Beyond Sterile Negotiations: Looking for a Leadership with a Strategy

بالنظر إلى الفشل الذريع الذي ظلت تُمنى به منظمة التحرير الفلسطينية على صعيد إحراز الحقوق الفلسطينية منذ تأسيسها قبل عقود، فقد آن الأوان لتحري السُبل لوضع استراتيجيةٍ من أجل التحرر الوطني والتحري عن الجهات التي يمكنها صياغة تلك الاستراتيجية. وفي هذه الورقة، تتطرق مستشارة الشبكة لشؤون السياسات، نورا عريقات، إلى الفراغ الذي أحدثته اتفاقات أوسلو في القيادة السياسية، وتناقش دور الشتات الفلسطيني في إنشاء العديد من الشبكات العابرة للحدود الوطنية والتي تحاول ملء فراغ القيادة المرجعية. ومن ثم تتناول دور اللجنة الوطنية للمقاطعة واستراتيجية مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها كمقاربةٍ حقوقية لا تملك برنامجًا سياسيًا. كما تستشف عريقات الدروس من تجربة جنوب إفريقيا وتتناول المخاطر المترتبة على إنجاز المصالحة دون حلول ثورية.

في البحث عن القيادة الفلسطينية: انهيار منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية

عادت القيادة الفلسطينية لفترة وجيزة إلى طاولات المجاملات الدبلوماسية المهترئة من أجل التفاوض على مسار المفاوضات. وأشارت هذه العودة إلى تراجعٍ مُقلقٍ على صعيد موقف المواجهة الذي اتخذته القيادة في أيلول/سبتمبر 2011 عندما اتجهت بقضيتها إلى الأمم المتحدة. فحينها، اعتقد الفلسطينيون، ولا سيما بعد أن ارتفعت معنوياتهم بفضل رسالة التحرر التي بعثها الرئيس محمود عباس إلى المجتمع الدولي، بإمكانية أن تخرج القيادة بنضالها من أجل تقرير المصير من دائرة المفاوضات الثنائية العقيمة إلى الساحة الدولية. بيد أن قرار منظمة التحرير الفلسطينية باستئناف المفاوضات لبعض الوقت قد بدّد الأمل في أن يكون لدى القيادة الفلسطينية رؤيةٌ استراتيجيةٌ من أجل التحرر الوطني. فإبان “عملية السلام” ذات الأعوام الثمانية عشر، ازداد عدد المستوطنين إلى أكثر من الضعف، وأعلنت إسرائيل غورَ الأردن بأسره منطقةً عسكريةً مغلقةً، واستولت على 12 في المئة من مساحة الضفة الغربية بفضل جدار الضم، وأصبحت تسيطر على 62 في المئة من الضفة الغربية، وجعلت من قطاع غزة مرتعًا للفقر والعوز بسطوة الحرب والحصار المستمر، وسرّعت وتيرتها في تطهير القدس عرقيًا. لذا فإن العودةَ إلى طاولة المفاوضات في ظل هذه الظروف أمرٌ غير مبررٍ ولا مغتفر. وفي ظل غياب استراتيجية فلسطينية للتحرر الوطني، فإن المفاوضات ستؤدي إلى نتائج عكسية تضر بالمصالح الوطنية الفلسطينية.

لقد انتهت منذ زمن الولايةُ الانتخابيةُ التي حظيت بها السلطة الفلسطينية على فلسطينيي الضفة الغربية البالغ عددهم 2.5 مليون نسمة، وحتى لو كانت لا تزال نافذة، فإن السلطة الفلسطينية “تمثل” ربع عدد الفلسطينيين في العالم فقط. لذا، فإن من الإنصاف أن نتساءل عمّا إذا كان هناك جسمٌ آخر يستطيع أن يضع بشكل مسؤول استراتيجيةً للتحرر الوطني ويكون أكثر تمثيلًا ممّا كانت عليه منظمة التحرير الفلسطينية/السلطة الفلسطينية على مرّ العقدين الماضيين، وأن نتساءل أيضًا، في حال وجِد ذلك الجسم، عن أهدافه وما ينبغي لها أن تكون.

إن الافتقار إلى برنامجٍ سياسي يمثل التطلعات الوطنية الفلسطينية ناجمٌ من التآكل المستمر في منظمة التحرير الفلسطينية الذي أعقب اتفاقات أوسلو. وفي هذا الصدد، يقول الكاتب سيف دعنا في ورقته غير المنشورة والمعنونة “صعود وانهيار منظمة التحرير الفلسطينية: تاريخ منظمة التحرير الفلسطينية”:

“هيأت اتفاقية أوسلو أسباب أُفول منظمة التحرير الفلسطينية، كبنيةٍ وبرنامج، إذ أحدثت حالةً من الصراع داخل المنظمة ما بين البيروقراطيين المرتبطين بالطبقة الحاكمة الجديدة، والشخصيات المتمسكة بقيم المنظمة وبالتحرر والاستقلال. وقد اشتدت هذه المنافسة الحتمية مع حلول السلطة الفلسطينية تدريجيًا محل منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الهيكل السياسي، الأمر الذي ترافق معه إعادة تعريف القضية الفلسطينية بشكل جوهري”.

ازدادت حدة التوترات بين السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية، من حيث الأهداف والهيكل الخاص بكلٍ منهما، بعد النصر الانتخابي الذي حققته حركة حماس في كانون الثاني/يناير 2006، وتجددت التوترات أيضًا عندما تقدمت السلطة الفلسطينية، تحت رعاية منظمة التحرير، بطلبٍ إلى الأمم المتحدة لكي تصبح فلسطين دولةً عضوًا.

وكردٍ فوري على فوز حماس في الانتخابات التشريعية، سارعت الولايات المتحدة وإسرائيل والاتحاد الأوروبي، بعد أن وضعت حماس على قائمة “المنظمات الإرهابية،” إلى فرض عقوبات على السلطة الفلسطينية ممّا فاقم التوترات بين السلطة الفلسطينية وحركة فتح، وهي الحزب السياسي العلماني المهيمن سابقًا بقيادة رئيس منظمة التحرير الفلسطينية الراحل ياسر عرفات. وبلغت التوترات ذروتها حين هزمت حماس حركةَ فتح في غزة في حزيران/يونيو 2007، فيما يمكن وصفه بانقلاب استباقي تمخضت عنه حكومةٌ فلسطينيةٌ منقسمةٌ سياسيًا وجغرافيًا. وبعد ذلك، استأنفت الولايات المتحدة وإسرائيل دعمهما المالي والدبلوماسي للسلطة الفلسطينية التي تهيمن عليها حركة فتح، ممّا مكّن حركةَ فتح من ممارسة تأثيرٍ واسعٍ في الأجندة السياسية الفلسطينية الرسمية.

ولمّا كانت القيادات الفلسطينية غارقةً في صراعٍ طاحنٍ فيما بينها، فإنها قد بذلت جهدًا أكبر لبسط سيطرتها على الأراضي المحتلة أكثر ممّا بذلت لمحاربة الاحتلال الاستعماري الاستيطاني والفصل العنصري. فلا حماس ولا فتح ولا حتى حكومة الوحدة الوطنية التي ما لبثت أن انهارت تمثل الشعب الفلسطيني بأسره. لقد حدا هذا الصراع بالصديق والعدو على حدٍ سواء لأنْ يتساءل “مَن الذي يتحدث باسم الفلسطينيين؟”

طرح الفلسطينيون هذا السؤال مجددًا في الفترة التي سبقت أيلول/سبتمبر 2011 عندما تقدمت السلطة الفلسطينية/منظمة التحرير الفلسطينية بطلب العضوية في الأمم المتحدة. فمنذ أنْ أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم 3236 في العام 1974، ظلت منظمة التحرير الفلسطينية، التي لا تملّ من لازمة “الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني،” تحمل صفة مراقب في الأمم المتحدة. وقد أثار مسعى إقامة الدولة مخاوف من أن السلطة الفلسطينية، التي تمثل الأراضي الفلسطينية المحتلة فقط، سوف تحل محل منظمة التحرير الفلسطينية بوصفها الممثل للفلسطينيين أمام المجتمع الدولي إذا منحت الأمم المتحدة العضوية لدولة فلسطين. كما يخشى الفلسطينيون في الشتات من استبعادهم من التمثيل الوطني الفلسطيني تمامًا. فدفع خطر الاستبعاد هذا الكثير من الفلسطينيين في الشتات لرفض مسعى إقامة الدولة رفضًا قاطعًا.

بروز اللجنة الوطنية للمقاطعة وشبكات الشتات

تشكلت اللجنةُ الوطنية للمقاطعة في أعقاب نداء المجتمع المدني الفلسطيني، الذي صدر في 2005 لمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها وصادقت عليه أكثر من 170 منظمة مجتمعٍ مدني. وجاءت اللجنةُ لتقود الحركة العالمية التي كانت تتضافر للرد على انتهاكات إسرائيل للقانون الدولي باستخدام تدابير اقتصادية غير عنيفة. وباتت اللجنةُ تضم في عضويتها، بالإضافة إلى ممثلين لمنظمات المجتمع المدني، ممثلين من القوى السياسية الفلسطينية على هيئة تحالفٍ يضم قوى وطنيةً وإسلاميةً. وبتوفير مرجعيةٍ فلسطينيةٍ مركزيةٍ وتوجيهٍ مرجعي لحركة التضامن العالمي، فإن اللجنة الوطنية للمقاطعة تسد بعض الفراغ الذي خلّفه غياب منظمة التحرير الفلسطينية التي كانت مهيمنةً ذات يوم، حتى وإنْ كانت اللجنة لا تسعى لذلك.

وعلاوة على ذلك، أرسى نداء المقاطعة حقَّ الفلسطينيين في تقرير المصير ضمن الإطار الشامل للقانون الدولي وقواعد حقوق الإنسان بناءً على ثلاثة مطالب هي إنهاء الاحتلال والاستعمار لكافة الأراضي العربية، والمساواة الكاملة للمواطنين العرب الفلسطينيين في إسرائيل، وحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم. غير أن اللجنة الوطنية للمقاطعة لم تقدم رؤيةً أو برنامجًا سياسيًا. وفي هذا الصدد، يوضح عمر البرغوثي، وهو عضوٌ مؤسس في حركة المقاطعة واللجنة الوطنية للمقاطعة، بقوله: ” إن اللجنة الوطنية للمقاطعة غير منحازة لأي طرف في الجدل القائم بين الفلسطينيين المؤيدين لحل الدولة الواحدة والمؤيدين لحل الدولتين.” إن المطالب الحقوقية الثلاثة المنصوص عليها في نداء المقاطعة ضروريةٌ ولكنها ليست كافيةً لتحقيق تقرير المصير الوطني. إضافةً إلى أنها لا توافق أي برنامجٍ سياسي قائمٍ في أوساط الفلسطينيين.

وفي المقابل، برزت شبكة الجالية الفلسطينية في الولايات المتحدة في عام 2006، وهي شبكة غير طائفية للفلسطينيين القاطنين في أمريكا الشمالية، في مسعى لتمثيل فلسطينيي الشتات والعرب في الولايات المتحدة ومنحهم قيادةً خاضعةً للمساءلة كردٍ على استبعادهم من السلطة الفلسطينية/منظمة التحرير الفلسطينية. يقول العضو القيادي فيها أندرو دالاك إن “شبكة الجالية الفلسطينية في الولايات المتحدة [تستجيب] لحاجة الجسم الوطني الفلسطيني بتوفير وسيلةٍ تُمكّن فلسطينيي الشتات من التأثير في حقهم في تقرير المصير وفي مستقبل فلسطين.” وكردٍ على مسعى إقامة الدولة، دعت شبكة الجالية الفلسطينية في الولايات المتحدة حلفاءَها إلى “رفض مبادرة إقامة الدولة الفلسطينية رفضًا قاطعًا لأنها إلهاءٌ يُعرِّض الحقوق والمؤسسات الفلسطينية للخطر دون مبررٍ أو تحملٍ للمسؤولية.”

وعلى نحوٍ مماثلٍ، تبنت حركة الشباب الفلسطيني برنامجًا سياسيًا منذ البداية. وحركة الشباب الفلسطيني هي حركةٌ شعبيةٌ مكونةٌ من شباب فلسطيني من داخل فلسطين وفي أحد عشر بلدًا آخر في العالم العربي وأوروبا وأمريكا الشمالية. تقول لبنى قطامي، المنسق الدولي العام لحركة الشباب الفلسطيني: “منذ الأيام الأولى لتشكل حركة الشباب الفلسطيني… كنا نعرف بأننا نسعى إلى ملء الفراغ السياسي الذي بدا يفتقر إلى معالجةٍ من أي جسمٍ أو حلٍ راهن…” وقد عارضت الحركة مسعى إقامة الدولة الفلسطينية ووجهت نقدًا لاذعًا للسلطة الفلسطينية/منظمة التحرير الفلسطينية على خلفية “إساءة استعمال مقاومة الشعب الفلسطيني وتضحياته، ولا سيما في غزة، واستغلالها، بل وخطف العمل التضامني الدولي الشعبي…[إن مسعى إقامة الدولة] لا يخدم سوى تبديد كل الجهود المبذولة لعزل النظام الاستعماري ومحاسبته.”

لقد سعت اللجنة الوطنية للمقاطعة، مثلما سعت شبكة الجالية الفلسطينية في الولايات المتحدة وحركة الشباب الفلسطيني، إلى ملء الفراغ السياسي. غير أن اللجنة لا تسعى إلى تمثيل الإرادة الجماعية للفلسطينيين على خلاف المنظمتين الأخريين، بل تطمح إلى إرساء مرجعية موثوقة للتضامن الدولي. ورغم أنها تميز نفسها عن شبكات الشتات والشبكات العابرة للحدود الوطنية، فإن اللجنة الوطنية للمقاطعة انتقدت بشدةٍ مسعى إقامة الدولة الفلسطينية ووصفته بأنه “غير كافٍ” وحثّت “أصحاب الضمائر وجماعات التضامن الدولي على مواصلة بناء حركةٍ جماهيريةٍ للمقاطعة في الولايات المتحدة وفي أكثر بلدان العالم نفوذًا قبل أيلول/سبتمبر وبعده.”

وفي الوقت الحاضر، تُعتبر اللجنة الوطنية للمقاطعة هي الأقرب من بين منظمات الشتات جميعًا إلى تمثيل المصالح الوطنية الشاملة. ومع ذلك، امتنعت اللجنة بحزم عن الاضطلاع بولايةٍ سياسية. وفي هذا الصدد، يُصرّ البرغوثي على أن “اللجنة الوطنية للمقاطعة لا تطمح لأنْ تصبح جسمًا سياسيًا بديلًا. بل يجب أن تبقى القيادة السياسية للشعب الفلسطيني ضمن هيكلية منظمة التحرير الفلسطينية…” ولكن لأن اللجنة تسعى فقط لأنْ تكون مرجعيةً موثوقةً لحركة المقاطعة وأسلوبها وخطابها، فكثيرًا ما يُظنُّ خطأً أنها استراتيجيةٌ للتحرر الوطني.

يثير موقف اللجنة الوطنية للمقاطعة تحديين أساسيين أمام الجسم السياسي الفلسطيني. يتمثل التحدي الأول في أن اللجنة لا تسعى إلى ولايةٍ تمثيليةٍ كتلك التي تتمتع بها منظمة التحرير الفلسطينية، ممّا يخلق تشويشًا في أوساط جماعات التضامن التي يمكنها بالتالي أن تتبنى دعوةً لحقوق الإنسان دون أن تكون خاضعةً للمحاسبة على أساس برنامجٍ سياسي. وثانيًا، لا تقوى النجاحات الكبرى للجنة، في ظل غياب استراتيجيةٍ للتحرر وطني، إلّا على تعزيز الدعوة إلى حقوق الإنسان؛ ولكنها لن تحرز حق الفلسطينيين في تقرير المصير.

وتُبرز قطامي خطورة الخلط بين حركة المقاطعة كتكتيك استراتيجي وبين غايتها. وهي تعزي هذه الخطورة إلى غياب استراتيجيةٍ وطنيةٍ شاملة، “فليس هناك قاعدةٌ، ولا مشروعٌ، ولامسارٌ، ولا قناعةٌ جماعيةٌ، ولا استراتيجية لضمان دوام الحِس بالمساءلة أمام الحركة.”

حقوق إنسان دون برنامج سياسي

تظل الإجابة على الأسئلة الملحّة المتعلقة بالتمثيل واستراتيجية التحرر الوطني من مسؤولية الفلسطينيين في شتى أنحاء العالم. ومن تلك الأسئلة ما يلي:

  1. هل ينبغي للفلسطينيين أن يذهبوا إلى حد دعم ضم الأراضي الفلسطينية المحتلة من أجل الدخول في مرحلة النضال من أجل المساوة على أرض واحدة وضمن نظام قانوني واحد؟
  2. هل ينبغي دمج المستوطنات عرقيًا أم هدمها عن بكرة أبيها؟
  3. هل تعديل القوانين الإسرائيلية لضمان المساوة سيكون كافيًا لتغيير طابع الدولة من اليهودية إلى العلمانية؟
  4. هل ينبغي للفلسطينيين المواطنين في إسرائيل التركيز على النضال من أجل المساواة أم أن عليهم وضع إطارٍ شاملٍ لمحاربة التطهير العرقي داخل إسرائيل ذاتها وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة؟ ما هو دور السلطة الفلسطينية، إنْ وجِد، بوصفها إحدى مخرجات أوسلو؟ هل ينبغي مقاطعتها، حلّها، أم النهوض بها كما اقترحت مؤخرًا عضوة اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية حنان عشراوي؟
  5. ما هو نوع النظام الاقتصادي الذي ينبغي للفلسطينيين الدعوة إليه؟
  6. مع أي الدول والحركات الدولية ينبغي للفلسطينيين التحالف من أجل الحصول على دعمٍ اقتصادي وسياسي وأمني؟
  7. ما هو دور المقاومة المسلحة؟ وإذا كانت هذه المقاومة لا تزال تضطلع بدورٍ بارزٍ، فكيف ترتبط بالحراك المباشر غير العنيف؟

ومن المثير الاهتمام أن حركة الشباب الفلسطيني في عام 2011 حذفت خطاب المقاربة الحقوقية من ميثاقها لأنه، بحسب ما اتفق عليه أعضاؤها، أنساهم ضرورة التعبئة الشعبية المباشرة في أوساط الجاليات الفلسطينية. ومن وحي مقاربةٍ مماثلةٍ خرج رُكاب الحرية عندما أعلن عددٌ من الناشطين الفلسطينيين المستقلين تحديهم واستقلوا حافلات خاصةٍ بالمستوطنين واتجهوا إلى القدس الشرقية للتظاهر ضد الطبيعة البغيضة لِما تمارسه إسرائيل من فصلٍ ممأسسٍ للحيز المكاني العام والخاص. وقد لفت هذا الصنيع انتباه المجتمع الدولي وحظي بإشادةٍ لأنه أبرز نظام الفصل العنصري الذي تطبقه إسرائيل. كما تمخض عنه أيضًا جدلٌ في أوساط الفلسطينيين الذين فسّروه خطأً بأنه مطالبةٌ بإنهاء الفصل بين المستوطنات ونُظم مواصلاتها الحصرية بدلًا من تفسيره بأنه مطالبةٌ لتحرير الأراضي التي تشعبت فوقها هذه المستوطنات. وأثار هذا الجدل نقاشًا بنّاءً بين الفلسطينيين حول القيود التي يفرضها خطاب حقوق الإنسان. فكلتا المقاربتين تتصديان للشدّ القائم بين المقاربة الحقوقية والبرنامج السياسي الرامي بوضوح إلى تحقيق تقرير المصير والتحرر الوطني.

وعلى الرغم من هذه التوترات الداخلية الفلسطينية، تظل المقاربة الحقوقية مرجعيةً بارزةً لنشطاء التضامن الدولي. إذ تشير هانا ميرميلشتاين، وهي عضوةٌ بارزةٌ في منظمة عدالة-نيويورك وناشطة حقوقية مخضرمة، “ليس كل إنسان فلسطيني عنصرٌ فاعلٌ في حركة المقاطعة بالضرورة، غير أن حركة المقاطعة تظل برنامج عملٍ لا يخالفه سوى القِلة القليلة من الفلسطينيين. فهو غايةٌ ومجموعة حقوق وإطار عمل، وهذا بالنسبة إليّ مهمٌ كأهمية التكتيك نفسه.” فبينما يمكن القول إن المقاربةَ الحقوقية التي تنتهجها اللجنة الوطنية للمقاطعة تمثل قاسمًا مشتركًا بين الفلسطينيين، فإن الافتقار إلى برنامجٍ سياسي يمكن للجنة تطويره هيكليًا يحد من قدرتها على تحقيق تقرير المصير.

الدروس المستفادة من جنوب إفريقيا

هل تجربة النضال ضد نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا توفر وسيلةً للتحرر الوطني بعيدًا عن الشدّ القائم بين المقاربة الحقوقية والبرنامج السياسي؟ لا شك أن هناك اختلافات بين الحالة الفلسطينية وحالة جنوب إفريقيا إبان حقبة الفصل العنصري. فعلى سبيل المثال، خرجت الدعوة لمقاطعة نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا عن مجموعة دولٍ إفريقية في عام 1961 وتبنتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1962 (القرار رقم 1761). وفي المقابل، صدر نداء المقاطعة لعام 2005 من ائتلاف واسع يضم منظمات وشبكات من المجتمع المدني الفلسطيني، ولم يحظَّ إلا بمصادقةٍ جزئيةٍ من السلطة الفلسطينية، كما لم يتنباه أي نظامٍ عربي، ناهيك عن الجمعية العامة للأمم المتحدة.

ومع ذلك، ورغم تماسكها الظاهري، عانت حركة مقاطعة جنوب إفريقيا أيضًا من انقسامات داخلية. يشير الباحث والرئيس السابق لمنتدى “ترانز أفريكا” بيل فليتشر الابن إلى وجود أحزابٍ أخرى كحزب مؤتمر عموم إفريقيا والحركة الشعبية أزانيا رغم أن حزب المؤتمر الوطني الإفريقي كان الحزب السياسي الجنوب إفريقي الألمع صيتًا في الولايات المتحدة. وكان كل حزب يمثل حركات مختلفةً متأثرةً بالسياسة الدولية والمحلية. وكما في حالة فلسطين، كان أمام التضامن الدولي خيارات عديدةٌ في اتباع مرجعيةٍ موثوقة. وخلافًا لحالة فلسطين، يُبين فليتشر بأن “أُفُق التضامن كان واسعًا جدًا، فلم تكن هناك حاجةٌ مطلقًا لاختيار الوقوف إلى صف طرفٍ دون آخر أو التحالف مع منظمةٍ دون أخرى.” فبدلًا من ذلك، وطّن نشطاء التضامن أنفسهم لإنهاء الفصل العنصري. ومع ذلك، يضيف فليتشر بأنه “لم يكن أحدٌ يدرك تمامًا ما ستعنيه نهاية الفصل العنصري.” ورغم الافتقار إلى رؤيةٍ سياسيةٍ مشتركةٍ، اتفق نشطاء التضامن على أن النصر سوف ينطوي على تولي الأغلبية السود لمقاليد الحكم، وإنهاء الفصل العنصري، وإعادة توزيع الأراضي، وإطلاق سراح جميع السجناء السياسيين.

لم يكن التحدي الذي واجهته دعوة المقاطعة في جنوب إفريقيا ناشئًا من التوتر الداخلي المستعر وإنما من جهود المتضامنين الأفارقة الأمريكيين. وعلى وجه الخصوص، فإن القوى التي عارضت الدعوة الجذرية لحملة المقاطعة تضافرت حول مبادئ سوليفان التي صاغها القس ليون سوليفان. وعلى الرغم من أن تلك المبادئ غدت ترِكةً يُحتفى بها الآن، يقول فليتشر إن “خطة سوليفان لإنهاء الفصل العنصري” كانت “إلهاءً… إذ كان سوليفان يهدف إلى نزع الشرعية عن حزب المؤتمر الوطني الإفريقي ومؤتمر عموم إفريقيا…وكان الداعون إلى مبادئ سوليفان يعارضون قوى المقاطعة في الولايات المتحدة والقوى الثورية في جنوب إفريقيا.”

يشير البرغوثي إلى وجود صراعٍ مماثلٍ داخل حركة مقاطعة إسرائيل حيث “حاولت بعض الجماعات الصهيونية المعتدلة إبان المراحل المختلفة لحركة المقاطعة أن تُميِّع، باستماتةٍ أحيانًا، مطالب الحركة وتختزلها في إنهاء احتلال الأراضي المحتلة عام 1967، وحاولت بموازاة ذلك أيضًا أن تطمس المرجعية الفلسطينية لحركة المقاطعة العالمية، غير أن جهودها تلك أُحبطت كليًا.” وفي حين أن محاولات “الصهاينة المعتدلين” لها أجندتها السياسية الخاصة كما هو واضح، فإنها تُبرز مع ذلك مشكلةَ غياب البرنامج السياسي والاعتماد على المقاربة الحقوقية. وفي هذا الصدد، يتسنى للناشطين، بل ويُشَدُّ على أيديهم في الغالب لكي يُعبروا عن دعمهم لحقوق الإنسان بغض النظر عن الإرادة السياسية للشعب الذي يزعمون أنهم يدعموه.

الحلول السياسية غير الثورية

واجهت الحركة المناهضة لنظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا تهديدًا يتمثل في احتمالية إحقاق الحقوق دون حلٍ ثوري. ويلاحظ فليتشر أن الناشطين كانوا مدركين بأن الاستجابةَ لنضال الأفارقة الأمريكيين من أجل المساواة كانت تشريعيةً وتخلو من أي حلٍ ثوري، ومع ذلك، “فقد شاع افتراضٌ بين الناس بأن وجود جيشٍ لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي وجيشٍ لمؤتمر عموم إفريقيا…يعني أنه سيكون هناك بالطبع اقتلاعٌ [للنُظم القمعية].”

ولا يخفى اليوم أن الحركات الشعبية ذات الجيوش باتت تُصنَّف كمنظماتٍ إرهابية. وعلى أية حال، يمكن القول إن إمكانية التحول الثوري يجب أن تنبثق من برنامجٍ سياسي واقتصادي واجتماعي ومدني. غير أن التحدي الأكثر إلحاحًا في هذه المرحلة يتمثل في التوصل إلى قرارٍ بشأن هوية الجهة التي سوف تضع هذا البرنامج وماهية سُبلها إلى ذلك، وفي تحديد النطاق الجغرافي الذي يغطيه البرنامج ووزن تمثيله السياسي.

وفي سبيل تحقيق هذه الغاية، تكتسب الحركة الرامية إلى تفعيل المجلس الوطني الفلسطيني أهميةً بارزةً. فعقب قيام قناة الجزيرة بنشر “أوراق فلسطين” سيئة السمعة، طالب فلسطينيون في لبنان وبريطانيا والولايات المتحدة والأراضي المحتلة وفي داخل إسرائيل بوجود قيادة سياسية أكثر خضوعًا للمساءلة. وقد برز من بين مطالب هذه الحركة اللامركزية مطلب إحياءِ المجلس الوطني الفلسطيني. وقد تبلور هذا المطلب منذ ذلك الحين وتحول إلى حركة عالمية منسَّقة تهدف أولًا إلى تسجيل الفلسطينيين بحلول تشرين الأول/أكتوبر 2012، ومن ثم عقدِ انتخابات لاختيار أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني. ولكن حتى بعد انتهاء التسجيل وقبول نتائج انتخاب المجلس الوطني الفلسطيني، فَرَضًا، باعتبارها انتخابات شرعية صوت فيها جسمٌ وطني فلسطيني يمكن التعرف إليه وتحديده، فإن سؤال “وماذا بعد؟” سيظل يلوح في الأفق.

تشير نور جودة، وهي طالبة في الدراسات العليا في واشنطن العاصمة وناشطة فلسطينية، بأن الإجابة على هذه الأسئلة تأتي على الأرجح في إطار السياق العملي وليس في قاعات الاجتماعات، إذ تقول: “سوف نعمل على جميع الجبهات: حملة المقاطعة، والاحتجاجات، والتضامن الدولي، والصحافة، والعلاقات العامة. وبعد كل هذا، سوف نظل نتحاور بشأن “ماذا بعد؟” محتارين مع قيادة سياسية تبدو غير ملتزمة بالمقاومة.”

إن ردّ الناشطة جودة يبدو الأقرب لنموذج التحول الثوري في جنوب إفريقيا: العملُ على جميع الجبهات في موازاة التصدي للقضية الأساسية المتمثلة في وجود استراتيجية تحررٍ وطني ووجود القيادة اللازمة لتحقيقها. أمّا اليوم، تنطوي الساحة السياسية الفلسطينية على جسمٍ سياسي غير ممثل يدّعي القيادة في المحافل الدولية (السلطة الفلسطينية/منظمة التحرير الوطنية)، وحركة مجتمع مدني قوية تسعى لإحراز الحقوق الفلسطينية دون المطالبة بالتمثيل ودون برنامجٍ سياسي (اللجنة الوطنية للمقاطعة) وجماعات صغيرة ولكن متنامية في الشتات تسعى بالفعل إلى تمثيل الفلسطينيين سياسيًا (شبكة الجالية الفلسطينية في الولايات المتحدة وحركة الشباب الفلسطيني) وجهد وليدٍ يسعى إلى التمثيل الوطني من خلال انتخابات شاملة للمجلس الوطني الفلسطيني. وفي هذا السياق، فإن الاستراتيجية الأكثر فعاليةً تتمثل في النضال من أجل الحقوق بموازاة العمل على صياغة برنامجٍ سياسي وإرساء قيادةٍ ممثِّلةٍ ولا سيما في وقت يتنامى فيه التعاطف العالمي والدعم الدولي لتطلعات الفلسطينيين الوطنية.

نورا عريقات هي أستاذة مساعدة في جامعة جورج مايسون في مادة الدراسات القانونية والدولية، وتركز في بحثها على قضايا حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية. وهي محامية...

أحدث المنشورات

 السياسة
بعد عام من المعاناة تحت وطأة العنف والدمار المستمرين ، يقف الفلسطينيون عند لحظة مفصلية. تتناول يارا هواري، في هذا التعقيب، الخسائر الهائلة التي تكبدها الشعب الفلسطيني منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023 والفرص المنبثقة عنها للعمل نحو مستقبل خالٍ من القمع الاستعماري الاستيطاني. وترى أنّ الوقت قد حان الآن لكي تتحول الحركة من رد الفعل إلى تحديد أولوياتها الخاصة. وكجزء من هذا التحول، تحدد يارا ثلاث خطوات ضرورية: تجاوز التعويل على القانون الدولي، وتعميق الروابط مع الجنوب العالمي، وتخصيص الموارد لاستكشاف الرؤى الثورية لمستقبل متحرر.
Al-Shabaka Yara Hawari
يارا هواري· 22 أكتوبر 2024
منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، قتلت القوات الإسرائيلية ما يزيد عن 40,000 فلسطيني في غزة، وجرحت 100,000 آخرين، وشرَّدت كامل سكان المنطقة المحتلة تقريبًا. وفي ذات الوقت شرَعَ النظام الإسرائيلي في أكبر اجتياح للضفة الغربية منذ الانتفاضة الثانية مما أدى إلى استشهاد ما يزيد عن 600 فلسطيني واعتقال 10,900 آخرين. كما وسعت إسرائيل نطاق هجومها الإبادي الجماعي في لبنان، مما أسفر عن مقتل ما يزيد على ألف شخص ونزوح أكثر من مليون آخرين. يسلط هذا المحور السياساتي الضوء على مساعي الشبكة في الاستجابة لهذه التطورات على مدار العام الماضي، من وضع أحداث السابع من أكتوبر في سياق أوسع للاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، إلى استجواب آلة الحرب الإسرائيلية متعددة الأوجه، إلى تقييم العلاقات الإقليمية المتغيرة بسرعة. هذه المجموعة من الأعمال تعكس جهد الشبكة المستمر في تقديم رؤية فورية للوضع الفلسطيني.
لا تنفك شركات الأسلحة البريطانية تتربّح من بيع الأسلحة لإسرائيل من خلال التراخيص الصادرة من الحكومة البريطانية، حيث بلغ إجمالي هذه الصادرات منذ العام 2008 ما يقدر بنحو 740 مليون دولار، وهي ما تزال مستمرة حتى في ظل الإبادة الجماعية الجارية في غزة. يشعر البعض بتفاؤل حذر إزاء احتمال فرض حظر على الأسلحة بعد فوز حزب العمال في انتخابات يوليو/تموز 2024، وبعدَ أن وعدَ بالانسجام مع القانون الدولي. في سبتمبر/أيلول 2024، علقت الحكومة البريطانية 30 ترخيصاً من أصل 350 ترخيصاً لتصدير الأسلحة إلى إسرائيل. ويرى الناشطون وجماعات حقوق الإنسان أن مثل هذا القرار محدود للغاية. وبناء على ذلك، تُفصِّل هذه المذكرة السياساتية الالتزامات القانونية الدولية الواقعة على عاتق بريطانيا وكذلك المناورات الحكومية الممكنة فيما يتصل بمبيعات الأسلحة لإسرائيل.
شهد الحموري· 15 سبتمبر 2024
Skip to content