Palestinian Answers in the Arab Spring

لمحة عامة

يتساءل جمهور الشباب الفلسطيني كيف يمكن للثورات الديمقراطية الشعبية في البلدان العربية أن ترفد نضالهم الوطني. فهم من فجّر الانتفاضة الأولى سنة 1987 وكانوا وقود الانتفاضة الثانية في عام 2000. وهم يؤمنون بأن لهم دورًا يؤدونه في ثورات الشباب العربي الساعي للتغيير الديمقراطي. كما إن التنظيمات السياسية ومنظمات المجتمع المدني الفلسطينية تبحث عن أجوبة لهذا التساؤل. يرى مستشار الشبكة لشؤون السياسات جميل هلال في مقالته هذه بأنه لا يمكن الحصول على هذه الأجوبة من الخارج، وإنما فقط من خلال فهم الشرط الفلسطيني الذي يختلف، في جوانب مهمة، عن الشرط الذي توالدت فيه الانتفاضات العربية. ويبين هلال بعض المبادئ الأساسية اللازمة لقيام “ربيع فلسطيني” بما فيها جسم سياسي موحد من جديد، وآليات للتمثيل، وتعددية سياسية وفكرية.

الشرط الفلسطيني

إن الشعب الفلسطيني هو الشعب العربي الوحيد الذي ينقصه دولة وطنية، وتواجه مكوناتُه المتعددة ظروفًا وأوضاعًا مختلفة نجد بينها سيطرة الاستعمار الاستيطاني وفرض الحصار الخانق وممارسة التمييز القومي والعنصري والتعرض لمقتضيات حالات اللجوء والشتات والمنفى. وهكذا، فإن القضية الوطنية لا تنفصل عن القضية الديمقراطية. ومنذ عام 1993، عملت اتفاقات أوسلو على مأسسة تشتت الشعب الفلسطيني. ونتيجةً لذلك، غدت العديد من القضايا بحاجةٍ إلى تحليل. وهذا يشمل برنامجًا وطنيًا في مرحلة ما بعد أوسلو؛ والافتقار إلى قيادة فلسطينية وطنية موحدة تحظى بالشرعية من غالبية الشعب الفلسطيني؛ وغياب مؤسسات وطنية تشريعية وتنفيذية جامعة؛ والانقسامات في الحركة الوطنية.

لقد ظلت مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية منذ أوسلو مهمشةً، فقد جرى تذويبها فعليًا في السلطة الفلسطينية وهي سلطة الحكم الذاتي محدودة الصلاحيات التي أنشئت في عام 1994. وفي تلك الأثناء، تراجع الدور الذي كانت تضطلع به اتحادات منظمة التحرير القطاعية والمهنية – الطلابية والنسائية والعمالية وتلك الخاصة بالمهندسين والمعلمين والكتاب والصحفيين وغيرهم – من حيث إشراك كل مكونات الشعب الفلسطيني في النضال الوطني التحريري. وأخذت المؤسسات والآليات التي كانت تجمع الحركة الوطنية الفلسطينية بالشعب الفلسطيني إبان السبعينات والثمانينات من القرن الماضي تتآكل تدريجيًا. فكانت المحصلة أن انسلت خيوط النسيج الذي كان يوحد النضال من أجل الحقوق الوطنية والديمقراطية والإنسانية.

إعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية

بات من الواضح أن تطلعات الفلسطينيين في تقرير المصير والحرية والديمقراطية لن تتحقق ما لم يعيدوا بناء حركتهم الوطنية. ولكن كيف يمكن إعادة بنائها على أسس تمثيلية بما يشرك قواعدها الاجتماعية في فلسطين التاريخية وخارجها؟ استنادًا إلى مراجعة تجربة منظمة التحرير في عقودها الثلاثة الأولى تبرز الحاجة إلى الأسس التالية في عملية إعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية:

إعادة توحيد الجسم السياسي الفلسطيني

ينبغي أن تحظى كل مكونات الشعب الفلسطيني داخل فلسطين التاريخية وخارجها بالتمثيل بما يتناسب وأوضاع وخصوصيات كل تجمع فلسطيني. وبعبارة أخرى، ينبغي للمجلس الوطني الفلسطيني أن يتناول المطالب المُلحة والتحديات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تواجه كل مكون من المكونات الثلاثة الرئيسية للشعب الفلسطيني. فالفلسطينيون داخل الخط الأخضر ( المقيمون في إسرائيل) يعكفون على محاربة التمييز العنصري والسعي للحصول على حقوقهم القومية بوصفهم أقلية. أما الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة فيناضلون لإنهاء الاحتلال الاستيطاني الاستعماري لأراضيهم وضد الحصار. وبالمثل، يسعى الفلسطينيون في الشتات لإبقاء حقهم في العودة إلى موطنهم حيًا ومن أجل رفع الوصاية الأمنية عن المخيمات في البلدان التي يعيشون فيها، وكذلك للحصول على اعتراف بحقوقهم المدنية.

تشكل مجموعات الحقوق المختلفة هذه مكونات النضال الفلسطيني من أجل تقرير المصير والتحرر الوطني. وإن لمن مصلحة الشعب الفلسطيني بأكمله أن يزول الاحتلال، وأن يزول التمييز العنصري، وأن يُدرَك حق العودة. وعندما تؤخذ معًا، فإن إعمال هذه الحقوق سوف يعالج الظلم التاريخي الذي لحق بالفلسطينيين. ولقد كانت المرة الوحيدة التي نشب فيها تعارض بين تطلعات مكونات الشعب الفلسطيني عندما تحرَّك مكون واحد منها لتحقيق مطالبه الملحة وحسب (الأمر الذي مثله اتفاق أوسلو)، وهو ما اختزل القضية الفلسطينية في إنهاء احتلال الأراضي المحتلة في عام 1967. ولهذا السبب شعر الكثيرون (وتحديدا بين الأقلية الفلسطينية داخل الخط الأخضر، وفي الشتات) بأن اتفاقات أوسلو قد أفضت إلى تجزئة الشعب الفلسطيني بتجاهل تاريخه السابق لعام 1967.

آليات التمثيل

تُشكل آليات التمثيل الديمقراطي أحد التحديات. إن السُبل لمشاركة كل تجمع من تجمعات الشعب الفلسطيني في عملية انتخابية لاختيار ممثليه في المجلس الوطني الفلسطيني تقتضي دراسة متمعنة تُقيّم أفضل الأمثلة التاريخية وأنسبها. ويمكن أن تتراوح هذه السبل بين الانتخاب المباشر كما يجري في الأراضي الفلسطينية المحتلة في إطار انتخاب المجلس التشريعي الفلسطيني (وهو أمر يمكن أن تعطل تنفيذه إسرائيل)، والانتخاب عبر شبكة الإنترنت، وعبر الاتفاق مع الدول العربية ذات التجمعات الفلسطينية، وطُرق أخرى يمكن الاتفاق عليها.

سوف تكون هناك تحديات أكبر في أوساط اللاجئين والمنفيين وكذلك بالنسبة للأقلية الفلسطينية في إسرائيل. وعلى الرغم من أنه يمكن استخدام سجلات وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، على سبيل المثال، في تجمعات اللاجئين في البلدان العربية من أجل وضع قوائم بأولئك المؤهلين للتصويت والترشح في الشتات، فهل سيكون الفلسطينيون في الأردن على استعداد للتعريف بأنفسهم كفلسطينيين بغية التصويت، في وقت يشرع الأردن فيه بسحب الجنسية من الأردنيين المنحدرين من أصول فلسطينية؟ كما إن الفلسطينيين المواطنين في إسرائيل سيواجهون عواقب وخيمة إذا ما شاركوا في انتخاب ممثلين لهم في المجلس الوطني الفلسطيني. ومع ذلك، يُمكن إيجاد طُرق أخرى للتعبير عن آرائهم. ففي الماضي، عبروا عن آرائهم وتطلعاتهم دون الحاجة لأن يكونوا أعضاء رسميين في المجلس الوطني الفلسطيني.

ومن الجدير بالذكر أن القانون الأساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية ينص على وجوب انتخاب أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني انتخابًا مباشرًا. ومع ذلك، اعتمد المجلس الوطني الفلسطيني إلى حد كبير على نظام الحصص، كما فعلت بعض التنظيمات الجماهيرية، وبذلك تقسمت المقاعد بين الفصائل السياسية بحسب نظام حصص محدد – تستأثر فيه حركة فتح بنصف عدد المقاعد زائد واحد في الأمانات العامة، وتتوزع البقية بين أعضاء الجماعات الأخرى. وكان اتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين الاستثناء الوحيد لذلك، إذ لم تستحوذ حركة فتح على الأغلبية وانعكس على تكوين الأمانة العامة خلال سنوات السبعينات ومعظم الثمانينات.

لقد قاد نظام الحصص،عمليا، إلى شلّ مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، وحدَّ من المنافسة السليمة والديناميات المطلوبة لضمان تمثيل حقيقي لجماهير الناخبين الفلسطينيين وهو ما كان يمكن تحقيقه باتباع أساليب أخرى كالتمثيل النسبي. لقد أُجريت الانتخابات المباشرة في بعض فروع الاتحادات الطلابية (كما لا تزال الحال في جامعات الضفة الغربية وقطاع غزة) وأحيانا في فروع الاتحادات الأخرى، رغم أن أولئك المتواجدين خارج الأراضي الفلسطينية المحتلة كانوا مضطرين للتماشي مع نظام الحصص. كما استُخدمت هذه الانتخابات أيضًا كوسيلة لتجنب مخاوف الحكومات المضيفة حيال الوضع الفلسطيني للمقيمين فيها – وخشية الحكومات العربية من أن شعوبها قد تطالب بإجراء انتخابات. ومن الناحية النظرية، ينبغي لموجة الديمقراطية التي ساقتها الثورات العربية أن تسهل على التجمعات الفلسطينية مهمة عقد انتخابات مباشرة في البلدان المضيفة.

ضمان التعددية السياسية والفكرية

لا ينبغي استبعاد أي مشاركة فلسطينية سياسية أو فكرية في إعادة بناء منظمة التحرير ومجلسها الوطني الفلسطيني الجديد. ولقد كانت هذه هي الحال داخل منظمة التحرير الفلسطينية قبل أوسلو، إذ كانت التكوين السياسي يتراوح بين اليسار واليمين وبين الإسلامي والعلماني. وكانت هذه أحد مواطن القوة في منظمة التحرير، حيث كان لكل الفصائل الحق في إسماع صوتها والتعبير عن آرائها ومواقفها، كما كان لجميع المنظمات السياسية المنضوية في منظمة التحرير الفلسطينية (بما فيها اليسارية، والفتحاوية، والقومية) منشوراتها، وتنظيماتها المدنية والعسكرية المستقلة، وأجهزتها الأمنية، وموقفها الأيديولوجية.

وبالطبع، فإن التعددية لا تعني أن تفعل التنظيمات السياسية ما يحلو لها على الصعيد الوطني، وإنما يتعين عليها أن تعمل في حدود الميثاق الوطني وقرارات الإجماع. فقد كان التقليد السائد داخل منظمة التحرير الفلسطينية في مرحلة ما قبل أوسلو أن تعقد اجتماعات مطولة للتقرير في القضايا الوطنية من أجل التوصل إلى توافق في الآراء. ولا بد لكل مكوّن من مكونات الشعب الفلسطيني أن يأخذ في الحسبان مصالح المكونات الأخرى. فعلى سبيل المثال، إذا اتُخذ قرار بتبني المقاومة المسلحة، فإنه ينبغي لهذا القرار أن يحدد المناطق التي ستكون ساحةً لهذه المقاومة (مثلًا المناطق الخاضعة للاحتلال العسكري الإسرائيلي المباشر أو من حدود معينة دون أخرى). ولا بد أن يكون التنفيذ خاضعًا لاعتبارات معينة، بما فيها تلك التي ينص عليها القانون الدولي الذي يُقرّ بحق الشعوب في مقاومة المحتل ولكنه يحظر الهجمات ضد المدنيين سواء على يد الدول أم الأفراد.

لقد أضحت السلطتان القائمتان منذ عام 2007 في الضفة الغربية وقطاع غزة أقل تسامحًا مع حرية التعبير والتنظيم مما كانت عليه الحال من قبل. فقد عملت كل واحدة منهما على تقييد حقوق المتعاطفين مع الأخرى (المتعاطفين مع فتح في غزة والمتعاطفين مع حماس في الضفة الغربية). ويؤمل أن يُفضي التقارب بين حركتي فتح وحماس في الآونة الأخيرة (التوقيع على المصالحة بخطوطها العريضة في أيار الحالي) إلى توطيد المؤسسات الديمقراطية والحريات المدنية وإعادة توجيه الطاقات نحو النضال من أجل التحرر وتقرير المصير.

وفق القانون الأساسي يتعين عقد اجتماعات المجلس الوطني الفلسطيني سنويًا وانتخاب اللجنة التنفيذية كل ثلاث سنوات، وهذا كان يتم بشكل عام حتى أواخر الثمانينات، فقد كان الاجتماع الشرعي الأخير (أي المنعقد وفقًا للقانون الأساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية) ذاك الذي انعقد في الجزائر العاصمة في عام 1988 والذي أُعلن فيه قيام الدولة الفلسطينية. إن الشلل القسري المفروض على المجلس الوطني الفلسطيني ينتهك القانون الأساسي لمنظمة التحرير. وينبغي لأولئك الذين راهنوا على تحول السلطة الفلسطينية إلى دولةً فلسطينيةً أن يتمعنوا فيما تم بالفعل ولا سيما تهميش منظمة التحرير، وتقويض وحدة الشعب الفلسطيني، وتواصل الاستعمار الاستيطاني للضفة الغربية وتهويد القدس، وفرض الحصار الخانق على قطاع غزة. وبالنظر إلى التوافق على الخطوط العريضة بين فتح وحماس على إنهاء الانقسام داخل الحركة الوطنية، فإن الأمل معقود على إعمال الفكر لوضع استراتيجية وطنية لا تعلق آمالًا زائفة على الولايات المتحدة أو تركن إلى مفاوضات عديمة الجدوى لا تقدم هدفا واضحا ولا تقوم على أساس قرارات الأمم المتحدة.

إن الاندفاع نحو إعلان دولة فلسطينية في شهر أيلول/سبتمبر القادم قد لا يكون سوى ملهاة أخرى وليس إلا. كما أن له خاطره، حيث تتمتع منظمة التحرير الفلسطينية في الوقت الحالي بصفة مراقب في الأمم المتحدة، وهي بذلك منظمة التحرير الوطني الوحيدة التي تحظى بهذه الصفة. ولكن ماذا سيحصل لمنظمة التحرير عندما تعترف الأمم المتحدة بدولةٍ فلسطينية، دولةٍ تحت الاحتلال لا تملك سيادةً على أراضيها أو حدودها أو مجالها الجوي ولا تملك السمات الضرورية لدولة ذات سيادة وتعرض حق العودة للخطر؟ وهذا بالضبط ما يسعى إليه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو: دولة ذات حدود مؤقتة.

ضمان الديمقراطية

ينبغي احترام الحقوق الديمقراطية للفلسطينيين، ومنها حق الانتخاب والترشح؛ والحق في حرية التعبير والرأي والتنظيم؛ والتجديد الدوري للقيادات السياسية والنقابية. إن إرساء الديمقراطية أمر مهم ولا سيما من أجل تفعيل وإعادة بناء التنظيم الجماهيري والاتحادات القطاعية والنقابات العمالية والمهنية. فإذا ما أريد لهذه المؤسسات أن تكون فعالةً بحق، فلا بد أن تحظى بمشاركة حقيقية من القواعد الشعبية بدلًا من أن تتلقى ببساطة إملاءات الأحزاب السياسية التي تفرض عليها نظام الحصص. وبخلاف ذلك، فإن الفلسطينيين سيخسرون الآلية الأقوى في الربط الأفقي بينهم، أي الروابط العابرة للحدود والأيديولوجيات والظروف الاجتماعية والاقتصادية.

في العام 1983 تعرضت منظمة التحرير إلى الانقسام السياسي، انعكس على اتحاداتها، كان منها الاتحاد العام للكُتّاب والصحفيين الفلسطينيين. فكان أن تولى الاتحاد مهمة توحيد نفسه على أمل أن يسهل ذلك إعادة توحيد منظمة التحرير الفلسطينية. وكان كأن نجح في ذلك وعُقد مؤتمره التوحيدي في الجزائر العاصمة سنة 1987 وتلى ذلك بفترة قصيرة عقد اجتماعٍ توحيدي للمجلس الوطني الفلسطيني.

أسس شاملة وعلمانية

يجب على الفلسطينيين أن يضمنوا قيام الحركة الفلسطينية على أسس علمانية جامعة من أجل تحفيز الحوار، والمساءلة، والمعارضة البناءة.1 وبوسع الثورات العربية أن تكون مصدر قوة للفلسطينيين في عملية بناء هذه الأسس. وهناك خطابات جديدة في أوساط الحركات الإسلامية، حيث أخذ البعض، ومنهم أعضاء في حركة الإخوان المسلمين في مصر، يقبلون بفكرة قيام دولةٍ مدنية بدلًا من دولةٍ إسلامية. في حين يتحاور التونسيون حول صياغة دستورٍ علماني ومنح المرأة 50 في المئة من عدد المقاعد التمثيلية في المؤسسات الوطنية والأحزاب السياسية. وهذه هي المَواطن حيث يمكن للفلسطينيين أن يستمدوا القوة من الثورات العربية.

مراجعة الميثاق الوطني

قد يقتضي تحقيق تطلعات الشعب الفلسطيني بأسره ضرورةَ مراجعة الميثاق الوطني الفلسطيني. فقد صيغ الميثاق في عقد الستينات في زمنٍ وعالمٍ مختلفين كليًا ويحتاج إلى تجديد في اللغة والمفاهيم تتماشى مع التحولات التي دخلت على العالم وعلى المنطقة وعلى الوضع الفلسطيني منذ أواخر الثمانينات.
وسوف يترتب على هذه المراجعة تجاوز اتفاقات أوسلو التي ساهمت في تجزئة الشعب الفلسطيني وتهميش منظمة التحرير الفلسيطينية، ووفرت غطاءً لسياسة إسرائيل الاستعمارية الاستيطانية. وهناك فلسطينيون كُثُر يؤمنون بضرورة القيام بذلك، ومنهم زعماء سياسيون. وإذا ما أعيد بناء منظمة التحرير الفلسطينية، فينبغي أن يقع مقرها خارج فلسطين المحتلة، وأن تصبح السلطة الفلسطينية إدارةً من إداراتها بحيث تنحصر أعمالُها في الوظائف “البلدية” (الصحة، والتعليم، والصرف الصحي، وما إلى ذلك). ولا ينبغي أن تتولى أي وظيفة سياسية. إن إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية تستلزم إعادة تعريف العلاقة بين منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية وتوضيح علاقاتهما ومسؤولياتهما. وهذا ليس لأن السلطة الفلسطينية على أعتاب التحول إلى دولة – وهي ليست كذلك – ولكن من أجل تحرير الحركة الوطنية من ضغوط إسرائيل وقيودها واشتراطاتها ومن الانحياز السافر من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لإسرائيل.

قد يتخوف البعض من انقطاع المعونات ومن أن 160,000 موظف لدى السلطة الفلسطينية سيعانون وعائلاتهم من جراء ذلك. ولهذا السبب يحتاج الفلسطينيون إلى منظمة تحرير فلسطينية قوية ينضوي تحت مسؤوليتها موظفو السلطة الفلسطينية. غير أنه ليس من الممكن أن تصبح حقوق الشعب الفلسطيني الأساسية رهينةً لموظفي السلطة الفلسطينية. إن بوسع الدول العربية أن تعوّض أي انقطاع في المعونات التي تتلقاها السلطة الفلسطينية من الغرب. أما إسرائيل، فلتتحمل أعباء احتلالها، بدلًا من أن تحصل، كما تفعل الآن، على أرخص احتلال في التاريخ، على حد قول رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس.2

وخلاصة القول، لا بد من إعادة بناء الاتحادات الشعبية والنقابات العمالية والمهنية الفلسطينية من أجل إحياء الهياكل التي تعيد توحيد الجسم السياسي الفلسطيني، وتغرس جذوره في بيئة اجتماعية وثقافية سليمة، وتعيد بناء الحركة الوطنية. وهذه هي الأولوية وما سواها من قضايا فهو ثانوي.

بناء حركة وطنية جديدة أم إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية؟

يتردد تساؤل حول عملية بناء الحركة الوطنية: هل يتم هذا عبر إعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير، أم عبر بناء حركة جديدة؟ نظريًا، كلا الخيارين قابل للنجاح طالما أنه يراعي الأسس والمبادئ الواردة أعلاه. غير أن الواقع مختلف. فأي محاولة لتأسيس حركة وطنية جديدة سيثير مخاوف سياسية فئوية نظرًا للانقسام الجغرافي السياسي الذي أسفر عن قيام حكومة في غزة وأخرى في الضفة الغربية منذ 2007. وبعد اتفاق فتح وحماس على المضي قدمًا لإنهاء الانقسام، يؤمل أن تناقشا وضع الحركة الوطنية ومسألة صياغة استراتيجية موحدة لمجابهة السياسة الإسرائيلية، بدلًامن استخدام أجهزتهما الأمنية لقمع المواطنين الفلسطينيين.
وبالنظر إلى الاعتبارات السابقة، فإن أية دعوة إعادة بناء الحركة الوطنية تجاهل منظمة التحرير ستُفاقم حالة الاستقطاب الفلسطيني الحاد، وستقود إلى زيادة الارتهان إلى قوى خارجية لها أجنداتها الخاصة. ولذا ليس من الحكمة القفز عن هدف إعادة بناء منظمة التحرير رغم ما أصابها من جمود وعطب وتهميش وتقادم، وذلك لأسباب عدة، لعل أبرزها ما يلي:

أولًا: هناك إجماع وطني على إعادة بناء منظمة التحرير بحيث تكون مؤسساتها مؤسسات وطنية جامعة، رغم أن ذلك بقي، حتى الآن، دون اتفاق تفصيلي على الجدول الزمني وآليات التنفيذ.

ثانيًا: لمنظمة التحرير تراث نضالي وكفاحي ينبغي البناء عليه وليس التنكر له. ولذا فالمطلوب ليس تجاهل هذا التراث بل التعريف به وإحياؤه، وبخاصة أن نسبةً عاليةً من الشباب الفلسطيني في الداخل والخارج لا تعرف عن هذا التاريخ إلا قليل القليل؛ فمعظمهم لم يعايش مرحلة نهوض المقاومة الفلسطينية في أواخر الستينات وفي السبعينات في الشتات وداخل الخط الأخضر، ولا صورة لديهم عن صمودها في لبنان أمام الاحتياجات والاعتداءات الإسرائيلية، وبعضهم كان صغيرًا أو غير مولود خلال الانتفاضة الأولى.

ثالثًا: يتوفر اعترافٌ عربي ودولي واسع بمنظمة التحرير بوصفها “الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني”، ولن يكون من السهل بتاتًا الحصول على اعترافٍ مماثل لحركةٍ جديدة، بل يصعب الحصول على اعترافٍ فلسطيني واسع بها.

رابعًا: كان للمنظمة وفصائلها دورٌ محوري في دعم وتشريع مهام الاتحادات القطاعية والنقابات العمالية والمهنية. وساهمت هذه بفعالية في توفير القاعدة الاجتماعية الشعبية العريضة للمنظمة مما مكّن من تعبئة وإشراك الفئات الشعبية والكادحة من الشعب الفلسطيني في النضال الوطني. كما ساهمت في تشييد الصلات التنظيمية والنضالية بين هذه التجمعات رغم البعد والانقطاع الجغرافي بينها. ومع تهميش مؤسسات منظمة التحرير، جرى تهميش هذه الاتحادات وتحويلها إلى هياكل بيروقراطية غير فاعلة وغير تمثيلية وبدون دور وطني مؤثر، وبالتالي باتت غير قادرة على الدفاع عن مصالح الشرائح الاجتماعية المفترض أن تمثلها.

الخلاصة

تفيد الرسالة الأبرز التي تبعثها الانتفاضات العربية للشعب الفلسطيني بأن السعي للتحرر الوطني والديمقراطية والعدالة الاجتماعية هو شأن متداخل ومتشابك. ولا بد أن تتمثل الخطوة الأولى في إعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية على أسس ديمقراطية جامعة تحفظ وحدة الشعب الفلسطيني. وفي مَعرض المفاضلة بين إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية وبناء حركة وطنية جديدة، يبدو من الواضح بأن إعادة بناء منظمة التحرير هو السبيل الأكثر فعالية رغم حالة الاحتضار التي تمر بها المنظمة. إن لعملية إرساء الديمقراطية الجارية حاليًا في العالم العربي قيمةٌ بالغة وقوةٌ بالنسبة للنضال الفلسطيني، وينبغي للقيادة الفلسطينية أن تدعم هذه العملية وأن تستوحي الإلهام منها.

إن على الفلسطينيين في سياق عملية إعادة بناء الحركة الوطنية أن يعيدوا ترتيب جدول الأعمال الوطني والاجتماعي، وأن ينخرطوا في العمل مع التجمعات الفلسطينية المختلفة. ولا بد لهم من تبني النضالات الاجتماعية والديمقراطية والوطنية التي تتناسب وظروف كل تجمع وخصوصياته، والاستلهام من قيم الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية والحق في تقرير المصير.


  1. تجدر الإشارة هنا إلى أن “علماني” و”إلحادي” مصطلحان غير مترادفين، وفي هذه الحالة يكون مصطلح “مدني” أقل شحنًا واحتمالًا لمعاني أخرى. 
  2. اقتبسته لميس أندوني في http://english.aljazeera.net/indepth/opinion/2010/12/201012761934693578.html 
جميل هلال هو باحث اجتماعي وكاتب فلسطيني مستقل. نشر العديد من الكتب والمقالات عن المجتمع الفلسطيني، الصراع العربي الإسرائيلي، وقضايا الشرق الأوسط. شغِل هلال، وما...
في هذه المقالة

أحدث المنشورات

 السياسة
بعد عام من المعاناة تحت وطأة العنف والدمار المستمرين ، يقف الفلسطينيون عند لحظة مفصلية. تتناول يارا هواري، في هذا التعقيب، الخسائر الهائلة التي تكبدها الشعب الفلسطيني منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023 والفرص المنبثقة عنها للعمل نحو مستقبل خالٍ من القمع الاستعماري الاستيطاني. وترى أنّ الوقت قد حان الآن لكي تتحول الحركة من رد الفعل إلى تحديد أولوياتها الخاصة. وكجزء من هذا التحول، تحدد يارا ثلاث خطوات ضرورية: تجاوز التعويل على القانون الدولي، وتعميق الروابط مع الجنوب العالمي، وتخصيص الموارد لاستكشاف الرؤى الثورية لمستقبل متحرر.
Al-Shabaka Yara Hawari
يارا هواري· 22 أكتوبر 2024
منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، قتلت القوات الإسرائيلية ما يزيد عن 40,000 فلسطيني في غزة، وجرحت 100,000 آخرين، وشرَّدت كامل سكان المنطقة المحتلة تقريبًا. وفي ذات الوقت شرَعَ النظام الإسرائيلي في أكبر اجتياح للضفة الغربية منذ الانتفاضة الثانية مما أدى إلى استشهاد ما يزيد عن 600 فلسطيني واعتقال 10,900 آخرين. كما وسعت إسرائيل نطاق هجومها الإبادي الجماعي في لبنان، مما أسفر عن مقتل ما يزيد على ألف شخص ونزوح أكثر من مليون آخرين. يسلط هذا المحور السياساتي الضوء على مساعي الشبكة في الاستجابة لهذه التطورات على مدار العام الماضي، من وضع أحداث السابع من أكتوبر في سياق أوسع للاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، إلى استجواب آلة الحرب الإسرائيلية متعددة الأوجه، إلى تقييم العلاقات الإقليمية المتغيرة بسرعة. هذه المجموعة من الأعمال تعكس جهد الشبكة المستمر في تقديم رؤية فورية للوضع الفلسطيني.
لا تنفك شركات الأسلحة البريطانية تتربّح من بيع الأسلحة لإسرائيل من خلال التراخيص الصادرة من الحكومة البريطانية، حيث بلغ إجمالي هذه الصادرات منذ العام 2008 ما يقدر بنحو 740 مليون دولار، وهي ما تزال مستمرة حتى في ظل الإبادة الجماعية الجارية في غزة. يشعر البعض بتفاؤل حذر إزاء احتمال فرض حظر على الأسلحة بعد فوز حزب العمال في انتخابات يوليو/تموز 2024، وبعدَ أن وعدَ بالانسجام مع القانون الدولي. في سبتمبر/أيلول 2024، علقت الحكومة البريطانية 30 ترخيصاً من أصل 350 ترخيصاً لتصدير الأسلحة إلى إسرائيل. ويرى الناشطون وجماعات حقوق الإنسان أن مثل هذا القرار محدود للغاية. وبناء على ذلك، تُفصِّل هذه المذكرة السياساتية الالتزامات القانونية الدولية الواقعة على عاتق بريطانيا وكذلك المناورات الحكومية الممكنة فيما يتصل بمبيعات الأسلحة لإسرائيل.
شهد الحموري· 15 سبتمبر 2024
Skip to content