نظرة عامة
صنَّف الفلسطينيون الفساد مؤخرًا كثاني أكبر مشكلة تواجههم بعد الأزمة الاقتصادية – متفوقًا على الاحتلال الاسرائيلي، الذي جاء تصنيفه في المرتبة الثالثة. وهذا ينسجم ونظرة الفلسطينيين عمومًا لمسؤولي السلطة الفلسطينية كمجموعة نخبوية تخدم ذاتها ومنسلخة عن النضال الوطني الفلسطيني والمعاناة اليومية لأبناء الشعب الفلسطيني. تتغذى هذه التصورات على فشل اتفاقات أوسلو وموت مشروع الدولة الفلسطينية وتشرذم القيادة السياسية المستمر باستمرار الاحتلال الإسرائيلي القمعي وانتهاكاته لحقوق الفلسطينيين الأساسية.1
مواضيع مرتبطة
لكن رغم هذا الاستياء، لم يشهد العقدان الماضيان سوى تغيير محدود على مستوى القيادة العليا وفي صفوف مؤسسات السلطة الفلسطينية. ولم يطل الحرسَ القديم أيُّ تغيير، إذ ظلَّ ثابتًا مُحكِمًا قبضَته على السلطة، يستديم الفسادَ المستشري والمنظم، ويستبعد الفلسطينيين من المشاركة في القرارات التي تمس حياتهم ومستقبلهم.
إن الواقع الحالي للسلطة الفلسطينية لا يشبه بأي حال الحكومة الفلسطينية الموعودة منذ سنوات الطيش التي شهدت توقيع اتفاقات أوسلو. فكما لحظ ناثان براون، “فلسطين، باختصار، هي ديمقراطية ليبرالية نموذجية. لكن عيبها الأبرز أنها غير موجودة.” هذا التناقض بين القيادة الديمقراطية المرجوة وبين الواقع يمكن تفسيره من خلال الطبيعة الأبوية الجديدة للنظام السياسي الفلسطيني. والأبوية الجديدة هي نموذج هجين تتوفر بموجبه هياكل الدولة وقوانينها وأنظمتها رسميًا لكنها تظل معطلةً بسبب السياسات غير الرسمية وشبكات المحسوبية وعلاقات النسب والقبلية. فبدلًا من اعتماد معايير الجدارة والوظيفة العامة والكفاءات الإدارية، يجد نظام الأبوية الجديدة ضالته في روابط الولاء للمتربعين على قمة الهرم السياسي.
وفي سياقٍ مؤسسي يفتقر فيه الفلسطينيون إلى آلياتٍ لمحاسبة قادتهم، أفرزت الأبوية الجديدة الفلسطينية حالة منيعة ضد التغيير الجاد في القيادة أو النظام السياسي. ورغم مبادرة السلطة الفلسطينية بمساعٍ جادة نحو الإصلاح عقب انطلاق الانتفاضة الثانية، إلا أن الهياكل السياسية الفلسطينية بقيت فاسدة، وأسيرةً لفصيلٍ سياسي واحد، يتمثل في حركة فتح. وسُخِّرت مقومات منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية ومواردهما لخدمة مصالح القلة على حساب الأكثرية.
إن معرفة مقتضيات الخروج من هذه الأزمة غير ممكنة إلا بفهم طبيعة الفساد السياسي الفلسطيني وكيف قاد إلى الإخفاق في خدمة الشعب الفلسطيني وأعاق محاولات الإصلاح كافة. يتناول هذا التحليل السياساتي الأبوية الجديدة الفلسطينية والفساد بالنظر في تغول السلطة الفلسطينية وممارسات المحسوبية والتواطؤ مع إسرائيل، بالإضافة الى الضغوط الممارسة من طرف المجتمع الدولي. ويعرض في الختام سُبل الإصلاح الحقيقي بهدف بناء قيادة ديمقراطية حقَّة ونظام حكم يمثل أطياف الشعب الفلسطيني كافة.
السلطة الفلسطينية: تتجاوز تفويضها
ضعف السلطتين التشريعية والقضائية
من حيث المبدأ، ينبغي للجهازين السياسيين الفلسطينيين الرئيسيين، منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية أن يكونا ديمقراطيين وممثلين، كما هو منصوص في القانون الأساسي الفلسطيني والنظام الأساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية. بيد أن منظمة التحرير الفلسطينية أخفقت في مهمتها المستوحاة من اسمها ذاته، وأخفقت أيضًا في الاضطلاع بدورها باعتبارها “الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.” ويتجلى ضعف منظمة التحرير الفلسطينية في حقيقة أن ذراعها التشريعي، المجلس الوطني الفلسطيني، انعقد في أيار/مايو 2018 بعد 22 عامًا من التعطل. تُبين سنوات هذا الغياب، التي ثبت في غضونها الإخفاق المطلق “لعملية سلام”، كيف تسببت القيادة الفلسطينية في تعطيل منظمة التحرير الفلسطينية عن تأدية واجبها كممثل للفلسطينيين داخل الأرض المحتلة وخارجها.
أمّا السلطة الفلسطينية فقد تجاوزت دورها كحكومة مؤقتة كما نصت اتفاقات أوسلو، وأصبحت بشكل متزايد قوةً سلطوية حاكمة في الضفة الغربية. ثم حذت حركة حماس حذوها في قمع المعارضين السياسيين في قطاع غزة.
يستأثر رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس كذلك بسلطة شبه مطلقة بصفته رأس السلطة التنفيذية – وهو ترتيب ورثه عن الرئيس الراحل ياسر عرفات، الذي تُنسب له في الغالب مأسسة نظام الأبوية الجديدة. فقد حافظ عرفات على سلطته إبان رئاسته بالاحتواء والقمع السياسيين.
ومنذ تعطيل المجلس التشريعي الفلسطيني، الذراع التشريعي للسلطة الفلسطينية، في عام 2007، أحكم عباس سلطته بتولي دور السلطة التنفيذية ودور السلطة التشريعية، ليصدر التشريعات بمراسيم رئاسية تفتقر في الغالب إلى الشفافية والتشاور الواجب مع عامة الشعب.
ومن آخر المراسيم التشريعية التي أصدرها عباس قانون الجرائم الإلكترونية لسنة 2017 والذي، برغم تعديله عقب سخط شعبي، ما زال يجيز للسلطات حجب المواقع الإلكترونية وفرض رقابة على المستخدمين العاديين لمواقع التواصل الاجتماعي. ويُجيز توقيف الفلسطينيين على خلفية التعبير عن آرائهم ووجهات نظرهم السياسية على شبكة الإنترنت وإدانتهم “بجرائم إلكترونية” تستوجب عقوبةً تصل إلى 15 عامًا في السجن.
إن الإخفاق المستمر في التوصل لاتفاق مصالحة بين حماس وفتح يحكي الكثير عن احتكار حركة فتح للسلطة Share on Xيطال التغول التنفيذي السلطةَ القضائية أيضًا. ففي نيسان/أبريل 2017، تجمهر قضاة ومحامون ومدعون عامون فلسطينيون في رام الله احتجاجًا على مشروع قانون معدِّل كان سيمنح الرئيس الفلسطيني صلاحية تعيين رئيس مجلس القضاء الأعلى ورئيس لجنة مشرفة على القضاة. كان من شأن هذا التعديل أيضًا أن يسمحَ بالتقاعد المبكر للقضاة، ويفتحَ الباب أمام السلطة التنفيذية للتدخل في استقلال القضاة وتهديده. ففي ظل قانون بهذا الشكل، كان القضاة سيضطرون إلى التفكير مرتين قبل إصدار أحكام قضائية تتحدى السلطة التنفيذية أو تعارضها. وكمثال لهذا الضغط القسري الذي تمارسه السلطة التنفيذية، وقَّع رئيس مجلس القضاء الأعلى السابق سامي صرصور كتاب استقالة غير مؤرخ قُبيل مباشرته لمهامه.
إن الإخفاق المستمر في التوصل لاتفاق مصالحة بين حماس وفتح، رغم إعلان حكومة وحدة وطنية في مطلع 2017، يحكي الكثير عن احتكار حركة فتح للسلطة وتهميشها الجهات السياسية الفلسطينية الفاعلة الأخرى وقواعدها الانتخابية. فتقاسم السلطة يعدُّ شرطًا مسبقًا لقيام حكومة وحدة وطنية مستقرة، ويتطلب تغييرات جوهرية في البنية السياسية الراهنة.
المحسوبية والولاء
كنتيجة لسيطرة فتح على السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية، أخذت الأجهزة الإدارية والسياسية تعمل على أساس الإشراك مقابل الاقصاء والمكافأة مقابل العقاب وفقًا لمقياس الولاء في المقام الأول. فلا تقرر التعيينات في المناصب العامة والترقيات أو تسحبها، مثلًا، على أساس الأداء أو الجدارة المهنية وإنما على أساس مقدار الولاء للقيادة.
يتقلد أصحاب المواقع العليا في السلطة الفلسطينية مناصبهم، على سبيل المثال، بطريق التعيين دائمًا. ولا تُعلن مواصفات المنصب على الملأ، ولا توجد معايير محددة وواضحة لتقرير التدرجات الوظيفية والرواتب والترقيات والمزايا والعلاوات. ووفقًا للائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة – أمان، تفوق الرواتب والعلاوات الممنوحة لرؤساء بعض المؤسسات غير الوزارية راتبَ رئيس السلطة الفلسطينية، الذي يبلغ دخله الشهري بنص القانون 10.000 دولار. ويُعد تعيين السجناء الفلسطينيين المحررين ضمن كوادر قوة العمل المدنية كتعويض لهم عن مساهمتهم في حركة التحرير الفلسطينية مثالًا آخر للطبيعة غير الرسمية لمناصب السلطة الفلسطينية.
وفي 2017 أجبر الرئيس عباس 6145 من موظفي السلطة الفلسطينية في غزة على التقاعد المبكر للضغط على حماس كي تتنازل عن السلطة في القطاع. ويُقدَّر عدد موظفي السلطة الفلسطينية في غزة – في القطاعين المدني والأمني – بحوالي 50.000 موظف. ورغم استيلاء حماس على السلطة في غزة، لم توقف السلطة رواتب موظفيها هناك – وإنْ قللتها – لتأمين ولائهم لها. وفي الوقت ذاته يستخدم عباس موارد الحكومة لأغراض الإقصاء والعقاب السياسي. وفي مثالٍ بغيض لهذه الممارسة، قطعت السلطة الفلسطينية المدفوعات لإسرائيل نظير ما تمدُّ به غزة من كهرباء، فانحصرت إمدادات الكهرباء في أربع ساعات يومياً فقط لسكان القطاع، البالغ عددهم مليوني نسمة.
تعاملات سرية
لقد أدى تعطيل المجلس التشريعي الفلسطيني والمجلس الوطني الفلسطيني، وهما جهازان تشريعيان غير مؤثرين، إلى احتكار السلطة التنفيذية للمفاوضات والاتفاقات السرية وتوقعيها. وتضرب اتفاقات أوسلو مثالًا بارزًا لإقدام تنفيذية منظمة التحرير الفلسطينية على احتكار المفاوضات مع إسرائيل واتخاذ قرارات ثبتت كارثيتها باسم الشعب الفلسطيني. وفي منحى مماثل، تجاهلت تنفيذية السلطة الفلسطينية في مناسبات عدة قرارات صادرة من المجلس التشريعي الفلسطيني تلزم القيادة بضرورة التوقف فوراً عن المفاوضات مع إسرائيل كرد فعل على استمرارها في قمع الشعب الفلسطيني وتوسيع المستوطنات غير الشرعية بالضفة الغربية.
إن قيام السلطة الفلسطينية سرًا بتوقيع اتفاقات مع إسرائيل في قطاعات الطاقة والكهرباء والمياه والاتصالات يبين كيف أن القيادة ماضية في تجاهل الآليات الرسمية والتشاور مع الرأي العام. ولتلك الاتفاقات تداعيات سياسية واقتصادية واجتماعية وبيئية كارثية. فإحدى الاتفاقات في قطاع الكهرباء الموقعة بين إسرائيل وبين القطاع الخاص الفلسطيني في أيلول/سبتمبر 2016 أقرَّت تسويةً للدين القائم على السلطة الفلسطينية والبالغ 550 مليون دولار لشركة الكهرباء الإسرائيلية بهدف نقل مسؤولية توفير الكهرباء في الضفة الغربية إلى السلطة الفلسطينية.
احتفت السلطة الفلسطينية بالاتفاق باعتباره نصرًا وطنيًا وخطوةً باتجاه التحرير، ولكنها أحاطته بالسرية رغم المطالب الشعبية بالإفصاح عن بنوده. فالمجتمع المدني الفلسطيني ووسائل الإعلام وشركات الكهرباء أرادت أن تعرف: كيف ستُنقَل صلاحية توزيع الكهرباء إلى السلطة الفلسطينية؟ وكيف سيجري تنظيمها؟ وما تبعات ذلك؟ فمن حق كل مواطن فلسطيني أن يعرف فحوى الاتفاق، باعتباره مستفيدًا من الخدمة. لكن غياب الشفافية الأساسية يحرم الفلسطينيين حقَّهم في الاطلاع على المعلومات التي تمس حياتهم اليومية والخدمات الأساسية المقدمة لهم من حكومتهم. ويمنعهم أيضًا من ممارسة أي محاسبة على السلطة الفلسطينية.
يتسبب اعتماد السلطة الفلسطينية على المساعدات الدولية في إضعاف النظام السياسي الفلسطيني إذ يغدو مُساءلًا أمام المانحين الدوليين وليس الشعب الفلسطيني Share on Xثمة اتفاق آخر أُبرم سرًا بين السلطة الفلسطينية والأردن وإسرائيل وهو اتفاق البحرين. احتج على هذا الاتفاق خبراء فلسطينيون في مجالي البيئة والمياه لما قد يتسبب به من ضرر بيئي غير قابل للإصلاح حال تطبيقه، حيث سيدمر القليل المتبقي من النظام الإيكولوجي للبحر الميت. واحتج الفلسطينيون أيضًا على الاتفاق لأنه سيرسخ الإنكار الإسرائيلي لحقوق الفلسطينيين في المياه، فهو يقوض السيادة الفلسطينية على الضفة الغربية وجزء من حوض نهر الأردن. لكن السلطة الفلسطينية، ممثلةً في سلطة المياه الفلسطينية، استبعدت الخبراء الفلسطينيين من المشاورات وتجاهلتهم حين شككوا في دوافع توقيع هذا الاتفاق الذي لن يجلب للفلسطينيين سوى الضرر.
أفضى الافتقار إلى الشفافية والمحاسبة إلى اختلاس المال العام وسوء استعماله وتبديده. فعلى سبيل المثال، شيد عباس قصرًا رئاسيًا على قطعة أرض تبلغ مساحتها 4700 متر مربع (مع 4000 متر مربع أخرى للمباني المرفقة، بما في ذلك مهبط للطائرات العمودية) لاستقبال الضيوف والوفود الأجنبية. وقرر في العام الماضي تحويل المبنى إلى مكتبة وطنية، بتكلفة تبلغ 17.5 مليون دولار. وفي حين أن المكتبة الوطنية فكرة نبيلة، إلا أن الاستثمار في بنية تحتية باهظة التكلفة بينما ترزح الحكومة تحت وطأة الديون وتعتمد على المعونة الأجنبية، شاهد آخرعلى سوء ترتيب الأولويات.
الضغوط والشراكات الدولية
يتسبب اعتماد السلطة الفلسطينية على المساعدات الدولية في إضعاف النظام السياسي الفلسطيني، إذ يغدو مسؤولًا أمام المانحين الدوليين وليس الشعب الفلسطيني. فالأجندة الإصلاحية وجهود محاربة الفساد التي تبنتها السلطة الفلسطينية تبلورت في معظمها استجابة للضغط الأمريكي والأوروبي الممارس منذ اندلاع الانتفاضة الثانية، عندما تدهور الوضع الأمني على الأرض. والقصد من الأجندة واضح: التركيز على الأمن أكثر من الإصلاح الإداري، وبالتالي ضمان أمن إسرائيل على حساب أمن الفلسطينيين وحرياتهم المدنية والسياسية الأساسية. وقد انعكس ذلك في إعطاء الأولوية لقطاع الأمن في موازنة السلطة الفلسطينية، حيث استأثر هذا القطاع بما نسبته 28% من الموازنة السنوية على حساب قطاعات أخرى أكثر أهمية مثل الصحة والتعليم والزراعة.
وفي إطار النقد الموجه لنموذج معونة أسلو – وهو نموذج قائم على سياسة نيوليبرالية مبنية على الاستثمار في السلام – يؤكد علاء الترتير أن أجندة التنمية الموجهة من المانحين قد أضرَّت بالظروف الاقتصادية والسياسية للفلسطينيين. فقد استأثر القطاع الزراعي مثلًا – وهو دعامة أساسية غائبة في الاقتصاد الفلسطيني – بنسبة 1% فقط من الموازنة السنوية للسلطة الفلسطينية بين عامي 2001 و2005، بينما خُصِّص حوالي 85% لدفع رواتب الموظفين. وهكذا انخفضت مساهمة القطاع الزراعي في الناتج المحلي الإجمالي من نحو 13.3% في 1994 إلى 5.9% في 2011.
أطلق الفلسطينيون حملات شعبية ونظموا إضرابات نقابية للمطالبة بتحسين خدمات التعليم والصحة، وقد اشتملت تلك الفعاليات على إضراب شامل للمدرسين، وحملة ضد نقص الأدوية بقيادة تحالف منظمات مدنية فلسطينية، وحملة ضد انقطاعات الكهرباء في غزة، وحملة لحث السلطة الفلسطينية على التصدي للإهمال الطبي. لا تستجيب السلطة الفلسطينية في معظم الأحيان لهذه المطالب الشعبية، ونادرًا ما تنعكس في خططها المالية وسياساتها العامة. ويشير أحد أعضاء الحراك الوطني للضمان الاجتماعي، الذي يتصدر الجبهة المعارِضة لقانون الضمان الاجتماعي المثير للجدل، بإن “الحكومة لا تستمع لشواغلنا.” يُلزم هذا القانون موظفي القطاع الخاص بدفع 7% من راتبهم الشهري وأرباب العمل بدفع 9% من الرواتب مقابل التغطية في الضمان الاجتماعي، وقد أثار موجةً من الغضب في أوساط الفلسطينيين، الذين احتجوا بالأساس على ارتفاع الاقتطاعات الشهرية فضلًا على غياب الضمانات لحماية أموالهم في سياق عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي.
تبنت السلطة الفلسطينية أجندةً جديدة في شباط/فبراير 2017 بعنوان “أجندة السياسات الوطنية 2017-2022: المواطن أولًا،” والتي تهدف لإعطاء الأولوية للمواطن الفلسطيني في سياسات الحكومة وتشجيع المحاسبة والشفافية في إدارة الأموال والشؤون العامة. وهذا الجهد الإصلاحي المالي والإداري المدعوم من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بدأ إبان ولاية رئيس الوزراء السابق سلام فياض، حيث تنص الأجندة على أنها مرحلة ثانية، تعقب مرحلة سابقة من بناء مؤسسات الدولة وتعزيز قدراتها، وتعلن أن الأوان قد حان “لتحسين جودة حياة مواطنينا من خلال توفير الخدمات العامة ذات الجودة العالية، وتشجيع استحداث الوظائف في القطاع الخاص، وحماية الفئات المهمشة.”
لا تعترف الأجندة الجديدة للسلطة الفلسطينية بفشل مرحلة بناء الدولة في عهد فياض في إقامة الدولة، ناهيك عن إرساء الديمقراطية. فقد بشَّرَ مجتمع المانحين الدوليين بفياض كرسول الحكم الرشيد الفلسطيني حيث بذلت وزارته جهودًا لإقامة دولة فلسطينية بحكم الواقع تحت الاحتلال الإسرائيلي في سياق انقسامٍ سياسي كبير بين أكبر فصيلين سياسيين فلسطينيين. لم تتجاوز إصلاحات فياض المعايير الفنية والإدارية لضمان أن أيًا مما تحدثه الحكومة من تغييرات لا يُعكِّر الوضع الراهن.
يجب على الفلسطينيين أن يضعوا حدًا لهزلية الإصلاح وأن يبنوا نظامًا تمثيليًا وديمقراطيًا من القاعدة إلى القمة Share on Xإن إعادة هيكلة منصب رئيس الوزراء في 2003 بموجب ضغط أمريكي وأوروبي لتخفيف قبضة ياسر عرفات على السلطة التنفيذية تضرب مثالًا آخر لمدى عقم هذه الإصلاحات الهيكلية في سياق كهذا. فدور رئيس الوزراء وقراراته وسياساته يجب أن تتماهى مع حركة فتح والرئيس، حيث إن رئيس الوزراء ليس أكثر من منفذٌّ لقرارات الرئيس، وليس له موقفٌ سياسيّ مستقل بذاته. فحين شغل فياض المنصب في عام 2007 وشرَع في خطته الإصلاحية، أصبح هدفًا لكبار مسؤولي فتح الذين استمروا في تحميل سياساته المسؤولية عن عِلل السلطة الفلسطينية وآثار أزمتها الاقتصادية. شكَّل الدعم المالي والسياسي القوي المقدَّم من المجتمع الدولي لفياض تهديدًا لعباس، الذي لم يدافع عن رئيس حكومته أمام الهجمات المنصبة عليه من حزبه، بل تحدى سلطته بإلغاء بعض قراراته.
يُملي المجتمع الدولي أيضًا من خلال دعمه المالي والسياسي مَن يمكن له ان يتقلد السلطة من الشخصيات السياسية الفلسطينية. وكانت هذه هي الحال عندما سعت الولايات المتحدة إلى منع استقالة فياض، وعندما سحبت المساعدات لخنق سلطة غير مرغوب فيها حتى وإنْ كانت منتخبة في انتخابات نزيهة وشرعية، مثلما حدث حين فازت حماس بأغلبية المقاعد في الانتخابات التشريعية لعام 2006.
وهكذا فإن أيَّ إصلاحات متوقفة على المباركة الدولية لن تتصدى لأزمة شرعية القيادة، ولن تُفضي إلى ميلادٍ جديد لحركة وطنية فلسطينية متحدة تلبي طموحات الشعب الفلسطيني. فالإصلاحات تلك تعزز آليات الأبوية الجديدة ذاتها المسؤولة عن الفساد المنظم في السلطة الفلسطينية، وتوفر علاجًا مؤقتًا وليس حلًا يجتث الفساد من جذوره.
إن أي جهد تبذله السلطة الفلسطينية لإنهاء الاحتلال وتحقيق الاستقلال – وهو الهدف المعلن غالبًا في الكثير من تلك الأجندات الإصلاحية – ينم بالأساس عن استمرار السلطة الفلسطينية في تهميش دور منظمة التحرير الفلسطينية. وهي بذلك تستمر في تهميش – إنْ لم نقل تجاهل – أصوات ملايين الفلسطينيين في الشتات ممن يتأثرون مباشرةً بأي إجراء تتخذه تنفيذية السلطة الفلسطينية إزاء الاحتلال الإسرائيلي و”عملية السلام.”
الخروج من المستنقع
إذا كان الفلسطينيون جادين حيال القيادة الديمقراطية والتمثيلية والشفافة، فعليهم إنهاء هزلية الإصلاح وبناء نظام تمثيلي وديمقراطي من القاعدة إلى القمة. ويقع على عاتق الفلسطينيين، ولا سيما الشباب القاطنين في الأرض المحتلة وفي إسرائيل وفي الشتات، دورٌ مهمٌ في الحشد والمبادرة في إطلاق الحوارات في أوساط القواعد الشعبية الوطنية للخروج برؤية مشتركة لقيادة فلسطينية ديمقراطية مستقبلية. وهذه المهمة تتطلب جهودًا كبيرة بالنظر إلى التحديات القائمة. بيد أن استمرار الوضع الراهن لن يؤول إلا إلى مستقبل قاتم.
ولضمان أن النموذج الجديد، أيًا كان شكله أو طبيعته، لن يعيد تدوير آليات الأبوية الجديدة، لا بد من مراعاة ثلاثة عناصر أساسية:
1. تطبيق اللامركزية والفصل بين السلطات
لكسر احتكار فصيل أو حزب ما، لا بد من توفر نظام سياسي صحي يحقق التوازن بين السلطات. فمحدودية منظمة التحرير الفلسطينية كمظلة جامعة للفلسطينيين كافة تستدعي السؤال حول ما إذا كانت هذه السلطة المركزية قادرة على تمثيل الفلسطينيين أينما كانوا. إن أي نموذج حكم فلسطيني يجب أن يتحلى بالمرونة الكافية حتى يستطيع القيادة والاستجابة لاحتياجات المجتمعات الفلسطينية القاطنة ضمن مناطق جغرافية وقضائية وإدارية مختلفة في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية وإسرائيل والشتات. وتجربة السلطة الفلسطينية حتى الآن توحي بأن السلطة المركزية، بحلَّتها الراهنة، لا تستطيع الوفاء بهذا الدور.
إن تطبيق اللامركزية في السلطة، من خلال تمكين القواعد الشعبية وقيادات المجتمع المحلي، أساسي لكسر احتكار السلطة الحالي. وفي الانتفاضة الأولى قيادةً وتنظيمًا مثالٌ لِما يمكن أن تكون عليه القيادة الجماعية، وإنْ انتمت تلك الانتفاضة إلى سياق سياسي واجتماعي مختلف.
2. المساءلة الرأسية والأفقية
يستشري الفساد والتعسف في استعمال السلطة حين تتعذر مساءلة المتربعين على سدة الحكم. وأي نموذج حكم جديد سيكون عرضة لاحتكار السلطة إنْ لم تتوفر آليات المساءلة الموازية الآتية:
أولاً: المساءلة الرأسية التي تُمكِّن الشعب الفلسطيني من مساءلة قادتهم والمشاركة في عملية صنع القرار. وهذا لا يقتصر على الانتخابات البلدية والوطنية بل يمكن أن يمتد ليشمل اللجان الشعبية العامة وجلسات الاستماع ومجالس الظل والحماية الفعالة لحرية التعبير ووسائل الإعلام واضطلاع المجتمع المدني الفلسطيني بدورٍ فعال في مراقبة المؤسسات الحكومية الفلسطينية ومراقبة القطاع الخاص ومزودي الخدمات أيضًا.
ثانياً: المساءلة الأفقية مهمة للتحقيق في تجاوزات المسؤولين العامين وإيقافها، ومن تجلياتها وجود برلمان مستقل ومنظمات تدقيق مستقلة وما شابه.
بالرغم من أن النظام القائم يمتلك هذه المؤسسات إلى حدٍ ما بشكل رسمي، إلا أن الأبوية الجديدة في النظام السياسي الفلسطيني تجعل آليات المساءلة الداخلية تلك عديمة النفع. وهذا ما يجعل تقاسم السلطة وتطبيق اللامركزية والتمحيص العام خطوات أولى مهمة لضمان عدم تمكن أي سلطة فلسطينية من إساءة استعمال سلطتها.
3. إنهاء الإفلات من العقاب
لاستعادة ثقة الشعب الفلسطيني في القيادة، لا بد من إنهاء إفلات الفاسدين من العقوبة. فبالرغم من المساعي الكثيرة ومطالبات هيئة مكافحة الفساد الفلسطينية بالتحقيق مع المسؤولين الفاسدين ومقاضاتهم، لا يزال المسؤولون والساسة الفلسطينيون محصنين بدرجة كبيرة من أي تبعات وبيلة لأفعالهم. إن إفلات الفاسدين من العقوبة يَثني الأفراد عن الإبلاغ عما يشاهدونه أو يعايشونه من فساد لأنهم يرون أن الإقدام على إجراء كهذا لا يُجدي ولا يُسفر عن أي تغيير.
تتوفر خطوط ساخنة ومراكز قانونية قائمة متاحة للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة للإبلاغ عن حالات الفساد بطريقة آمنة وسرية، كتلك التي يديرها الائتلاف من أجل المساءلة والنزاهة، أمان. غير أن تشجيع الفلسطينيين على الإبلاغ عن الفساد يجب أن يقترن بتوفير قوانين مُحكَمة لمحاربة الفساد وقضاء مستقل يستطيع محاسبة الفاسدين بصرف النظر عن مكانتهم السياسية والمالية والاجتماعية.
ولإنهاء الفساد وضمان المساءلة في السياق الفلسطيني، لابد من تغيير مؤسسي وسياسي شامل، بدلًا من إصلاحات سياسية وقانونية محدودة ومجزأة. فأنماط احتكار السلطة، والفساد المنظم، والسياسة غير الرسمية المتكررة في حركة فتح، بالإضافة إلى الركود السياسي الراهن، تشير إلى أن الأوان قد حان لكي يبني الفلسطينيون مؤسساتٍ جديدةً أكثر ديمقراطيةً وأكثر تمثيلًا لحقوقهم واحتياجاتهم.
- لقراءة هذا النص باللغة الفرنسية، اضغط/ي هنا. تسعد الشبكة لتوفر هذه الترجمات وتشكر مدافعي حقوق الإنسان على هذا الجهد الدؤوب، وتؤكد على عدم مسؤوليتها عن أي اختلافات في المعنى في النص المترجم عن النص الأصلي.