لمحة عامة
تُنذِرُ الاشتباكات المتصاعدة بين المستوطنين الإسرائيليين والفلسطينيين المقدسيين بثورانٍ كبير لا يمكن التنبؤ بعواقبه. وقد سارعت وسائل الإعلام واليمين الإسرائيلي إلى وصفها بأنها “حربٌ دينية،” رغم أنها في الواقع حصيلةُ خطط إسرائيل المستمرة لتهويد المدينة، وتفريغها من سكانها الفلسطينيين. تُحلل نور عرفة، العضوة السياساتية في الشبكة، التغييرات الرئيسية التي تُحدِثها إسرائيل في القدس غصبًا وعنوةً ودون وجه قانوني، وتناقش كيف أن منظمة التحرير الفلسطينية/السلطة الفلسطينية تخلَّت فعليًا عن السكان الفلسطينيين، وتركتهم ليدافعوا عن أنفسهم. وتختتم بتوجيه توصيات سياساتية لمنظمة التحرير الفلسطينية/السلطة الفلسطينية، والأكاديميين والمحللين الفلسطينيين، وحركة التضامن الدولية.1
خرافة الحرب الدينية
اندفعت القدس إلى دائرة الضوء بسبب الاشتباكات الأخيرة بين المستوطنين الإسرائيليين والفلسطينيين في المسجد الأقصى. يضم الحرم القدسي الشريف مسجدَ الأقصى، وهو أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين في الإسلام، وقبةَ الصخرة، التي عَرَج منها النبي محمد إلى السماء. أمّا اليهود فيُقدِّسون هذا الموقع لاعتقادهم أنه كان في الماضي موضعًا لهيكلين يهوديين قديمين.
وما انفك عددٌ من اليهود الحريديم ينتهكون الوضع الراهن القائم منذ العام 1967 باقتحام حرم المسجد الأقصى، ودعوة إسرائيل لبناء الهيكل الثالث على ما يسمونه جبل الهيكل.2 ويُظهر تسجيل نشره معهد الهيكل مؤخرًا على موقع يوتيوب مجسمًا للهيكل الثالث وهو يحل محل مسجد الأقصى وقبة الصخرة. ومعهد الهيكل هو جزء مما يُسمى حركة أمناء جبل الهيكل وأرض إسرائيل.
وقد تخلل الاشتباكات الأخيرة بين الفلسطينيين والمستوطنين والشرطة الإسرائيلية في القدس اعتداءات مروعة مثل اختطاف الشاب الفلسطيني محمد أبو خضير وقتله في تموز/يوليو 2014. وبعد مزاعم إصابة يهودا غليك بعيار ناري على يد فلسطيني، وهو شخصية أساسية في معهد الهيكل ومدافع شرس عن مخططها الواعد بالخلاص، نفَّذ أعضاء حركة جبل الهيكل المزيد من الاقتحامات في المسجد الأقصى. وبتاريخ 30 تشرين الأول/أكتوبر 2014، منعت إسرائيلُ إقامةَ الصلوات في الحرم القدسي للمرة الأولى منذ العام 1967، وبلغت التوترات في القدس ذروتها بعد هجوم شنَّه فلسطينيان على كنيس لليهود الحريديم في 18 تشرين الثاني/نوفمبر 2014، قُتل فيه أربعة يهود وضابط شرطة درزي. وبدأ العام الجديد مع تحذيرات من مفتي القدس ازاء مخططات منظمة إسرائيلية تسعى لتسجيل المسجد الأقصى كعقار إسرائيلي.
ولكن هل يمكن وصف ذلك حقًا بأنه بدايةُ حربٍ دينية؟ وهل تحول الصراعُ السياسي فعلًا إلى حرب عَقائدية؟ وفقًا لصحيفة الجارديان، “هذا هو شكل الحرب الدينية.” ويتفق مع هذا الوصف معلقٌ فلسطيني على قناة الحوار. وذهب نائب عضو الكنيست موشيه فيجلين إلى أبعد من ذلك حيث وصف ما يجري بأنه حرب عالمية “ضد قوى الشر الأكثر تطرفًا في الإسلام”. والأسوأ من ذلك، أن حركة جبل الهيكل تقلب الحقائق إذ تُعلن أن من بين أهدافها على المدى البعيد “تحريرَ جبل الهيكل من الاحتلال العربي (الإسلامي)،” وبالتالي تصوِّر المستعمِرين كمستعمَرين.
ومع ذلك، فإن تأطير هذه الأحداث بإطار الحرب الدينية يتجاهل واقع انعدام توازن القوى بين المستعمِر والمستعمَر، ولا يراعي التاريخ والسياق للأحداث الأخيرة.
الاستهداف الإسرائيلي للمسجد الأقصى منذ القِدم
يحظر القانون الديني اليهودي على اليهود الصلاةَ في حرم المسجد الأقصى، ويتوقع منهم فقط أن يقدسوا المكان، دون زيارته أو تملّكه خشيةَ تدنيس القدسية الداخلية للهيكل المزعوم، وأن يُصلّوا عند حائط البراق (الحائط الغربي بعد إعادة تسميته). غير أن المتطرفين هاجموا المسجد الأقصى في مرحلة مبكرة من الصراع بهدف إعادة بناء الهيكل. وفي عام 1982، خرج مئير كهانا، زعيم حزب كاخ اليميني المتطرف، في مسيرة داخل الحرم وهو يرفع مخططات للهيكل المنوي بناؤه على أنقاض الأقصى. وفي عام 1990، استُشهدَ 21 فلسطينيًا وأصيب 150 بجروح في اشتباكات مع أعضاء حركة جبل الهيكل الذين حاولوا دخول الأقصى ووضع حجر الأساس للهيكل. وفي عام 1996، أثارت أعمال التنقيب وحفر الأنفاق الإسرائيلية قُرب الأقصى انتفاضة أسفرت عن استشهاد 70 فلسطينيًا ومقتل 15 جنديًا إسرائيليًا.
وتعكف الحكومة الإسرائيلية أيضًا على دعم الجهود الرامية إلى ضمان السيطرة اليهودية على الحرم. فنصف أعضاء حزب الليكود تقريبًا يدعمون حركة جبل الهيكل، التي فازت مؤخرًا بتمويل حكومي. فقد تلقى معهد الهيكل، بين عامي 2008 و2011، تبرعًا سنويًا قدره 107000 دولار أمريكي من وزارة التربية والتعليم ووزارة الثقافة والعلوم والرياضة. وفي العام 2012، حصلت وحدةٌ معنية بالتثقيف والتعليم في معهد الهيكل على مبلغ إضافي قدره 50000 دولار أمريكي من وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية.
ومع ذلك، لا ينبغي النظر إلى أفعال مجموعات محددة تسعى للسيطرة على المسجد الأقصى على أنها حوادث معزولة، وإنما كجزء من المشروع الصهيوني الأكبر لتهويد القدس وضمان الهيمنة اليهودية في المدينة.
خلق واقع جديد في القدس
دأبت إسرائيل، منذ بداية الاحتلال سنة 1967، على تحويل مدينة القدس متعددة الأديان والثقافات إلى مدينة يهودية “موحَّدة من جديد” تحت السيطرة والسيادة الإسرائيلية الحصرية. وسرَّعت وتيرة تهويد المدينة من خلال سياسات مؤثرة في الفضاء الجغرافي والمادي، ومصمَّمة للالتفاف على “التهديد الديموغرافي” الذي يشكِّله الفلسطينيون.
ومنذ البداية في العام 1967، ضمَّت إسرائيل70 كم مربع من أراضي الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية (6.5 كم مربع)، دون وجه قانوني، بحيث صادرت أكبر مساحة من الأرض وقللت عدد الفلسطينيين. وأزالت أيضًا حي باب المغاربة وحارة الشرف، وهما حيَّان عربيان، من أجل إقامة الحي اليهودي، وساحة حائط البراق، ومنازل للمستوطنين، وكُنُس يهودية. وغيَّرت إسرائيلُ تضاريس القدس حيث شيَّدت حلقةً من المستوطنات حول المدينة، وربطتها بطرق التفافية لضمان تواصلها الجغرافي مع المستوطنات الإسرائيلية الأخرى في الضفة الغربية.3
واستمرت تجزئة القدس جغرافيًا وسياسيًا مع عزلها اقتصاديًا لفترة طويلة قبل أن تشرَعَ إسرائيلُ في بناء جدار الفصل العنصري سنة 2002 الذي أعاد رسم الحدود بعيدًا عن خط الهدنة السابق للعام 1967. وصُمِّم الجدار عمدًا ليشقَّ المدينة ويقصي مناطق مأهولةً بالفلسطينيين كوسيلة لضمان الأغلبية اليهودية.
ومن أجل التعامل مع “التهديد الديموغرافي” الذي يمثِّله الفلسطينيون، اعتبرت إسرائيلُ الفلسطينيين القاطنين في القدس “مقيمين دائمين” – وهي حالة مدنية تُعطى في العادة للمواطنين الأجانب ولا تضمن حقوق الإقامة. وعلى هذا الأساس، تُلغى بطاقات الهوية للمقيمين في أحيانٍ كثيرة. وبين عامي 1967 و2013، سحبت إسرائيل بطاقات الهوية ممّا يزيد على 14,309 مقيم فلسطيني. ووفقًا للتعديل المؤقت لعام 2003 في قانون المواطنة والدخول إلى إسرائيل (المعدل في 2005 و2007)، لا يتسنى لفلسطيني الضفة الغربية المتزوجين من سكان القدس الحصولُ على الإقامة، وإنما يحصلون على تصاريح مؤقتة في ظروف استثنائية. وفي المقابل، يحصل اليهود المهاجرون للعيش في القدس على الجنسية مباشرة، وهذا يعكس طبيعة الفصل والتمييز العنصري للكيان الإسرائيلي.
سعت إسرائيل، في سياق تعزيز الوجود اليهودي في القدس، لاحتواء التوسع العمراني والديموغرافي الفلسطيني من خلال سياسات حضرية وتنظيمية تمييزية تنسجم والتطهير العرقي. فصنَّفت ما يزيد على ثلث الأراضي في الأحياء الفلسطينية تحت مسمى “مساحات طبيعية مفتوحة” يُحظَر فيها البناء، وحصرت حركة البناء الفلسطينية في 14% فقط من أراضي القدس الشرقية وتسببت في أزمة سكن حادة. ومنذ العام 1967، هدمت إسرائيل 1,673 وحدةً سكنية، ممّا أضرَّ بنحو 8,000 شخص بين عامي 1967 و2013. وبتنفيذ هذه السياسات مجتمعة، تهدف إسرائيل إلى بلوغ معدل 30% من العرب و70% من اليهود داخل حدود بلدية القدس.
تتجلى السياسات الإسرائيلية التمييزية بوضوح أيضًا في تفاوت الخدمات المقدَّمة للأحياء الفلسطينية واليهودية. فأقل من 10% من موازنة البلدية مخصصٌ للمناطق الفلسطينية رغم أن الفلسطينيين يدفعون ضريبةَ الأرنونا تمامًا كالمواطنين اليهود.
يقترن التهويدُ بعملية “اجتثاث العنصر الفلسطيني” من أجل القضاء على الهوية الفلسطينية في القدس. وعلى سبيل المثال، غيرت السلطات الإسرائيلية اسم شارع السلطان سليمان القانوني (من سلاطين الدولة العثمانية) إلى اسم شارع الملك سليمان، واسم حي وادي حلوة في سلوان إلى اسم “مدينة داوود”. وعلاوة على ذلك، مُنحت الشوارع غير المسماة في المناطق الفلسطينية مؤخرًا أسماءَ عربيةً تخلو من أي دلالات سياسية ووطنية. وترتبط عملية إعادة التسمية هذه بإعادة كتابة التاريخ بما يتماشى والرواية الصهيونية، وهي تستغل علم الآثار والحفريات في خلق تاريخ يهودي وهمي للمدينة، بينما تتجاهل تراث الأزمنة الأخرى.
يمتد التحكم الإسرائيلي بالرواية التاريخية إلى النظام التعليمي، حيث تسعى إسرائيل، منذ آذار/مارس 2011، إلى إجبار المدارس الفلسطينية التي تتلقى مخصصات ميزانية من السلطات الإسرائيلية على تدريس الكتب المدرسية التي تضعها إدارة التعليم في القدس (خمس مدارس رضخت إلى الآن). وهذه الكتب تضع بين يدي الطالب الفلسطيني روايةً تاريخية من جانب واحد، وتحذف أي موضوع يتصل بالهوية والتراث الفلسطيني.
تتعرض المؤسسات الفلسطينية في القدس أيضًا للاستهداف من أجل ضرب النشاط الفلسطيني في المدينة. فمنذ العام 2001، أغلقت إسرائيل 31 مؤسسةً فلسطينية على الأقل، بما فيها بيت الشرق، المقر السابق لمنظمة التحرير الفلسطينية، وغرفة التجارة والصناعة. وحدا مناخُ القمع هذا بالعديد من المؤسسات للانتقال إلى خارج القدس، ممَّا تسبَّب في فراغٍ مؤسساتي هائل مصحوبٍ بغياب القيادة.
ومن الخطوات الأخرى التي تتبعها إسرائيل لاجتثاث العنصر الفلسطيني من القدس خطةُ “التنمية” الاقتصادية والاجتماعية الخمسية الأخيرة الخاصة بالمناطق الفلسطينية، والتي وافق عليها مجلس الوزراء الإسرائيلي في حزيران/يونيو 2014. تُركز هذه الخطة على الفجوات بين الأحياء الفلسطينية واليهودية من حيث البنية التحتية، والتعليم، والرعاية الاجتماعية، والتوظيف في محاولةٍ جلية لتشجيع إدماج الفلسطينيين داخل إسرائيل وتعزيز الأمن من خلال إحباط أعمال “العنف” و”رشق الحجارة”.
“التنمية”، بعبارة أخرى، هي أداة لتعزيز السيطرة الإسرائيلية على القدس وقمع الصمود والمقاومة الفلسطينية للاحتلال الإسرائيلي. وبالتالي، لا يمكن النظر إلى الخطة كمبادرة لمعالجة تدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للفلسطينيين في القدس من حيث معدل الفقر المرتفع جدًا (75% من السكان الفلسطينيين يعيشون تحت خط الفقر بحسب تعريفه الإسرائيلي)، وانهيار قطاعي التجارة والسياحة، ونقص الاستثمارات، وتردي الخدمات الصحية والتعليمية، وارتفاع معدلات البطالة (16.7% في عام 2014)، وارتفاع تكاليف المعيشة.
وفي هذا السياق، ينبغي النظر إلى الاشتباكات الفلسطينية مع اليهود الإسرائيليين كعمل مقاوم ويائس ضمن النضال التاريخي الأشمل الذي يقوده الفلسطينيون ضد الاحتلال والفصل العنصري والتطهير العرقي وسرقة الأراضي والطرد والتهجير القسري والتهميش الاقتصادي. إن تزايد اقتحامات الأقصى، والدعوة إلى بناء الهيكل الثالث مؤخرًا، أشعلَ لهيب هذه العواطف المكبوتة. والتركيز على الأبعاد الدينية للاضطرابات الأخيرة، وتجاهل أسبابه الجذرية لن يقود سوى لمزيد من الاشتباكات العنيفة والتفجرات غير المسبوقة. وما يجري الآن هو استغلال الدين لخدمة أهداف سياسية وقومية إسرائيلية حيث إنه يرسخ سياسات الفصل العنصري الاستعماري.
فراغ القيادة يُسبب عجز الفلسطينيين
ينبغي النظر إلى الاضطرابات الأخيرة في القدس، التي لجأ فيها الفلسطينيون إلى أشكال جديدة من المقاومة كاستخدام المركبات والمفرقعات النارية، في السياق الأوسع لمدينةٍ تفتقر إلى القيادة السياسية. لم تستثمر السلطة الفلسطينية بحق في القدس منذ توقيع إعلان مبادئ أوسلو سنة 1993، والذي نشأت بموجبه السلطة الفلسطينية. وكان هذا جليًا بالفعل حين قبلت منظمة التحرير الفلسطينية تأجيل قضية القدس إلى مفاوضات الوضع النهائي للأرض الفلسطينية المحتلة. وبينما تتمسك منظمة التحرير الفلسطينية/ السلطة الفلسطينية بعملية السلام الهزلية وترفض تركها، تعكف إسرائيل على ترسيخ احتلالها وسيطرتها على القدس.
وعلى خلاف الخطاب الداعم للقدس الذي تتبناه السلطة الفلسطينية، تخصص السلطة ميزانية ضئيلة للمدينة. فقد بلغت الميزانية الإجمالية المخصصة لوزارة شؤون القدس ولمحافظة القدس حوالي 15 مليون دولار في عام 2014، ما يعادل 0.4% من إجمالي الإنفاق في موازنة السلطة الفلسطينية لذلك العام. وهذا المخصص لعاصمة دولة فلسطين المفترضة يبدو تافهًا ومخزيًا مقارنةً بنسبة 27% المخصصة في الميزانية لقطاع الأمن في العام نفسه. وعلاوةً على ذلك، فإن جُلَّ الميزانية تُصرَف في مناطق القدس الواقعة تحت الإدارة الفلسطينية وخارج الجدار. أمّا شعفاط وبيت حنينا وغيرها من الأماكن الواقعة داخل الحدود البلدية الإسرائيلية للقدس فقلما تحصل على أي أموال.4
ضآلة هذه الميزانية كانت السبب الرئيسي الذي دفع حاتم عبد القادر للاستقالة بعد 40 يومًا من تعيينه كأول وزير لشؤون القدس في العام 2009. وفي تعليقه، قال إن الحكومة الفلسطينية “لا تفي بالتزاماتها تجاه المدينة، التي تمر في فترة عصيبة.” وقال مثقفٌ فلسطيني وممثلٌ سابق للسلطة الفلسطينية في القدس إن”سلوك السلطة الفلسطينية لم يكن منسجمًا قط مع أهدافها المعلنة. وهي تتوانى باستمرار عن تنفيذ الدراسات والخطط العديدة المصممة للمدينة.”5
وفي حين تعكف إسرائيل على تحويل رؤيتها للقدس إلى واقع ملموس من خلال سياسات وخطط رئيسية (2020 و2030 و2050)، فإن القيادة الفلسطينية لا تزال تفتقر إلى استراتيجية متماسكة لمستقبل المدينة. ويتجلى ذلك في إسقاط خطة تنمية القدس من خطة التنمية الوطنية 2014-2016. ورغم أن الخطة تشير إلى الخطة الاستراتيجية للتنمية القطاعية في القدس الشرقية (2011-2013) الصادرة من وحدة القدس في ديوان الرئاسة، فإن هذه الخطة الاستراتيجية نُشرت في 2010 وتستدعي التحديث، فضلاً على أن وحدة القدس نفسها، التي خُصِّصت لها في السابق معظم مخصصات القدس، أُغلقت سنة 2010.4
والأهم من ذلك هو أن النهج الإنمائي المتبع في الخطة الاستراتيجية يفصل التنمية عن الواقع السياسي والاستعماري، ويختزل النضال الفلسطيني في “البقاء” بدلا من الحرية، ويتعامل مع الاحتلال الإسرائيلي باعتباره واقعًا مسلَّمًا به، بدلاً من السعي لإنهائه. تقول الخطة الاستراتيجية في مقدمتها: “كيف يمكن لمنظمة التحرير الفلسطينية أن تساعد المقدسيين في البقاء والعيش والازدهار في السياق القائم من أجل بناء قاعدة متينة لعاصمة الدولة الفلسطينية المستقبلية” (التشديد مضاف).
إن غياب الاهتمام الرسمي الصادق في مدينة القدس وغياب القيادة السياسية الفلسطينية عنها، وبروز رام الله كعاصمة الأمر الواقع، خلق عند الفلسطينيين شعورًا بالهجران والاستياء تجاه منظمة التحرير الفلسطينية/ السلطة الفلسطينية. ولا يزال رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس يُظهِر تأييده الفلسطينيين في القدس بلسانه فقط، بينما يرفض إنهاء التنسيق الأمني مع إسرائيل، أو دعم وسائل المقاومة السلمية مثل مقاطعة جميع البضائع الإسرائيلية.
وفي غضون ذلك، تردُّ إسرائيلُ على الاحتجاجات والمقاومة الفلسطينية المفتقرة إلى القيادة بقوةٍ معهودة تشمل مصادرة الأراضي، وهدم المنازل، والعقوبات الجماعية مثل اقتحام المنازل ورش الأحياء بالمياه الآسنة والاعتقالات الجماعية. وعلى سبيل المثال، اعتُقل نحو 700 فلسطيني في القدس، معظمهم من الأطفال، بين حزيران/يونيو وأيلول/سبتمبر 2014، وفقًا لمؤسسة الضمير لحقوق الإنسان.4 أمّا المستوطنون الإسرائيليون الذين يرتكبون جرائمَ وحشيةً ضد الفلسطينيين فلا يخضعون للعقاب، بل إن الحكومة الإسرائيلية خففت القيود المفروضة على امتلاك السلاح، وزادت التمويل المخصص لحماية المستوطنين في القدس، وهو دليلٌ إضافي على التمييز الممأسس الذي يتعرض له الفلسطينيون.
حماية القدس وأهلها الفلسطينيين
الاضطرابات الحالية في القدس هي نتيجة القهر الاستعماري والتمييز الممأسس، والطرد والسلب، وخلق واقع على الأرض يضمن المحافظة على التفوق اليهودي في المدينة. وبالتالي لا بد من التصدي لمخططات إسرائيل محليًا ودوليًا، والعمل في المقام الأول على زيادة تكلفتها على إسرائيل. فنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا بدأ يتفكك لمَّا أضحت تكاليف المحافظة على تفوق البيض أكبر من أن يتحملها.
أولاً وقبل كل شيء، يحتاج الفلسطينيون إلى قيادة مبادِرة واستباقية تضع القدس في صدارة التزام الحكومة، وفي صميم النضال الوطني باعتبارها قضيةً ملحة. ومن الأهمية بمكان أن يمتلك الفلسطينيون رؤيةً واضحةً للقدس لمواجهة الرؤية الإسرائيلية السائدة. الإعلام والتواصل من الأدوات الرئيسية في مواجهة المساعي الإسرائيلية الرامية إلى إعادة كتابة التاريخ وكتم الرواية الفلسطينية.
ويجب على القيادة الفلسطينية، تحديدًا، أن تواجه المحاولات الإسرائيلية الرامية إلى تأطير سياساتها الاستعمارية بعبارات دينية، وأن تُذكِّر العالم بأن القضايا الجوهرية هي قضايا الاحتلال، والطرد والسلب، وسرقة الأراضي. ولا بد من تحدي الخطاب الإسرائيلي بفضح سجل إسرائيل القمعي الشائن في القدس وباقي الأرض المحتلة. وينبغي لمنظمة التحرير الفلسطينية/ السلطة الفلسطينية أيضًا أن تستفيد أكثر من مكانتها الجديدة، المكتسبة بعد مشقة، في المنظمات الدولية مثل اليونسكو من أجل اتخاذ خطوات قانونية لحماية الأقصى والبلدة القديمة في القدس.
وثانيًا، يمكن أن يضطلع الأكاديميون والمحللون السياسيون بدورٍ حاسم في وضع القدس في الواجهة. ولغاية الآن، ظل المثقفون الفلسطينيون ينزِعون إلى تحليل التنمية الاجتماعية والاقتصادية في الضفة الغربية، وإلى حد ما، في قطاع غزة، على حساب النقاش بشأن القدس. ويجب على الفلسطينيين أن يؤكدوا على القدس في خطابهم، وأن ينتقلوا من تشخيص المشاكل إلى وضع الحلول. وينبغي إعادة النظر في مفهوم التنمية في ظل الاحتلال وإعادة تعريفها كشكلٍ من أشكال المقاومة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ضمن نضال الفلسطينيين الأشمل على مر التاريخ من أجل تقرير المصير ونيل الحرية والعدالة.
وختامًا، تُعتبر المقاطعة المحلية للسلع والخدمات الإسرائيلية وسيلةً حيوية لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي. وفضلًا على أن المقاطعة واجبٌ أخلاقي على كل فلسطيني، فإنها تزيد تكلفة نظام الفصل العنصري الإسرائيلي، وتعزز القدرة الإنتاجية للاقتصاد الفلسطيني. وفي موازاة ذلك، يجب التفكير في سُبل تطوير الاقتصاد الفلسطيني ليكون قادرًا على مقاومة الاندماج في الاقتصاد الإسرائيلي والاتكال عليه، وأن يهيئ الأرضية لقاعدةٍ سياسية متينة يمكن أن ينبثق منها مجتمعٌ متحررٌ وقادر على تقرير مصيره.
وعلى المستوى الدولي، ينبغي أن تتواصل حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات ذات القيادة الفلسطينية، وأن يُستدام الضغط الذي تفرضه على إسرائيل حول العالم. وينبغي للدول العربية أن تشارك مشاركةً فاعلة في عزل إسرائيل بسبب مخططاتها لمدينة القدس وانتهاكاتها الكثيرة لحقوق الإنسان.
ومن دون تضافر الجهود الفلسطينية والحصول على الدعم العربي والدولي للمطالبة بالحقوق الفلسطينية في القدس، فإن الحرائق الصغيرة الحالية في المدينة يمكن أن تتحول إلى حريق متأجج يُلحِق ضررًا دائمًا بالتراث الفلسطيني والعربي في المدينة، وبوجود الفلسطينيين المقدسيين في مدينة أبائهم وأجدادهم.
- تتوفر كافة إصدارات الشبكة باللغتين العربية والانجليزية (اضغط/ي هنا لمطالعة النص بالإنجليزية). لقراءة هذا النص باللغة الفرنسية أو باللغة الإيطالية، اضغط/ي هنا أو هنا. تسعد الشبكة لتوفر هذه الترجمات وتشكر مدافعي حقوق الإنسان على هذا الجهد الدؤوب، وتؤكد على عدم مسؤوليتها عن أي اختلافات في المعنى في النص المترجم عن النص الأصلي.
- بعد أن احتلت إسرائيلُ القدس الشرقية وضمتها بصورة غير قانونية سنة 1967، انتقلت السيطرة على المسجد والحرم الشريف إلى الأوقاف الإسلامية الأردنية. وتنص اتفاقية وادي عربة الموقعة بين الأردن وإسرائيل عام 1994 على الوصاية الأردنية على كل المقدسات الإسلامية في القدس.
- وُضِع مخططان خصيصًا لهذا الغرض: مشروع القدس الكبرى الهادف إلى إقامة “القدس الكبرى” على رقعة مساحتها تزيد على 600 كم مربع. وخطة E1 الداعية إلى توسيع مستوطنة معاليه أدوميم لضمان اتصالها بالقدس. وكلا المخططين يسبب انقطاعًا جغرافيًا بين الأجزاء الشمالية والجنوبية من الضفة الغربية، ومن شأنه أن يُمعِنَ في عزل الجزء الشرقي من القدس عن بقية الأرض الفلسطينية المحتلة.
- مقابلة مع الكاتبة.
- الاقتباسات كلها مستمدة من مقابلات أجرتها المؤلفة في تشرين الثاني/نوفمبر وكانون الأول/ديسمبر 2014، ما لم يرد خلاف ذلك.