ملخص تنفيذي
أخذت مشاريعُ "من شعب إلى شعب،" التي توالف بين الجهات الفاعلة في المجتمع المدني الإسرائيلي والفلسطيني بدعوى التعاون والحوار، تعود مجددًا بعد أن تراجعت في مطلع الألفية. ولأنها تؤكد مفاهيم التعاون والتفاهم وبناء السلام، فإنها قد تبدو واعدةً في ظاهرها، ولكنها إشكاليةٌ في جوهرها، إذ تفرض عقباتٍ أساسيةً تعوق محاسبة إسرائيل على انتهاكاتها لحقوق الإنسان الفلسطيني وتحقيق السلام العادل.
تبني هذه الورقةُ السياساتية نقدَها لمشاريع "من شعب إلى شعب" على نص قانون الشراكة الشرق أوسطية من أجل السلام، الذي سنَّه الكونغرس الأمريكي في كانون الأول/ديسمبر 2020، وتوضِّحُ الخطرَ الكامن في هذا الإطار وتأثيراته في إقامة أي عدالة تُذكر للفلسطينيين. يُؤكد إطارُ عمل "من شعب إلى شعب" أهميةَ "التعاون عبر الحدود" بين الأطراف المتنازعة لتحقيق السلام الدائم. ولكن من الواضح أن ذلك لا ينطبق على حالة فلسطين، لأن النزاع ليس بين طرفين متكافئين منخرطين في صراع متناظر على امتداد حدودهما المشتركة، وإنما هو صراعٌ مع الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي المتواصل بلا هوادة، ومع الاضطهاد الواقع على الفلسطينيين، حيث تبسط إسرائيلُ سيادتَها بحكم الواقع على الأراضي الواقعة بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط.
يروِّج إطار عمل "من شعبٍ إلى شعب" الافتراضَ الخاطئ بأن مبادراته وقنواته التمويلية قادرةٌ على "إنعاش" الاقتصاد الفلسطيني، وهذا الافتراض مُضلل، ولا يكفل محاسبة النظام الإسرائيلي على ممارساته المستمرة في تدمير الاقتصاد الفلسطيني، حيث بات النظامُ الإسرائيلي يملك اليوم سيطرةً كاملةً مباشرة وغير مباشرة على مقاليد الاقتصاد الفلسطيني. ويتمكَّنُ بفضل الاحتلال العسكري من بسط سيطرته على أنشطة الفلسطينيين الاقتصادية اليومية، ومن التوسع في مصادرة الأراضي الفلسطينية. وهكذا، فإن ما يحتاجه الاقتصاد الفلسطيني ليس ضخَّ الأموالِ في هذا النظام من خلال المبادرات الممولة في إطار "من شعب إلى شعب."
وعلاوةً على ذلك، تكشف القراءة المتفحصة لنص القانون ثغرةً مقلقةً فيه تسمح بتقويض حقوق الشعب الفلسطيني بالكامل. فقد أشارت المحامية الحقوقية والمحللة السياساتية في الشبكة، زها حسن، في أيلول/سبتمبر 2020 إلى أن مسودة مشروع القانون تحظر "التمييز الجغرافي" بين طالبي المنح من "إسرائيل والضفة الغربية وقطاع غزة." أي أن الجميع، بمن فيهم المستوطنون الإسرائيليون في الضفة الغربية، يمكنهم التقدم بطلب الحصول على تمويل. وحين لا يحظر قانون الشراكة من أجل السلام على المستوطنين في المستوطنات غير القانونية التقدمَ بطلب الحصول على التمويل، فإنه يُحفِّز النشاط الاستيطاني ويُثري المستوطنين.
اشتملَ مشروع قانون المخصصات الأمريكي الذي اقترحه أعضاء في مجلس النواب الأمريكي في تموز/يوليو 2020 للسنة المالية 2020-2021 بنودًا لقانون الشراكة من أجل السلام تفرض مجموعةً من الشروط الواجب استيفاؤها لتلقي التمويل، مثل حجب التمويل عن الفلسطينيين إذا قدَّمت السلطة الفلسطينية طلبًا للمحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في جرائم الحرب الإسرائيلية. إنَّ هذه البنود، التي تسيِّسُ التمويل بربطه بشروط جائرة، تضرُّ مساعي تأمين حقوق الفلسطينيين الأساسية، وتقوِّض أجهزة القانون الدولي، إذ تُرسِّخ إفلات إسرائيل من العقاب، وتتغاضى عن محاسبتها على انتهاكاتها الجسيمة لحقوق الإنسان.
بالرغم من هذه الخصائص الإشكالية لمشاريع "من شعبٍ إلى شعب،" إلا أن جهودًا متنامية تُبذَلُ لترويجها، حيث أعلن التحالف من أجل السلام في الشرق الأوسط، بعد سنّ القانون، أنَّ له الفضلَ في بلورة هذه المبادرة، موضحًا إنها كانت ثمرةَ "عقدٍ ونيِّف من جهود الدعوة والمناصرة" التي بذلها من أجل "إنشاء صندوق دولي للسلام الإسرائيلي الفلسطيني." وقبل صدور القانون بشهر، استشهد التحالف بمناقشةٍ برلمانية بريطانية طرحت فكرة إقامة صندوق مماثل في المملكة المتحدة.
قانونُ الشراكة من أجل السلام لا يدعو للتفاؤل بالتأكيد، فهو أداةٌ سياسية تُستخدَم ضد الفلسطينيين الذين قد يسعون إلى توظيف الوسائل القانونية لمحاسبة النظام الإسرائيلي على معاناتهم المستمرة في ظل الاحتلال. وهو بمثابة نهاية الطريق للفلسطينيين الساعين إلى إحقاق العدالة من خلال القنوات القانونية الرسمية للنظام الدولي.
تتمثل العقبة الرئيسية أمام "تحقيق السلام" في الانتهاكات التي يرتكبها النظام الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني منذ ما يزيد على سبعة عقود، فضلًا على استعماره المستمر للأرض الفلسطينية. ويقتضي إيقاف مشاريع "من شعب إلى شعب" وإقامة السلام العادل وقفة حزمٍ من مناصري حقوق الفلسطينيين في وجه تلك المبادرات التي تُسخِّر الحوار كغطاء للالتفاف على المساءلة والمحاسبة، وبذلك تقوِّض القانون الدولي.
ينبغي للساسة وصناع القرار أن يدعموا المشاريع والمبادرات القائمة على المبادئ الأساسية للقانون الدولي وحماية حقوق الإنسان الفلسطيني. وينبغي أن يدعموا الآليات القائمة التي تتصدى للتوسع الاستيطاني الاستعماري والاحتلال العسكري الإسرائيلي. وهذا يشمل حظر منتجات المستوطنات غير القانونية على الأسواق الدولية، وسحب الاستثمارات من المؤسسات والشركات المتواطئة في الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الإنسان. فالمساءلة والمحاسبة هي السبيل الوحيدة لتحقيق السلام العادل.
نظرة عامة
أَحيت مبادراتُ المانحين في فلسطين مشاريعَ “من شعب إلى شعب” التي توالف بين الجهات الفاعلة في المجتمع المدني الإسرائيلي والفلسطيني تحت شعار ما يُسمى التعاون والحوار، وتعكف على ترويجها بوصفها تجسيدًا لمفاهيم التعاون والتفاهم وبناء السلام، وإطارَ عملٍ إيجابي، بينما الوضع السياسي آخذٌ في التدهور. ومع أن إطار “من شعب إلى شعب” قد يبدو واعدًا في ظاهره، إلا أنه إشكاليٌ في جوهره، حيث يفرض عقباتٍ معرفيةً ومادية أساسية على أرض الواقع تعوق محاسبة إسرائيل على انتهاكاتها لحقوق الإنسان الفلسطيني وتحقيق السلام العادل.
يقوم الإطار على فكرة وجود نزاع دائرٍ منذ زمن بعيد بين الفلسطينيين والإسرائيليين وليس أن الاستعمار الاستيطاني والاحتلال العسكري الإسرائيلي أحد أسبابه الجذرية. ويرى في التواصل والحوار السبيلَ لإنهاء العنف، ومن ثم النزاع، وبهذا يساوي زورًا وبهتانًا بين القمع الهيكلي الذي يمارسه المحتل الإسرائيلي والمقاومة المبررة للفلسطينيين المضطهدين.
لقد أثبتت الجهات الفاعلة المحلية والدولية أن إطار “من شعب إلى شعب” غير فعّال لأن الغالبيةَ العظمى من الفلسطينيين لا يريدونه، بل إن المجتمع المدني الفلسطيني يرفض بالإجماع فكرة “من شعب إلى شعب” لأن المشاريع في هذا الإطار لا تقوم على مبادئ القانون الدولي أو الاعتراف بالحقوق الأساسية الفلسطينية، وإنما تقوِّض تلك الحقوق في معظم الأحيان.
ومع أن إطار عمل “من شعب إلى شعب” كان في حالة تراجع منذ مطلع الألفية، إلا أنه أُحيي مؤخرًا في قانون الشراكة الشرق أوسطية من أجل السلام الذي أجازه الكونغرس الأمريكي في كانون الأول/ديسمبر 2020، والذي يرصد 250 مليون دولار على مدى خمس سنوات لإنشاء صندوقين، يركز أحدهما على “مشاريع السلام والمصالحة” بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وقد وصفته تقارير إعلامية بأنه خطوة لاستئناف المساعدات للفلسطينيين بعد انقطاع طويل إبان رئاسة ترامب، وثمة مَن احتفى به باعتباره يجلب “زخمًا” ومقاربةً جديدة لعملية السلام الراكدة.
إن نظرةً خاطفة على هذا القانون والصندوق نفسه لن تدق بالضرورة ناقوسَ الخطر لدى العديد من صانعي السياسات التقدميين. أمّا التحليل المتعمِّق أكثر في نص مشروع القانون وتبعاته المحتملة يكشف عن سابقةٍ مقلقة في تقويض القانون الدولي والحقوق الأساسية الفلسطينية، والتغاضي عن إفلات إسرائيل من العقاب. تعرض هذه الورقة السياساتية نقدًا لمفهوم “من شعب إلى شعب”، وتوضح خطورةَ إطار العمل هذا في تأمين العدالة للفلسطينيين. وتختتم بأن على مناصري المبادئ الأساسية للقانون الدولي وحقوق الفلسطينيين أن يعترضوا على هذا الصندوق وإطار عمل “من شعب إلى شعب” عمومًا، وأن يُحاسبوا إسرائيل على انتهاكاتها.
إطار بائد وإشكالي
سَبَقت إطارَ “من شعب إلى شعب” دبلوماسيةُ المسار الثاني في ثمانينات القرن الماضي واستُخدمت فيها القنوات الخلفية لإيجاد فضاءات لغير المسؤولين لمناقشة خيارات الحل بُغية التأثير في أولئك المنخرطين في دبلوماسية المسار الأول حيث تجري المفاوضات الرسمية بين المسؤولين. وكانت الانطلاقة الفعلية لإطار “من شعب إلى شعب” بعد توقيع اتفاقات أوسلو سنة 1993، التي وسَّعت نطاق دبلوماسية المسار الثاني لتشملَ منظمات المجتمع المدني الفلسطينية والإسرائيلية التي لم تسعَ بالضرورة إلى التأثير في المسؤولين، وإنما إلى تحسين مستوى التفاهم والتعاطف بين الشعبين.
وبالرغم من أن المسار التاريخي لإطار عمل “من شعب إلى شعب” يتسم بالتعقيد، تجدر الإشارة إلى أن هذا الإطار شهد تراجعًا كبيرًا منذ مطلع الألفية بسبب عواملَ مختلفةٍ مثل اندلاع الانتفاضة الثانية، واندثار “اليسار” الإسرائيلي – الذي كان أعضاؤه ليشاركوا في تلك المشاريع – وتجدُّدِ الإجماع على مقاومة التطبيع في المجتمع المدني الفلسطيني سنة 2007.
مقاومةُ التطبيع هي مصطلحٌ صاغه ووضع تعريفه المجتمعُ المدني الفلسطيني. وتعود جذوره إلى النضال الفلسطيني ضد الاحتلال البريطاني الذي بلغ ذروته إبان الثورة الكبرى 1936-1939. وتدل مقاومة التطبيع على رفض الفلسطينيين المشاركةَ في المشاريع والفعاليات والأنشطة التي تروِّج لإسرائيل ككيان شرعي، الأمر الذي يُطبِّع بدوره العلاقات بين الظالم والمظلوم.
مقاومة التطبيع ... وسيلة سياسية تدرك الإطارَ البائد للحوار الفلسطيني-الإسرائيلي وبناء السلام غير المستند إلى المبادئ الأساسية للقانون الدولي Share on Xوتسعى كأسلوب ممارسة إلى مناهضة شرعنة وتبييض الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الفلسطينيين تحت غطاء الحوار. ومن أمثلة التطبيع مشروعٌ يسعى لجمع النساء الإسرائيليات بالفلسطينيات لمناقشة التحديات التي يواجهنها في مجتمعاتهن دون الحديث عن التفاوت واختلال التوازن الكامن بينهن، والذي يُسفر في حالة النساء الفلسطينيات عن تعرضهن لعنف منتظم على يد النظام الإسرائيلي.
مقاومة التطبيع ليست موقفًا مبدئيًا وحسب، وإنما وسيلة سياسية تدرك الإطارَ البائد للحوار الفلسطيني-الإسرائيلي وبناء السلام غير المستند إلى المبادئ الأساسية للقانون الدولي. وتعي أن مشاريع “من شعب إلى شعب” تُبدِّدُ فرصة محاسبة إسرائيل عن انتهاكها حقوقَ الفلسطينيين، ولذا يرى الفلسطينيون في تلك المشاريع وسيلةً مصممة خصيصًا لتمكين إسرائيل من الإفلات من العقاب.
يُؤكد إطارُ عمل “من شعب إلى شعب” أهميةَ “التعاون عبر الحدود” لتحقيق السلام الدائم. وتُصمَّمُ المشاريعُ ضمن هذا الإطار “لفتح باب الاتصالات والتفاعلات وتعزيزها على المستوى الشعبي بين الناس عبر الحدود.” ولكن من الواضح أن ذلك لا ينطبق على حالة فلسطين لأن الصراع الدائر، كما ظل يردِّدُ إدوارد سعيد وغيره من المثقفين والناشطين الفلسطينيين، ليس بين طرفين متكافئين، وإنما هو صراعٌ مع الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي المتواصل بلا هوادة، ومع الاضطهاد الواقع على الفلسطينيين.
مفهومُ الحدود في هذه الحالة مغلوط أيضًا لأن النظامَ الإسرائيلي يملك السيادةَ بحكم الواقع على الأراضي الواقعة بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط، وما برح لعقودٍ يُرضِخُ ملايين الفلسطينيين لاحتلاله العسكري ويواصل مصادرة الأراضي الفلسطينية. وأسفر ذلك عن تشتيت الفلسطينيين وعزلهم في جيوب صغيرة شبيهة بالبانتستونات. ولم يُعلن النظام الإسرائيلي قط عن حدوده رسميًا لأن ذلك يعارض نواياه التوسعية. وهكذا فإن الحديث عن شعبين متناحرين على جانبي الحدود، كما هي رواية إطار عمل “من شعب إلى شعب”، تحريفٌ لواقع الشعب الفلسطيني الخاضع للاحتلال والاستعمار.
الأَمرُّ والأدهى من ذلك هو أنَّ إطارَ “من شعب إلى شعب” يستلزم تعاونَ الفلسطينيين وتصالحهم مع شعبٍ وكيانات إمّا تكون متغاضية عن ذاك الاستعمار والاحتلال وإمّا مساهمةً فاعلةً فيه. ولا دهشةَ في أنّ هذه المشاريع غير ناجحة. حيث وجدَ محللو تقرير لجنة التنمية الدولية التابعة للحكومة البريطانية لعام 2014 حول برامج “من شعب إلى شعب” في الضفة الغربية أنَّ تكلفة تلك المشاريع مرتفعة ونتائجها عمومًا ضعيفة، ويصعب تعميمها على نطاق أوسع، فضلًا عن تدني تأثيراتها الاستراتيجية الملموسة.
الروايةُ الشائعة الأخرى مبنيةٌ على الافتراض الخاطئ بأن مبادرات “من شعب إلى شعب” وقنوات التمويل قادرةٌ على “إنعاش” الاقتصاد الفلسطيني – وهو افتراض خطير يتجاهل لمصلحته حقيقةَ أن الاقتصادَ الفلسطيني حبيسٌ بالكلية لدى النظام الإسرائيلي. وإلى جانب التضليل، تُخفق تلك المبادرات في محاسبة النظام الإسرائيلي على ممارساته المستمرة في تدمير الاقتصاد الفلسطيني، الذي انسحق في بادئ الأمر بسبب قيام دولة إسرائيل في 1948، وما تلاه من احتلال الأراضي الفلسطينية.
أمعَنت اتفاقات أوسلو في إخضاع الاقتصاد الفلسطيني، وكان بروتوكول باريس 1994 مُضرًّا بوجه خاص، حيث فرضَ اتحادًا جمركيًا غير متكافئ، ومنح الشركات الإسرائيلية إمكانيةَ الوصول المباشر إلى السوق الفلسطينية بينما قيَّد دخول البضائع الفلسطينية إلى إسرائيل، وجعلَ السيطرة على جباية الضرائب بيد الدولة الإسرائيلية، ورسَّخ استخدام الشيكل الإسرائيلي في الضفة الغربية وقطاع غزة، ولم يترك للسلطة الفلسطينية الوليدة أي وسيلةٍ لفرض الرقابة المالية أو اعتماد سياسات مستقلة في مجال الاقتصاد الكلي.
يعني هذا، في الممارسة العملية، أن النظامَ الإسرائيلي بات يملك اليوم سيطرةً كاملة، مباشرة وغير مباشرة، على مقاليد الاقتصاد الفلسطيني. أمّا الاحتلال العسكري فيُمكِّن النظام الإسرائيلي من بسط سيطرته ماديًا على أنشطة الفلسطينيين الاقتصادية اليومية، ومن التوسع في مصادرة الأراضي الفلسطينية.
إن ما يحتاجه الاقتصاد الفلسطيني ليس ضخَّ الأموالِ في هذا النظام من خلال المبادرات الممولة في إطار “من شعب إلى شعب،” فوفقًا لليلى فرسخ: “لا يمكن أن تقوم للاقتصاد الفلسطيني قائمة، فضلًا عن أن يزدهر، قبل أن يُحاسِبَ المجتمعُ الدولي إسرائيلَ بموجب القانون الدولي الذي يحمي حقوق الفلسطينيين ويحتم على إسرائيل أن تنهي احتلالها.”
قانون الشراكة الشرق أوسطية من أجل السلام
بالرغم من الإشكالات الجوهرية المبينة أعلاه، عادَ إطار عمل “من شعب إلى شعب” من جديد في كانون الأول/ديسمبر 2020 بفضل قانون الشراكة الشرق أوسطية من أجل السلام، الذي طرحته العضوة الديمقراطية السابقة في الكونغرس نيتا لوي والعضو الجمهوري جيف فورتنبيري كدلالةٍ على دعم الحزبين لمشروع القانون.
وبعد سنّ القانون، أعلن التحالف من أجل السلام في الشرق الأوسط أنَّ له الفضلَ في بلورة هذه المبادرة، موضحًا إنها كانت ثمرةَ “عقدٍ ونيِّف من جهود الدعوة والمناصرة” التي بذلها من أجل “إنشاء صندوق دولي للسلام الإسرائيلي الفلسطيني.” ويشير التحالف إلى “ائتلاف واسع” من المصادقين على إقامة الصندوق ويشمل جي ستريت، وصندوق إسرائيل الجديد، والاتحادات اليهودية في أمريكا الشمالية، وشبكة العمل الإسرائيلية، والكنائس من أجل السلام في الشرق الأوسط، ولجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (آيباك)، واللجنة اليهودية الأمريكية، ومنتدى السياسة الإسرائيلية. والجدير بالذكر أن تلك المنظمات جميعها، خلا واحدة، صهيونيةٌ جهارًا نهارًا.
الحديث عن شعبين متناحرين على جانبي الحدود، كما هي رواية إطار عمل 'من شعب إلى شعب'، تحريفٌ لواقع الشعب الفلسطيني الخاضع للاحتلال والاستعمار Share on Xوقبل صدور القانون بشهر، استشهدَ التحالف من أجل السلام في الشرق الأوسط بمناقشةٍ برلمانية بريطانية تصدَّرت لها النائبة كاثرين ماكينيل، رئيسة أصدقاء إسرائيل في حزب العمال، وطرحت فيها فكرة إقامة صندوق مماثل في المملكة المتحدة. وادَّعت أن المقترح كان يحظى بتأييد واسع من نواب المعارضة والحزب الحاكم على السواء. وختمت ماكينيل المناقشة بالإشارة إلى الصندوق الدولي لآيرلندا واتفاق الجمعة العظيمة، وهو الصندوق الذي يستشهد به التحالف من أجل السلام باعتباره “الإطار المفاهيمي” وراء فكرته بإنشاء صندوق لأجل “السلام الإسرائيلي الفلسطيني،” ويشير إلى قانون الشراكة من أجل السلام كخطوة على طريق إنشاء هذا الصندوق.
أرسلت ماكينيل بعد المناقشة رسالةً عامة إلى جيمس كليفرلي، وزير الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في وزارة الخارجية والكومنولث والتنمية البريطانية، طلبت فيها عقدَ اجتماع معه للحديث عن التزام المملكة المتحدة بإقامة هذا الصندوق. وطلبت منه أيضًا أن يتعهد “بالتناقش مع إدارة بايدن حول صندوق الشراكة الشرق أوسطية من أجل السلام وكيف يمكن أن يتطور ليصبحَ مؤسسة دولية بحق.” واقترحت بأنه ينبغي للمملكة المتحدة أن تُقدِّم طلبًا إلى الولايات المتحدة لشغلِ أحد المقعدين المخصصين للأعضاء الدوليين في المجلس المُشرف على تطبيق قانون الشراكة من أجل السلام.
اعتُمدَ القانون كذلك في نص مشروع قانون مخصصات وزارة الخارجية والعمليات الخارجية في مجلس النواب الأمريكي لسنة 2021. ويرصد مشروع القانون 50 مليون دولار سنويًا لمدةٍ تزيد على خمس سنوات من أجل إنشاء صندوقين: “صندوق شراكة من شعب إلى شعب من أجل السلام” مع الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، وصندوق مبادرة الاستثمار المشترك من أجل السلام تحت إشراف المؤسسة الأمريكية لتمويل التنمية الدولية. وينصُّ على أن الأموال سوف تُستثمر في “التعاملات بين الشعبين والتعاون الاقتصادي” بين الفلسطينيين والإسرائيليين “بهدف دعم حلٍ تفاوضي ومستدام على أساس الدولتين.”
يخضع صندوق “من شعب إلى شعب”، تنظيمًا وإدارةً، للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، بالتشاور مع وزير الخارجية ووزير الخزانة الأمريكيين. ويُشرف عليه مجلسٌ مكونٌ من خمسة مواطنين أمريكيين يسميهم مدير الوكالة. ينص مشروع القانون، الذي وُضِعت مسودته الأولية في حزيران/يونيو 2019، على أن يكون أعضاء المجلس ممن يملكون “تجاربَ وخبراتٍ مشهودةً في الشؤون المتصلة بإسرائيل والأراضي الفلسطينية،” ولا سيما في مجال الأعمال. خُصِّصَ مقعدان في المجلس لممثلي الهيئات الدولية التابعة للحكومات الأجنبية، ومن هنا جاء طلب ماكينيل المذكور أعلاه لتقديم طلب لتمثيل بريطانيا.
سوف يستمد الصندوق تمويله في المقام الأول من الولايات المتحدة، غير أن مشروع القانون ينص أيضًا على أنه “سوف يسعى للحصول على مساهمات إضافية للصندوق من المجتمع الدولي، بما فيه بلدان الشرق الأوسط وأوروبا.” ولا شكَّ في أن الدول العربية التي طبَّعت العلاقات مؤخرًا مع النظام الإسرائيلي ستكون من بين الدول التي سيطلب الصندوق مساهمتها. ويمكن القول أيضًا إن مهندسي الصندوق يأملون في جعله الآليةَ الرئيسية التي تمرُّ من خلالها الأموال الدولية إلى فلسطين، والتي يضطر الفلسطينيون بسببها إلى الانخراط في “حوار” مع الشعب الإسرائيلي كشرطٍ لتلقي الأموال. وهذا سيؤدي، بدوره، إلى أن تحتكرَ الولايات المتحدة معظمَ المشاريع الممولة من المانحين في فلسطين وأن تديرها حتى في أدق شؤونها.
تقويض القانون الدولي والتخلي عن محاسبة إسرائيل
يستخدم قانونُ الشراكة من أجل السلام خطابَ السلام والتعاون، إلا أن القراءة المتفحصة لنصه تكشف ثغرات مقلقةً فيه تسمح بتقويض حقوق الشعب الفلسطيني بالكامل، وتُشجِّعُ الانتهاكات الإسرائيلية للقانون الدولي. وفي أيلول/سبتمبر 2020، أشارت المحامية الحقوقية والمحللة السياساتية في الشبكة، زها حسن، إلى أن مسودة مشروع القانون للتشريع يحظر “التمييز الجغرافي” بين طالبي الِمنح من “إسرائيل والضفة الغربية وقطاع غزة.” أي أن الجميع، بمن فيهم المستوطنون الإسرائيليون في الضفة الغربية، يمكنهم التقدم بطلب الحصول على تمويل.
وأشارت زها إلى أن تقريرًا أعدَّته لجنة المخصصات في مجلس الشيوخ سنة 2019 حول هذه المسودة الأولى لمشروع القانون ذكرَ صراحةً أنه ينبغي استخدام الصندوق “لتشجيع التجارة بين الشركات الإسرائيلية والفلسطينية في الضفة الغربية.” ومع أن النسخة النهائية لم تعد تتضمن ذاك النص، إلا أنها لم تأتِ بما ينص على منع المستوطنين من التقدم بطلب الحصول على تمويل، رغم أن المشروع الاستيطاني في الضفة الغربية الذي باشَرته حكومة العمل الإسرائيلية بُعيد الاستيلاء على الضفة الغربية في 1967 يُعدُّ من أفظع الجرائم المرتكبة ضد الشعب الفلسطيني.
هناك اليوم ما يزيد على 622,500 مستوطن إسرائيلي يعيشون في مئات المستوطنات غير الشرعية في الضفة الغربية والقدس الشرقية. ولهذا المشروع الاستعماري تأثيرات مدمرةٌ جسيمة على حياة الفلسطينيين في الضفة الغربية، حيث ما برحَ يصادرُ الأراضي الفلسطينية لتشييد المستوطنات وبنيتها التحتية، ويحصر الفلسطينيين في معازل منحسرة المساحة تصل بينها طرقٌ قليلة جدًا يُرثى لحالها.
تستولي المستوطنات كذلك على أحسن موارد الضفة الغربية، ولا سيما المياه، إذ دأب النظام الإسرائيلي منذ عقود على حفر الآبار ومنع الفلسطينيين من الوصول إلى الينابيع في الضفة الغربية، وتحويل مجاري المياه لتزويد الإسرائيليين والقاطنين في المستوطنات غير القانونية. فلا غرابة، إذن، حين يُشار في كثير من الأحيان إلى المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية كأكبر عقبة في طريق السلام، حتى في نصوص قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
قانونُ الشراكة من أجل السلام ... هو أداة سياسية تُستخدَم ضد الفلسطينيين الذين قد يسعون إلى توظيف الوسائل القانونية لمحاسبة النظام الإسرائيلي على معاناتهم المستمرة تحت الاحتلال Share on Xلا ينفك المجتمع الدولي وجماعات حقوق الإنسان الدولية يدينون هذه الأنشطة وتغول النظام الإسرائيلي المستمر على الأراضي الفلسطينية، بيد أن الإدانة لا تستتبع أي عواقب على النظام الإسرائيلي الذي لم يُحاسب بعدُ على أفعاله. ومع ذلك، فإن قانون الشراكة من أجل السلام لا يتقاعس وحسب عن محاسبة النظام الإسرائيلي، بل يتعمد وجود ثغرةٍ فيه حين لا يحظر صراحةً على المستوطنين في المستوطنات غير القانونية التقدمَ بطلب الحصول على التمويل، وبذلك يُحفِّز النشاط الاستيطاني ويُثري المستوطنين.
وكما ذكرت آنفًا، اشتمل مشروع قانون المخصصات الأمريكي الذي اقترحه أعضاء في مجلس النواب الأمريكي في تموز/يوليو 2020 للسنة المالية 2020-2021 بنودًا لقانون الشراكة من أجل السلام تفرض مجموعةً أخرى من الشروط الواجب استيفاؤها لتلقي التمويل، مثل منع التمويل على الفلسطينيين إذا قدَّمت السلطة الفلسطينية طلبًا للمحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في جرائم الحرب الإسرائيلية. ويتضمن مشروع القانون تحديدًا البند التالي:
لا يحق تقديم أيِّ من الأموال المخصصة بموجب “صندوق الدعم الاقتصادي” المنصوص عليه في هذا القانون لغرض مساعدة السلطة الفلسطينية، إذا – بعد تاريخ سنّ هذا القانون – (1) حاز الفلسطينيون على وضعٍ كسائر الدول الأعضاء أو العضوية الكاملة كدولة في الأمم المتحدة أو إحدى وكالاتها المتخصصة خارج إطار اتفاق تفاوضي بين إسرائيل والفلسطينيين؛ أو إذا شَرعَ الفلسطينيون في إجراء تحقيق قضائي تأذنُ به المحكمة الجنائية الدولية، أو تقصَّدوا دعم تحقيقٍ من هذا القبيل يُخضع المواطنين الإسرائيليين للتحقيقات على خلفية جرائم مزعومة ضد الفلسطينيين.
وهذا أمرٌ جدير بالملاحظة ولا سيما أن مكتب المدعي العام والدائرة التمهيدية التابعين للمحكمة الجنائية الدولية قررا في شباط/فبراير 2021 أن فلسطين خاضعةٌ لاختصاص المحكمة، ما يسمح بفتح تحقيق في جرائم الحرب الإسرائيلية المرتكبة في فلسطين. وبعدها بأقل من شهر، في آذار/مارس 2021، أعلن مكتب المدعي العام فتح تحقيق رسمي. وبرغم هذا النصر الأولي، ثمة العديد من العوائق الكامنة، بما فيها إمكانية ثني السلطة الفلسطينية عن متابعة التحقيق بتهديدها بمنع التمويل عنها.
على الرغم من أن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية سيظل ساريًا على فلسطين حتى لو تخلت السلطة الفلسطينية عن دعم التحقيق وامتنعت عن رفع الدعاوى بناءً على جرائم الحرب المرتكبة، إلا أن ذلك سيؤثر تأثيرًا بالغًا في القضية. ومن شأن ذلك أن يُلقي بمسؤولية رفع الدعاوى على عاتق الجهات الفاعلة غير الرسمية مثل منظمات حقوق الإنسان غير الحكومية، علمًا بأن الدعاوى التي ترفعها الدول تحمل وزنًا سياسيًا أثقل بكثير، ولا سيما في إطار المحكمة الجنائية الدولية التي تعتمد بشدة على تعاون الدول في إجراء تحقيقاتها.
إن قيامَ جهةٍ مانحة ما بوضع شرطٍ كهذا للحصول على تمويلها أمرٌ إشكالي للغاية. ويجب على المرء حينها أن يشككَ في صدق أي جهودٍ تسعى لإحلال “السلام والمصالحة” بينما تقيد التمويل لأن الشعب المعني – أو الدولة المعنية – يسعى لمساءلة مرتكبي جرائم الحرب من خلال هيئة قانونية دولية. وعلاوةً على ذلك، تجدر الإشارة إلى أن إدارة ترامب طرحت بنودًا مشابهة بموازاة “صفقة القرن،” تحظر على القيادة الفلسطينية طلب فتح التحقيقات لدى المحكمة الجنائية الدولية.
إنَّ هذه البنود، التي تسيِّسُ التمويل بربطه بشروط جائرة، تضرُّ مساعي تأمين حقوق الفلسطينيين الأساسية، وتقوِّض أجهزة القانون الدولي، إذ تُرسِّخ إفلات إسرائيل من العقاب، وتتغاضى عن محاسبتها على انتهاكاتها الجسيمة لحقوق الإنسان. قانونُ الشراكة من أجل السلام لا يدعو للتفاؤل بالتأكيد، فهو أداة سياسية تُستخدَم ضد الفلسطينيين الذين قد يسعون إلى توظيف الوسائل القانونية لمحاسبة النظام الإسرائيلي على معاناتهم المستمرة تحت الاحتلال. وهو بمثابة نهاية الطريق للفلسطينيين الساعين إلى إحقاق العدالة من خلال القنوات القانونية الرسمية للنظام الدولي.
تحدي غطاء السلام والمصالحة الزائف
يُبين هذا الموجز السياساتي كيف أن صندوق الشراكة من أجل السلام يعمل ضمن أُطر تُصرُّ على أن انعدام التعاون والحوار والفرص الاقتصادية للفلسطينيين يمثل العقبة الرئيسية للسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين. ويبيِّن كذلك كيف أن هذا الطرحَ غيرُ صحيح، لأن العقبة الرئيسية أمام “تحقيق السلام” تتمثل في الانتهاكات التي يرتكبها النظام الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني منذ ما يزيد على سبعة عقود، فضلًا على استعماره المستمر للأرض الفلسطينية.
ومع ذلك، ليس الصندوق وحده الذي يتبنى هذه الرواية، ولكنه أحدث الحلقات في سلسلةٍ طويلة من مبادرات “من شعب إلى شعب“ تسعى إلى تقويض الحقوق الأساسية للفلسطينيين تحت غطاء السلام والمصالحة.
وفي ضوء القانون الذي سنَّته الولايات المتحدة، وإمكانية سنِّ قوانين مماثلة في دول أخرى، ولا سيما المملكة المتحدة وأوروبا، يغدو من الأهمية لمناصري القانون الدولي وحقوق الفلسطينيين أن يقفوا بحزم في وجه تلك المبادرات التي تقوِّض القانون الدولي وتسخِّر الحوار كغطاء للالتفاف على المساءلة.
وفي هذا الصدد، يكتب عمر البرغوثي:
النضال، أولًا وآخرًا، هو نضالٌ من أجل الحرية والعدالة وتقرير المصير للمضطهدين… فمن دون إنهاء الاضطهاد لن توجد فرصةٌ حقيقيةٌ لِما أسميه تعايشًا أخلاقيًا – تعايشًا قائمًا على العدل والمساواة الكاملة للجميع، وليس “تعايش” السيد والعبد الذي يدعو له الكثيرون من المشتغلين في “صناعة السلام”.
ينبغي رفض إطار “من شعب إلى شعب” لعدم مناسبته وإشكاليته في السياق الفلسطيني، بل وأي سياقٍ استيطاني استعماري يتسم بتفاوتٍ جوهري في القوة. وينبغي للساسة وصناع القرار أن يدعموا المشاريع والمبادرات القائمة على المبادئ الأساسية للقانون الدولي وحماية حقوق الإنسان الفلسطيني، وليس المشاريع والمبادرات التي تتجاهل تلك المبادئ والحقوق سعيًا لتعزيز “الحوار.”
وختامًا، ينبغي دعمُ الآليات القائمة التي تتصدى للتوسع الاستيطاني الاستعماري والاحتلال العسكري الإسرائيلي. وهذا يشمل حظر منتجات المستوطنات غير القانونية من دخول الأسواق الدولية، وسحب الاستثمارات من المؤسسات والشركات المتواطئة في الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الإنسان. وفي نهاية المطاف، لن تتسنى محاسبةُ إسرائيل حقًا إلا بتطبيق عقوبات دولية عليها، حيث إن المساءلة والمحاسبة هي السبيل الوحيدة لتحقيق السلام العادل.