، ودياكونيا. بل إن إحدى المنظمات، حسبما علمت الشبكة من مؤلف دراسةٍ أخرى حول وكالات المعونة الدولية، رفضت الإفصاح عن معلومات تخصها بحجة “أنها مسجلة لدى الحكومة الإسرائيلية وأن الجانب الفلسطيني لا يملك الحق في أن يطلب منها الكشف عن أية معلومات تخصها ولا سيما الأمور المالية.”

ولا ينبغي للسلطة الفلسطينية أن تُخضع المنظمات غير الحكومية الأجنبية للمساءلة وحسب بل وأن تفرض ضرائب على عملياتها أيضًا. ففرض ضريبةٍ على استشارات الخبراء الأجانب سيجعل كلفتهم على المانحين تفوق بكثير كلفة الخبراء المحليين. وهذا ينسجم تمامًا وإعلان باريس بشأن فعالية المعونات، حيث إن ضريبةً كتلك من شأنها أن تعزز الاستفادة من القدرات الوطنية. ولربما تساعد تلك الحوافز على إعادة توجيه المساعدات نحو العمالة الفلسطينية.

تمتد هذه المشكلة لتشمل المنظمات غير الحكومية الفلسطينية أيضًا، والتي يبلغ عددها نحو 1,500 منظمة فاعلة. فالعديد منها يرفض الإفصاح علنًا عن جمعياتها العمومية ومجالسها وموظفيها ومموليها وتقاريرها المالية المدققة وأنظمتها الداخلية وحتى عن أصحاب العقارات الذين تستأجر منهم. وهناك من بين أكبر المنظمات غير الحكومية الفلسطينية وأهمها مَن يرفض الكشف عن أي معلومة، بدعوى أن بياناتها حسّاسة للغاية. وهذه الحالة الفلسطينية تشبه “جمهورية المنظمات غير الحكومية” في هايتي، غير أنها ربما ليست على القدر ذاته من الاستفحال. لقد كان الشعب الهايتي ذات يوم، قبل أن يضطر إلى دفع ثمن تحرره من الاستعمار، قادرًا على إطعام أفراده وكسوتهم.

تتحمل القيادة الفلسطينية بعض المسؤولية عن التبعية الاقتصادية الراهنة وهي لا تزال تعاني من فلسفة “السلام الاقتصادي” وعواقبه. فهذا “السلام”، المنبثق من بروتوكول باريس الموقع مع الإسرائيليين في 1994، يعزز التطبيع الاقتصادي من خلال المناطق الصناعية المشتركة، ومنتديات الأعمال الفلسطينية الإسرائيلية المشتركة، والاستثمارات الفلسطينية في إسرائيل وفي المستوطنات أيضًا، وإهمال القاعدة الزراعية والصناعية، والإدارة المشتركة للموارد المائية بما يصب في صالح المستوطنات والصناعات الإسرائيلية، وإهمال الأنشطة الاقتصادية الفلسطينية في القدس، والخصخصة، وتشجيع الاستدانة العامة والفردية. وقد حدث كل ما سبق بموازاة الترسيخ المتنامي للاستعمار الإسرائيلي على أرض فلسطين.

إن التصدي للعلاقة بين السياسة ورأس المال والمساعدات أمرٌ ضروري. ويجب على الفلسطينيين الابتعاد عن السياق الحالي والسعي نحو نموذجٍ يَعتبِر التنمية وسيلةً لإدراك الحقوق والحريات وتقرير المصير (انظر، على سبيل المثال، مقالة الخبير الاقتصادي علي قادري المنشورة مؤخرًا). ومن الضروري أيضًا تجاوز الفهم التكنوقراطي اللاسياسي لعملية التنمية والسعي للاعتراف بعدم تناظر القوى وبالهيمنة الاستعمارية. وهناك الكثيرون من الكُتاب الفلسطينيين ممن يتطرقون إلى الجوانب المختلفة لهذه المعضلة. وينبغي النهوض بأعمالهم جميعها والانتقال بها إلى مرحلة متقدمة كي تستطيع أن تنافس النموذج والخطاب القائمين وأن تقدم ببديلاً معقولاً. فلا يتمخض عن الوضع الراهن إلا تطبيع الاحتلال الإسرائيلي وإدامته بتجاهل الجذور السياسية للفقر الفلسطيني.

التعلم من التجارب العملية في الداخل والخارج

إن بالإمكان وضع أجندةٍ فلسطينيةٍ جديدةٍ لاقتصادٍ مقاوم بالاستناد إلى التجارب المحلية والإقليمية والدولية. ولا بد للرؤية الاقتصادية الجديدة أن ترمي إلى تعزيز الاستدامة الذاتية والمقاومة الاجتماعية والاقتصادية (والثقافية أيضًا) أكثر من تعزيز النمو الاقتصادي المصطنع. فلقد أضحى النمو الاقتصادي، كما جرى قياسه ونقاشه وتطبيقه، لجامًا مقيِّدًا. وهذا لا يعني عرقلة تنمية القطاع الخاص؛ فريادة الأعمال أمرٌ مهم على جميع المستويات والمقاييس. ولكن لا بد أن تكون هناك رؤيةٌ لاقتصادٍ يضع في صميمه النضال الفلسطيني.

ويجب إيلاء الأولوية القصوى إلى الاعتماد على الذات في تأمين الغذاء الأساسي. فلطالما ظل الفلسطينيون يعتمدون على المشاريع الزراعية الصغيرة لإطعام أنفسهم، كالزراعة المستدامة، والحدائق المزروعة على أسطح المباني والمروية بالتنقيط، والتنوع البيولوجي المحلي في المحاصيل. وإذا جرى التوسع في تلك المشاريع الزراعية، فإنها سوف تقلل الاعتماد على المساعدات الغذائية تدريجيًا إلى أن تنهيه تمامًا. كما يمكن أن تعيد ملايين الفلسطينيين في المخيمات إلى سُبل كسب العيش المستمدة من الأرض. وفي هذا الصدد، تقدم أعمال المؤلف اللبناني، رامي زريق، نافذةً معرفيةً بشأن تعرّض الزراعة العربية للتقويض بفعل المساعدات، وسُبل إحياء الممارسات التي اتبعها السكان الأصليون (انظر كتابه الأخير بعنوان “Food, Farming, and Freedom” وأيضًا مدونته). وفي هذا الصدد، تُعتبر تجربة كوبا في تحقيق الأمن الغذائي في ظل ظروفٍ سياسيةٍ غير مواتيةٍ تجربةً تستحق الدراسة. وللصحراويين أيضًا تجربةٌ تستحق الدراسة، حيث تمكنوا في المنفى من تنظيم مجتمعٍ من السكان ذوي التعليم العالي وإدارته بما يتماشى والنهوض بمصالحهم القومية في ظل أسوأ الظروف (انظر الدراسة التي أجرتها رندة فرح مؤخرًا).

ومن الأهمية بمكانٍ أيضًا أن نمنع السلطة الفلسطينية من تقويض الإمكانات الزراعية الفلسطينية. لقد ظلّ وادي مرج ابن عامر في محافظة جنين سلةَ غذاءٍ رئيسيةٍ للفلسطينيين على مرّ الزمن، غير أن السلطة الفلسطينية قد اتخذت إجراءاتٍ لإقامة منطقة صناعيةٍ على أرض الوادي وسيعتمد تشغيل تلك المنطقة على إسرائيل اعتمادًا كليًا. ويعكف مركز بيسان وآخرون على فضح تلك المحاولات وتوثيقها والطعن فيها بالسبل القانونية. ومن المعروف عن مسؤولي السلطة الفلسطينية بأنهم يضحكون عندما يتحدث أحدٌ عن القطاع الزراعي. غير أن النكتة، في الواقع، هي التصريحات الرسمية بشأن تمكين الناس في أراضيهم لمّا لا يُحتفظ بالأرض ولا تُستخدم فيما يحقق مصالح الشعب الفلسطيني.

ومن المجالات الأخرى الجديرة بالدعم مجال الصناعات الثقافية التقليدية. فتصدير التراث الثقافي الفلسطيني الغني (بخلاف المحاصيل النقدية سريعة التأثر مثل القرنفل والفراولة أو التوت الأرضي) بوسعه أن يساهم في تثقيف الناس حول العالم بشأن القضية الفلسطينية ويقدم فرصةً للحفاظ على الصناعات الثقافية.

ينبغي لأجندة التنمية الفلسطينية أن تُشرِك فلسطينيي الشتات في الكفاح من أجل الاعتماد المستدام على الذات. لقد خاض الفلسطينيون تجربة اقتطاع 5 في المئة من رواتب الفلسطينيين العاملين في دول الخليج لصالح منظمة التحرير الفلسطينية. ولكن التحدي الآن هو بناء الثقة لدى الفلسطينيين في الشتات لضمان أن أموال الفلسطينيين المخصصة لأجندة التنمية الفلسطينية لن يُساء استخدامها ولن تملأ جيوب الفاسدين من القادة، بل سوف تُدار كسندات في بنكٍ إنمائي وطني أو بواسطة وكالةٍ تنمويةٍ وطنيةٍ على غرار مؤسسة الآغا خان.

وثمة حاجةٌ كذلك للتفكير بشأن سُبل الفلسطينيين في مأسسة أجندةٍ تنمويةٍ ديمقراطية موجَّهة نحو الناس وإقامة بيروقراطيةٍ مكرسةٍ لها. ففي أدبيات التنمية، هناك توجه يولي الأولوية للآليات والمقاربات وأساليب الحكم الخاصة بالسكان الأصليين فيما يتعلق بالتنمية. وفي الواقع، أظهرت المؤسسات القيادية في الانتفاضة الأولى أسلوبًا فعالًا في الحكم متمحورًا حول الفلسطينيين. ولسوء الحظ، تعرضت تلك المؤسسات إلى التهميش في أعقاب اتفاقات أوسلو.

والأهم من ذلك هو أنه يتعين على الرؤية الاقتصادية الفلسطينية الجديدة أن تتبنى عنصر الكرامة في المساعدات. فلا بد أن يجيء وقتٌ يرفض فيه الفلسطينيون باحترام المساعدات المتأتية من الدول المانحة التي تدعم أي جانب من جوانب النشاط العسكري الإسرائيلي. وينبغي لكافة المنظمات غير الحكومية الدولية أن توافق على العمل على أولويات التنمية الفلسطينية وأطرها الزمنية (وليس أجندات المانحين ثلاثية السنوات) وتعالج الأسباب الجذرية للفقر الفلسطيني المتمثلة في الاحتلال الإسرائيلي والقيود الناجمة عنه والاستعمار المستمر لأرض فلسطين. ولا بد من ضمان شفافية الغاية والعمليات، وإظهار النتائج المتحققة. فإنْ لم نكفل، نحن الفلسطينيون، الكرامةَ في تنميتنا، فإن أحدًا لن يكفلها لنا.

يقطن سام بحور مدينتي البيرة ورام الله في فلسطين. ويعمل في تقديم الاستشارات التجارية وإدارة المعلومات التطبيقية، وهو مختص في تطوير قطاع الأعمال وتحديدًا قطاع...
سامر عبد النور هو أكاديمي وناشط وأحد مؤسسي الشبكة في العام 2009 وعضو مجلس أمناء الشبكة منذ تأسيسها لغاية عام 2016.
علاء الترتير، مستشار سياسات وبرامج لدى الشبكة: شبكة السياسات الفلسطينية، ومدير وباحث رئيسي في برنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام. الترتير هو...

أحدث المنشورات

 السياسة
بعد عام من المعاناة تحت وطأة العنف والدمار المستمرين ، يقف الفلسطينيون عند لحظة مفصلية. تتناول يارا هواري، في هذا التعقيب، الخسائر الهائلة التي تكبدها الشعب الفلسطيني منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023 والفرص المنبثقة عنها للعمل نحو مستقبل خالٍ من القمع الاستعماري الاستيطاني. وترى أنّ الوقت قد حان الآن لكي تتحول الحركة من رد الفعل إلى تحديد أولوياتها الخاصة. وكجزء من هذا التحول، تحدد يارا ثلاث خطوات ضرورية: تجاوز التعويل على القانون الدولي، وتعميق الروابط مع الجنوب العالمي، وتخصيص الموارد لاستكشاف الرؤى الثورية لمستقبل متحرر.
Al-Shabaka Yara Hawari
يارا هواري· 22 أكتوبر 2024
منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، قتلت القوات الإسرائيلية ما يزيد عن 40,000 فلسطيني في غزة، وجرحت 100,000 آخرين، وشرَّدت كامل سكان المنطقة المحتلة تقريبًا. وفي ذات الوقت شرَعَ النظام الإسرائيلي في أكبر اجتياح للضفة الغربية منذ الانتفاضة الثانية مما أدى إلى استشهاد ما يزيد عن 600 فلسطيني واعتقال 10,900 آخرين. كما وسعت إسرائيل نطاق هجومها الإبادي الجماعي في لبنان، مما أسفر عن مقتل ما يزيد على ألف شخص ونزوح أكثر من مليون آخرين. يسلط هذا المحور السياساتي الضوء على مساعي الشبكة في الاستجابة لهذه التطورات على مدار العام الماضي، من وضع أحداث السابع من أكتوبر في سياق أوسع للاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، إلى استجواب آلة الحرب الإسرائيلية متعددة الأوجه، إلى تقييم العلاقات الإقليمية المتغيرة بسرعة. هذه المجموعة من الأعمال تعكس جهد الشبكة المستمر في تقديم رؤية فورية للوضع الفلسطيني.
لا تنفك شركات الأسلحة البريطانية تتربّح من بيع الأسلحة لإسرائيل من خلال التراخيص الصادرة من الحكومة البريطانية، حيث بلغ إجمالي هذه الصادرات منذ العام 2008 ما يقدر بنحو 740 مليون دولار، وهي ما تزال مستمرة حتى في ظل الإبادة الجماعية الجارية في غزة. يشعر البعض بتفاؤل حذر إزاء احتمال فرض حظر على الأسلحة بعد فوز حزب العمال في انتخابات يوليو/تموز 2024، وبعدَ أن وعدَ بالانسجام مع القانون الدولي. في سبتمبر/أيلول 2024، علقت الحكومة البريطانية 30 ترخيصاً من أصل 350 ترخيصاً لتصدير الأسلحة إلى إسرائيل. ويرى الناشطون وجماعات حقوق الإنسان أن مثل هذا القرار محدود للغاية. وبناء على ذلك، تُفصِّل هذه المذكرة السياساتية الالتزامات القانونية الدولية الواقعة على عاتق بريطانيا وكذلك المناورات الحكومية الممكنة فيما يتصل بمبيعات الأسلحة لإسرائيل.
شهد الحموري· 15 سبتمبر 2024
Skip to content