Article - Reclaiming the Political Dimension of the Palestinian Narrative

ملاحظة من المحرر: تفتتح هذه المشاركة عملَ الفريق السياساتي المعني بالرواية والخطاب الذي يضم مجموعةً من محللي الشبكة السياساتيين العاملين معًا عبر الحدود لمناقشة مسألة ما إذا كان ينبغي للفلسطينيين أن يمتلكوا روايةً شرعية واحدة، ومناقشة ماهية هذه الرواية. الفِرق السياساتية في الشبكة هي منهجيةٌ محددة لإشراك مجموعة من المحللين في دراسةٍ ممتدة زمنيًا تهدف لإطراق الفكر في مسألة ذات أهمية كبرى للشعب الفلسطيني.

استحالت منظمة التحرير الفلسطينية، التي جسَّدت في يومٍ من الأيام حركةَ التحرر الفلسطيني، كيانًا منزوعَ السيادة فعليًا يُعرف بالسلطة الفلسطينية التي غدت آمرةً على أرخبيلٍ من السجون في الضفة الغربية المحتلة. يتجلى التمزقُ الذي سببه هذا التحول في المجتمع الفلسطيني حول العالم كمجموعة من التصدعات العميقة في الرواية التاريخية الفلسطينية. يقيِّم هذا التعقيب في الذكرى السنوية الخامسة والعشرين لاستحداث السلطة الفلسطينية واحدًا من أهم الأطر في مواصلة النضال التحريري بالرغم من استسلام منظمة التحرير في أوسلو، ألا وهو النهج التحرري القائم على الحقوق، ويتناول مزاياه ومساوئه.1

تحكي “الرواية” في سياق المجتمعات الإنسانية القصةَ الأبرز عن صاحبها، فروايتنا تجيب عمَّن نكون، ومِن أين أتينا، وإلى أين نحن ذاهبون، ولماذا. وفي حالات الهيمنة الأجنبية، تتصدر دومًا التيارات القومية المناهِضة للاستعمار، حاملةً في الغالب روايةً تصوِّر ماضيًا مثاليًا (وقوميًا بما لا يتناسب وزمانه) قبل الاستعمار. وهذا الماضي، كما تخبرنا الرواية، بترته وحشيةُ المستعمِر الذي لا يمكن التغلب عليه إلا بالنضال البطولي المناهض للاستعمار. وكثيرًا ما يتخذ هذا التحرر في المخيلة شكلَ دولةٍ قومية مستقلة وذات سيادة.

النفوذ “السياسي” هو تجلي السلطة داخل الجسد اجتماعي. ومهما كانت هذه السلطة مشتتة، فإنها تتكاثف حول محاور متفاعلة معينة لتُنشئ هرميات معقدة ومركزة من المزايا والتهميش، وبالتالي تحكم مدى قدرة المجموعات والأفراد على صنع تاريخهم الخاص.2

يُعد العمل السياسي في الواقع محلَّ نزاعٍ دائمَ التغير. وفي السياقات الاستعمارية، تتفوق محاور القوى الوطنية-العرقية في روايتي المستعمِر والمستعمَر كليهما اللتين تصوران المجتمع المستعمِر والمجتمع الأصلي دون إظهار الاختلافات الداخلية فيهما، فيغفِل الجانبان مثلًا هياكل التبعية الداخلية كالهيمنة الذكورية في روايتهما الوطنية ويؤخران الحديث عنها إلى موعدٍ مثالي في المستقبل، ألا وهو “يوم الاستقلال”، عندما يزول محور التبعية “الأساسي” (أي الاستعماري).

وفي معظم الحالات في آسيا وأفريقيا وأمريكا الاتينية، انطوى الانتقالُ في مرحلة ما بعد الاستعمار على تحول القيادة التحررية إلى نوع جديد من الاستبداد،3 فقد اتشحت تلك القيادات بعباءة النضال بينما انخرطت في أعمال الفساد والاستبداد بصفة دولة مستقلة في سياق الاستعمار الجديد – الذي بات يُعرف منذ عقد الثمانينات باسم النيوليبرالية أيضًا. وفي حالة الفلسطينين، تُفاقم هذه الأشكال الجديدة من الهيمنة والإفقار ما يواجهونه من قسوة ووحشية ناجمة عن التوسع المستمر في الاستعمار الاستيطاني الذي تسارع بسبب استحداث السلطة الفلسطينية لهياكل صارت خط الدفاع الأول لإسرائيل بموجب عملية أوسلو للسلام.

النهج القائم على الحقوق: التنازل عن العمل “السياسي” للسلطة الفلسطينية

في محاولة لتجاوز المأزق الذي أوجدته اتفاقات أوسلو واختلال ميزان القوة العسكري والدبلوماسي الذي أدى أصلًا إلى الخضوع التاريخي المتمثل في توقيع تلك الاتفاقات، رأى بعض الفلسطينيين الذين يعملون في قطاع المنظمات غير الحكومية المزدهر إمكانيةَ تحرير فلسطين عبر النظام القانوني الدولي. يؤكد هذا النظام الذي أفضت إليه أهوال الحرب العالمية الثانية على حقوق الأفراد والجماعات في العيش بحرية بعيدًا عن القسوة والهيمنة التعسفية. فتبنى الفلسطينيون استراتيجيةً قائمة على الحقوق في سياق التصدي لمأزق أوسلو بهدف تجاوز احتكار السلطة الفلسطينية الدولي لتمثيل الشعب الفلسطيني.

يخاطر النضال الفلسطيني بخسارة طابعه الجوهري السياسي، ولو على المستوى الدولي على الأقل Share on X

آلفَ هذا النهج بين أفرادٍ وجماعات من مختلف ألوان الطيف السياسي المؤسسي في مزيج بات يُطلق على نفسه “المجتمعَ المدني” الفلسطيني. لم يدِّع هذا التيارُ بأنه يمثل الشعب الفلسطيني سياسيًا، وإنما ركَز على تمثيلهم “مدنيًا” وأخلاقيًا وقانونيًا. وهكذا تفاعلت السلطة الفلسطينية و”المجتمع المدني” في دبكة متناغمة، إنْ جاز التعبير، وفيها يتجنب دعاة النهج القائم على الحقوق التدخلَ في الأدوار السياسية، ويتركون السلطة الفلسطينية تتخير من الحملات السياسية ما يتسق وروايتها كراعٍ لشؤون الفلسطينيين الوطنية بينما تتشبث في الوقت نفسه بالتقسيم وعملية السلام السرمدية.

نجحت استراتيجية المجتمع المدني القائمة على الحقوق نجاحًا باهرًا وأكبر دليل على ذلك هو الزخم المستمر لحملات المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات بالرغم من أزمة الشرعية التي تعانيها منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية على حد سواء والتي شابت السياسة الفلسطينية في العقود الأخيرة. وأُركز على كلمة “بالرغم” هنا لأن قيادة السلطة الفلسطينية درجت بانتظام على اتخاذ تدابير لتقويض جهود حملة المقاطعة. ومع ذلك ثمة ثمنٌ لنجاحات الاستراتيجية القائمة على الحقوق، فتحويل التركيز إلى الأطر القانونية قد يُفقد النضالَ الفلسطيني طابَعه الجوهري السياسي، ولو على المستوى الدولي على الأقل.

ومثال ذلك ما تحمله عبارة “نطالب بحق العودة.” فهذه الصيغة تغفل حقيقة أن الفلسطينيين المهجَّرين يملكون حق العودة بالفعل، وأن المقصود بهذا المطلب السياسي هو العودة الفعلية للمهجَّرين الفلسطينيين وكل ما تستتبعه من تداعيات سياسية على المشروع الاستعماري الذي يحول دون عودتهم لأسبابٍ تتعلق بالهندسة الديمغرافية الهادفة لتحقيق التفوق العرقي. فالمشكلة، إذا ما اختطفك شخصٌ ما، لا تكمن في انتهاك حقك في الحرية وإنما في أنك لم تعد حرًا طليقًا.

لا تقتصر التداعيات الأعم للتنازل عن العمل “السياسي” للسلطة الفلسطينية في الميادين الدولية على التأثير في طريقتنا في تصور أهداف التحرر الفلسطيني وصياغتها، مثل المطالبة بالعودة مقابل المطالبة بحق العودة. وإذا ما نظرنا إلى هيمنة الحس القومي في رواية منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية (“نحن الشعب الفلسطيني ومن حقنا أن تكون لنا دولة فلسطينية”)، فأي مساحة لدينا لنناقش أمورًا من قبيل الطبقة الاجتماعية والنوع الاجتماعي والتحرر الجنسي داخل المجتمع الفلسطيني المنتشر حول العالم؟ وكيف نرتبط بالنضالات الإقليمية والعالمية من أجل العدالة الاجتماعية والسياسية؟ وكيف نريدها أن ترتبط بنا؟ وهو سؤال يكتسب أهميةً خاصة لأن معظم الفلسطينيين لا يزالون يعيشون تجربة النكبة المستمرة، وما انفكوا يخوضون غمار النضال من أجل التحرير خارج حدود المناطق الواقعة تحت السيطرة الاستعمارية الإسرائيلية.

يحرمنا التركيز الأوحد على شكليات القانون من اللغة والمساحة للتفكير في مثل هذه الأسئلة. ومن ناحية أخرى تؤثر هذه الأطر القانونية تأثيرًا كبيرًا في تحديد الحركات والهيئات السياسية التي نتحالف معها، ولا سيما تحديد الأسس التي نعتمدها في إقامة تلك التحالفات والجسور التضامنية. وفي هذا الصدد، يمكن للاتحاد الأمريكي للحريات المدنية أن يكون حليفًا قويًا ومرغوبًا في مواجهة موجة خروقات الحقوق الدستورية التي تطال، على سبيل المثال، منظّمي حملات المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات في الولايات المتحدة. ولكن ثمة حدٌ فاصل لا تستطيع منظمةٌ مهنيةٌ ذات تفويض قانوني مثل الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية أن تتجاوزه، وبين هذا الحد وبين إشهار دعمها لقضية “خلافية” مثل قضية تحرير فلسطين مسافةٌ شاسعة.

وعلى الجانب الأخر، لا تواجه حركةٌ شعبيةٌ منظمة مثل “المدافعون عن الحلم (Dream Defenders) تلك القيود، فهي لا تنخرط في قضية تحرير فلسطين لأن التفسيرات القانونية الدولية الدقيقة التي يطرحها المجتمع المدني الفلسطيني تحفزها على ذلك، وإنما لأنها ترى في النضال الفلسطيني نضالًا سياسيًا ضد الظلم الاستعماري الاستيطاني العنصري الذي يماثل ويرتبط “بعلاقة خاصة” مع دولة الاستعمار الاستيطاني العنصرية التي يتصدى لها هؤلاء المدافعون عن الحلم في نضالاتهم الخاصة. والحدُّ الفاصل بين التأييد المؤسسي وبين التضامن في النضال يكون غالبًا واضحًا، وهو الفرق بين المساهمة المحسوبة بعناية من جانب مؤسسة راسخة وبين التضامن بالتضحية الجسدية من جانب أناسٍ ليس لديهم ما يخسرونه سوى الأصفاد التي تكبلهم.

إن سياسة  الجنتلمان القائمة على الحقوق المرعية في القانون والمؤسسات القانونية تتيح “للمجتمع المدني” الفلسطيني أيضاً فُسحةً لتجاوز مأزق أوسلو تسمح لقادته – وقادة ممثلتنا الشرعية الوحيدة – بالوصول إلى عليَّة القوم.4 وثمن ذلك هو تخفيض السقف، إذ لا يكتفي النظام القانوني الدولي بتحديد سقف مطالبنا السياسية بل يحدد أيضًا اللغة التي نستعملها حين نفكر في التحرير أو نتخيل معناه بالنسبة لنا. إن تخفيض السقف على هذا النحو، أو تقنين السياسة الفلسطينية وتفريغها من معناها السياسي، يعني أن المؤسسات المهنية المدعومة ماديًا – مثل الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية الذي لديه الكثير ليخسره من حيث النفوذ والتمويل والعلاقات العامة – تصبح شريكنا المفضل وقدوتنا السياسية حين ننخرط في “الدعوة والمناصرة” القائمة على الحقوق.

وهذا سببٌ آخر يُطمئِنُ السلطةَ الفلسطينية إزاء الحملات القائمة على الحقوق، فلا تخشى منها على دورها كخط دفاع أول ضد الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، لأن هذه الحملات تستخدم المنطق واللغة والقيود ذاتها المستخدمة في التنازلات الدبلوماسية التي تبنتها منظمة التحرير الفلسطينية حين تحولت إلى السلطة الفلسطينية. وعلينا أن نتذكر بأن كل انتصارٍ فلسطيني ما كان ليحصل لولا تضحيات الحناظل ذوي الثياب الرثة في المجتمع الفلسطيني داخل فلسطين التاريخية وخارجها. وبالرغم من أن البعض يرتدي حنظلة كقلادة تفوق قيمتها ما تعتاش عليه عائلة ذاك الطفل اللاجئ لعدة شهور، إلا إنه لا ينبغي أن يُنسينا ذلك أن كلَّ واقعة استسلام فلسطيني كانت بسبب تنازلات الجنتلمان من عليّة القوم.

لنأخذ على سبيل المثال الدورَ المحوري الذي لعبه العمال والفلاحون في الإضراب العام في 1936 والانتفاضة المسلحة التي استمرت حتى 1939، ودور العائلات الفلسطينية الكبيرة مالكة الأراضي في إنهاء هاتين الحركتين الشعبيتين. ومن الممكن أن يقارنَ المرء جهازَ المخابرات اللبناني (المكتب الثاني المرعب) الذي انتفضت في وجهه حركة اللاجئين الفلسطينيين لطرده من المخيمات في أواخر عقد الستينات في لبنان بالدور الحالي الذي تلعبه “سفارة” منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، حيث تقوم تلك السفارة بتسهيل جمع المعلومات الاستخبارية ومراقبة الفلسطينيين في لبنان. ومن الأهمية بمكان في هذا المقام أن نقارن تحركات الفلسطينيين الشعبية على جانبي “الخط الأخضر” التي انطلقت في سبعينيات القرن الماضي وبلغت ذروتها مع اندلاع انتفاضة 1987 بالدور الذي لعبته النخبة الفلسطينية الغنية في الدعوة إلى “سلام الشجعان.”

كلُّ واقعة استسلام فلسطيني كانت بسبب تنازلات الجنتلمان من علية القوم Share on X

ماذا يعني كل هذا بالنسبة إلى حملات المقاطعة؟ يجب أن تحظى هذه الحملات بمشاركة أكثر ودعم أكبر ولا سيما مِن الذين يدركون إمكانياتها السياسية ومحدودية أُطرها القانونية. فليس من اختصاص هذه الحملات أن تناقش الأمور السياسية الاجتماعية داخل المجتمعات الفلسطينية، ناهيك عن أن تتخذَ قرارات بشأن سياسة استراتيجيات التحرير و”حلوله”. لا تدعي منظمات المقاطعة، ولا تستطيع أن تدعي، أنها منظمات أو برلمانات ممثِّلة، وبما أنها في الغالب تستهدف أطرافًا ثالثة – مثل الشركات وصناديق الاستثمار والمؤسسات الثقافية والترتيبات الدولية – من غير الدولة الاسرائيلية والنظام الفلسطيني المتعاون، فلا يمكن أن تكون مسؤولة عن إخفاقات حركة التحرير بعمومها.

إن من الأهمية بمكان أن ندرك أن تحميل إسرائيل المسؤولية الأخلاقية والقانونية على الصعيد الدولي ليس استراتيجيةً سياسية بحد ذاته، وبالتأكيد ليس استراتيجيةً للتحرير. إنما هو وسيلةٌ ثانوية تُعين، في أحسن الأحوال، على تعزيز الموقف الفلسطيني في إطار النضال السياسي الساعي لإنهاء المشروع الصهيوني الاستعماري الاستيطاني الذي أسس لدولة حصرية دينية عرقية على أرض فلسطين. ما وددت أن أناقشه في هذه المقالة هو المخاطر المقترنة بإعلاء شأن أسلوب تعبوي – يتمثل في استخدام المحافل والمؤسسات القانونية الدولية لدعم أهداف التحرير – حتى يرقى إلى منزلة استراتيجية تحرير. ومن الجدير أن أذكر أيضًا أن أسلوب “الكفاح المسلح” حظي في السابق بمنزلةٍ مُبجلة مشابهة باعتباره استراتيجيةً ناجعة من شأنها أن تحرر فلسطين.

البحث عن رواية التعبئة السياسية من أجل التحرير

عندما تبني حركات التحرير استراتيجياتها ورواياتها التحررية على التضامن الدولي المُمأسس، فإنها تُضطر إلى الالتزام بلغة تلك المؤسسات ومنطقها. وفي تجربة منظمة التحرير الفلسطينية نفسها أفضلُ مثال تاريخي يؤيد هذا الطرح. ففي أعقاب حرب 1967، أرسى مبدأ تقسيم فلسطين “إجماعًا دوليا” من خلال تفسيرات قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 242. وكانت العديد من الدول العربية متلهفةً للتدخل والالتفاف على منظمة التحرير للتحدث باسم الفلسطينيين والقبول بهذا الإجماع نيابةً عنهم. وصار التقسيمُ فعلًا الشرطَ المُسبق للاعتراف الدولي بمنظمة التحرير باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، ورأت قيادة المنظمة هذه الشرعية كشرطٍ مسبق للتحرر. وبعبارةٍ أخرى، ما كان ياسر عرفات ليُدلي بخطاب “البندقية وغصن الزيتون” أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في تشرين الثاني/نوفمبر 1974 لو لم تعترف الجامعة العربية بمنظمة التحرير الفلسطينية كصاحب الامتياز الحصري على السياسة الفلسطينية في قمة الرباط قبل ذلك بشهر واحد. وما كان هذا الاعتراف بدوره أن يحصل لو لم تصادق المنظمةُ رسميًا على تقسيم فلسطين في برنامج النقاط العشر الذي وضعته في حزيران/يونيو 1974.

وحتى مع معرفتنا الراهنة لِما آلت إليه أحداث الماضي، فإننا لا نستطيع أن نأخذَ كليًا على عرفات إدراكه ضعفَ المنظمة في سياق اختلال موازين القوى الدولية، والأخطار الأخرى المتمثلة في وجود كيانات أخرى أكثر قوةً ونفوذًا تغتصب حق تمثيل الذات الذي ضحّى الفلسطينيون لأجله الكثير. ففي العقد الأول من القرن الحالي، اضطر المنظمون السياسيون الفلسطينيون إلى إيجاد طريقة للالتفاف على الواقع المرير الذي أرساه برنامج النقاط العشر في 1974 الذي دشَّن عملية تحول القيادة السياسية الفلسطينية إلى تابعٍ للقوة الاستعمارية الاستيطانية مع استمرار احتكاره التمثيلَ السياسي الفلسطيني. وبما أن العملَ في المجتمعات المدنية العالمية يقتضي التحدثَ بلغة القانون الدولي والإجماع الدولي كأساسٍ مشترك للتواصل وصنع القرارات، فإننا لا نستطيع أن نأخذَ على القائمين على الحملات المبنية على الحقوق بذلَهم كلَّ ما بوسعهم لتوظيف الإجماع الدولي على حقوق الإنسان لمحاسبة إسرائيل على انتهاكاتها.

إن تحميل إسرائيل المسؤولية الأخلاقية والقانونية على الصعيد الدولي ليس استراتيجيةً سياسية بحد ذاته، وبالتأكيد ليس استراتيجيةً للتحرير Share on X

أنا لا أبحث عن هدفٍ لألومَه بل آملُ أن أُبرز الحاجةَ الماسة للنهوض بالمحافل والتحركات التي تمنح الصدارة للقضايا السياسية بعيدًا عن القيود التي يفرضها الإجماع الدولي أو على مستوى الدول. وهذه ليست دعوةً للتخلي تمامًا عن القانون الدولي، وإنما دعوةٌ للعودة إلى روح انتفاضة 2000، حين كان قادة ما بات يُعرف اليوم “بالمجتمع المدني الفلسطيني” يعكفون على رسم بدايات حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات وعلى إيجاد سُبل لاستخدام النظام القانوني الدولي لتجاوز مأزق أوسلو السياسي. حين أصدرت محكمة العدل الدولية في العام 2004، قرارها بشأن آثار جدار الفصل الإسرائيلي، كان الروائي المشهور الآن، تشاينا ميفيل، يضع اللمسات النهائية على كتابه “بين حقوق متساوية” (Between Equal Rights). وبعد أن اطلع ميفيل على طريقة المنظمين السياسيين الفلسطينيين في الرد على القرار التاريخي، أضاف ميفيل الفقرة التالية إلى مخطوطة الكتاب قبل طباعته:

…يدرك الفلسطينيون تمامًا الواقعَ السياسي الذي يقوم عليه القانون الدولي صياغةً وتأويلًا، وهم مستعدون لأن يجمِّدوا بأيديهم “القانونيةَ الدولية” لنصرهم القانوني الدولي التاريخي، إذ سيسعون إلى استخدامه في تعبئة الرأي العام خارج الإطار القانوني. وهذا ينم عن فهمٍ بأن الأمل الأوفر للقضية الفلسطينية يأتي من الضغط الشعبي النابع من القواعد، وليس القانون الدولي، وأن التوظيف الأمثل للقرار القانوني الدولي الأكثر “تقدميةً” يكون بقدر خروجه من إطار القانون الدولي.

يُمثل اختيار ميفيل لعبارة “الرأي العام” أنواعَ التعبئة السياسية الجماهيرية التي سُميت دوليًا في تلك السنوات “عولمةَ الانتفاضة” – وهي تعبئة تجاوزت النضال من أجل إقامة دولة تتمكن فيها الشخصيات الفلسطينية المهمة من استغلال الشخصيات غير المهمة دون تدخل استعماري استيطاني. وقد كانت عولمة الانتفاضة السياسةَ التي تبنتها تظاهرات اللاجئين من أجل العودة في العام 2011، والسياسة التي تبنتها لاحقًا مسيرات العودة المشابهة ولكن الأكثر استدامةً والتي شهدها قطاع غزة في الأشهر الماضية. فهذه التعبئة دحضت الرواية الخيالية لإقامة الدولة من خلال ملاطفة النظام الدولي الذي لم يُبدِ أي توجهٍ قط نحو تطبيق معاييره الأخلاقية والقانونية على تعاملاته مع إسرائيل. ومجددًا، يعود الفضل للحناظل ذوي الثياب الرثة الذين ضحوا بأرواحهم بينما كان أصحاب المعالي يستثمرون ما تبقى من أشلاء هؤلاء بُغية تحسين الخدمات المقدمة في صالات كبار الشخصيات.

لقد آن الأوان لإيلاء السياسة التي تقوم عليها عولمة الانتفاضة الأهميةَ القصوى في صياغة طريقتنا في توظيف القانون الدولي كأداة من الأدوات الكثيرة المتوفرة للنضال، وليس العكس. إن الرواية التي تُعيننا على الرؤية والتصرف بوضوح من أجل التعبئة السياسية نحو تحرير الإنسان لا بد وأن تستأثر بالصدارة – وليس الرواية التي تَعرض تضحيتنا الوطنية “القائمة على الحقوق” أمام مجتمع النبلاء الراقي على أمل أن تحظى النخبةُ الفلسطينية بموقع جيد يمكِّنها من التلذذ بالاستغلال المقزز الذي يستهلك عالمنا.

  1. لقراءة هذا النص باللغة الفرنسية، اضغط/ي هنا. تسعد الشبكة لتوفر هذه الترجمات وتشكر مدافعي حقوق الإنسان على هذا الجهد الدؤوب، وتؤكد على عدم مسؤوليتها عن أي اختلافات في المعنى في النص المترجم عن النص الأصلي.
  2. لا تكمن أهمية هذه المحاور – مثل الطبقة والجنس والعرق والقدرة والتوجه الجنسي وأخرى غيرها – في أنها هويات حاضرة طبيعيًا، وإنما تكمن في بنائها الاجتماعي كهويات تمنح وضعًا معينًا لأصحابها. وبعبارةٍ أخرى، تنجم أهميتها من نُظم اللامساواة التي تحولها إلى فئات سياسية، وليس كعلامات فردية تدل على الهوية بحد ذاتها.
  3. من أعمق التحليلات في هذا الموضوع ما تنبأ به فرانز فانون:

    Frantz Fanon, “The Pitfalls of National Consciousness,” The Wretched of the Earth (Grove Press, 1961).

  4. في فقرة مأثورة من السيرة الذاتية لشفيق الحوت (لا ترد في الترجمة الإنجليزية)، يحكي هذا المعارض البارز في منظمة التحرير الفلسطينية كيف أنه عوتب بالمزاح ذات يوم لانتقاده مقدارَ الوقت الذي يُمضيه قادة منظمة التحرير الفلسطينية في صالات كبار الشخصيات، حيث قال له معاتبه بسخرية إن وصول منظمة التحرير الفلسطينية إلى صالات كبار الشخصيات هو الناتج الإيجابي الرئيسي، إنْ لم يكن الوحيد، لتضحيات الشهداء الفلسطينيين.
العضو السياساتي للشبكة حازم جمجوم هو يدرس التاريخ الحديث للشرق الأوسط في برنامج الدراسات العليا في جامعة نيويورك. يركز عمله على مقاربات الاقتصاد السياسي في التعامل مع الاستعمار...
في هذه المقالة

أحدث المنشورات

 السياسة
بعد عام من المعاناة تحت وطأة العنف والدمار المستمرين ، يقف الفلسطينيون عند لحظة مفصلية. تتناول يارا هواري، في هذا التعقيب، الخسائر الهائلة التي تكبدها الشعب الفلسطيني منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023 والفرص المنبثقة عنها للعمل نحو مستقبل خالٍ من القمع الاستعماري الاستيطاني. وترى أنّ الوقت قد حان الآن لكي تتحول الحركة من رد الفعل إلى تحديد أولوياتها الخاصة. وكجزء من هذا التحول، تحدد يارا ثلاث خطوات ضرورية: تجاوز التعويل على القانون الدولي، وتعميق الروابط مع الجنوب العالمي، وتخصيص الموارد لاستكشاف الرؤى الثورية لمستقبل متحرر.
Al-Shabaka Yara Hawari
يارا هواري· 22 أكتوبر 2024
منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، قتلت القوات الإسرائيلية ما يزيد عن 40,000 فلسطيني في غزة، وجرحت 100,000 آخرين، وشرَّدت كامل سكان المنطقة المحتلة تقريبًا. وفي ذات الوقت شرَعَ النظام الإسرائيلي في أكبر اجتياح للضفة الغربية منذ الانتفاضة الثانية مما أدى إلى استشهاد ما يزيد عن 600 فلسطيني واعتقال 10,900 آخرين. كما وسعت إسرائيل نطاق هجومها الإبادي الجماعي في لبنان، مما أسفر عن مقتل ما يزيد على ألف شخص ونزوح أكثر من مليون آخرين. يسلط هذا المحور السياساتي الضوء على مساعي الشبكة في الاستجابة لهذه التطورات على مدار العام الماضي، من وضع أحداث السابع من أكتوبر في سياق أوسع للاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، إلى استجواب آلة الحرب الإسرائيلية متعددة الأوجه، إلى تقييم العلاقات الإقليمية المتغيرة بسرعة. هذه المجموعة من الأعمال تعكس جهد الشبكة المستمر في تقديم رؤية فورية للوضع الفلسطيني.
لا تنفك شركات الأسلحة البريطانية تتربّح من بيع الأسلحة لإسرائيل من خلال التراخيص الصادرة من الحكومة البريطانية، حيث بلغ إجمالي هذه الصادرات منذ العام 2008 ما يقدر بنحو 740 مليون دولار، وهي ما تزال مستمرة حتى في ظل الإبادة الجماعية الجارية في غزة. يشعر البعض بتفاؤل حذر إزاء احتمال فرض حظر على الأسلحة بعد فوز حزب العمال في انتخابات يوليو/تموز 2024، وبعدَ أن وعدَ بالانسجام مع القانون الدولي. في سبتمبر/أيلول 2024، علقت الحكومة البريطانية 30 ترخيصاً من أصل 350 ترخيصاً لتصدير الأسلحة إلى إسرائيل. ويرى الناشطون وجماعات حقوق الإنسان أن مثل هذا القرار محدود للغاية. وبناء على ذلك، تُفصِّل هذه المذكرة السياساتية الالتزامات القانونية الدولية الواقعة على عاتق بريطانيا وكذلك المناورات الحكومية الممكنة فيما يتصل بمبيعات الأسلحة لإسرائيل.
شهد الحموري· 15 سبتمبر 2024
Skip to content