لمحة عامة
يعتقد 81% من الفلسطينيين في الأرض الفلسطينية المحتلة بوجود فساد في مؤسسات السلطة الفلسطينية وفقًا لدراسةٍ استطلاعية حديثة، وأيَّدَ هذا الاعتقاد التقريرُ السنوي الذي أصدره مؤخرًا الائتلافُ الفلسطيني من أجل المساءلة والنزاهة (أمان)، فرعُ منظمةِ الشفافية الدولية في فلسطين. ولا يزال الفلسطينيون يحملون هذا الاعتقاد رغم جهود بناء الدولة التي كثيرًا ما تغنى بها رئيس الوزراء السابق سلام فياض كسبيلٍ لاجتثاث الفساد، وهو يختلف مع نتائج التقارير الدولية التي تشير إلى حدوث تحسن في الحكم الرشيد.1
يُحاجّ المستشار السياساتي للشبكة، طارق دعنا، بأن الفسادَ هيكلي في الجسم السياسي الفلسطيني،ووجوده يسبق إنشاءَ السلطة الفلسطينية. ويقولُ الكاتب إن المشكلة تحتاج إلى معالجة جذرية لا تتم باتباع التدابير التقليدية المستخدمة في البلدان الأخرى، ولا سيما بسبب الاستعمار والاحتلال الإسرائيلي الجاثم منذ أمد، وطُرق إسرائيل في تعزيز الفساد واستغلاله على حدٍ سواء. 2
تفكيك منظومة الفساد: نظام التنفيع 3
مواضيع مرتبطة
You might also like:
لا ينبغي اعتبار الفساد في مؤسسات السلطة الفلسطينية مسألةَ تجاوزات إدارية ومالية بحتة يرتكبها أفرادٌ غيرُ مسؤولين بدافع الجشع والمصالح الشخصية.4 بل إن الفضائح التي تشغل الفلسطينيين بين الفينة والأخرى- مثل اختلاس المال العام، وسوء استخدام الموارد، والمحسوبية – ما هي إلا نتيجةُ فسادٍ مزمنٍ متأصل في هيكل السلطة الأساسي في النظام السياسي الفلسطيني المتجذر في منظمة التحرير الفلسطينية مِن قَبل عملية أوسلو.
اتسمت الجهودُ المبذولة لمكافحة الفساد في السنوات الأخيرة بطابعها “الفني” الغالب، حيث ركزت على مسائل من قبيل صياغة مدونات قواعد السلوك، وتحسين إجراءات التوظيف، ووضع تدابير وقائية للتعامل مع مخالفات محددة. ورغم أهمية هذه التدابير، فإنها لا تكفي إذا تجاهلت الأسباب السياسية الجذرية للفساد. لذا لا بد من تفهم طبيعة الفساد في السلطة الفلسطينية لكي نكون قادرين على التصدي له بفاعلية.
فساد السلطة الفلسطينية في فلسطين هو نظامٌ متجدد. ولعلّ العامل الأساسي في إعادة إنتاج فساد نظام الحكم الفلسطيني واستدامته هو “التنفيع”.5 وفي فلسطين، يتجذر التنفيع في القيم الاجتماعية المتمثلة في القرابة والروابط الأسرية التي تستمد شكلها من السياسة الحزبية. وتمنحُ هذه الروابط الاجتماعية والسياسية النخبةَ الحاكمةَ أداةً استراتيجيةً للسيطرة على القواعد الشعبية وتوسيع شبكة مؤيديها من خلال إعادة توزيع الموارد العامة بهدف شراء الولاءات السياسية، وهذا بدوره يساعد النخبة الحاكمة في المحافظة على الوضع الراهن وعلى هيمنتها على الأصول السياسية والاقتصادية.
يساهم التنفيع أيضًا في بث مناخ الفساد من خلال محاباة العناصر السياسية الموالية غير الكفؤة، وإقصاء ذوي المهارات تعسفًا. وهو بالتالي يزيد من تزاحم المتنفعين المتنافسين لإثبات ولائهم للنخبة الحاكمة. ويترسخُ الفساد أكثر إذا ما أدركنا أن إحدى الوسائل التي يستخدمها أرباب المنفعة في مكافأة المتنفعين الموالين تتمثل في التغاضي عن مخالفاتهم المالية.6
ظلَّال تنفيع سمةً مميزة للعلاقات الداخلية بينا للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية وبين المؤسسات الوطنية والمكونات السياسية.7 فقد استخدمت الدائرة المقربة في قيادة منظمة التحرير الفلسطينية شبكات أرباب المنفع-المتنفعين بانتظام لأغراض متعددة كبسط النفوذ على المكونات السياسية، وإقصاء القوى السياسية الأخرى، وتنفيذ أجندتها السياسية دون معارضة.
وعلى سبيل المثال، استخدمت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية صندوقَ الصمود في عقد الثمانينات في الأرض الفلسطينية المحتلة –الذي كان يمر رسميًا من خلال اللجنة الفلسطينية-الأردنية المشتركة – لمكافأة أنصارها وإقصاء الآخرين.8 شجَّع هذا النهج على التلاعب والاحتكار وأفضى إلى ممارسات فاسدة وتكرار في مشاريع التنمية. وساهمَ أيضًا في اتساع شبكات المتنفعين لخدمة مشاريع حركة فتح ومشاريع السياسية الأردنية. وفي حين كان الهدف المعلن لصندوق الصمود دعمَ قطاعات التعليم والزراعة والصحة والإسكان، كان المستفيدون الرئيسيون “كبار الملاك في وادي الأردن، والصناعيين، وموظفي الخدمة المدنية الأردنيين (في الضفة الغربية)، وجماعاتٍ مهنية حصلَ أعضاؤها على قروضِ إسكانٍ سخية”.9
وبعد توقيع اتفاقات أوسلو، ورثت السلطة الفلسطينية نظام التنفيع- ولا غرابةَ في ذلك – وصار العمودَ الفقري لقاعدتها المؤسسية. وبدلا من المضي في بناء المؤسسات على أساس الجدارة، أصبحت علاقة التنفيع سمةً مميزة للهيكل المؤسسي للسلطة الفلسطينية وأداةً قويةً للإقصاء والاستيعاب. وارتبط التنفيع بأسلوب الحكم المشخصن وغير الخاضع للمساءلة الذي انتهجه رئيس منظمة التحرير الفلسطينية الراحل ياسر عرفات والقيادة السياسية الفلسطينية.10
تكسب السلطةُ الفلسطينية ولاءَ الجماهير بتوفير فرص الحصول على الموارد الاقتصادية إلى حدٍ كبير، وليس من خلال إقناعهم ببرامجها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وعلى وجه التحديد، ظل القطاع العام الضخم في السلطة الفلسطينية أداةً حيوية لخلق التبعية واكتساب الولاءات. وقد ساهم ذلك في مأسسة الفساد في القطاع العام التابع للسلطة الفلسطينية. بل إنهصبَّ في مصلحة الحكومة الإسرائيلية، التي كانت ترمي من وراء توقيع اتفاقات أوسلو إلى إنشاء دولةٍ متنفعة تتحكمُ بها إسرائيل من خلال الريوع المصروفة للسلطة الفلسطينية من المانحين الدوليين، بالإضافة إلى استراتيجيتها القائمة على التفتيت الجغرافي والاحتواء.11
يوظف القطاع العام في السلطة الفلسطينية حاليًا ما يزيد على165,000 موظف عمومي يعتمدون كليًا على الرواتب التي تكفلها المساعدات الدولية للسلطة الفلسطينية. يستأثر قطاع الأمن بالنصيب الأكبر من الموظفين بنسبة 44% من مجموع العاملين في السلطة الفلسطينية، ويستحوذ على 30% – 35% من الميزانية السنوية للسلطة الفلسطينية، وهو بالتالي يفوق المخصص لقطاعات حيوية أخرى مثل التعليم (16%) والصحة (9%) والزراعة (1%).
إن تعطل المجلس التشريعي الفلسطيني، والغياب التام للرقابة التشريعية على الميزانية الحكومية، حرَّرالرئاسة والسلطة التنفيذية من الضوابط والموازين المؤسسية والمساءلة العامة، ممّا عزز السيطرة التنفيذية على الإنفاق العام، وقدرة السلطة التنفيذية على السيطرة على القواعد الجماهيرية باستخدام استراتيجية العصا والجزرة. وهذا عزَّز بدوره التجاوزات وانتهاكات حقوق العمل.
إن العمل في القطاع العام في السلطة الفلسطينية لا يضمن الأمن الوظيفي بالضرورة. فإذا انتقد الموظف سياسات السلطة الفلسطينية، فإنه سيُحال على الأرجح إلى التقاعد المبكر، أو يُحرَم راتَبه،أو يُفصَلُ تعسفًا من منصبه، أو يواجه سلسلةً من التدابير العقابية، بما فيها الحرمان من الترقية والنقل إلى مناطق بعيدة، قبل إجباره في نهاية المطاف على التقاعد المبكر.
وبما أن قسمًا كبيرًا من المجتمع الفلسطيني قائمٌ على العلاقات الاجتماعية العشائرية/القبلية/العائلية، سعت السلطة الفلسطينية لاستيعاب العائلات الكبيرة لكسب ولائها. فحين أسست السلطة الفلسطينية وزارة الحكم المحلي، ضمَّنتها قسمًا خاصًا معنيًا بشؤون العشائر/القبائل. وتعترف الوزارة بمنصب المختار(زعيم القبيلة/العشيرة) وتفوضه بالتحدث بالنيابةِ عن عائلته. ومع صعود الحركة الوطنية تهمشت القبائلية إلى أن قامت السلطة الفلسطينية بتعيين ممثلين لعائلات كبيرة في مناصب وزارية في عقد التسعينيات. وصارت تلك الوزارات لاحقًا تزخر بالموظفين من أقرباء الوزير وأصدقائه. وبعد الإصلاحات التي شهدتها السنوات الأخيرة على صعيد بناء الدولة، قلَّ التوظيف على أساس الاعتبارات العائلية. غير أن بعض الوزراء استعاضوا عن ذلك وأحاطوا أنفسهم برفاق مقربين من خارج عائلاتهم.12
استُخدم نظام التنفيع كذلك لاحتواء المعارضة السياسية وتحييدها. فأُدمِجَ العديد من القادة السياسيين – مستقلين ويساريين وإسلاميين – في مشروع السلطة الفلسطينية الذي ادعوا رفضه في بادئ الأمر، حيث مُنحوا امتيازات وفرصةً لتولي مناصب مرموقة في القطاع العام مقابل ولائهم السياسي. بل إنّ مِن هؤلاء الذين جرى احتواؤهم مَن أمسى لاعبًا رئيسيًا في الحياة السياسية للسلطة الفلسطينية.
مال النخب ونفوذها
خيرُ مثالٍ للفساد المتأصل في النظام السياسي الفلسطيني يكمن في التفاعل بين السلطة والمال على أعلى مستويات السلطة السياسية. وهذا هو الشكل الأكثر انتشارًا للفساد، ولكنه الأصعب من حيث تعقبه لأن النخب تتمتع في الغالب بحصانة اجتماعية أو سياسية أو قانونية، فضلًا على الطريق المعقدة التي يسلكها المال وهو ينتقل من يدٍ إلى يد ويمر عبر الحدود الوطنية– وهذا قد ينطوي على أسواق سوداء، وغسيل أموال، وحسابات مصرفية أجنبية.
إن ما نعرفه عن فساد النخبة يخرج عادةً إلى العلن في أوقات النزاعات السياسية الداخلية في أوساط النخبة، حين تهيمن على عناوين الأخبار اتهاماتٌ متبادلةٌ باختلاس مبالغ طائلة. ومن أمثلة ذلك محمد دحلان، القائد الأمني السابق في غزة، الذي جمعَ الكثيرَ من ثروته من احتكار الواردات الرئيسية في غزة إبان التسعينيات. فبعد طرده من اللجنة المركزية لحركة فتح بعدما زُعِمَ أنه كان يخطط للإطاحة برئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، طالته اتهاماتٌ أدهى بممارسة الفساد، مثل الاختلاس من عائدات الضرائب التي استخدمها في تسيير أعماله التجارية في لندن ودبي.
وهناك محمد رشيد أيضًا، المستشار الاقتصادي السابق لعرفات وأحد حلفاء دحلان الرئيسيين، حيث حُكمَ عليه غيابيًا على خلفية تحويل ملايين الدولارات من صندوق الاستثمار الفلسطيني وإقامة شركات وهمية. وفي المقابل، كشف محمد رشيد عن أن حركة فتح كانت تمتلك حسابًا مصرفيًا سريًا في الأردن يديره الرئيس واثنان من معاونيه. ومن الواضح أن فضائحَ الفساد هذه ناجمةٌ من الصراع على السلطة، وليست وليدةَ جهودٍ جادة لمكافحة الفساد.
استغلالُ المنصب الرسمي لتحقيق مكاسبَ شخصيةٍ هو وجهٌ آخر لفساد النخبة. وتشمل الحالات التي تخرج إلى العلنا لاستخدامَ غير المأذون للموارد العامة لأغراض شخصية، وإبرامَ صفقات غير قانونية بين القطاعين العام والخاص، وسرقة الممتلكات العامة. وكانت هذه الممارسات تحدث بوتيرة منتظمة في التسعينيات، وأثرت سلبًا في النظرة المحلية والدولية تجاه السلطة الفلسطينية، حيث وجدت أول عملية تدقيق ورقابة فلسطينية أجريت في 1997 أن قرابةَ40 % من ميزانية السلطة الفلسطينية – 326 مليون دولار أمريكي تقريبًا – قد أُسيء استعمالها.
لا يبدو أن ثمة تحسنًا كبيرًا في مكافحة هذه الظاهرة رغم محاولات إصلاح السلطة الفلسطينية في السنوات الأخيرة. فبحسب تقرير منظمة أمان لعام 2008، يتجلى استغلال المنصب العمومي بهدف اختلاس المال العام وإهداره في عملية تخصيص أراضي الدولة للأفراد أو الشركات. وكشف تقرير المنظمة ذاتها لعام 2011 عن استمرار هذا النهج، وكانهدر المال العام لا يزال شكلَ الفساد الأبرز للعيان.
ثمة طريقةٌ أخرى اغتنت بها النخبة السياسية على حساب بقية السكان، تتمثل في التفاوت المفرط في الدخول في فلسطين. فقد أبرزَ مؤشرُ جيني العالمي التفاوت الهائل في مستويات الدخل بين كبار المسؤولين وبقية موظفي السلطة الفلسطينية في عام 2013. ووفقًا للتقارير الأخيرة، يتقاضى بعض مسؤولي القطاع العام راتبًا شهريًا يفوق 10,000 دولار أمريكي بالإضافة إلى امتيازات أخرى. وعلى النقيض، يتقاضى ثلثا موظفي القطاع العام ما بين 515 و640 دولار شهريًا.
الفساد في ظل الاحتلال
تساهم إسرائيل في تعزيز فساد السلطة الفلسطينية وتستغله. وهي سعيدة بلَوم الفلسطينيين على علاتهم الاقتصادية، لكي تصرف الانتباه عن الأثر المدمر الذي تلحقه سياساتها الاستعمارية بالتنمية الاجتماعية والاقتصادية الفلسطينية. ومع أن الفساد في السلطة الفلسطينية مضرٌ اقتصاديًا ولا شك، فإنه يأتي في المركز الثاني بعد التدمير الإسرائيلي المنهجي للاقتصاد الفلسطيني الذي يتصدره بأشواط.
تضطلع إسرائيل بدورٍ أساسي في تعزيز الفساد وحماية الفاسدين بطرق ووسائل عديدة. فاحتكارات القطاعين العام والخاص التي يتحكم بها ذوو المراتب العليا في بيروقراطية السلطة الفلسطينية وشركاؤهم في القطاع الخاص ليست ممكنةً لولا تواطؤ الشركات الإسرائيلية وتعاونها وموافقة المؤسسة السياسية والأمنية الإسرائيلية.
مثالٌ آخر هوعلاقةُ إسرائيل المباشرة “بالحسابات السرية” التي فتحها بعض المسؤولين الفلسطينيين في عقد التسعينيات حول العالم، بما في ذلك في بنك لئومي الإسرائيلي. فالكثير من أموال تلك الحسابات جاء من الضرائب التي جبتها إسرائيل على الواردات الفلسطينية، ومن ثم حوَّلتها مباشرةً إلى تلك الحسابات. ويُقال إن إسرائيل حوَّلت بين عامي 1994 و1997 مبلغ 125 مليون دولار إلى هذه الحسابات؛ وفي عام 1997 وحده، أفادت التقارير بأن إسرائيل حولت 400 مليون دولار إلى حسابات فلسطينية في بنوك إسرائيلية.13وفي حين أن دورَ إسرائيل بات أقل وضوحًا للعيان في السنوات الأخيرة، فإن إسرائيل لا تزال توفر ملاذًا آمنًا للفاسدين.
وفي الوقت نفسه، يعكف مروجو الدعاية الإسرائيلية على استغلال فساد السلطة الفلسطينية، حيث تستخدم إسرائيل هذه التهمة لتحقيق مكاسب سياسية. فقد استخدمت ورقةَ الفساد إبان الانتفاضة الثانية التي اندلعت في أيلول/سبتمبر 2000 ضمن استراتيجية أوسع للتخلص من عرفات وفرض عملية “الإصلاح” التي ترعاها جهات خارجية وتخدم الأجندة الإسرائيلية. وعلى وجه الخصوص، استغلت إسرائيلُ انشغالَ المجتمع الدولي بموضوع “الإرهاب” واتهمت عرفات باستخدام موارد السلطة الفلسطينية لتمويل الإرهاب. ونجحت في دفع عملية إعادة هيكلة مؤسسات السلطة الفلسطينية برعاية دولية، ممّا أضعف عرفات من خلال استحداث منصب رئيس الوزراء، وإعادة هيكلة وزارة المالية.
رد الفلسطينيين على الفساد
يعتقد الفلسطينيون الرازحون تحت الاحتلال الإسرائيلي أن الفساد ثاني أخطر مشكلةٍ يواجهونها، بعد الاحتلال نفسه. فقد خلَصَ استطلاعٌ للرأي أجرى في 2014إلى أن 25% من الفلسطينيين المشمولين في الاستطلاع يعتقدون أن الفسادَ مشكلةٌ خطيرة تأتي بعد الاحتلال والمستوطنات التي جاءت بتصويت 29% من المشمولين في الاستطلاع. وهذه النسبة غير مفاجئة لأن الفساد يُبدد الموارد الفلسطينية الشحيحة، ويولد مشاكلَ اجتماعيةً جمة تساهم في تعزيز عدم المساواة وتضرُّ النسيج الاجتماعي، ناهيك عن إفسادِ مسيرة الكفاح من أجل التحرر الوطني والسعي لإعمال الحقوق الفلسطينية.
بَرزَ التحدي المحلي الأول لفساد السلطة الفلسطينية في 1997 حين أصدر المجلس التشريعي الفلسطيني تقريرًا في أعقاب صدور تقرير التدقيق الأول المذكور آنفًا. وكشف التقريرُعن تفشي الفساد في مؤسسات السلطة الفلسطينية، وحملَ اتهامًا للوزارات كافة.
كان التقرير مهمًا لأنه فتح عيون الفلسطينيين على شبكات الفساد الممنهج داخل السلطة الفلسطينية. وردَّ الفلسطينيين بأنْ بدأوا يتحاشدون ويطالبون بالإصلاح والشفافية. وفي العام 1999، وقَّعت 20 شخصية بارزة بمن فيهم أكاديميون ومثقفون وأعضاء في المجلس التشريعي على بيان “الوطن ينادينا” الذي اتهم عرفات بفتح الباب أمام الانتهازيين لنشر الفساد في الشارع الفلسطيني. وقد اعتقلت قوات الأمن الفلسطينية العديد من الموقعين واتهمتهم بتهديد الوحدة الوطنية.
وبحلول العام 2004، تحوَّل الاستياء الشعبي المتنامي من فساد السلطة الفلسطينية إلى احتجاجات بالشوارع للتنديد بالتعيينات الحكومية لبعض الشخصيات الفاسدة. وبفضل الضغط الداخلي والخارجي المتزايد على السلطة الفلسطينية، أقرَّ عرفات بوجود الفساد ووعدَ بمحاكمة المتورطين فيه.
الغضبُ الشعبي من الفساد كان أيضًا من العوامل الرئيسية التي قادت حركة حماس لفوز ساحق في الانتخابات البرلمانية عام 2006. فكانت حماس بالنسبة للكثيرين البديلَ، فهي التي كسبت احترام الناس، ولا سيما الفقراء، نظرًا لكفاءتها في تقديم الخدمات. ولكن حماس أخذت بعد تشكيل حكومتها في 2006 تستحدث نسختها الخاصة من التنفيع، حيث عينت مؤيديها ورقَّتهم في مناصب حكومية مختلفة. وهذا ساهمَ في الصراع على السلطة والتنافس السياسي بين حركتي حماس وفتح. وحتى يومنا هذا، لا تزال المنافسة بين حماس وفتح على التعيينات تشكل عائقًا كبيرًا أمام عملية المصالحة بين الفصيلين. وفي الوقت نفسه، فإن سنوات حكم حماس في قطاع غزة دفعت الناس ليتهموها بالفساد كما اتهموا حركة فتح، ولا سيما بعد أن حققت حماس أرباحًا طائلة من اقتصاد الأنفاق بين عامي 2007 و 2014 وغابت عنها الشفافية في التصرف بالإيرادات.
أسَّست السلطة الفلسطينية في العام 2010 هيئةَ مكافحة الفساد الفلسطينية لجملة أسبابٍ منهاالاستجابة للاستياء الشعبي. والهيئة مكلفةٌ باستقبال شكاوى الجمهور، وضمان التعامل مع قضايا الفساد بسرعة وفاعلية. ورغم أن الهيئة توصفُ بأنها مستقلة، ماليًا وإداريًا، فإن رئيسها معينٌ بموجب مرسومٍ رئاسي، والعديدُ من أعضاء مجلسها الاستشاري سبقَ أن شغلوا مناصبَ رسميةً كوزراء وسفراء ومستشارين للرئيس. ورغم أن بعض قضايا الفساد أُحيلت إلى القضاء، فإن التحقيقات اتسمت بالانتقائية بحسب التقارير الصحفية والمقابلات التي أجراها الكاتب. وعلاوةً على ذلك، تشير الاستطلاعات إلى أن الرأي العام أخذَ يفقد الثقة في الهيئة بوتيرة متنامية، ويعتقد بأن الرئاسة والأجهزة الأمنية والأحزاب السياسية تتدخل في عملها بانتظام.
انحسرت الحملات الشعبية ضد الفساد انحسارًا كبيرًا في السنوات الأخيرة لعدة أسباب منها تنامي الاستبداد الذي تمارسه السلطة الفلسطينية والقمع المتزايد الذي تنتهجه أجهزتها الأمنية. ومن جملة ذلك حجبُ المواقع الإلكترونية التي تفضح خبايا فساد السلطة الفلسطينية المستشري.
اجتثاث الفساد
سوف يظل الفسادُ مستحكمًا في الجسم السياسي الفلسطيني ماتقاعسَ الفلسطينيون عن إعادة هيكلة مؤسساتهم الوطنية بأنفسهم وفقًا لمبادئ الديمقراطية، والإصرار على المساءلة، بالتزامن مع العمل من أجل تقرير المصير ونيل الحرية والعدالة. إن الغرضَ من التصدي لمسألة الفساد ليس فضحَ السلطة الفلسطينية لأجل فضحها، وإنما للتأكيد على الحاجة الملحة لإرساء مبدأ المساءلة في النظام السياسي الفلسطيني باعتباره جزءًا رئيسيًا في جهود استنهاضه.
الفسادُ في المؤسسات الفلسطينية، كما تقول هذه الورقة السياساتية، هيكلي ومتجذرٌ في النظام السياسي الفلسطيني مِن قَبل حقبة أوسلو. لذا فإن معالجته باتباع تدابير فنية وبيروقراطية ليس كافيًا. بل قد تترتب عليها نتائجُ عكسيةٌ لأنها قد تواري مسبباته الجذرية السياسية.
إن القضاء على الفساد بفاعلية يتطلب استجابةً هيكلية تطال النظام السياسي برمته، تنطوي على إيجاد نظامٍ رقابي تشريعي ومؤسسي فعال، وضوبطَ وموازين مؤسسيةٍ، وقضاءٍ مستقل وفاعل. وبموجبه، سوف تُسحب حصانةُ أي شخصٍّ يتورط تورطًا مباشرًا أو غير مباشر في سوء استخدام السلطة السياسية والموارد العامة ، بغض النظر عن منصبه. وسوف يضطلع ممثلو المجتمع المدني بدورٍ فعال في ممارسة الرقابة على المؤسساتوالموارد العامة. ولأن صناعة المعونة الدولية تُعتبر أرضًا خصبةً للفساد وتنقصها المساءلة، سيحتاج نظامُا لمعونة القائم إلى إصلاحٍ يضمن ألا يساهمَ في تعزيزالفساد.
بيد أنه من الصعب أن نشهدَ اتفاقًا على هذه الإجراءات وعلى تنفيذها في المستقبل القريب. ففلسطين دولةٌ بلا سيادة، وأهلها بالكاد يتدبرون العيش تحت الاحتلال الجاثم على صدورهم منذ ما يقرب من نصف قرن والحصار المستمر منذ قرابة عقدٍ من الزمان. ولا تزال الغالبية العظمى من الشعب الفلسطيني خارج فلسطين، يعيشون كمنفيين ولاجئين في ظروف صعبة للغاية، أو كمواطنين من الدرجة الثانية في إسرائيل. إن الفسادَ عاملٌ رئيسي في عجزالحركة الوطنية الفلسطينية عن تحقيق أهدافها، وهو الآن يخدم أهداف الاحتلال الإسرائيلي. وسيظل مستشريًا داخل السلطة الفلسطينية ما لم يشرع الفلسطينيون أنفسهم في إعادة هيكلة مؤسساتهم الوطنية وفقً المبادئ الديمقراطية والمساءلة، ضمن استراتيجيةٍ أوسع نطاقًا تسعى لتقرير المصير وإعمال الحقوق الوطنية الفلسطينية، بما فيها التحرر من الاحتلال.
- تتوفر كافة إصدارات الشبكة باللغتين العربية والانجليزية (اضغط/ي هنا لمطالعة النص بالإنجليزية). لقراءة هذا النص باللغة الفرنسية، اضغط/ي هنا. تسعد الشبكة لتوفر هذه الترجمات وتشكر مدافعي حقوق الإنسان على هذا الجهد الدؤوب، وتؤكد على عدم مسؤوليتها عن أي اختلافات في المعنى في النص المترجم عن النص الأصلي.
- يتقدم الكاتب بالشكر لمدير برامج الشبكة، علاء الترتير، على ما قدمه من أفكار نيرة، وملاحظات، ودعم أثناء كتابة هذه الورقة السياساتية. والشكر موصولٌ أيضًا لمكتب مؤسسة هاينريش بول في فلسطين والأردن على تعاونه وشراكته مع الشبكة في فلسطين. إن الآراء الواردة في هذا الموجز السياساتي هي آراء الكاتب ولا تعبر بالضرورة عن رأي مؤسسة هاينريش-بول.
- نظام التنفيع بالإنجليزية هو “Patron-Client System” و”patron-clientelism”، له مسميات أخرى مثل الزبائنية، ونظام الراعي-الزبون.
- رغم أن القطاع الخاص وقطاع المنظمات غير الحكومية ليسا معصومين من الفساد، فإنهما ليسا محور تركيز هذه الورقة السياساتية. ولا بد من الإشارة كذلك إلى أن هذه الورقة لا تتطرق إلى غزة وحماس، وهو موضوع جديرٌ بالدراسة المستقبلية.
تقوم علاقة التنفيع على عدم المساواة، إذ يحتكر أربابُ المنفعة مراكزَ السلطة والموارد لإبقاءالمتنفعين في فلك نفوذهم. انظر:
Eisenstadt, Shmuel N., &Roniger, Luis. (1984). Patrons, clients and friends. Interpersonal relations and the structures of trust in society. Cambridge, MA: Cambridge University Press.- Rex Brynen, The Neopatrimonial Dimension of Palestinian Politics. Journal of Palestine Studies, Vol. 25, No. 1 (1995), pp. 23-36.
- As’ad Ghanem, Palestinian Politics After Arafat: A Failed National Movement. (Indiana University Press, 2010).
- يختلف صندوق الصمود عن مؤسسة صامد الاقتصادية التي أسستها منظمة التحرير الفلسطينية في 1970.
- Salim Tamari, The Palestinian Movement in Transition: Historical Reversals and the Uprising. Journal of Palestine Studies, Vol. 20, No. 2 (1991), p.63. See also: Khalil Nakhleh, The Myth of Palestinian Development: Political Aid and Sustainable Deceit. (Jerusalem: Passia, 2004).
- Ghanem, op. cit.
- Mushtaq Husain Khan, George Giacaman and Inge Amundsen (eds.) State Formation in Palestine: Viability and Governance during a Social Transformation, ( Routledge Political Economy of the Middle East and North Africa, 2004).
- تستند هذه المعلومات إلى مقابلات أجراها الكاتب.
- For further info, see: Cheryl A. Rubenberg, The Palestinians: In Search of a Just Peace. (Boulder & London: Lynne Rienner Publishers, 2003), p. 256. See also: JamilHilal and Mushtaq Khan, “State Formation under the PNA: Potential Outcomes and their Viability” in Khan, Mushtaq and Amundsen, Inge and Giacaman, George, (eds.), State Formation in Palestine: Viability and Governance during a Social Transformation. (London: Routledge, 2004) pp. 64-119.