لمحة عامة
تتزامن جهود وزير الخارجية الأمريكي جون كيري التي حظيت بتغطية إعلامية مكثفة والرامية إلى تحفيز المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين مع الذكرى العشرين لتوقيع اتفاقات أوسلو. والمتعارف عليه أن منظمة التحرير الفلسطينية – بعد أن ضعُفت وكانت على وشك الإفلاس عقب انتهاء الحرب الباردة واندلاع حرب الخليج الأولى – وقَّعت اتفاقات أوسلو للحيلولة دون بروز قيادة بديلة من الأراضي الفلسطينية المحتلة وللإبقاء على حضورها.
يستند مستشار الشبكة لشؤون السياسات، أسامة خليل، إلى وثائق دبلوماسية أمريكية مرفوعة السرية ليُحاجِج بأن جذور أوسلو تعود إلى ما بعد حرب أكتوبر 1973. ويبيّن أن استعداد منظمة التحرير الفلسطينية لتقديم تنازلات كبيرة يعود إلى ما قبل الدخول في المفاوضات أو الاعتراف بها من الولايات المتحدة. ويبيِّن أيضًا أن المنظمة لم تُقدِّم تلك التنازلات عندما كانت في أسوأ حالاتها، بل بعد إحراز أبرز إنجازاتها الدبلوماسية والحصول على اعتراف من الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية باعتبارها “الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.”
يبيِّن خليل أيضًا أن قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، ولا سيما الشخصيات الفتحاوية الرئيسية، سعت لإقامة علاقةٍ بواشطن على حساب الفصائل الفلسطينية الأخرى. وقد كانت تلك المحاورات غير العلنية تتناقض بشدة والخطاب الثوري الذي تبنته منظمة التحرير الفلسطينية لإرضاء مؤيديها، وهذا يعكس نمطًا متسقًا استمر لِما يزيد على أربعة عقود. وبالإضافة إلى ذلك، وفي حين أن القادة الإسرئيليين قد زعموا مرارًا وتكرارًا بأنه “ليس هناك شريك للسلام” إبان تلك الفترة وبعدها، يُظهِر السجل الأرشيفي بأن قيادة المنظمة كانت تتوق للمفاوضات ويؤكد بأن التعنت الأمريكي والإسرائيلي قد أخَّرَ التوصل إلى حلٍ للصراع.1
ثورة حتى النصر؟
أتاحت حرب أكتوبر 1973 فرصةً لواشنطن لحل الصراع العربي الإسرائيلي أو لكبحه على الأقل. ومنذ أن تولى الرئيس ريتشارد نيكسون ومستشار الأمن القومي هنري كيسنجر منصبيهما في كانون الثاني/يناير سنة 1969، انصب تركيزهما على حرب فيتنام. وفي الوقت نفسه، أطلق وزير الخارجية وليام روجرز مسعى لحل الصراع العربي الإسرائيلي على أساس قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 242، الذي دعا إلى انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها في حرب حزيران 1967 مقابل السلام مع جيرانها العرب. وقد سعى نيكسون وكيسنجر بِجد لتقويض جهود روجرز، واختارا الانصياع لقوة إسرائيل العسكرية وتجاهلا المقترحات التي تقدم بها الرئيس المصري أنور السادات.
وفي خضم فضيحة ووترغيت، اندلعت حرب أكتوبر 1973 وكادت أن تسفر عن مواجهة بين القوى العظمى. وتسبب الدعم الأمريكي الصريح لإسرائيل في حظرٍ نفطي فرضته الدول العربية الأعضاء في منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) على الولايات المتحدة الاميركية لمدة ستة أشهر. وبفعل هذه العوامل مجتمعةً، اضطُر كيسنجر – الذي كان يشغل حينها منصبَ وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي – إلى المشاركة في جهود الوساطة. ولأن نيكسون كان منشغلًا بفضيحة ووترغيت، تمتع كيسنجر باستقلالية غير معهودة في الشؤون الخارجية، وعَمِل من أجل عقد مؤتمر سلام متعدد الأطراف في جنيف بمشاركة القوى العظمى. وكان السؤال المطروح حول إذا كانت منظمة التحرير الفلسطينية ستُدعى لحضور المؤتمر.2
خشيت منظمة التحرير الفلسطينية من تهميشها في أي اتفاق شامل. وعلى وجه الخصوص، كانت قيادة المنظمة قلقةً من أن يستعيد العاهل الأردني الملك حسين الضفة الغربية. وكما السادات، آمنَ رئيس منظمة التحرير ياسر عرفات (أبو عمار) بأن الولايات المتحدة كانت المفتاح للحصول على تنازلات إسرائيلية والتوصل لحل نهائي. وأخذ عرفات يسعى لإقامة علاقات بواشنطن سرًا وعلانية.
أفاد ويليام بوفوم، السفير الأميركي في لبنان، بوجود “زيادة حادة في المؤشرات التي تدل على أن قيادة فتح آخذةٌ في تحري إمكانيات الاتصال المباشر” بالمسؤولين الأمريكيين. وقد تزامنت هذه المساعي مع “محاولات حذرة” من جانب عرفات ونائبه صلاح خلف (أبو إياد) لإظهار استعدادهما لحضور مؤتمر جنيف. وفي الوقت نفسه، أوضح بوفوم بأن قيادة منظمة التحرير الفلسطينية كانت مضطرةً إلى “تهدئة المخاوف في صفوف الفدائيين” من أن إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة سوف يعني “التخلي عن” أهداف المنظمة بعيدة المدى “أو خيانتها”.3
ومن أمثلة تلك التطمينات الكلمةُ التي ألقاها خلف بتاريخ 27 تشرين الثاني/نوفمبر 1973 في جامعة بيروت العربية. وقد عَلِم بوفوم من “مصدر موثوق” بأن وجود المعارضين بأغلبية ساحقة ضمن الحضور اضطُر أبو إياد إلى المزج بين “الكلام العقائدي المتحجر والمنمق المتسق مع لغة الفدائيين ’الثورية‘” و”عناصر من الواقعية المفزعة.” وقد طمأَن المصدرُ بوفوم أن خلف أقرَّ سرًا بأنه ملتزم بالتوصل إلى تسويةٍ سلمية و”لن يعارض أي اتفاقٍ” مع الملك حسين بغض النظر عن تصريحاته العلنية التي كانت تقول خلاف ذلك. ورغم معارضة جماعات أخرى داخل منظمة التحرير الفلسطينية، ولا سيما الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ختم السفير بوفوم بقوله إن قادة حركة فتح وغيرها من فصائل منظمة التحرير الفلسطينية كانت “مستعدةً للمشاركة في محادثات سلام والقبول ببقايا كيان فلسطيني.”4
لقيت حركة فتح دعمًا في مسعاها هذا من فصائل رئيسية منها الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وهي فصيل انشق عن الجبهة الشعبية وغدا خصمًا لها. فقد دعا الأمين العام للجبهة الديمقراطية، نايف حواتمة، في كلمةٍ له أمام اجتماعٍ حاشد في كانون الأول/ديسمبر في بيروت لإنشاء كيانٍ وطني مستقل على أي أرض تتحرر من الاحتلال الإسرائيلي. ووصف بوفوم خطاب حواتمة لكيسنجر بأنه “رائع” قائلًا إنه “أوضحُ إشارةٍ علنية حتى الآن تدل على أن جُلَّ قيادة الفدائيين تتجه أكثر فأكثر للخروج من قوقعتها الحمائية” تحضيرًا لمؤتمر السلام.5
وفي 21 كانون الأول/ديسمبر 1973، انعقد مؤتمر جنيف دون مشاركة سوريا – ولم توجَّه الدعوة إلى منظمة التحرير الفلسطينية. ورغم أن الاجتماع الأولي لم يُسفر عن أي نتائج ذات قيمة، فإن عرفات وخلف واصلا التلميح علنًا في خطبهما ومقابلاتهما إلى موقف المنظمة المستَجِد واستعدادها لحضور مؤتمرات مقبلة.6 وتعززت هذه الإشارات من وراء الكواليس بواسطة شخصيات فلسطينية بارزة خوَّلها أبو عمار بالتحدث إلى المسؤولين الأمريكيين. وفي الوقت نفسه، واصلت مختلف فصائل منظمة التحرير – بما فيها حركة فتح – عملياتها ضد أهداف إسرائيلية عسكرية ومدنية، ممّا قوَّض في الغالب الصورةَ المعتدلة التي سعت القيادة لإظهارها.7
وعلى مدار العامين اللاحقين، قادت مفاتحات منظمة التحرير الفلسطينية وتأييد القادة العرب بعض الدبلوماسيين وصُناع السياسة الأمريكيين للدعوة إلى فتح قنوات اتصال رسمية مع المنظمة. وقد حاول روبرت هوتون، القائم بالأعمال في السفارة الأمريكية ببيروت، أن يبيِّن الفروع المختلفة لمنظمة التحرير في برقيةٍ أرسلها في شباط/فبراير 1974 إلى كيسنجر. حيث اعتبر عرفات وخلف من “المعتدلين”، معللًا ذلك بوجهتي نظرهما بشأن التوصل إلى تسويةٍ نهائيةٍ مع إسرائيل والتي كانت “نسبياً أكثرَ واقعيةً وإيجابيةً من وجهات نظر معاونيهما المتشددين والكثيرين من أتباعهما.”8
كتبَ هوتون “حتى في عالم الوقواق الخيالي لسياسة الفدائيين، من الممكن أن نستشف المواقف الأكثر معقوليةً (من حيث ما قد يقبل به بعض قادة الفدائيين في نهاية المطاف) من غيرها،” وذكَّر هوتون كيسنجر بأنه “في مناسبات مختلفة في الماضي [كانت هناك] إشارات ملموسة إلى أن معظم قيادات فتح العليا تود بطريقةٍ ما أن تشترك بمساعي للتسوية إذا كانت ستنطوي على وعدٍ بإحراز اعتراف أوسع واحترام أكبر لحركة الفدائيين واكتساب امتيازات شخصية مستقبلية لأنفسهم.” وبعبارةٍ أخرى، كان قادة منظمة التحرير الفلسطينية مستعدين لإبرام اتفاق طالما يحافظ على مكانتهم وامتيازاتهم.9
أوضح هوتون أن هدف منظمة التحرير الفلسطينية المتمثل في إقامة دولة ديمقراطية علمانية لا يعني “أنها تنظر إليه كإمكانية عملية في المدى القريب أو البعيد.” بل إنه يعكس وعيًا بأن “مشاركة الفدائيين في مسعى للتسوية وإقامة بقايا دولة فلسطينية في الضفة الغربية/غزة لا يمكن ترويجه في أوساط ’الجماهير‘ الفلسطينية التي ما انفكت تغذي خرافات ’العودة‘ و’التحرير‘ على مدار السنوات الخمس والعشرين الماضية ما لم تُعرَض بعبارات متسقة مع تلك التطلعات غير الواقعية الراسخة.” غير أن قيادة منظمة التحرير الفلسطينية قدَّمته بأنه “مناورة تكتيكية” لمنع السيطرة الأردنية على الضفة الغربية أو كمرحلة أولى نحو تحرير فلسطين.10
تجدر الإشارة إلى أن هذه الجهود التي بذلتها قيادة حركة فتح لإعلام واشنطن باستعدادها لتقديم تنازلات تعود إلى ما قبل الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها “الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني” في الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية؛ وإلى ما قبل الاجتماع الثاني عشر للمجلس الوطني الفلسطيني، برلمان منظمة التحرير في المنفى، حيث أومأت المنظمة إلى استعدادها لقبول حل الدولتين.
برنامج “السلطة الوطنية”
اجتمع المجلس الوطني الفلسطيني في القاهرة بتاريخ 1 حزيران/يونيو 1974. أرادت حركة فتح والجبهة الديمقراطية استيعاب موسكو والقاهرة باتباع نهجٍ أكثر واقعية، والبرهنة لواشنطن في الوقت نفسه على أنهما شريكٌ محتمل لمحادثات السلام. ومع ذلك، فقد واجهتا مقاومةً من الجبهة الشعبية وحلفائها.
جرى الاتفاق على خطة من 10 نقاط كحلٍ وسط، اعتَمدت استراتيجيةً تتمثل في إقامة “سلطةٍ وطنية” على أي أرضٍ محررة، ولكنها عارضت إنشاء أي “كيان” فلسطيني يعترف بإسرائيل. ولاستيعاب الرافضين، واصلَ البرنامج الدعوة إلى الكفاح المسلح واستمر في رفض قرار مجلس الأمن رقم 242 لأنه لم يعترف بالحقوق الوطنية الفلسطينية. وبالإضافة إلى ذلك، اشار البرنامج الى انه في حال طرأ تطور كبير يتطلب مزيدًا من التشاور أو قرارًا رسميًا، فإن اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية كانت مخوَّلة بدعوة المجلس الوطني الفلسطيني للانعقاد في دورة استثنائية. ورغم أن البرنامج لم يخوِّل قيادة المنظمة على وجه الخصوص بحضور مؤتمر جنيف المنعقد مجددًا، فقد تم الحصول على موافقة من خلال بيان لاحق.11
ورغم التوصل إلى حلٍ وسط، واصلت الجبهة الشعبية انتقاد التوجه الجديد لمنظمة التحرير الفلسطينية. وكثيرًا ما اتهمت عرفات بإجراء مفاوضاتٍ سرية مع واشنطن وعمان وبالرغبة في الاعتراف بإسرائيل. وفي أيلول/سبتمبر، اختبر عرفات مرونةَ البرنامج الجديد – وصبْرَ الجبهة الشعبية – بالتوقيع على بيانٍ مشترك مع مصر وسوريا يشير إلى استعداد المنظمة للدخول في مفاوضات مع إسرائيل. وردت الجبهة الشعبية بالانسحاب من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير والمجلس المركزي. ولم يعاود المجلس الوطني الفلسطيني انعقاده حتى عام 1977. وهددت التوترات السياسية بالتصعيد إلى مواجهة عسكرية وإحداث شرخٍ دائم. في الوقت نفسه، تمتع عرفات فعليًا بحرية التصرف، واستخدم روح البرنامج ذي النقاط العشر (إنْ لم يستخدمه حرفيًا) سعيًا لإقامة علاقات بالولايات المتحدة.12
وفي واشنطن، بدا برنامج منظمة التحرير الفلسطينية الجديد بأنه يؤكد ما ذهب إليه الداعون إلى إقامة علاقة بالمنظمة، حيث قال الموظف في مجلس الأمن القومي، ويليام كوانت، إن البرنامج أشار إلى القبول المشروط بإقامة دولةٍ فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة. ودعا كيسنجر إلى فتح قناة اتصالٍ رسمية بالمنظمة، وقال إن الحوار سوف يدعم التقارب بين منظمة التحرير والأردن ويوفر الدعم للمعتدلين داخل المنظمة. وبالرغم من خطاب المنظمة، أكد كوانت بأن “من الواضح أن عرفات يرغب في العمل نحو تسويةٍ سياسية” والاعتراف بحق إسرائيل في الوجود. ورغم أن كوانت لم يكن وحده الذي خرَجَ بهذا التقييم، فإن كيسنجر وإسرائيل لم يُبديا رغبةً في الاستجابة.13
وبالإضافة إلى ذلك، شجعت مصر والجزائر الولايات المتحدة على الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية (أو التحدث إليها على الأقل). وكان عرفات يعتقد أن من شأن اعتراف الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية أن يُصعِّب على واشنطن استمرارَها في تجاهل المنظمة. ولكن بالرغم من حصول المنظمة على صفة مراقب في الأمم المتحدة، فإن سياسة واشنطن لم تتغير.
ومع ذلك، واصل مسؤولون أميركيون ضغطهم على كيسنجر عقب الخطاب الذي ألقاه عرفات أمام الأمم المتحدة في تشرين الأول/نوفمبر 1974. ففي مطلع كانون الثاني/يناير عام 1975، كتبَ السفير ج. ماكمورتري غودلي مؤكدًا أنه “مهما كان وجودها مُزعِجًا أو سلوكها بغيضًا، فإن منظمة التحرير الفلسطينية باتت حقيقةً واقعة” وتتمتع بتعاطف وتأييد “طيفٍ واسع من الرأي العام الفلسطيني والعربي في جميع أنحاء المنطقة.” وبما أن الدول العربية كانت غير راغبة في فرض حلٍ على الفلسطينيين، كانت منظمة التحرير “الفاعل الوحيد” القادر على التصرف بالنيابة عنهم في المفاوضات. وقال غودلي إن الحوار مع منظمة التحرير الفلسطينية سيساعد واشنطن في تحديد مدى ملاءمة المنظمة كشريكٍ في المفاوضات، وسيعمل على دعم المعتدلين داخل المنظمة وشد أزرهم. فالمفاتحة – حتى وإنْ كانت “غير رسمية وسرية للغاية” – ستفيد علاقات الولايات المتحدة بالقادة العرب الرئيسيين، ولا سيما إذا قابلتها منظمة التحرير الفلسطينية بالرفض. وعلى الرغم من الاعتراضات الإسرائيلية المحتملة، حثَّ غودلي على إعادة النظر في هذه المسألة. ومع ذلك، لم يطرأ أي تغيير على سياسة الولايات المتحدة، وقام عرفات لاحقًا بإطلاق مبادرته الخاصة.14
عرض عرفات
زار السناتور الديموقراطي هوارد بيكر بيروت في شهر أيار/مايو عام 1975، حيث التقى وموظفين من لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ بشخصيات فلسطينية بارزة، بمن فيهم البروفيسور في جامعة جورج تاون هشام شرابي والمسؤولان في منظمة التحرير الفلسطينية شفيق الحوت ونبيل شعث، قبل أن يعقد اجتماعًا منفصلًا مع عرفات. وقد انعقدت هذه الاجتماعات بينما كان لبنان ينجرُّ إلى حرب أهلية مع منظمة التحرير المتحالفة مع الحركة الوطنية اللبنانية اليسارية.15
بعد الحديث عن عدم إحراز تقدم نحو التوصل إلى تسوية، واستمرار التوترات مع إسرائيل، سأل بيكر عرفات عن “الشرط الأساسي لتحقيق تطلعات الفلسطينيين.” وردَّ عرفات، مشيرًا إلى برنامج المجلس الوطني الفلسطيني الجديد، بأن للفلسطينيين الحق في إقامة “سلطة فلسطينية على أي أراضٍ يمكن تحريرها.” وقد ألحَّ بيكر على رئيس منظمة التحرير ليخبره عمّا “سيقبله،” وكان جواب عرفات “أي شيء يمكن دفع إسرائيل للتخلي عنه، حتى وإنْ كان غزة.”16
ورغم أن عرفات سعى لإقامة دولة ديمقراطية للعرب واليهود، فإنه طمأَن بيكر بأن “هذا ليس حلم العام القادم.” وقال “إذا انسحب الإسرائيليون من كافة الأراضي المحتلة عام 1967، أو أقل من ذلك، فإن الفلسطينيين سيكونون مستعدين لبسط سيطرتهم على الأراضي المحررة.”10
أبلغ بيكر كيسنجر أنه بالرغم من شخصية عرفات في العلن، فإنه لم يكن “حاد اللهجة أو شرسًا،” بل اتسم “باللين واللُطف” كما “السياسي الحَذق.” وأشار إلى الفرق بينه وبين الفلسطينيين البارزين الذين التقاهم وفد الكونغرس وتحدثوا “بحدة لا هوادة فيها.” وأوضح بيكر أن “لهجة [عرفات] وشخصيته ينُمَّان عن وعي بحدود ما هو ممكنٌ عمليًا. وقد تملكني شعور بأنه كان ليتنازل أكثر لو لم يكن ’الرافضون‘ يراقبونه عن كثب، أو لو كان لديه المزيد ليُظهره كي يُبرهن على اعتداله مقارنةً بغيره.”17
اجتمع عرفات ببيكر بعد شهرين على لقائه السناتور الديموقراطي (والمرشح الرئاسي لعام 1972) جورج س. ماكغفرن، حيث طمأن عرفات ماكغفرن بأن منظمة التحرير الفلسطينية ستعترف بإسرائيل وستقيم دولةً فلسطينية تضم الضفة الغربية وقطاع غزة. وعندما أعلن ماكغفرن هذه التفاصيل في مؤتمرٍ صحفي في وقت لاحق، لم يصدر من منظمة التحرير الفلسطينية أي نفي.18
ورغم محاولات عرفات للظهور بمظهر المعتدل، لم يتغير موقف كيسنجر، وواصل عمله من أجل إبرام اتفاق فك ارتباطٍ ثانٍ بين إسرائيل ومصر، متجاهلًا سوريا ومنظمة التحرير. جرى التوقيع على اتفاقية سيناء الثانية في أيلول/سبتمبر. وصاحبت الاتفاقية مذكرةُ تفاهمٍ سرية بين الولايات المتحدة وإسرائيل، وافقت واشنطن بموجبها على عدم “الاعتراف [بمنظمة التحرير الفلسطينية] أو التفاوض معها” طالما أنها لا تعترف بحق إسرائيل في الوجود أو تقبل قراري مجلس الأمن رقم 242 و338.
وبإصرار وعزيمة، قدَّم عرفات مقترحًا في أواخر شباط/فبراير 1976 من خلال مكتب الأمين العام للأمم المتحدة كورت فالدهايم ودعا فيه إسرائيل إلى الانسحاب من الضفة الغربية وقطاع غزة. وبموجب المقترح، تنتشر قوةُ حفظ سلامٍ مشتركة بين الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية لمدة ستة أشهر لإدارة الوصاية على الأراضي. وبعد ذلك، تُسلَّم الأراضي إلى منظمة التحرير الفلسطينية. وقد ظنَّ عرفات أن ذلك من شأنه أن يساعد في كسر الجمود مع إسرائيل بشأن الاعتراف المتبادل. ورغم أن نائب الأمين العام للشؤون السياسية الخاصة براين أوركوهارت كان يشك في قبول إسرائيل المقترح، فإنه خمَّن بأن عرفات كان يرسل إشارةً إلى واشنطن مفادها “رغم تصريحاتها العلنية، فإن [منظمة التحرير الفلسطينية] مستعدةٌ لقبول حق إسرائيل في الوجود وقبول دولةٍ محدودة في الضفة الغربية / غزة.”19
ولضمان وصول المقترح إلى إدارة فورد، ناقش عرفات مقترحه أيضًا مع السناتور الديمقراطي أدلاي ستيفنسون الثالث الذي التقى به في بيروت. وقدَّم عرفات في مقترحه الذي نقله إلى ستيفنسون مزيدًا من التنازلات حيث اشار الى انه ما على إسرائيل سوى الانسحاب من “بضعة كيلومترات” في الضفة الغربية وقطاع غزة. وأوضح عرفات أن ذلك سوف “يعطيه شيئًا ليريه لشعبه قبل أن يتمكن من الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود.” ومع ذلك، كان ستيفنسون يشك في قبول المقترح لدى سوريا رغم تطمينات عرفات بخلاف ذلك.20
تسرَّب مقترح عرفات لصحيفة واشنطن بوست، حيث روى ستيفنسون مناقشاته مع أبو عمار. وكان ستيفنسون مترددًا من تسميته “مقترحًا رسميًا” واستعاض عن ذلك بوصفه بأنه “عرض”. وأضاف أن عرفات “أراد ذلك كي يتهرب.” وسواء كان مقترحًا أم لا، فإن إسرائيل رفضته.”21
أصدرت وكالة الأنباء الفلسطينية (وفا) نفيًا فوريًا للرواية، حيث أفاد مسؤول من منظمة التحرير الفلسطينية دون ذكر اسمه بأن “التصريحات التي ذكرتها الصحيفة غير صحيحةٍ على الإطلاق. ونحن متفاجئون، وندين هذا التشويه المتعمد للمحادثات التي جرت بين عرفات وستيفنسون.”22
ورغم النفي الصادر من منظمة التحرير الفلسطينية، نشرت صحيفة واشنطن بوست افتتاحيةً بعنوان “بالون اختبار منظمة التحرير الفلسطينية”. وحثت المقالة إدارة فورد على تحري مقترح عرفات أكثر. وجاء في الافتتاحية “إن الضغوط الممارَسة على السيد عرفات لكي ينتقل إلى الساحة السياسية حقيقية ومستمرة. ومدى قوة هذه الضغوط لا يعتمد فقط على الديناميات الفلسطينية ولكن على مواقف الآخرين. وينبغي تشجيعها، وليس تجاهلها أو رفضها عند كل منعطف.”23
ومع ذلك، وبحلول نهاية الأسبوع، أكَّد رئيس الدائرة السياسية بمنظمة التحرير الفلسطينية فاروق القدومي النفي، واصفًا التقارير أثناء مؤتمر صحفي عُقد في ستوكهولم بأنها “زيفٌ وأكاذيب.” وقال إن التوصل إلى حلٍ لن يكون إلا “من خلال تصعيد الكفاح المسلح.”24
وبسبب تدخل سوريا في الحرب الأهلية اللبنانية، وبسبب الانتخابات الرئاسية الأمريكية، جرى تجاهل مقترح عرفات على المدى القصير. وكان كيسنجر متفاجئًا بسرور عندما هدَّد الأسد باجتياح لبنان للحيلولة دون انتصار منظمة التحرير الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، حيث كان الأسد يخشى أن سوريا سوف “تنحشر” بين نظامين “متطرفين” في لبنان والعراق. وكان يأمل أيضًا بالسيطرة على منظمة التحرير من خلال فصيل الصاعقة المدعوم من سوريا، واستبدال عرفات. ورغم أن كيسنجر أراد إضعاف منظمة التحرير، فإن إسرائيل هددت أيضًا بغزو لبنان إذا تدخلت سوريا. وخشيت إدارة فورد من أن أي غزو إسرائيلي قد يؤدي إلى حربٍ إقليمية أوسع، وحظرًا آخر على تصدير النفط في عامٍ انتخابي. ومع ذلك، فإن إسرائيل لم تنفذ تهديدها. وبدلًا من ذلك، دعمت واشنطن بنشاط الجهود الإسرائيلية لتزويد ميليشيا الكتائب المسيحية بالأسلحة وضمان الجمود في الصراع القائم.25
أضعفت قوات الصاعقة والقوات السورية منظمة التحرير الفلسطينية – ولكن لم تهزمها بشكل حاسم. وقد أوضح كيسنجر في اجتماعٍ لمجلس الوزراء بتاريخ 18 حزيران/يونيو قائلًا: “يبدو الآن أنه لا أحد سيحرز فوزًا ساحقًا.” وكان يعتقد أن هذه “النتيجة المعتدلة” ستصب في صالح جهود السلام.26
التعاون الأمني بين منظمة التحرير الفلسطينية والولايات المتحدة
لم يكن عرض عرفات المحاولةَ السريةَ الوحيدة لإقامة علاقات بالولايات المتحدة إبان هذه الفترة. فمن عام 1973 إلى عام 1979، تقاسَمَ علي حسن سلامة (أبو حسن) قائد القوة 17 – وحدة الحرس الشخصي لعرفات – معلومات استخباراتية مع روبرت أميس من وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية. وكان سلامة يتصرف بناءً على أوامر من أبو عمار. وكقناة اتصال استخباراتي، لم تُعتبر هذه العلاقة خاضعةً لمذكرة تفاهم كيسنجر مع إسرائيل.27
وُلِدت العلاقة بين سلامة وأميس من رحم مساعي عرفات من أجل العمل مع الولايات المتحدة. وفي تشرين الثاني/نوفمبر من عام 1973، أرسل كيسنجر الجنرال فيرنون والترز، نائب مدير وكالة الاستخبارات المركزية، إلى الرباط للالتقاء بمسؤول رفيع المستوى من منظمة التحرير الفلسطينية. ولاحقًا كتبَ كيسنجر أن التعليمات كانت تقتضي من والترز الاستماع فقط واكتساب “رؤية واضحة قدر ما أمكن لتفكير الفلسطينيين”– وليس تقديم المقترحات. وكان من مهام والترز أيضًا أن يجدد التزام الولايات المتحدة لنظام الملك حسين، ويؤكد على أنها سوف “تعارض أي تهديد لبقاء إسرائيل وأي تحدٍ لشرعيتها.” وبالإضافة إلى ذلك، هدَّدت واشنطن بأنها ستعارض منظمة التحرير بقوة إنْ كانت مسؤولةً عن هجمات أخرى ضد الأميركيين. وصرَّحَ كيسنجر بوجود اجتماع إضافي واحد فقط في آذار/مارس 1974. ورغم عدم إقامة أي علاقة رسمية، ادعى كيسنجر بأن الاجتماع بمنظمة التحرير حال دون وقوع “اعتداءات متطرفة على عملية السلام في وقت مبكر،” وأنهى هجمات فتح على الأمريكيين. “وخلاف ذلك فإن الاجتماع لم يُسفر عن نتائج دائمة،” بحسب كيسنجر. غير أن هذا الزعم لم يكن صحيحًا إلا جزئيًا.28
التقى سلامة وأميس في فندق والدورف أستوريا في نيويورك إبان زيارة عرفات لمقر الأمم المتحدة في تشرين الثاني/نوفمبر 1974. وكان هدفهما التوصل إلى اتفاق مفاده: إذا توقفت منظمة التحرير الفلسطينية (أو حركة فتح على الأقل) عن مهاجمة المسؤولين الأمريكيين، فإن واشنطن ستعترف “بالحقوق المشروعة للفلسطينيين.” وهذا كان أقل ممّا أمِلته منظمة التحرير. ومع ذلك، استمرت اتفاقية تبادل المعلومات الاستخباراتية حتى بعد مقتل سلامة ولا يبدو أنها توقفت إلا عقب الاجتياح الإسرائيلي للبنان سنة 1982.
29
ولكن حتى قبل إبرام الاتفاقية مع أميس، كان سلامة يزوِّد الولايات المتحدة بمعلومات تفيد الطرفين. ففي اجتماع مع مسؤولين في السفارة من أجل التخطيط لزيارة عرفات للأمم المتحدة، أخبرهم سلامة أن مؤامرةً لاغتيال الملك حسين في مؤتمر القمة العربية لعام 1974 قد أُحبِطت وأنها قد تكون من تنظيم أبو إياد بدعمٍ من الرئيس الليبي مُعمر القذافي. وقال إن القذافي “يُفسد كل مَن يمسُّه مِنّا.” وطمأَن أبو حسن مسؤولي السفارة بأن الجبهة الشعبية لن تنفذ أي عمليات في نيويورك أو في أماكن أخرى من أجل عدم تشويه منظمة التحرير أثناء ظهور عرفات في الأمم المتحدة.30
حظيت منظمة التحرير الفلسطينية، بسبب تصاعد الحرب الأهلية في لبنان، بفرصةٍ أخرى لإثبات قيمتها لواشنطن. وبالرغم من أن كيسنجر كان ملزَمًا بمذكرة التفاهم مع إسرائيل، فإنه أوضح للرئيس فورد بأنه لا يوجد “أي التزام تجاه إسرائيل بعدم التحدث إلى منظمة التحرير الفلسطينية حصرًا حول الوضع في لبنان.”31 وقد وفرت فتح حماية للسفارة الأميركية والمساكن الخاصة بالمسؤولين الأمريكيين. وفي منتصف شهر حزيران/يونيو، أدى القتال المتصاعد واغتيال السفير الأمريكي الجديد في لبنان، فرانسيس ميلوي، إلى اتخاذ القرار بإخلاء السفارة. وأفادت التقارير بأن سلامة أشرف على عملية الإجلاء.32
وفي مؤتمر صحفي للبيت الأبيض، سأل الصحفيون الرئيس فورد عن دور منظمة التحرير الفلسطينية في عملية الإجلاء. وفي معرض رده، أشار فورد إلى تعاون المنظمة في إجلاء أمريكيين وآخرين “دون وقوع أي حادث على الإطلاق.”33 وبعد ذلك بيومين، ذكرت صحيفة نيويورك تايمز أن وكالة الأنباء الفلسطينية، وفا، قد اقتبست من رسالة شكر وجهها كيسنجر إلى “القيادة الفلسطينية” وطبعت أيضًا رد منظمة التحرير الفلسطينية.34
لم تتمخض المساعدة التي قدمتها منظمة التحرير الفلسطينية في إجلاء السفارة عن أي منفعة فورية. ورغم أن مبعوث الرئيس فورد في لبنان، تالكوت سيلي، دعا إلى إنشاء دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة كوسيلةٍ لإنهاء الحرب الأهلية اللبنانية، فإن كيسنجر ودبلوماسيين أمريكيين في المنطقة لم يكونوا مقتنعين.35 وفي الوقت نفسه، ساء وضع الفلسطينيين في لبنان بشدة حيث سقط في مخيمي جسر الباشا وتل الزعتر للاجئين ضحايا مدنيون كُثُر وارتُكبت فيهما فظائع على يد ميليشيا الكتائب وحلفائها.36
وبعد الإجلاء، علَّق كيسنجر إجراء المزيد من المفاوضات إلى حين انتهاء الانتخابات الرئاسية. وفي اجتماعٍ له بسفراء الولايات المتحدة في الدول العربية المختلفة، أوضح كيسنجر أنه “أي شيء بما في ذلك منظمة التحرير الفلسطينية سوف يورطنا مع اليهود وهذا ينمُّ عن أقصى درجات اللامسؤولية.” فقد كان يعتقد أنَّ أي جدلٍ لن يُفيد سوى الحزب الديمقراطي. وقال إن “الإسرائيليين سيكونون مستحيلين حتى وقت الانتخابات.”37
وحث مشاركون عدة، ولا سيما هيرمان ايلتس سفير الولايات المتحدة لدى مصر، كيسنجر على التحرك قبل انتهاء العام وإشراك منظمة التحرير الفلسطينية في المفاوضات. ولكن موقف كيسنجر لم يتأثر. وقال، مصارحًا ومشيرًا إلى التوترات التي برزت مع إسرائيل أثناء مفاوضات سيناء الثانية في العام السابق، إن “التسوية الآن أمرٌ مستحيل.” ورفض كيسنجر أيضًا اقتراحًا بأن يزور نائب الرئيس نيلسون روكفلر المنطقة قبل الانتخابات لإظهار الدعم لاستمرار المفاوضات، حيث أوضح أن “نائب الرئيس يقلل تمامًا من شأن ما ينطويه تحدي اللوبيات،” وأضاف أن اللوبي “لا يخوض معك في المسألة المطروحة وحسب، بل يضطرك للخوض في عشرة مسائل أخرى – مصداقيتك، وكل شيء. سوف نضطر للقيام بذلك العام المقبل.”38
ومع ذلك، لم تكن الضغوط التي مارسها اللوبي المؤيد لإسرائيل والقيود التي تفرضها السياسة الانتخابية الأمريكية العائقَ الوحيد الذي يحول دون إقامة علاقات بمنظمة التحرير الفلسطينية. فبعد ذلك بشهرين، بيَّن كيسنجر خطته لضم المنظمة في نهاية المطاف إلى محادثات السلام، حيث كانت واشنطن ستدفع باتجاه التوصل إلى تسوية شاملة بعد الانتخابات. ولم تكن منظمة التحرير ستُدعى إلا بعد إحراز تقدم مع مصر والأردن وسوريا. وقال كيسنجر “نحن نحتاج أولًا لوضعهم تحت السيطرة، ولا نُدخِلهم في العملية إلا في نهايتها.” وأضاف: “نحن لا نستطيع أن نلبي الحد الأدنى من مطالب منظمة التحرير الفلسطينية، فلماذا نتحدث معهم.” واعترف كيسنجر بأن واشنطن ستضطر في نهاية المطاف إلى التعامل مع منظمة التحرير الفلسطينية “ولكن مع إبقائها متخلفةً عن الحكومات العربية بخطوتين.” وأوضح بأن “الاعتراف سيأتي في النهاية بعد إرضاء الحكومات العربية.” وباختصار، خطَّط كيسنجر لفرض اتفاق على منظمة التحرير الفلسطينية.39
إلا أن عرفات لم يكن على علمٍ بخطط كيسنجر لِما بعد الانتخابات. وسعى مجددًا في أيلول/سبتمبر لإقامة علاقات بواشنطن. وحينها أخبر مدير وكالة الاستخبارات المركزية، والرئيس المستقبلي، جورج هربرت واكر بوش كيسنجر أن عرفات يريد “فتح قناةٍ سريةٍ تمامًا ’قبل الحوار‘” مع الولايات المتحدة. وأفاد بوش بأن قيادة منظمة التحرير الفلسطينية قد يئست بسبب القتال مع سوريا، وأن المنظمة “كانت أكثر استعدادًا بكثير من ذي قبل لتقديم التنازلات.” وقد غدت منظمة التحرير حذرةً من الحكومات العربية المختلفة التي كانت تحاول استخدامها خدمةً لأهدافها أو تعمل كوسيط غير صادق بين المنظمة وواشنطن. وأشار بوش إلى “أن عرفات يضع المفاوضات السياسية مع الولايات المتحدة نصب عينيه، إذا كان بالإمكان ترتيبها.”40
غير أن تلك المفاوضات لم تجرِ إلا بعد مرور ما يزيد على عشر سنوات، ولم ترقَ إطلاقًا لتوقعات عرفات أو رغباته.
الطريق إلى أوسلو
أدى فوز جيمي كارتر في الانتخابات الرئاسية سنة 1976 إلى تغيير وجيز في مقاربة الولايات المتحدة لعملية السلام. فقد سعت إدارة كارتر في البداية للتوصل إلى حلٍ شامل والتعاطي مع منظمة التحرير الفلسطينية. ورغم أن عرفات أشار إلى أن منظمة التحرير ستشارك في المفاوضات وستقبل قرار مجلس الأمن رقم 242 مع بعض التحفظات، فإن جهود كارتر قد أُحبطت بفعل ردة الفعل العنيفة محليًا. وبالإضافة إلى ذلك، أجبر فوز حزب الليكود في الانتخابات الإسرائيلية سنة 1977 الرئيس كارتر على تبني هدفٍ أقل طموحًا. ومع ذلك، لم يتحقق أمل كارتر بأن تكون اتفاقات كامب ديفيد الموقعة سنة 1978 ومعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية التي تبعتها بمثابة نقطة انطلاق نحو اتفاقات مستقبلية. وعلاوةً على ذلك، لم تنفذ إسرائيل قط بنود الحكم الذاتي المحدود في الضفة الغربية وقطاع غزة – التي تفاوَضَ عليها السادات دون مشاركة عرفات أو موافقته. وبدلًا من ذلك، أدى معاودة ظهور التيار المحافظ في السياسة الأميركية الذي أطاح بكارتر في عام 1980 إلى استئناف نهج كيسنجر القائم على تجاهل منظمة التحرير الفلسطينية أو تقويضها أو السعي لتدميرها.41
جاءت محاولات عرفات لإقامة علاقة بواشنطن (والتنازلات التي عرضها) بعد أن حققت منظمة التحرير الفلسطينية نجاحًا دبلوماسيًا كبيرًا وقبل أن يُضعِف الاجتياح الإسرائيلي للبنان في عام 1982 المنظمةَ بشدة. وقد اعترف المسؤولون الإسرائيليون سرًا لنظرائهم الأمريكيين بأنهم يواجهون صعوبةً في مقاومة ميل الجمهور الغربي لتأييد هدف منظمة التحرير الفلسطينية المعلَن والمتمثل في إقامة دولة ديمقراطية علمانية في فلسطين لجميع سكانها.42 غير أن هذا هو بالضبط ما اقترحه عرفات وغيره من قادة منظمة التحرير للمسؤولين الأمريكيين، إذ كانوا مستعدين للتنازل. وبالإضافة إلى ذلك، اقترح ما لا يقل عن مسؤول واحدٍ رفيع المستوى في المنظمة، في إطار سعيهم لكي يبدوا أكثر اعتدالًا من عرفات أثناء تلك الفترة، بأن حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة هو أيضًا قابلٌ للتفاوض.43 وهكذا، أبدت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية استعدادًا لتقديم تنازلات رئيسية قبل الجلوس إلى طاولة المفاوضات بوقت طويل – وهي ممارسةٌ لا تزال مستمرةً إلى يومنا هذا. والفرق الرئيسي بين حقبتي كيسنجر وأوسلو هو أن الحكومتين الأمريكية والإسرائيلية أصبحتا مستعدتين في الأخيرة لقبول هذه التنازلات والتفاوض مع منظمة التحرير التواقة والمستميتة. وإضافةً إلى ذلك، وبعد طردها من لبنان وانتهاء الحرب الباردة، لم تعد الجبهة الرافضة تشكِّل تهديدًا عسكريًا أو سياسيًا لحركة فتح.
قوضت فترةُ ما بعد حرب أكتوبر منظمة التحرير الفلسطينية بطرقٍ أخرى، حيث أسفرَ ارتفاع أسعار النفط عن امتلاء خزائن المنظمة بالأموال الآتية من الدول العربية النفطية والتبرعات المقدمة من الشتات الفلسطيني و”الضرائب” المفروضة عليهم. وكانت الآثار جليةً للعيان في شبه الدولة التي أقامتها منظمة التحرير في لبنان، ونمط الحياة الماجن والمسرِف لقيادات المنظمة. ففي مقابلة أجريت سنة 2004، استذكر شفيق الحوت قائلًا إن “المال دمر الثورة،” موضِّحًا بأن “الفساد نما بالتوازي مع أموال النفط،” وأن “مستوى معيشة [القيادة] تحسَّن إلى مستوى لا يليق بحركة تحررٍ وطني.” غير أن ذلك لم يكن سوى مقدمةٍ لِما سيحدث بعد أوسلو.44
شهدت هذه الفترة أيضًا بداية هيمنة عرفات على منظمة التحرير الفلسطينية. فقد أظهر اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني الثاني عشر أن المجلس لم يكن يتصرف كمؤسسةٍ مستقلة، بل كان بمثابة ختم للمصادقة على مواقف القيادة وقراراتها – مجازيًا إنْ لم يكن حرفيًا. وحين لم يتمكن عرفات وحلفاؤه من الحصول على موافقة مخصصة لحضور مؤتمر جنيف في برنامج المجلس الوطني الفلسطيني، حصلوا عليها في هيئة “توصية” موجهة إلى اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير. وبالإضافة إلى ذلك، استهزأ عرفات علنًا ببرنامج المجلس الوطني الفلسطيني بتوقيعه على البيان المشترك مع سوريا ومصر، ممّا تسبب في خلافٍ مع الجبهة الشعبية. وعندما استأنف المجلس الوطني الفلسطيني جلساته بعد ثلاث سنوات، وُسِّعت عضويته لتشمل ممثلين للضفة الغربية وقطاع غزة. ومن أسباب تأخر انعقاده أن قيادة فتح حرصت على أن يحتفظ “المعتدلون” بأغلبيتهم في المجلس الموسَّع.45
ارتفعت مكانةُ عرفات دوليًا بينما أخذ دور المجلس الوطني الفلسطيني في الانحسار. ويتجلى ذلك بوضوح في تراجع وتيرة انعقاد اجتماعات المجلس الوطني الفلسطيني بعد أن حظيت منظمة التحرير الفلسطينية باعتراف الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية، حيث اجتمع المجلس سبع مرات فقط في الفترة 1974-1988. وبالإضافة إلى ذلك، اتّبع عرفات تفسيره الخاص لبرنامج المجلس الوطني الفلسطيني المكوَّن من عشر نقاط لكسب ودِّ واشنطن. فأكَّد عرفات على إقامة “سلطة وطنية” – وعلى نظرته الخاصة لِما سيقتضيه ذلك – في حين قدَّم تنازلات أخلَّت بوضوح بجوانب أخرى من البرنامج. وفي العقود التي تلت، ساء سلوك عرفات الزئبقي والاستبدادي.
فما هي الدروس التي يمكن استخلاصها من هذه التجليات؟ سوف يجد الفلسطينيون المؤمنون بأن اتفاقات أوسلو كانت أقصى ما أمِلته قيادة منظمة التحرير الفلسطينية بعضَ التأكيد لموقفهم. وفي الوقت نفسه، سيجد أولئك الذين ينتقصون من أوسلو ما يؤكد موقفهم بأن الاتفاقات خدمت قيادة منظمة التحرير وليس الشعب الفلسطيني.
وبالنسبة للفلسطينيين الذين ينادون بإصلاح منظمة التحرير الفلسطينية، يبقى السؤال: ما هي المنظمة التي يأملون في إنقاذها؟ منظمة التحرير الفلسطينية التي استخدمت شرعيتها للتفاوض سرًا على اتفاقات ومن ثم أساءت استخدام مكانتها على مدى العقدين اللاحقين؟ أم منظمة التحرير الفلسطينية التي سعت قيادتها سرًا للتوقيع على اتفاقٍ مماثلٍ في منتصف عقد السبعينيات إذا ما وافقت الولايات المتحدة وإسرائيل؟ والفرق بين الاثنتين لا يكاد يُرى.
وبالنسبة لأولئك الفلسطينيين الذين يعتقدون أن منظمة التحرير الفلسطينية وقيادتها ليست قابلةً للإصلاح، تُثبت هذه النتائج مجددًا الحاجةَ إلى حركةٍ جديدةٍ من أجل إحراز الحقوق الفلسطينية، حركةٍ غيرِ مثقَلةٍ بتركة الماضي من الفشل والازدواجية.
- ذُكرت بعض هذه المحاورات (أو أُلمِح إليها) في مذكرات عديدة، بما فيها مذكرات صلاح خلف ومذكرات هنري كيسنجر. رُفِعت سرية الوثائق على مدار السنوات الثمان الماضية، وهي تثبت بعض الإدعاءات الواردة في هذه الأعمال، وتناقض إدعاءات أخرى (يمكن الاطلاع على هذه الوثائق). ولا بد من الإشارة إلى أن الوثائق مكتوبة في الغالب من وجهة نظر المسؤولين الأمريكيين، وحتى حين يقتبسون من المصادر الفلسطينية مباشرةً، فإنهم يُظهرون تحيزًا وعداءً تجاه قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وأهدافها. ورغم أن الوثائق لا تُمالق أو تُداهن، فلا سبب هناك للشك في صدقها.
- William Quandt, Peace Process: American Diplomacy and the Arab-Israeli Conflict Since 1967 (University of California Press and Brookings Institution, 2005): 130-141
- Buffum to Kissinger, “Fedayeen RE Palestinian State,” 7 December 1973.
ملاحظة: استخدم المسؤولون الامريكيون في بعض الاحيان مصطلح ‘الفدائيين’ وذلك في اشارة الى الفصائل الفلسطينية المختلفة التي دعت وشاركت في الكفاح المسلح ضد إسرائيل. - Buffum to Kissinger, “Increase in Public Caution Exercised by Fedayeen Leadership,” 3 December 1973
- المرجع السابق. كانت الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين تُعرف باسم الجبهة الديمقراطية الشعبية لتحرير فلسطين ولكنها اختصرت اسمها في عام 1974 لتميز نفسها عن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
- Quandt, 140-141؛ تضم الأمثلة مقابلة بتاريخ 13 آذار/مارس 1974 مع خلف (فلسطين الثورة) ومقابلة بتاريخ 26 آذار/مارس 1974 مع عرفات (السفير) الوثائق الفلسطينية العربية، 1974 (معهد الدراسات الفلسطيني، 1976): 69، 93-95.
- Paul Thomas Chamberlin, The Global Offensive: The United States, the Palestine Liberation Organization, and the Making of the Post-Cold War Order (Oxford University Press, 2012): 235-237
- Houghton to Kissinger, “Fedayeen Moderation,” 19 February 1974; Chamberlin, 238-239.
- من هوتون إلى كيسنجر.
- المرجع السابق.
- Yezid Sayigh, Armed Struggle and the Search for State: The Palestinian National Movement, 1949-1993 (Oxford University Press, 1997): 342-343; Chamberlin, 238. انظر “البرنامج السياسي المرحلي المنظم لمنظمة التحرير الفلسطينية الذي أقر المجلس الوطني الفلسطيني في دورته العادية الثانية عشر، 8 حزيران/يونيو 1974” مقررات المجلس الوطني الفلسطيني، 1964-1974 (مركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية، 1975): 247-248؛ “توصية من الدورة الثانية عشر للمجلس الوطني الفلسطيني موجهة إلى اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية فيما يتعلق بأسس العمل الفلسطيني على الصعيد الدولي،” 8 حزيران/يونيو 1974 وثائق دولية بشأن فلسطين، 1974 (معهد الدراسات الفلسطينية، 1977): 451
- Sayigh, 342-345; Chamberlin, 238-239; Helena Cobban, The Palestinian Liberation Organization: People, Power and Politics (Cambridge University Press, 1984): 62, 149.
- Chamberlin, 239-240
- Godley to Kissinger, “US Contacts with Palestine Liberation Organization (PLO), 3 January 1975
- Godley to Kissinger, “CODEL Baker,” 23 May 1975
- Baker to Kissinger, “Senator Baker’s Meeting with Yasser Arafat in Beirut,” 25 May 1975.
- المرجع السابق. قدَّم بيكر وصفًا أكثر تشكيكًا في عرفات للصحافة، انظر
“Arafat to Baker: Palestinians Want Home,” 8 June 1975 The Pittsburgh Press. - Seth Tillman, The United States and the Middle East: Interests and Obstacles (Indiana University Press, 1982): 212; “McGovern Backing Palestinian State,” New York Times 5 April 1975. كان تيلمان موظف رئيسي في لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الامريكي وكان جزءا وفد السناتور بيكر في ايار/مليو 1975.
- Bennett to Kissinger, “Arafat Gives Guyer Plan for Middle East Settlement,” 9 March 1976; Bennett to Kissinger, “UN Under Secretary General Guyer Conversation with PLO Leader Arafat,” 3 March 1976.
- Murphy to Kissinger, “Middle East Negotiations: Arafat Proposal,” 24 February 1976
- Dan Oberdorfer, “Mideast Proposal Offered,” Washington Post 29 February 1976
- Lambrakis to Kissinger, “Palestinian Denial of Statements Attributed to Arafat,” 1 March 1976.
- PLO Trial Balloon, Washington Post, 2 March 1976
- Strausz Hupé to Kissinger, “Interview with PLO ‘Foreign Minister’,” 5 March 1976
- See Foreign Relations of the United States (FRUS), 1969-1976, Vol. XXVI: Arab-Israeli_ Dispute 1974-1976:_ 946-1033.
- “Memorandum of Conversation,” 18 June 1976, FRUS, 1969-1976, Vol. XXVI: Arab-Israeli Dispute 1974-1976: 1034-1036.
- Tim Weiner, Legacy of Ashes: The History of the CIA (Doubleday, 2007): 388-389; David Ignatius, “Mideast Intrigue: PLO Operative Slain Reputedly by Israelis, had Been Helping U.S.” Wall Street Journal 10 February 1983 and “The Secret History of US-PLO Terror Talks,” Washington Post 4 December 1988.
كان سلامة واحدًا من أبرز الشخصيات في تنظيم أيلول الأسود، اغتالته إسرائيل في كانون الثاني/يناير 1979. تولى أميس مناصب عدة في وكالة الاستخبارات المركزية، وارتقى في نهاية المطاف إلى منصب نائب رئيس شعبة الشرق الأدنى. قُتل أميس في تفجير السفارة الأمريكية في بيروت في نيسان/أبريل 1983 - Henry Kissinger, Years of Upheaval (Little and Brown, 1982): 624-629.
في آذار/مارس اغتال فصيل أيلول/الأسود كليو نويل، السفير الأمريكي في السودان. وزعَم كيسنجر بأن منظمة التحرير الفلسطينية بادرت بإقامة اتصالات بعد عملية الاغتيال بأربعة أشهر من خلال السفارة الأمريكية في إيران ومن خلال العاهل المغربي الملك الحسن الثاني، ولكن تم تجاهل كلتا المحاولتين. - Ignatius, The Secret History
- Godley to Kissinger, “Whereabouts of Abu Iyad,” 12 November 1974.
للاطلاع على تفاصيل المؤامرة، انظر أبو إياد، 144-154. - نوقش اجتماع مجلس الأمن القومي أيضا في كتاب كيسنجر. ومع ذلك، قلل من اهمية التعاون الأمني مع منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان. انظر
Years of Renewal (Simon and Schuster, 1999): 1042 - Ignatius, The Secret History
يُعتقد أن ميلوي، روبرت وارنج (المستشار الاقتصادي للسفارة)، وسائقهما، زهير المغربي، اغتيلوا من قبل مجموعة منشقة عن الجبهة الشعبية. - Question and Answer Session with the President, 20 June, 1976, Gerald R. Ford Presidential Library
- James M. Markham, “Peace Force in Beirut,” New York Times 22 June 1976
- Seeyle to Kissinger, “Possible Silver Lining in Connection with Current Lebanese Situation,” 14 July 1976; Pickering to Kissinger, “Proposal for US Support of PLO-led Palestinian State,” 24 July 1976; Newlin to Kissinger, “Suggestion US Advocate Palestinian State on West Bank,” 4 August 1976
- See Sayigh, 395-401
- FRUS, “Memorandum of Conversation,” 22 June, 1976: 1036-1037
- Ibid, 1037-1048
- FRUS, “Memorandum of Conversation,” 7 August, 1976: 1059-1060
- FRUS, Bush to Kissinger, 7 September, 1976: 1066
- Quandt, 178-240
- Keating to Kissinger, “Israel Assess its Image Abroad,” 13 January 1975
- Murphy to Kissinger, “Palestine National Council Plans Meeting Within Next Two-Four Months,” 2 December 1976
- “Arafat and the Journey of the Palestinian Revolution: An interview with Shafiq al-Hout,” Journal of Palestine Studies Vol. 39 (1) Autumn 2009: 50
- Murphy to Kissinger, “PLO Preparatory Committee to Meet December 30 to Discuss Enlarged PNC,” 27 December 1976; Newlin to Kissinger, “West Bank Participation at Palestinian National Council,” 30 December 1976