Economic Collapse in East Jerusalem: Strategies for Recovery  

نظرة عامة

في خطوة غير اعتيادية، وبعد سنوات من الإهمال، أخذت الوفود الأمريكية والأوروبية ووكالات التنمية مؤخرًا تزور القدس الشرقية، وتُبدي اهتمامًا متزايدًا في “فعل شيء” حيال الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية فيها. وأخذت السلطة الفلسطينية، بعد سُبات طويل، تُحدِّثُ الخطة الاستراتيجية للتنمية متعددة القطاعات بالقدس الشرقية للأعوام 2011-2013.12

هناك مخاوف من أن انتخاب دونالد ترامب قد يُخمد هذه المبادرات المرحَّب بها والتي جاءت بعد طول انتظار. ومن الإشكاليات أيضًا أن هذه الوفود تركز على التنمية الاقتصادية في حين أن التنمية الاقتصادية الحقيقية غير ممكنة دون إحراز تقدم على الصعيد السياسي.

تُركز الزميلة السياساتية في الشبكة، نور عرفة، في هذا الموجز السياساتي على الانهيار الاقتصادي الذي تدبِّره إسرائيل للقدس الشرقية كي تجعل المدينة غير صالحة لعيش الفلسطينيين وتضمن سيطرة اليهود على المدينة. وتهدف الكاتبة إلى تزويد المعنيين بمصير المدينة بالتحليلات اللازمة لفهم مآرب إسرائيل، وبوصفات سياساتية لإحياء المدينة ودفع عجلة التنمية الاقتصادية فيها. يركز هذا الموجز السياساتي على التدهور في أهم قطاعين استراتيجيين في القدس الشرقية، السياحة والأسواق التجارية بالمدينة القديمة، اللذين يجسدان هذا الانهيار الاقتصادي. ويتناول الموجز أيضًا المبادرات في القدس الشرقية لتعزيز الصمود، والتي تتحدى العقبات الكثيرة التي تفرضها سلطات الاحتلال الإسرائيلي، ويختتم الموجز بتوصيات حول سُبل تعزيز الصمود في المدينة واستعادة قدرتها على التنمية الاقتصادية المحدودة الممكنة في ظل الاحتلال.

قطاع السياحة محاصر

ظلت القدس الشرقية وجهةً سياحية رئيسية لعقود. فبعد انضواء الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، تحت الوصاية الأردنية في أعقاب 1948 كانت السياحة أقوى قطاع في اقتصاد القدس الشرقية. وبحلول 1966، بلغت مساهمة هذا القطاع 14% من الناتج المحلي الإجمالي في الضفة الغربية، واستحدث فرص عمل كثيرة، مما أفضى إلى زيادة الدخل وتحسن مستويات المعيشة. وأدى ذلك إلى زيادة الاستثمار الحكومي والخاص في البنية التحتية والمرافق المتصلة بالسياحة. وبحلول 1967، كانت الخدمات المتصلة بالسياحة متطورة جدًا مقارنةً بالخدمات الأخرى.أخذ قطاع السياحة في الركود بعد الاحتلال الإسرائيلي والضم غير القانوني للقدس الشرقية في 1967. ومن شواهد ذلك التغيرُ الجوهري الذي طرأ على توزيع الغرف الفندقية بين شِقّي المدينة الغربي والشرقي، حيث انخفضت نسبة الغرف الفندقية في القدس الشرقية من 60% إلى 40% بين عامي 1968 و1979. وفي حين ازداد دخل قطاع السياحة في القدس الشرقية بنسبة 20% بين عامي 1969 و1973، ازداد دخل القطاع الإسرائيلي بنسبة 80% في الفترة نفسها. وبحلول منتصف الثمانينات، كانت 80% من الحجوزات السياحية في القطاع الإسرائيلي.3

أعاقت الإجراءات العقابية الإسرائيلية إبان الانتفاضتين الأولى والثانية، مثل حظر التجول وفرض الضرائب، تطوير قطاع السياحة في القدس الشرقية. وأدى بناء إسرائيل الجدارَ في 2002 وتكثيفها القيود المفروضة في أعقابه على تطوير القدس الشرقية إلى تدمير القطاع السياحي فيها بشكل خاص لأن تلك الإجراءات عزلت المدينة عن باقي الأرض الفلسطينية المحتلة. وشملت تلك القيود فرض إجراءات مرهقة لترخيص بناء الفنادق أو تحويل المباني القائمة إلى فنادق، وفرض ضرائب بلدية عالية، وضعف البنية التحتية المادية والاقتصادية، وندرة الأراضي. وفي حين أن تطوير صناعة السياحة الإسرائيلية تتمتع بدعم حكومي كبير، يُدار قطاع السياحة الفلسطيني إلى حد كبير باستثمارات خاصة غير كافية وتفتقر إلى الدعم الجاد من السلطة الفلسطينية.

inline_186_https://al-shabaka.org/wp-content/uploads/2016/11/Screen-Shot-2016-11-30-at-10.40.54-AM.png

وهكذا أخذت الفنادق العاملة في القدس الشرقية تتناقص، فانخفض عددها بين عامي 2009 و2016 بنسبة 41%، من 34 فندقًا في 2009 إلى 20 فندقًا في الربع الثاني من العام 2016.4 وفي الآونة الأخيرة، حُوِّلت بعض الفنادق إلى مكاتب، مثل فندق جبل المكبر، بينما اشترى مستشفى المقاصد فندق الكازار في وادي الجوز. وفي حين أن 34% من الفنادق في الأرض الفلسطينية المحتلة كانت تقع في القدس الشرقية في 2009، فإن النسبة انخفضت بحلول 2016 إلى ما دون 18%. وتراجعت كذلك نسبة زوار الأرض الفلسطينية المحتلة النازلين في فنادق القدس الشرقية من 48% في 2009 إلى 23% في النصف الأول من عام 2016.

أدت الإجراءات المعوِّقة لتطوير صناعة السياحة الفلسطينية، والأفكار السلبية (التي تروجها إسرائيل في المقام الأول) حيال السفر إلى المناطق الفلسطينية، إلى أن يختار عددٌ متزايدٌ من السياح الإقامةَ في فنادق القدس الغربية. ووفقًا لمعهد القدس للدراسات الإسرائيلية، فإن 88% من السياح اختاروا الإقامة في فنادق القدس الغربية في 2013، في حين نزلَ 12% من السياح فقط في فنادق القدس الشرقية. وفي العام نفسه، استأثرت فنادق القدس الغربية بنسبة 90% من عائدات الفنادق.5

تشمل العوامل الأخرى التي تُضعِف قطاع السياحة في القدس الشرقية موسمية حج المسيحيين والمسلمين، الذين يُعتبرون المحرك الرئيس لقطاع الأعمال التجارية في المدينة؛ واشتداد المنافسة بين الشركات السياحية بسبب تركزها الجغرافي؛ وعدم الاستقرار السياسي؛ وضعف الميزة التنافسية؛ والافتقار إلى منتج سياحي فلسطيني فريد ومميز؛ وغياب رؤية فلسطينية واضحة واستراتيجية ترويجية لقطاع السياحة الفلسطيني.

تضييق الخناق على اقتصاد المدينة القديمة

كانت البلدة القديمة في القدس تشكِّل جزءًا قويًا في اقتصاد القدس الشرقية، باستقطابها الزبائنَ العرب والفلسطينيين والسياح. ويدل ركودها الحالي بوضوح على التهميش الاقتصادي الذي يوهن الاقتصاد ويزيد صعوبة الحياة في القدس الشرقية على الفلسطينيين.6

يرتبط الركود في الأسواق التجارية في البلدة القديمة ارتباطًا وثيقًا بتدهور قطاع السياحة في القدس الشرقية. فقد اعتمدت الأنشطة التجارية في البلدة القديمة في عقدي السبعينات والثمانينات من القرن الماضي على السياحة اعتمادًا متزايدًا مقرونًا بالارتفاع الكبير في عدد الزوار. وصاحبَ هذا التحولَ تغيرٌ في طبيعة الأسواق، فبعدما كانت المدينة القديمة معروفة بصناعاتها وأسواقها التقليدية مثل سوق العطارين وسوق اللحامين وسوق القطانين، أخذت تفقد أسواقها المتخصصة هذه مع تحول أصحاب المحال والتجار إلى بيع الهدايا التذكارية لأنها كانت مشروعًا أنجح وأجدى آنذاك. وهكذا ساعد تهميش القدس الشرقية اقتصاديًا وانتكاس الشركات السياحية في تراجع الأنشطة التجارية في البلدة القديمة.

تفاقم هذا الوضع سوءًا بسبب الضرائب الثقيلة التي تفرضها السلطات الإسرائيلية لخنق النشاط التجاري الفلسطيني. فالتجار الفلسطينيون ملزمون بدفع ست ضرائب: الأرنونا أو ضريبة المسقفات، وضريبة القيمة المضافة، وضريبة الدخل، ورسوم التأمين الوطني، وضريبة الرواتب، وضريبة الترخيص. وبينما يعجز معظم التجار الفلسطينيين عن دفع هذه الضرائب بسبب تراجع أعمالهم التجارية ويضطر كثيرون منهم إلى الاستدانة، تعكف السلطات الإسرائيلية على تقديم الحوافز السخية لهم ليبيعوا محلاتهم إذا لم يستطيعوا دفع الضرائب، وهكذا تستخدم الضرائب كأداة لمصادرة الممتلكات الفلسطينية وبسط السيطرة اليهودية على البلدة القديمة واستعمارها.

وفي محاولة للحفاظ على أسعار منخفضة للسلع الأساسية، زاد التجار الفلسطينيون اعتمادهم على استيراد السلع الأجنبية والإسرائيلية. وهكذا صارت الأسواق التجارية في البلدة القديمة، التي كانت مشهورة ذات يوم بجودة بضائعها، تبيع منتجات متدنية الجودة.

“ساعد تهميش القدس الشرقية اقتصاديًا وانتكاس الشركات السياحية في تراجع الأنشطة التجارية في البلدة القديمة”

اقترن فقدان الميزة التنافسية بظهور مراكز تجارية جديدة مثل صلاح الدين وشعفاط وبيت حنينا والرام ورام الله، والتي من الأسهل الوصول إليها، مما جعلها أكثر جاذبية للفلسطينيين، ولا سيما بعد بناء الجدار وفرض نظام تصاريح السفر الإسرائيلي الصارم. فالقاطنون في أبو ديس، مثلًا، إما يتسوقون في أبو ديس أو يذهبون جنوبًا إلى بيت لحم والخليل، بدلا من الذهاب إلى القدس الشرقية والذي يعني قضاء ساعات لعبورالحواجز ونقاط التفتيش الإسرائيلية. وبحسب تقرير أصدرته جمعية حقوق المواطن في إسرائيل في 2012، فإن “4% فقط من القاطنين وراء الجدار واظبوا على التسوق في القدس، مقارنةً بنسبة 18% قبل تشييده.”لقد أدى اجتماع كل هذه العوامل وهي ظهور مراكز تجارية جديدة، وعبء الضرائب المرهق، وتراجع قطاع السياحة، وضعف القوة الشرائية للفلسطينيين في القدس الشرقية إلى خنق اقتصاد البلدة القديمة. فبلغ معدل البطالة في البلدة القديمة 12% في العام 2012، وكان أشد المتضررين العاملون في مجالات السياحة والتجارة والصناعة. وبحسب الغرفة التجارية الصناعية العربية-القدس، فإن عدد المحلات التجارية المغلقة في البلدة القديمة تجاوز اليوم 200 محل تجاري، فضلًا على أن المحلات التجارية التي لا تزال تفتح أبوابها لا تستطيع العملَ لساعات أطول في الليل لعجزها عن تغطية التكاليف التشغيلية. وهذا قاد إلى ظاهرة “القدس تنام باكرًا” حيث بات المقدسيون يقضون أمسياتهم وعطلات نهاية الأسبوع في رام الله وبيت لحم بدلًا من المدينة نفسها.تفاقم الوضع كذلك بسبب الانتفاضة الأخيرة، ولا سيما في ضوء تشديد الإجراءات الأمنية الإسرائيلية، حيث نصبت إسرائيل في مطلع تشرين الأول/أكتوبر 2015 حواجز إسمنتية ونقاط تفتيش في أحياء عدة في القدس بالإضافة إلى حواجز داخل البلدة القديمة وخارجها. ووفقا لتقرير نشرته مؤسسة الحق، أقامت السلطات الإسرائيلية في ذلك الشهر ما يزيد على 30 نقاط تفتيش ونقطة مراقبة في البلدة القديمة، بما فيها أربعة أجهزة كشف إلكترونية، تُقيِّد حركة الفلسطينيين والسياح بشدة. ويخضع التجار الفلسطينيون أيضًا لعقوبات تعسفية كالاعتقال بحجة عدم مساعدة إسرائيليين تعرضوا لهجوم على يد فلسطينيين.تسبَّب جَو الخوف الذي خلقته هذه الإجراءات في أوساط الفلسطينيين والسياح في انحسار قاعدة المتسوقين في البلدة القديمة، وتقويض النشاط التجاري، وإغلاق العديد من المحلات التجارية. ووفقًا لتقرير مؤسسة الحق ذاته، شهدت الفترة ما بين 1 و23 تشرين الأول/أكتوبر 2015 إغلاق 54 محلا في سوق القطانين، بينما اقتصرت محلات أخرى على فتح أبوابها لبضع ساعات فقط يوميًا لقلة الزبائن، وأخذ تجارٌ فلسطينيون عديدون يبحثون عن عمل في سوق العمل الإسرائيلي.inline_333_https://al-shabaka.org/wp-content/uploads/2016/11/Screen-Shot-2016-11-30-at-10.44.03-AM.png

يواجه التجار الفلسطينيون أيضًا منافسةً شرسة من التجار الإسرائيليين اليهود، ولا سيما أنهم باتوا يتلقون دعمًا ماليًا من الحكومة الإسرائيلية منذ الانتفاضة الأخيرة. فوفقًا لتجار فلسطينيين قابلتهم الكاتبة، يتلقى كل تاجر يهودي في البلدة القديمة 70000 شيكل (ما يفوق 18000 دولار أمريكي) من بلدية القدس، وخصمًا مقداره 50% على ضريبة الأرنونا، بالإضافة إلى الدعم المالي الذي يحصل عليه من المنظمات الإسرائيلية الداعمة للمستوطنات غير القانونية في الأرض الفلسطينية المحتلة.7وفي الوقت نفسه، عزمت اللجنة العليا لشؤون القدس على تخصيص 3000 دولار لكل تاجر فلسطيني في البلدة القديمة  وهو مبلغ يعتبره التجار قليلًا جدًا لا يكفي لسداد بعض ديونهم.8

تتعمد إسرائيلُ تصعيب الحياة على الفلسطينيين حين تخلق حالةً من الركود الاقتصادي في المدينة القديمة، وتطبق سياسات أخرى مثل سياسة هدم المنازل، وسياسة سحب الإقامات، وسياسة التمييز في توفير الخدمات حيث يدفع السكان الفلسطينيون الضرائب نفسها كنظرائهم اليهود ولكن مقابل خدمات أقل. وبموازاة ذلك، تواصل إسرائيل جهودها لتسريع استعمار القدس الشرقية، بما فيها البلدة القديمة، من خلال توسيع المستوطنات.

يحظى التوسع الاستيطاني في قلب الأحياء الفلسطينية بدعم المنظمات اليمينية، مثل عطيرت كوهانيم، بهدف إيجاد أغلبية يهودية في المدينة القديمة، والقدس الشرقية عمومًا. تتلقى هذه المنظمات مساعدات كبيرة من الدولة التي توفر شركات أمنية خاصة لحماية المستوطنين، ولا سيما أثناء مصادرة الممتلكات الفلسطينية. تموِّل الدولة أيضًا مشاريع التنمية في الجيوب الاستيطانية، وتسهِّل نقل الممتلكات الفلسطينية إلى المنظمات اليمينية عبر هيئات مثل الصندوق القومي اليهودي وحارس أملاك الغائبين.

وعلى الرغم من التوسع الاستيطاني المكثف، لا يمثل اليهود سوى 10% تقريبًا من سكان البلدة القديمة. ومع ذلك فإن المؤسسات الدينية والتعليمية اليهودية آخذة في التوسع في المنطقة.9 وتتركز الجهود خاصة على تطويق المسجد الأقصى داخل المدينة القديمة وخارجها بمواقع يهودية سعيًا لتهويد المشهد السياحي. النجاح الأكبر الذي حققه المستوطنون حتى الآن هو بناء حديقة “مدينة داوود” التوراتية التي تحيط بأسوار البلدة القديمة، وتضم معظم حي وادي حلوة في سلوان جنوبًا. تُدير منظمةُ إلعاد الاستيطانية هذه الحديقة التي تعد أحد المواقع السياحية الأكثر استقطابًا للزوار في القدس. كما وتستخدم السلطات الإسرائيلية والمستوطنون الحديقة لإبراز الصورة التي يرجونها للقدس كمدينة يهودية – وتنطوي هذه الصورة على محو الوجود الفلسطيني المادي ومحو التاريخ الفلسطيني.

وبطبيعة الحال، يتسبب الانهيار الاقتصادي في القدس الشرقية، المبيَّن في هذا الموجز من منظور السياحة والأسواق التجارية في المدينة القديمة، في تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للفلسطينيين. فيفيد معهد القدس للدراسات الإسرائيلية بأن 81.8% من سكان القدس الشرقية، و86.6% من الأطفال الفلسطينيين كانوا يعيشون تحت خط الفقر في عام 2014، مقارنةً بنسبة 28.4% من السكان اليهود و41.6% من الأطفال اليهود.

قوة الصمود في القدس الشرقية

لا تزال القدس الشرقية، بالرغم من العقبات الاقتصادية التي تواجهها، تتصدر استراتيجيات المجتمع المدني الفلسطيني للصمود التي تحرص على أن يظل الفلسطينيون متجذرين في أراضيهم رغم التهديد بمصادرتها؛ وعلى تهيئة الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي تُعين الفلسطينيين على تحمل السياسات الإسرائيلية، والحفاظ على الهوية السياسية والتراث الثقافي للمدينة، وتعزيز التنمية المجتمعية.10

ثمة مبادرات عدة تهدف إلى المحافظة على الوجود الفلسطيني في البلدة القديمة في مواجهة التوسع الاستيطاني. ومن أمثلتها مركز برج اللقلق المجتمعي الذي تأسس في 1991 في حارة باب حطة على أرض كانت مهددة بالمصادرة لغرض بناء مستوطنة. وهناك مؤسسات أخرى تعمل علانيةً للحفاظ على التراث الثقافي والمشهد السياحي الفلسطيني في البلدة القديمة الذي تسعى سياسات التهويد الإسرائيلية إلى طمسه. فمثلاً يركز برنامج الترميم في البلدة القديمة لمؤسسة التعاون على إعادة تأهيل الوحدات السكنية، وتوفير الخدمات الثقافية والاجتماعية والتجارية والصحية لتحسين حياة الفلسطينيين وترميم المباني التاريخية المهملة لاستخدامها في أغراض مجتمعية. ومن إنجازات مؤسسة التعاون أنها حوَّلت أحد المباني البيزنطية في القدس إلى مركز القدس للعمل المجتمعي، وحوَّلت أحد الخانات العامة إلى مركز دراسات جامعة القدس. فتساعد هذه الجهود في ضمان وجود مؤسسي فلسطيني في البلدة القديمة وفي جذب السياح الأجانب.

” لا تزال القدس الشرقية، بالرغم من العقبات الاقتصادية التي تواجهها، تتصدر استراتيجيات المجتمع المدني الفلسطيني للصمود”

لطالما ظلت المبادراتُ المنطلقةُ من القاعدة والراميةُ إلى ضمان استمرارية قطاع السياحة العرفَ السائد في القدس الشرقية نظرًا لغياب المساعدات الحكومية والدولية. وفي الآونة الأخيرة، كثَّف خبراء السياحة الفلسطينيون في القدس الشرقية، مثل التجمع السياحي المقدسي، جهودهم المبذولة لتطوير نموذج سياحي جديد يتحدى العقبات التي تفرضها إسرائيل على تنمية هذا القطاع.11وفي صميم هذه المبادرة يكمن تنويعُ المنتج السياحي. فالفكرة تتمحور حول بناء هوية فلسطينية فريدة للمنتج بموازاة تطوير أشكال جديدة من السياحة غير المتقصرة على الحج، كالجولات السياسية والثقافية والبيئية والترفيهية. وبوسع التحول على هذا النحو أن يتغلب أيضًا على موسمية النشاط السياحي في فلسطين.

تنظم وكالات عديدة أيضًا جولات سياسية في القدس الشرقية، ومنها وكالة “الجولات البديلة” (Alternative Tours) التي تصطحب الزوار إلى مستوطنة بسغات زئيف في القدس الشرقية ليُطلّوا على الجدار ومخيم شعفاط للاجئين حتى يزداد وعيهم بسياسات الاستيطان الإسرائيلية غير القانونية.

وحرصًا على استدامة هذه الجولات، تسعى هذه المبادرات إلى إشراك المجتمع الفلسطيني وليس فقط الفلسطينيون العاملون في تنظيم الرحلات السياحية أو في القطاع السياحي عمومًا. وتركز الخطط المستقبلية على تطوير جولات مجتمعية وتعاونيات سياحية تعزز التفاعلات بين السياح والسكان المحليين. تشجع هذه المبادرات كذلك على الشراكة بين القطاعات المرتبطة بالسياحة ارتباطًا مباشرًا وغير مباشر، مثل القطاعات التجارية والثقافية والدينية والتعليمية وقطاع تكنولوجيا المعلومات.

مؤسسة دالية وهي مؤسسة مجتمعية مانحة، تشجع المنح والتنمية التي يتحكم بها المجتمع المحلي لتعزيز مساءلة المبادرات المحلية والحد من الاعتماد على مساعدات المانحين. وينصب تركيزها على حشد الموارد وربطها بالمجتمعات الفلسطينية المحلية والدولية، استنادًا إلى مبدأ أن كل مجتمع فلسطيني ينبغي أن يحدد أولوياته وأن يختار كيف تكون الاستفادة من الموارد. وعلى سبيل المثال، أطلقت المؤسسة في شهر رمضان في صيف 2016 برنامج “صندوق القدس” الذي ركَّز على دعم العائلات الفلسطينية التي هُدمت منازلها، وعلى تمكين شباب القدس من خلال برنامج “تمكين الشباب وتقديم المنح للشباب.” وقد وردت التبرعات عبر الصندوق، وقررت لجنة مؤلفة من أهالي المجتمع المحلي بشأن كيفية تخصيصها من أجل تلبية الأولويات المحلية.

كما وشَرعَ القطاعُ الخاص الفلسطيني والمصارف الفلسطينية مؤخرًا في الاستثمار في القدس الشرقية. فقد أعلن صندوق الاستثمار الفلسطيني في أيلول/سبتمبر أنه سوف يستثمر في تطوير بنية تحتية لقطاع السياحة في القدس الشرقية من خلال ترميم الفنادق القائمة وبناء أخرى جديدة. وفي حين أن المصارف في الأرض الفلسطينية المحتلة لم تقدم أي قروض سكنية للفلسطينيين في القدس الشرقية منذ العام 1967، قررت ثلاثة مصارف مؤخرًا تقديم هذا النوع من القروض من أموال تلقتها من البنك الإسلامي للتنمية.

تعزيز الصمود في القدس الشرقية

بالرغم من أن التنمية الاقتصادية والاجتماعية الحقيقية غير ممكنة دون تحقيق تقدم على الصعيد السياسي، فإن تعزيز الصمود في القدس الشرقية يثبِّت الوجود الفلسطيني ويرتقي بجودة حياة الفلسطينيين. وفيما يلي بعض المقترحات والتوصيات حول كيفية تعزيز الصمود في المدينة:

  • وضع رؤية للقدس: تتسم المبادرات العاملة في القدس الشرقية في الغالب بأنها مجزأة ومفتقرة إلى رؤية واستراتيجية وطنية واضحة، لذا من المهم أن يضعَ الفلسطينيون خطةً للقدس بالإجابة على السؤال التالي: “كيف نريد مدينتنا القدس أن تكون بعد عشر سنوات من الآن، وماذا علينا أن نفعل لتنفيذ هذه الرؤية؟” يمكن ضمان المشاركة الشعبية والمجتمعية في تطوير هذه الرؤية من خلال إقامة شراكات أو شبكات مجتمعية تربط مؤسسات القدس الشرقية ببعضها. وهذا من شأنه أن يعزِّزَ النسيج المؤسسي والتعاون. وينبغي أيضًا اتخاذ التدابير لضمان مساءلة الفاعلين كافة عن تنفيذ الاستراتيجيات.
  • القدس في حزمة متكاملة: يمكن تطوير قطاع السياحة من خلال تشجيع السياحة الداخلية وتسويق القدس الشرقية ضمن حزمة فلسطينية تشمل مثلًا التوقف في الخليل وبيت لحم وأريحا والقدس ونابلس والناصرة.12ويتطلب هذا بناء شبكات وإبرام شراكات بين المنظمات السياحية الفلسطينية في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، ومناطق 48. ويمكن أيضًا أن تشارك المدارس في تطوير السياحة الداخلية بتنظيم زيارات إلى البلدة القديمة وغيرها من المواقع السياحية الرئيسية. ومن شأن هذه الأنشطة أن تساعد في تطوير العلاقات الاقتصادية بين اقتصاد القدس الشرقية وسائر الأرض الفلسطينية المحتلة.

ويمكن تسويق القدس الشرقية كذلك ضمن حزمة إقليمية تشمل مثلًا زيارة عمان وجرش والبتراء والعقبة وأريحا والقدس. وهكذا من المرجح أن يمكثَ السياحُ المسافرون لأسباب غير دينية فترةً أطول في القدس الشرقية، مما يزيد حصة المدينة من سوق السياحة ويجعلها وجهةً ثقافية كما هي دينية.ويمكن أيضًا تنظيم حملات سياحة إسلامية. فبوسع السلطة الفلسطينية أن تعمل مع الدول الإسلامية الآسيوية والإفريقية لتنظيم رحلات الحج إلى القدس بالتعاون مع الأردن ومنظمي الرحلات السياحية الفلسطينيين في إسرائيل.

“من المهم أن يضعَ الفلسطينيون خطةً للقدس بالإجابة على السؤال التالي: ‘كيف نريد مدينتنا القدس أن تكون بعد عشر سنوات من الآن، وماذا علينا أن نفعل لتنفيذ هذه الرؤية؟'”

يقتضي تحقيقُ ما سبق وضعَ استراتيجية ترويجية واضحة للقدس الشرقية، والتنسيق بين منظمي الرحلات السياحية في الأرض الفلسطينية المحتلة ومناطق 48، وتحسين البنية التحتية للسياحة في القدس الشرقية بزيادة عدد الغرف في الفنادق الفلسطينية. ومن المهم أيضًا تحسين التسويق باستخدام وسائل التواصل الرقمي والاجتماعي، والمشاركة في المعارض والمؤتمرات السياحية. وعلاوة على ذلك، ينبغي تطوير الخبرات الإدارية والفنية للعاملين في صناعة السياحة لضمان جودة الخدمة التنافسية. وبوسع المجتمع الدولي أن يضطلع بدورٍ مهم في تمويل هذه الجهود.

  • تعزيز الإنتاجية: لا بد من إعادة بناء القدرة الإنتاجية لاقتصاد القدس الشرقية لتعزيز ميزته التنافسية. ويتسنى ذلك من خلال استغلال أصوله الاستراتيجية  المتمثلة في البلدة القديمة  وتشجيع إنتاج سلع ذات جودة عالية. ومن شأن الاستثمار في الصناعات الصغيرة، ولا سيما الحرف اليدوية التقليدية، أن يساهم كثيرًا في بلوغ هذا الهدف.
  • كما وينبغي تطوير صندوق لتنمية القدس الشرقية يمكن استخدامه في أغراض مختلفة مثل مساعدة التجار في البلدة القديمة في دفع الضرائب الفاحشة، وتمويل برامج الرعاية الاجتماعية، وتمويل المدارس لتعويضها عن انقطاع التمويل الإسرائيلي إنْ لم تُدرّس المناهج الإسرائيلية، وتشجيع الاستثمار العام والخاص في المرافق السياحية ومشاريع الإسكان للأسر الفقيرة، وتطوير البنية التحتية الاقتصادية، وشراء العقارات للمؤسسات الفلسطينية من أجل التغلب على الصعوبات المالية المرتبطة بدفع الإيجارات. وبوسع القطاع الخاص الفلسطيني والمصارف الفلسطينية والشتات الفلسطيني وآخرين أن يساعدوا في تأسيس هذا الصندوق وتمويله.

لا تقلُّ التدابير السياسية أهميةً عن التدابير الاقتصادية المذكورة أعلاه، حيث يمكن للوفود الدولية أن تضطلع بدور بارز في الضغط على إسرائيل لإعادة فتح المؤسسات الفلسطينية مثل الغرفة التجارية الصناعية وبيت الشرق، وفي الاستثمار في تطوير السياحة الفلسطينية. وعلاوة على ذلك، يتحمل المجتمع الدولي مسؤولية محاسبة إسرائيل على احتلالها القدس الشرقية وضمها بوجه غير قانوني، ومسؤولية المساعدة في إرساء نموذج جديد قائم على احترام القانون الدولي وحقوق الإنسان.

  1. تشكر الكاتبة مكتب فلسطين/الاردن التابع لمؤسسة هاينريش-بول على شراكته وتعاونه مع الشبكة في فلسطين. الاراء الواردة في هذا الموجز السياساتي هي آراء الكاتبة ولا تعبر بالضرورة عن رأي مؤسسة هاينريش-بول.

  2. تتوفر كافة إصدارات الشبكة باللغتين العربية والانجليزية (اضغط/ي هنا لمطالعة النص بالإنجليزية). لقراءة هذا النص باللغة الفرنسية، اضغط/ي هنا. تسعد الشبكة لتوفر هذه الترجمات وتشكر مدافعي حقوق الإنسان على هذا الجهد الدؤوب، وتؤكد على عدم مسؤوليتها عن أي اختلافات في المعنى في النص المترجم عن النص الأصلي.
  3. هذه الإحصاءات مستمدة من كتاب مايكل دَمبر “The Politics of East Jerusalem since 1967 ” (New York: Columbia University Press, 1997)

  4. لمحافظة القدس، كما حددتها السلطة الفلسطينية، حدودٌ جغرافية ومناطقية تختلف عن حدود المنطقة البلدية الإسرائيلية في القدس. فبالنسبة إلى السلطة الفلسطينية، تندرج القدس الشرقية ضمن محافظة القدس التي تشمل منطقتي J1 (ذلك الجزء من القدس الذي ضمته إسرائيل في 1967) و J2 (ما بقي من القدس تحت الإدارة الفلسطينية).
  5. تعاني صناعة السياحة في القدس الشرقية من قلة البيانات الرسمية الموثوقة، باستثناء تلك المتعلقة بقطاع الفنادق، ولذ يستشهد هذا الموجز بتلك الإحصاءات لتقييم القطاع.
  6. يستند هذا القسم إلى دراسة باللغة العربية نشرتها الكاتبة ومعهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني (ماس) بعنوان “الوضع الحالي للأسواق التجارية للبلدة القديمة في القدس،” 27 تموز/يوليو 2016. ويمكن الاطلاع على الدراسة باللغة العربية من خلال هذا الرابط.

  7. مأخوذ من الورقة التي نشرها معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني (ماس)، مرجع سابق.

  8. أُنشئت اللجنة العليا لشؤون القدس في 2005 برئاسة أحمد قريع، رئيس وزراء السلطة الفلسطينية آنذاك. وهي تعمل مع السلطة الفلسطينية واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها المرجع الرئيسي للقضايا المتعلقة بالقدس كافة.
  9. احتُسبت نسبة اليهود القاطنين في البلدة القديمة باستخدام إحصاءات مذكورة في مفكرة 2015 التي تنشرها سنويًا الجمعية الفلسطينية الأكاديمية للشؤون الدولية. بلغ عدد اليهود القاطنين في البلدة القديمة 3,350 في العام 2015، مقارنةً بما مجموعه 35,350 مسلمًا ومسيحيًا وأرمينيًا.
  10. مؤَلف قيد النشر من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.

  11. مقابلة مع الكاتبة، 20 أيار/مايو 2016، القدس الشرقية.

  12. تطرقت المناقشات في العديد من حلقات العمل التي عقدتها الجمعية الفلسطينية الأكاديمية للشؤون الدولية في 2016 إلى هذه الاستراتيجية، واقترح هذه الفكرة أيضًا أحدُ المشاركين في المؤتمر الاقتصادي الذي عقده مؤخرًا معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني (ماس).
نور عرفة زميلة في مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط، في واشنطن العاصمة، تركز في عملها على الاقتصاد السياسي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وعلى...

أحدث المنشورات

 السياسة
بعد عام من المعاناة تحت وطأة العنف والدمار المستمرين ، يقف الفلسطينيون عند لحظة مفصلية. تتناول يارا هواري، في هذا التعقيب، الخسائر الهائلة التي تكبدها الشعب الفلسطيني منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023 والفرص المنبثقة عنها للعمل نحو مستقبل خالٍ من القمع الاستعماري الاستيطاني. وترى أنّ الوقت قد حان الآن لكي تتحول الحركة من رد الفعل إلى تحديد أولوياتها الخاصة. وكجزء من هذا التحول، تحدد يارا ثلاث خطوات ضرورية: تجاوز التعويل على القانون الدولي، وتعميق الروابط مع الجنوب العالمي، وتخصيص الموارد لاستكشاف الرؤى الثورية لمستقبل متحرر.
Al-Shabaka Yara Hawari
يارا هواري· 22 أكتوبر 2024
منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، قتلت القوات الإسرائيلية ما يزيد عن 40,000 فلسطيني في غزة، وجرحت 100,000 آخرين، وشرَّدت كامل سكان المنطقة المحتلة تقريبًا. وفي ذات الوقت شرَعَ النظام الإسرائيلي في أكبر اجتياح للضفة الغربية منذ الانتفاضة الثانية مما أدى إلى استشهاد ما يزيد عن 600 فلسطيني واعتقال 10,900 آخرين. كما وسعت إسرائيل نطاق هجومها الإبادي الجماعي في لبنان، مما أسفر عن مقتل ما يزيد على ألف شخص ونزوح أكثر من مليون آخرين. يسلط هذا المحور السياساتي الضوء على مساعي الشبكة في الاستجابة لهذه التطورات على مدار العام الماضي، من وضع أحداث السابع من أكتوبر في سياق أوسع للاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، إلى استجواب آلة الحرب الإسرائيلية متعددة الأوجه، إلى تقييم العلاقات الإقليمية المتغيرة بسرعة. هذه المجموعة من الأعمال تعكس جهد الشبكة المستمر في تقديم رؤية فورية للوضع الفلسطيني.
لا تنفك شركات الأسلحة البريطانية تتربّح من بيع الأسلحة لإسرائيل من خلال التراخيص الصادرة من الحكومة البريطانية، حيث بلغ إجمالي هذه الصادرات منذ العام 2008 ما يقدر بنحو 740 مليون دولار، وهي ما تزال مستمرة حتى في ظل الإبادة الجماعية الجارية في غزة. يشعر البعض بتفاؤل حذر إزاء احتمال فرض حظر على الأسلحة بعد فوز حزب العمال في انتخابات يوليو/تموز 2024، وبعدَ أن وعدَ بالانسجام مع القانون الدولي. في سبتمبر/أيلول 2024، علقت الحكومة البريطانية 30 ترخيصاً من أصل 350 ترخيصاً لتصدير الأسلحة إلى إسرائيل. ويرى الناشطون وجماعات حقوق الإنسان أن مثل هذا القرار محدود للغاية. وبناء على ذلك، تُفصِّل هذه المذكرة السياساتية الالتزامات القانونية الدولية الواقعة على عاتق بريطانيا وكذلك المناورات الحكومية الممكنة فيما يتصل بمبيعات الأسلحة لإسرائيل.
شهد الحموري· 15 سبتمبر 2024
Skip to content