Security-council-UN-APA-images-1-1

كشفت الحملة الرامية للاعتراف بفلسطين كدولةٍ كاملة العضوية في الأمم المتحدة مدى شعبية القضية الفلسطينية على الساحة الدولية، وأظهرت الطبيعة المتعنتة للقيادة السياسية الإسرائيلية، وأبرزت نهاية الطريق بالنسبة للسلطة الفلسطينية التي أعربت صراحةً بأنه ما من سبيل آخر أمامها لتسلكه. والآن بعد أن مارست الولايات المتحدة ضغوطًا كبيرةً وقامت بمناورات دبلوماسية حثيثة لإجهاض طلب منظمة التحرير الفلسطينية للحصول على عضويةٍ كاملةٍ في الأمم المتحدة داخل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، ما هي الخطوة التالية بالنسبة للفلسطينيين وكيف لهم أن يؤطِّروا المرحلةَ المقبلةَ من نضالهم؟

لا يعجب الفلسطينيون وهم يشاهدون أحداث هذا المسرح السياسي من عجز مؤسسات الأمم المتحدة عن اتخاذ موقفٍ حازمٍ تجاه حلِّ صراعهم المستمر منذ عقود. فلقد أصدرت الأمم المتحدة إبان السنوات الثلاث والستين من تشريد الفلسطينيين عشرات القرارات الموجهة لإسرائيل بشأن القضايا الجوهرية كاللاجئين ومستقبل مدينة القدس والحدود، وأيضًا بشأن هجماتها غير القانونية على جيرانها وانتهاكاتها لحقوق الإنسان الفلسطيني بما في ذلك الترحيل وهدم المنازل وتوسيع المستوطنات ومصادرة الأراضي الفلسطينية.

غدت جميع القرارات تلك بلا تنفيذ، بل أُجبِر الفلسطينيون – وهم الشعب الرازح تحت الاحتلال – على التفاوض لمدة 20 سنة مع السلطة القائمة بالاحتلال على حقوقٍ كفلها لهم أصلًا القانون الدولي.

وكما كان متوقعًا، كان مردود المفاوضات تلك ضئيلًا. وفي المقابل، شهِدَ الفلسطينيون اندثارًا مستمرًا لحقوقهم وحرياتهم وما فتئوا يفقدون أراضيهم، إذ استعمرت إسرائيل ما يزيد على 50 في المئة من مساحة الضفة الغربية بإقامة المستوطنات اليهودية وشبكات الطرق الالتفافية والمناطق العازلة. وعندما أصرَّ رئيس منظمة التحرير الفلسطينية محمود عباس على أن توقِف إسرائيل، كحدٍ أدنى، توسعها الاستيطاني قبل أن يواصل الفلسطينيون التفاوض، رُفِض طلبه رفضًا قاطعًا. أما الآن، فقد استخدم عباس استخدم ورقته الأخيرة. وكشف مسعى نيل العضوية الكاملة في الأمم المتحدة ضعفَ استراتيجية السلطة الفلسطينية التي اضلعت بذلك الجهد باسم منظمة التحرير الفلسطينية.

استندت استراتيجية السلطة الفلسطينية بالكامل على الافتراض القائل بأن سلوكها الحسن – بما فيه التعاون أمنيًا مع إسرائيل، والتودّد إلى المؤسسات الاقتصادية الدولية، والالتزام بقواعد اللعبة – سوف يكافَئ ويُثاب. غير أنه لن يكافَئ. فقد حذَّر المفاوض الأمريكي في الشرق الأوسط روبرت مالي والمستشار السابق للقيادة الفلسطينية حسين آغا القيادات الفلسطينية في وقت سابق من هذا العام من أن “التاريخ لم يَدرُج على مكافأة السلوك الحسن؛ إنما هو صراع وليس مسابقةً للجَمال.”

أما كبير المفاوضين في منظمة التحرير الفلسطينية صائب عريقات – الذي ما لبث عقب استقالته علنًا من منصبه بعدما تسربت أوراق فلسطين حتى عاود الظهور مجددًا بعد أن هدأت الضجة لكي يساعد في مسعى إقامة الدولة – فقد أعرب عن رؤيته في إطار استراتيجية السلطة الفلسطينية بقوله: “إذا أخفقنا، فبوسعنا أن نحاول مرةً ثانيةً وثالثةً ورابعةً.” وبعبارة أخرى: لقد نفذت أمامنا الخيارات وهذه هي سبيلنا الوحيدة المتاحة لنا.

أعلن وزير الخارجية رياض المالكي قبل بضعة أيام بأن الفلسطينيين لن يقبلوا بأقل من “دولةٍ كاملة العضوية،” بيد أن وكالة أسوشيتد برس أفادت لاحقًا بأن السلطة الفلسطينية بدأت السعي للحصول على مكانة متقدمة في الأمم المتحدة. كما إن السلطة الفلسطينية ترسل إشارات متضاربة بشأن التقدم لعضوية هيئات الأمم المتحدة الأخرى مثل منظمة الصحة العالمية، وبرنامج لأمم المتحدة الإنمائي، وصندوق الأمم المتحدة للسكان، وبرنامج البيئة، وبرنامج الأغذية العالمي، وغيرها.

وبينما تواصِل السلطة الفلسطينية العمل الدبلوماسي، فإن الشعب الفلسطيني يتأمل ويتعلم. فعلى عكس السلطة الفلسطينية/منظمة لتحرير الفلسطينية، يدرك الشعب الفلسطيني بأن القوانين والقرارات لن تغدو أكثر من كونها حبرًا على ورق في ظل الافتقار إلى وسيلة ضغطٍ حقيقية. إن فيض الدعم المقدم ظاهريًا لمسعى إقامة الدولة الفلسطينية، والحديث اللامنقطع على لسان دول العالم بما فيها الولايات المتحدة وكندا والاتحاد الأوروبي وأستراليا عن دعم حل الدولتين لن يبلغ بفلسطين إلى مصاف الدول في القريب المنظور.

إن من المحال أن تُقدَّم الحريات والحقوق على طبقٍ من ذهب في أروقة السلطة. بل إنها تُكتَسَب بالحركات الشعبية الجماهيرية والنضال المنظَّم من أجل الحقوق المدنية. ولهذا السبب ثمة عددٌ متزايدٌ من الفلسطينيين آخذٌ بتلبية نداء المجتمع المدني لإقامة احتجاجات غير عنيفة داخل الأراضي المحتلة ولمقاطعة إسرائيل دوليًا وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها، وهو نموذجٌ مبنيٌّ على تجربة النضال في جنوب إفريقيا لإنهاء الفصل العنصري. وبذلك فإنهم يتمتعون بدعم حركةٍ مدنيةٍ عالميةٍ متناميةٍ باطراد ومستعدةٍ للتحرك حيثما تتخاذل الحكومات ولمحاسبة إسرائيل معنويًا واقتصاديًا على انتهاكاتها لحقوق الإنسان.

ومع اتساع المستوطنات المقتصرة على اليهود المقامة على الأراضي الفلسطينية اتساعًا سريعًا لم يعد في ظله الحديث عن “دولتين” أمرًا ممكنًا، بات من غير المعقول أن يعلِّق الفلسطينيون آمالهم على دولةٍ ربما لا تقوم أبدًا. وهذا هو السبب في تطور النضال الفلسطيني وتحوله إلى نضالٍ يتخطى الحدود والحواجز. إن اللغة التي تتحدث بها حركة المقاومة الفلسطينية غير العنيفة الجديدة تستند إلى حقوق الإنسان والدعوة إلى المساوة والحرية والعدالة والتمثيل الديمقراطي.

إن على المتشددين الإسرائيليين الذين ضمنوا موت حل الدولتين وحل الدولة الفلسطينية أن يشدُّوا أزرهم، فالأصوات الداعية للمساواة الكاملة للفلسطينيين وإعمال حقوقهم على أرض فلسطين-إسرائيل سوف ترتفع لا محالة.

سماح سبعاوي مؤلفة وكاتبة مسرحية وشاعرة مناصرة لحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية وهي عضو مجلس إدارة للمجلس الوطني للعلاقات العربية الكندية (NCCAR). وللسيدة سماح أنشطتها على...
في هذه المقالة

أحدث المنشورات

في 26 أيار/مايو 2025، تم إطلاق نظام توزيع المساعدات الجديد المدعوم من إسرائيل في غزة، الذي يجري تأمينه من قِبَل شركات أمنية أمريكية خاصة. تسبب هذا النظام في قتل أكثر من 100 فلسطيني، أثناء محاولتهم الوصول إلى نقاط توزيع المساعدات الواقعة قرب مواقع عسكرية على حدود رفح، وسط ظروف غير إنسانية. وتُثير هذه الخسائر الفادحة تساؤلات مهمة حول سلامة نظام المساعدات الجديد ودور الشركات الأمنية الأمريكية التي تعمل تحت إشراف مباشر من قوات الاحتلال الإسرائيلي. يُبيّن هذا الموجز السياساتي أن خصخصة المساعدات والأمن في غزة تمثّل انتهاكًا للمبادئ الإنسانية الأساسية، إذ تُحوِّل المساعدات إلى أداة للسيطرة السياسية، والتطهير العرقي، وإدامة الاستعمار. كما تهدّد حياة الفلسطينيين من خلال ربط الحصول على المساعدات بظروف قسرية، وتسهيل التهجير القسري، وتوفير غطاء قانوني وأخلاقي لانتهاكات الاحتلال. كذلك، تُسهم هذه الخصخصة في تهميش وتقويض دور المؤسسات المحلية والدولية، وعلى رأسها الأونروا، التي لعبت دورًا محوريًّا في دعم اللاجئين الفلسطينيين في غزة طوال عقود.
الشبكة جودة
صفاء جودة· 10 يونيو 2025
 المجتمع المدني
بينما تقود الولايات المتحدة وحلفاؤها هجومًا واسعًا على القانون الدولي من أجل حماية النظام الإسرائيلي من المساءلة على جريمة الإبادة الجماعية، أشعل الغضبُ العالمي فتيل موجةٍ استثنائية من التضامن والحراك المنظم الداعم لفلسطين. فقد خرج ملايين المتظاهرين إلى الشوارع في حركةٍ احتجاجية واسعة النطاق تعكس تحوُّلًا عميقًا في الوعي العام. وأدت المبادرات الشعبية العديدة المتنامية إلى ترسيخ المكانة المركزية للقضية الفلسطينية في النضال العالمي من أجل العدالة. يتناول هذا المحور السياساتي تحليلًا لكيفية تنامي التضامن مع القصية الفلسطينية وإعادة تشكُّله حول العالم. ويسلط الضوء على التحديات الكبرى التي تواجه الحركة في ظل حملة قمع شرسة ضد الحراك المؤيد لفلسطين، إلى جانب الإستراتيجيات المبتكرة من أجل مجابهة هذا القمع. تضم هذه المجموعة من الكتابات تحليلات لخبراء في مجالات حقوق الإنسان وصنع السياسات وفي الأوساط الأكاديمية تتناول سبل ترسيخ هذا التضامن وتحويله إلى قوة سياسية فعالة ومستدامة.
 السياسة
بعد مرور أكثر من عام ونصف من القتل الإسرائيلي الممنهج والإبادة الجماعية التي خلَّفت دمارًا شاملًا وألمًا لامنتهيًا، يصعب الحديث عن مستقبل غزة وسبل إعادة الإعمار، كما يبدو إحياء غزة واسترجاع أشكال الحياة المفقودة فيها صعبًا إن لم يكن مستحيلًا وسط تعثر المفاوضات، وانهيار اتفاق وقف إطلاق النار، والقصف المستمر على البشر والحجر. ولكن تفرض علينا ظروف وتبعات الإبادة الجماعية ومخططات الترحيل القسري، التي تحاول الإدارة الأمريكية -بوقاحة- فرضها كأمر واقع، ضرورة التركيز في إعلاء صوت سياساتي فلسطيني نقدي لوضع غزة ومستقبلها.  في الوقت الذي يسعى فيه فاعلون غير فلسطينيين إلى فرض رؤيتهم لما بعد الحرب، يناقش محللو الشبكة: طلال أبو ركبة، محمد الحافي، وعلاء الترتير، في هذا التعقيب ضرورة التمركز في رؤية فلسطينية قائمة على الوحدة وحق تقرير المصير. ويشدد الكُتّاب على أن إعادة الإعمار السياسي، وليس فقط المادي، هو أمر جوهري للبقاء الجماعي والتحرر الوطني.
Skip to content