لمحة عامة
تعهد المانحون في المؤتمر الأخير لإعادة إعمار غزة بتقديم مبلغ غير مسبوق يصل إلى 5.4 مليار دولار أمريكي. وفي الوقت نفسه، يمكن القول إن انتهاكات حقوق الإنسان الفلسطيني في غزة – والأرض الفلسطينية المحتلة عمومًا – ما كانت لتقع لولا سياسات المعونة الدولية التي ما انفكت، منذ ثمانينات القرن الماضي على الأقل، تدعمُ إسرائيل وتعرِض على الفلسطينيين مشاريع إنمائية مقابل التنازل عن الحقوق.4
تتناول عضوة السياسات في الشبكة، نورا ليستر مراد، في هذه الورقة السياساتية المعونةَ من منظور “التواطؤ”، وتكشف أوجه القصور في الأطر القانونية القائمة. وتحاجج بأن الجهات الفاعلة في المعونة الدولية، بصرف النظر عن محدودية القانون المطبق، مسؤولة بالأساس عن هؤلاء الذين تسعى لمساعدتهم، ولا بد من محاسبتها على الضرر الذي تسببه أو تتيح وقوعه. وتحدد الكاتبة المجالات التي تستدعي طرح الأسئلة، وتعدد في الختام بعض الخطوات التي يجب أن يأخذها المجتمع المدني الفلسطيني وحركة التضامن الدولية.
ثمانية أسئلة حول المعونة المقدمة للفلسطينيين
للفلسطينيين الحق في طلب المعونة الدولية، وعلى المانحين الالتزام بتقديمها. غير أن طريقة تقديم هذه المعونة قد تُعين في الواقع على انتهاك حقوق الفلسطينيين بموجب القانون الإنساني الدولي. إن إخفاق الجهات الدولية الفاعلة في العمل بإيجابية بما ينسجم والتزاماتها كجهات فاعلة ثالثة من الدول وغير الدول يُديم الوضع الراهن، ويورط الجهات الفاعلة في المعونة في الانتهاكات المستمرة.
تتآلف العديد من العوامل الخاضعة لنظام المعونة الدولي لتسهل انتهاكات حقوق الفلسطينيين. وتشمل هذه العوامل: 1) تصنيف المانحين لوضع الفلسطينيين الرازحين تحت الاحتلال الإسرائيلي بأنه حالة “طارئة” العام تلو العام بما يُسفر عن تدخلات قصيرة الأجل تستديم الحاجة من خلال التركيز على الأعراض بدلًا من المسببات؛ 2) سياسة عدم المواجهة مع إسرائيل بغض النظر عن أفعالها، وهي سياسة تنم عن رضوخ دولي، وتساهم في إفلات إسرائيل من العقاب؛ 3) عدم محاسبة نظام المعونة نفسه ممّا حدا به إلى تهميش الفلسطينيين وأن يصير مسخَّرًا لخدمة نفسه.
أمّا ما إذا كان هذا يلبي الحد القانوني لاعتبار الجهات الفاعلة في المعونة الدولية “متواطئة”، فهو مسألة يجدر تركها للخبراء القانونيين. ولكن إنْ صح ذلك، فمن المأمول أن يقترح هؤلاء الخبراء سبل انتصاف تكون متاحة للفلسطينيين بالطرق القانونية أو في المجال السياسي. وفيما يلي ثمانية أسئلة ينبغي طرحها بشأن المعونة الدولية بهيكلها الحالي.
1. هل المعونة المقدمة للفلسطينيين تعين إسرائيل على التهرب من التزاماتها بموجب اتفاقية جنيف الرابعة؟
نظرًا لطول اعتماد الفلسطينيين على المعونة الدولية، يمكن القول إن المعونة المقدمة للأرض الفلسطينية المحتلة تعفي إسرائيل فعليًا من التزاماتها، كسلطة قائمة بالاحتلال، بحماية المدنيين الفلسطينيين وضمان تلبية احتياجاتهم الأساسية بموجب المادة 60 من اتفاقية جنيف الرابعة. والمعونة أيضًا تدعم الاحتلال من خلال تحرير الأموال التي تسدد ثمن انتهاكات إسرائيل وتساعدها مباشرةً في التهرب من التزاماتها تجاه السكان المحميين.
وعلاوةً على ذلك، نادرًا ما يرد المانحون الدوليون بأكثر من اعتراضات لطيفة اللهجة حين تُلحقُ إسرائيلُ الأضرار بالمشاريع التي يمولونها عن طريق الهدم أو القصف أو الاعتداءات الأخرى. ولم يسبق قط أن تصرفوا تصرفًا منهجيًا لمطالبة إسرائيل بجبر الضرر أو التعويض. بل، على النقيض من ذلك، يستمرون في تمويل إعادة البناء، وبالتالي إعفاء إسرائيل من المسؤولية عن أفعالها.
2. هل الجهات الفاعلة في المعونة “تعطي سندًا” للحصار الإسرائيلي غير المشروع على غزة حين تراعي الإجراءات التي تعرقل المساعدات الإنسانية أو الإنمائية؟
خلصت محكمة راسل حول فلسطين في جلستها الدولية الأولى إلى أن مراعاة الحصار الإسرائيلي على غزة بهدف تقديم المساعدة الإنسانية – و/أو تبرير عدم تقديم المساعدة الإنمائية – قد “يعطي سندًا” على المدى البعيد للحصار الإسرائيلي على قطاع غزة في انتهاك للمادة 33 من اتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر العقاب الجماعي (انظر المادة 19-9 من المحكمة). ويمكن مقارنة هذا الوضع بقرار محكمة العدل الدولية القاضي بأن جدار الضم في الضفة الغربية المحتلة والنظام المرتبط به يخلقان واقعًا على الأرض يمكن أن يصبح دائمًا، وإنْ حصل، فإنه سيرقى إلى منزلة الضم.
وجدت دراسة أجريت سنة 2011 في غزة أن المنظمات الدولية لم تبذل جهدًا كافيًا لتحدي الإطار السياسي الذي قدمت دعمها من خلاله. ووجدت دراسات أخرى أن الجهات الفاعلة في المعونة بذلت جهودًا استثنائيةً كي تمتثل لمتطلبات إسرائيل رغم الزيادة الكبيرة في تكلفة المساعدات المترتبة على ذلك. وكنتيجةٍ لذلك فإنها لا تستجيب استجابةً كاملة للواجب الإنساني القاضي بالتدخل، على النحو المبين في المدونة الدولية لقواعد السلوك في الإغاثة في حالات الكوارث، حتى عندما تكون أزمة غزة على أشدها. وتجدر الإشارة إلى أن تعمد عرقلة الإمدادات الإغاثية على النحو المنصوص عليه في اتفاقات جنيف يمكن أن يرقى، في الحالات القصوى، إلى جريمة حرب بموجب نظام روما الأساسي (المادة 8(2)(ب)(25)).
3. هل يُعدُّ تقديم المساعدات العسكرية لإسرائيل، والتي تستخدمها في انتهاك حقوق الفلسطينيين، انتهاكًا للمادة 1 المشتركة من اتفاقية جنيف الرابعة؟
تقدم الولايات المتحدة والدول الأوروبية مساعدات عسكرية وأسلحة تعين إسرائيل على شن عدوانها. وهذه المساعدات العسكرية هي جزء لا يتجزأ من السياسة الخارجية نفسها التي توجه آليات “المعونة” التابعة لهذه الحكومات.
ومن الأمثلة السافرة في هذا الصدد قرارُ الكونغرس الأمريكي الصادر في 1 آب/أغسطس 2014 القاضي بتخصيص مبلغ إضافي قدره 225 مليون دولار كمساعدات لنظام القبة الحديدية الإسرائيلي بعد يومين فقط من الهجوم الإسرائيلي السادس على مرافق تابعةٍ للأمم المتحدة – قصف الملجأ في مخيم جباليا للاجئين الذي اعتبره كبار مسؤولي الأمم المتحدة بأنه “انتهاك جسيم للقانون الدولي”. وهذه المساعدات، حتى لو افترضنا أنها مخصصة للدفاع عن إسرائيل، تُظهر عدم الاكتراث للقانون الأمريكي والدولي المانع للمعونة التي تسهل ارتكاب الانتهاكات. ولعل هذه الحيثية كانت تجول في خاطر الرئيس الأمريكي باراك أوباما، الخبير في القانون الدستوري، حين أخَّرَ تسليم دفعةٍ موعودة من الصواريخ لإسرائيل بُعيد ذلك بوقت قصير.
ومن الأمثلة الأخرى أيضًا تصدير الأسلحة وقِطَعها من دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي إلى إسرائيل، وبعضها استخدم في الحرب على غزة 2008-2009، وربما تكون قد استخدمت في ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وعلى الرغم من الاعتراضات البريطانية على السلوك الإسرائيلي في هذا العدوان، أفادت التقارير أن مبيعات الأسلحة البريطانية إلى إسرائيل ازدادت لاحقًا في انتهاك لقانون الاتحاد الأوروبي ويُرجَّحُ أن تكون قد مكَّنت إسرائيل عسكريًا في عدوانها المتجدد على غزة عام 2014.
الدول ملزمةٌ بضمان احترام الحقوق الفلسطينية، وملزمةٌ أيضًا بضمان أن الأسلحة والذخيرة التي توردها لا تستخدم في انتهاك القانون الإنساني الدولي وحقوق الإنسان، وفقًا للمادة 1 المشتركة من اتفاقية جنيف الرابعة التي تلزم الأطراف السامية المتعاقدة باحترام القانون الإنساني الدولي وضمان احترامه، ووفقًا لمبادئ معاهدة تجارة الأسلحة التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة مؤخرًا.
4. هل مراعاة الجهات الفاعلة في المعونة لسياسات مكافحة الإرهاب الوطنية التمييزية تنتهك مبدأ الحياد الإنساني؟
إن تطبيق سياسات مكافحة الإرهاب القاصرة التي تقتضي التمييز ضد الشركاء والمستفيدين على أساس الانتماء السياسي المفترض يبدو انتهاكًا لمبدأ الحياد الإنساني. أمّا الجهات المانحة الدولية والمنظمات غير الحكومية الدولية التي تعزز هذه السياسات أو تمتثل لها فيمكن اعتبارها منتهكةً لولايتها الإنسانية تبعًا لذلك. وهناك العديد من بنود سياسة مكافحة الإرهاب غير المنطقية أيضًا، ممّا يفتح الباب للتأويل والتعسف. وكما قضت محكمة راسل، فإنه ليس من المنطقي بالنسبة للاتحاد الأوروبي أن يعلِّق علاقاته بحماس بينما يقيم علاقات بإسرائيل التي تنتهك القانون الدولي على نطاق أوسع بكثير (انظر المادة 27).
وعلاوةً على ذلك، أظهرت البحوث التي أجريت في غزة أن التدخل الدولي في غزة قد غذّى الانقسام الداخلي بين فتح وحماس، وأدى إلى تدني مستوى المساءلة وإلى الفساد والعسكرة، لأسبابٍ أهمها سياسات مكافحة الإرهاب بما فيها سياسة عدم الاتصال.
5. هل المعونة المقدمة للسلطة الفلسطينية ترسخ حرمان الحقوق الفلسطينية؟
يشير خبراء حقوق الإنسان الفلسطيني باستمرار إلى اتفاقات أوسلو وبروتوكول باريس كمفصَلٍ تاريخي في مسيرة تدهور الحقوق الفلسطينية لسببين هما: القيود المفروضة على الفلسطينيين التي اكتسبت الصفة القانونية، ونوع المعونة المشروطة سياسيًا التي أعقبت تلك الاتفاقات. يدّعي الفاعلون الدوليون في أحيانٍ كثيرة أنه لا يمكن لأحدٍ أن يتوقع منهم أن يدافعوا عن الحقوق الفلسطينية أكثر من السلطة الفلسطينية نفسها. وهذا يعني ضمنًا أن السلطةَ الفلسطينية مستقلةٌ عن التأثير الخارجي، بينما هي في الحقيقة كيانٌ غير قابل للحياة بدون المعونة الدولية. ومن هذا يتمخض وضعٌ غير منطقي، إذ يتوجب على السلطة الفلسطينية أن تذعن للمطالب الدولية، فتستغلها الجهات الفاعلة في المعونة كذريعة للتخلي عن التزامها بضمان احترام الحقوق الفلسطينية.
تنص المادتان 7 و8 من اتفاقية جنيف الرابعة على أنه ما مِن اتفاق دولي يستطيع أن يقوِّض الحماية المكفولة بموجب القانون الإنساني الدولي. وبالنظر إلى أن السلطة الفلسطينية كثيرًا ما تعوق الحقوق الفلسطينية باعتبارها وكيلًا لسلطة الاحتلال الإسرائيلية، فإن المعونة الدولية المقدمة للسلطة الفلسطينية، كاستجابةٍ في ظاهرها لطلب السكان المحميين، قد تكون هي في الواقع ما يعين إسرائيل على انتهاك اتفاقية جنيف الرابعة.
6. هل سياسات توريد المعونة التي تسمح لإسرائيل بالتربح من انتهاكها للحقوق الفلسطينية تحفز ارتكاب المزيد من الانتهاكات؟
العدوان الإسرائيلي مربحٌ لإسرائيل. وإدارة سياسات توريد المعونة التي تسمح لإسرائيل والشركات الإسرائيلية بالتربح، ولا سيما تلك المرتبطة بانتهاكات القانون الإنساني الدولي، تحفز شن المزيد من الحروب.
أفادت التقارير، على سبيل المثال، أن منظمة اليونيسيف طلبت في أيار/مايو 2012 عرضًا من مقاول إسرائيلي يعمل في مستعمرات إسرائيلية من أجل إنشاء محطة تحلية للمياه في قطاع غزة، مما أثار تهديدًا بالمقاطعة من اتحاد المقاولين الفلسطينيين. وفي كانون الثاني/يناير 2014، منح برنامج الأمم المتحدة الإنمائي عقدًا بقيمة 5.1 مليون دولار لشركة ميفرام الإسرائيلية المتخصصة في توريد الإمدادات لنقاط التفتيش التابعة للجيش الإسرائيلي.
واستنادًا لما خلصت إليه محكمة راسل حول فلسطين، فإن انتهاكات القانون الإنساني الدولي، بما فيها تلك التي ارتكبتها إسرائيل إبان العدوان على غزة 2008-2009، وإقامة المستعمرات الإسرائيلية غير القانونية وبناء الجدار غير القانوني تشكل جرائم حرب و/أو جرائم ضد الإنسانية. وعلاوةً على ذلك، أشارت محكمة راسل إلى أن هذه الجرائم ارتكبت باستخدام أسلحة ومواد ومعدات وخدمات مقدمة من شركات مثل إلبيت سيستمز وكاتربيلر وسيمينت رودستون القابضة، وأن هذه الشركات قد تكون “مسؤولة عن التواطؤ في هذه الجرائم وانتهاكات القانون الدولي”.
وبدلًا من أن تضطلع الجهات الفاعلة في المعونة بمسؤولياتها بموجب القانون الدولي، فإن العديد منها ينأى بنفسه علنًا عن حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها. وبعضها يهدَّد ضمنًا أو صراحةً بالتوقف عن تمويل المنظمات غير الحكومية الفلسطينية الداعمة لهذه الحركة.
7. هل التعامل مع إسرائيل باعتبارها “حالةً خاصة” يقوِّض المفاهيم الأساسية والعالمية للقانون الإنساني الدولي؟
إن عدم تطبيق القواعد والمعايير الدولية النافذة يمكن تفسيره كتأييد للانتهاكات الإسرائيلية للقانون الدولي، ويستوجب بالتالي تحمل المسؤولية بموجب المواد المتعلقة بمسؤولية الدول المنبثقة عن لجنة القانون الدولي (المادة 16). وهذا ينطبق بوجه خاص على استخدام ما يسمى عملية السلام كوسيلةٍ لتأخير إعمال الحقوق الفلسطينية. وطالما أن “عملية السلام” مستمرة، فإن إسرائيل معفيةٌ فعليًا من المساءلة أمام القانون الدولي. وقد أكدت الجلسة الرابعة لمحكمة راسل أن عدم وجود “تحركات ملموسة على صعيد الأمم المتحدة لمحاسبة إسرائيل على انتهاكاتها يُشكِّل فعلاً غير مشروع دوليًا.” (انظر المادة 15).
وعلاوةً على ذلك، تُبذَل جهودٌ ضئيلة، إنْ بُذِلت أصلًا، في الأرض الفلسطينية المحتلة – وبخاصة في غزة – للامتثال للاتفاقات التفسيرية ولتوجيهات السياسات بشأن المساعدة الإنمائية مثل الخطة الجديدة للانخراط في مساعدة الدول الهشة، وشراكة بوسان لتعاون إنمائي فعال، وبرنامج عمل أكرا، وإعلان باريس الذي يؤكد المبادئ المشتركة التي تشمل الملكية المحلية، والمساءلة، والشفافية، ومشاركة المجتمع المدني. وعلى سبيل المثال، قال عالم اجتماع مقيمٌ في غزة للباحثين سنة 2010:
- تأتي منظمات غير حكومية دولية كثيرة إلى غزة بأجندة إنسانية خالصة، في حين أن منظماتنا غير الحكومية كلها إنمائية. تأتي هنا دون أدنى فكرة عن السياق المحلي، وتستخدم موظفينا المدربين تدريبًا جيدًا، وتعمل مباشرةً مع المستفيدين النهائيين. هذه ليست شراكة، بل علاقة تضعف هياكل منظماتنا غير الحكومية المحلية وتعاملنا كمقاولين من الباطن.
أشارت الدراسة أيضًا إلى المشاكل الناجمة عن ارتفاع الرواتب التي تدفعها المنظمات غير الحكومية، وعن الازدواجية في العمل، والتدخلات قصيرة الأجل، وغيرها من العِلات الأخرى.
ثمة مثالٌ آخر وهو مؤتمر مانحي غزة المنعقد عام 2009 في شرم الشيخ والذي لم يتضمن مشاركة المؤسسات الغزية المحلية أو قيادة حركة حماس، كما أشار الناقد والناشط في المجتمع المدني عمر شعبان. فالفلسطينيون ممنوعون فعليًا من ممارسة حق تقرير المصير حين يقود الفاعلون الدوليون عمليات غير مسؤولة تستبعد المشاركة الفلسطينية الحقيقية لأن تلك العمليات غير شفافة، أو تجري باللغة الإنجليزية، أو لأن الحكومات الدولية تختار وتعين فلسطينيين معينيين، استنادًا إلى معايير سياسية، ثم تطلقُ عليهم وصف “ممثلين”. لقد تغاضت المنظمات الدولية عن مراقبة إسرائيل لزمنٍ طويل حتى بات من الواجب مساءلتها هي نفسها عن النتائج، كما حثَّت محكمة راسل. وفي هذا الصدد، تناول إعلان الاجتماع الرفيع المستوى للجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن سيادة القانون على الصعيدين الوطني والدولي الصادر في 2012 مبدأ مساءلة المنظمات الدولية تحديدًا، والذي يؤكد أن تعزيز سيادة القانون والعدالة ينبغي أن يكون الموجِّه لجميع أنشطة تلك المنظمات، ويؤكد كذلك أن “سيادة القانون تشمل جميع الدول سواسيةً، وكذلك المنظمات الدولية، بما فيها الأمم المتحدة وأجهزتها الرئيسية…”.
8. هل التجاهل الدولي لمبادئ الإنسانية يوحي بأنه ليس للفلسطينيين حقوق وليس على إسرائيل التزامات؟
هناك العديد من أمثلة برامج التعويضات الخاصة بالنزاعات مثل لجان المطالبات، وتجميد الأصول، وحجز الإيرادات التي تتبنى منظورًا واسعًا لأنواع الضرر التي يمكن المطالبة بالتعويض عنها. غير أن أيًا من هذه البرامج لم يوظف في حالة الانتهاكات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين.
ترد مصادر القانون الدولي التي تدعو الأطراف المتسببة بالضرر إلى مساعدة الضحايا في منشور صدر مؤخرًا من عيادة حقوق الإنسان الدولية بجامعة هارفارد، وتشمل المبادئ الأساسية والمبادئ التوجيهية للضحايا، ونظام روما الأساسي، والمبادئ بشـأن الضرر العابر للحدود، والمبادئ الأساسية والمبادئ التوجيهية غير الإلزامية بشأن الحق في الانتصاف والجبر لضحايا الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي لحقوق الإنسان والانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي الإنساني التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2005.
تتعلق أحدث النتائج على الصعيد الدولي بشأن التعويضات المتصلة مباشرةً بالضرر الذي تُلحِقه إسرائيل بالفلسطينيين بالجدار الإسرائيلي غير القانوني، حيث تدعو محكمة العدل الدولية إلى تعويض جميع الأشخاص الطبيعيين والاعتباريين المتضررين بسببه. وفي حين أن دعوة المحكمة هي رأي استشاري غير ملزم، صدَرَ لاحقًا قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة (A/ES-10/294،13 كانون الثاني/يناير 2005) طالبَ إسرائيلَ بالامتثال للرأي الاستشاري، وأنشأ سجلًا للأضرار المنبثقة عن الجدار، والذي سيكون مفيدًا للمطالبات المستقبلية. وفي أعقاب العدوان الإسرائيلي على غزة 2008-2009، صوَّت مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة على أن تدفع إسرائيل تعويضات عن الأضرار التي تكبدها الفلسطينيون، ولكن القرار افتقر إلى التنفيذ كما العادة.
إن المرة الوحيدة التي طالب فيها المجتمع الدولي إسرائيل بدفع تعويضات كانت عن الأضرار التي تسببت فيها إبان العدوان على غزة 2008-2009. غير أن المطالبات لم تصدر من الضحايا الفلسطينيين أو بالنيابة عنهم وإنما من الأمم المتحدة لتعويضها عن الأضرار التي لحقت بمنشآتها. ومن الجدير بالذكر أن إسرائيل دفعت تلك التعويضات.
لا يمكن القول إن المعونة الدولية هي ضربٌ من ضروب التعويض لأن المستفيدين ينظرون إلى برامج التنمية على أنها تعود عليهم بما يحقُّ لهم باعتبارهم مواطنين وليس ضحايا، ولأن خبراء العدالة الانتقالية يقولون إن سبل الانتصاف “أساسية لأي عملية للمصالحة والعدالة”، ولا يكون لها معنى إلا إذا دفع الطرف المتسبب بالضرر تعويضات.5 وفي جميع الأحوال لا تسقط مسؤولية إسرائيل بحصول الفلسطينيين على المعونة الدولية.
وعلاوةً على مطالبات الفلسطينيين من إسرائيل، والتي ينبغي للجهات الفاعلة في المعونة الدولية أن تدعمها، فإن الممارسات السيئة المتبعة لدى المنظمات الدولية قد تشكِّل بحد ذاتها أساسًا لمطالبات الفلسطينيين إذا دخل مشروع المواد المتعلقة بمسؤولية المنظمات الدولية حيز النفاذ (A/66/10، الفقرة 87).
حملة من أجل التصدي للتواطؤ
تنص المبادئ الإنسانية ومعايير العمل الإنمائي المدوَّنة على أن المساعدات يجب ألا تُعرِّض المستفيدين منها لمزيد من الضرر. وسواء كان تواطؤ الجهات الفاعلة في المعونة الدولية يرقى إلى حد المساءلة القانونية عن معاونة المعتدي أم لا، فإن الدلائل تظهر أن الكثير من الممارسات المتبعة حاليًا على صعيد المعونة الدولية في فلسطين تسبب الضرر. وللأسف، فإن الجهات الفاعلة في المعونة الدولية لا تنظر إلى نفسها، ولا تسعى لمعرفة الآراء الفلسطينية لتحسين المخرجات الإنسانية والإنمائية.
ينبغي أن يبحث المجتمع المدني الفلسطيني وحركة التضامن الدولية عن آليات جديدة ومبتكرة لمساءلة الجهات الفاعلة الدولية بموجب القوانين والالتزامات القائمة. وعلى هذه الآليات أن تستهدف جميع الجهات الفاعلة في مجال المعونة – الجهات المانحة الحكومية وغير الحكومية، والوكالات المتعددة الأطراف، والمنظمات غير الحكومية الدولية والفلسطينية، ومقاولي القطاع الخاص، والأحزاب والحركات السياسية.
ومن الأهمية بمكان كذلك أن نعي محدودية الآليات التقليدية والفرص التي توفرها. فمن المستبعد، مثلًا، أن توفر المحاكم سبل انتصاف في ظل القيود المعقدة المفروضة على ولايتها، وفي ظل التطور غير المتناظر بين القانونين الوطني والدولي. فهناك أنواع أخرى من آليات المساءلة قد يكون لها أثر أسرع وأكثر مباشرةً، مثل لجان الحقيقة، وحركات المطالبة بالتعويضات، والتحقيقات العامة، والمحاكمات التي يعقدها المجتمع المدني مثل محكمة راسل حول فلسطين.
حققت حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات تقدمًا على صعيد الضغط من أجل مساءلة الشركات المتورطة في الانتهاكات الإسرائيلية للقانون الدولي، مثل دور شركة فيوليا في مشروع إسرائيل للسكك الحديدية الخفيفة في القدس. وقد يتسع المجال لاستخدام بعض هذا الضغط الممارس من الرأي العام ضد الجهات الفاعلة في المعونة التي تساهم في انتهاكات حقوق الفلسطينيين.
يمكن للمجتمع المدني الفلسطيني والدولي أن يعملا أيضًا على نحو بنَّاء مع المنظمات الدولية لاكتساب فهم أفضل بشأن انطباق المدونات والمعايير والتشريعات في حالات الاحتلال العسكري الممتد لفترة طويلة. وينبغي على وجه التحديد أن تتصدى الأسئلة (والمبادئ التوجيهية) للمعضلات التي تواجه الجهات الفاعلة في المعونة: فإلى متى ينبغي أن تستمر “الاستجابة الإنسانية” قبل أن تقرر الجهات الفاعلة في المعونة أن الأوضاع “الطارئة” باتت عرضةً للتلاعب من أجل تجنب التعامل مع الأسباب الجذرية؟ أين الحد الفاصل بين المعونة الإنسانية التي تتحكم بها سلطة الاحتلال بوجه مشروع وبين المعونة الإنسانية التي تتعرض للعرقلة في انتهاك للقانون الدولي؟ هل هناك حدود للمبالغ التي ينبغي أن يُسمَح للجهات الفاعلة في المعونة الدولية بجمعها نيابةً عن الفلسطينيين حين تعجز المنظمات المحلية عن التنافس في جذب الأموال وحين تتعرض الاستدامة المحلية طويلة الأجل للإضعاف؟
ثمة أمرٌ واحد واضح وهو أن نظرية التغيير التي تقود حركة إصلاح المعونة الدولية قد ثبت زيفها.6 وكإسرائيل، فإن الجهات الفاعلة في المعونة الدولية لن تغير سياساتها بناءً على الأخلاق أو القانون وحسب، بل ستكون هناك حاجة لممارسة أساليب الضغط لزعزعة تفاوتات القوة بحيث لا تستطيع الجهات الفاعلة في المعونة الدولية، في نهاية المطاف، أن تمتنع عن فعل الصواب.
- تتوفر كافة إصدارات الشبكة باللغتين العربية والانجليزية (اضغط/ي هنا لمطالعة النص بالإنجليزية). لقراءة هذا النص باللغة الفرنسية، اضغط/ي هنا. تسعد الشبكة لتوفر هذه الترجمات وتشكر مدافعي حقوق الإنسان على هذا الجهد الدؤوب، وتؤكد على عدم مسؤوليتها عن أي اختلافات في المعنى في النص المترجم عن النص الأصلي.
- Quoted in Drumbi, Mark A. (November 2009). Accountability for Property Crimes and Environmental War Crimes: Prosecution, Litigation, and Development. International Center for Transitional Justice, p. 25.
- Nora Lester Murad. (2014). “Putting Aid on Trial: An Emerging Theory of Change for How Palestinians Can Hold International Aid Actors Accountable to Human Rights Obligations,” pp. 163-184 in Saul Takahashi (Ed.). _Human Rights, Human Security, and State Security: The Intersection_, vol. 2. Santa Barbara, CA: Praeger.