“أيُّ معنى للدولة بدون الشعب؟”: هاجسُ الدولة وإنكار الحقوق في فلسطين
* تنشر مبادرة الإصلاح العربي هذه المقالة بالتعاون مع تشاتام هاوس، وهي جزء من سلسلة تتناول مستقبل الحوكمة والأمن في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وتأثيرهما على دور الدولة في المنطقة.
أثبتَ هوسُ القيادة السياسية الفلسطينية بفكرة الدولة بوصفها وسيلة لتحقيق تقرير المصير والحرية إضرارهُ بالكفاح في سبيل إنهاء استعمار فلسطين، وقد ارتكبت هذه القيادة - تحت ضغط الأطراف الفاعلة الإقليمية منها والدولية - خطأً استراتيجياً من خلال إفراد الأولوية لنموذج "كيان الدولة في ظل الاستعمار"، بدلاً من اضطلاعها بإجراءات تفكيك وإنهاء استعمار فلسطين أولاً ومن ثمَّ الانخراط في إجراءات تشكيل الدولة. إن فكرة كيان الدولة في ظل وتحت الاستعمار نموذجٌ معيب بجوهره أساساً وهو بمثابة تشتيتٍ للانتباه وللجهود عن العائق الأساسي (الاستعمار) أمام السلام والعدالة.
يمكن توضيح سيرورة تبنّي هذه "الأولوية الخطأ" من خلال أربعة "مُنعطفات حرجة" تاريخياً وحتى يومنا هذا. ويأتي ضمن تلك المنعطفات إعلان الاستقلال الفلسطيني لعام 1988، وتوقيع اتفاقيات أوسلو لعام 1993 - التي كانت في جوهرها ترتيباً أمنياً - بهدف إقامة الدولة في نهاية المطاف، ومشروع بناء الدولة تحت رئاسة سلام فياض، الذي أعلن أن الفلسطينيين يقتربون "من موعدهم مع الحرية" حيث أن الدولة موجودة "في كل شيء ما عدا الاسم"1 ، وأخيراً من خلال محاولة السلطة الفلسطينية بقيادة الرئيس محمود عباس الحصول على اعتراف الأمم المتحدة بصفة الدولة لفلسطين، وهو الأمر الذي ما زال يتجلّى للعيان حتى يومنا هذا. وقد أضحت فكرة "كيان الدولة" بمثابة المنظور الضيق والوحيد الذي تدرسُ القيادة السياسية من خلاله مشروع التحرر الوطني، والذي تُقيِّمُ استراتيجياتها بموجبه. كذلك صارت فكرة [كيان الدولة] بمثابة المنظور التحليليّ والتشغيلي الذي تستخدمه الجهات الدولية الفاعلة في تحديد تدخلاتها السياساتية، وحزم المساعدات والمعونة التي تقدمها وكذلك معيارها السياسي. ومع ذلك فإن هذا المواءمة بشأن الهدف والنهج إنما فاقمت المأزق.
وعلى وجه الأهمية فإن ما يجمع بين هذه "المنعطفات الحرجة" الأربعة ليس فقط مركزية "صفة وكيان الدولة" في التفكير السياسي الفلسطيني، ولكن أيضاً المحصّلة الناتجة وما يترتّب عنها، ففي نهاية كل منعطف، كان الفلسطينيون يخرجون أضعف وأكثر تجزؤاً وتشرذما وبُعداً عن الدولة. وليست هذه مجرد صدفة أو نتيجة غير مقصودة، بل إن هذه النتيجة ترتبط ارتباطاً مباشراً بفشل الاستراتيجية السياسية المتَّبعة، لأن "الهوَسَ بفكرة الدولة" لم يُبقِ على الوضع الراهن واختلال ميزان القوة لصالح المستعمر فحَسب، ولكن تسبَّب بإضعاف كِلا الشعب والأمة بوصفِ كلٍّ منهما عنصراً أساسياً في أي دولة، وبدلاً من ذلك قام بتمكين "المؤسسات الوطنية الخطأ" في ظل الشرط الاستعماري، وقد مكّن ذلك الهوَسُ الهياكل والمؤسسات الأمنية من ترسيخ مصفوفات السيطرة القائمة، بدلاً من توسيع هامش الحرية الضيق بالفعل أو توسيع القدرة والإمكانيات لتحقيق الحرية.
وبتعبير أدق، خلق هاجس الدولة أوجهَ قصور بنيوية في الحكم الفلسطيني والأنظمة والحوكمة السياسية التي غيرت بشكل أساسي دور المحكوم، أي الشعب. وفي كل جولة لمشروع بناء كيان الدولة، كان الشعب الفلسطيني يغدو أكثر عزلةً عن جوهر النظام السياسي وهياكل الحكم والحوكمة. ولم يؤدِّ ذلك إلى تآكل شرعية هذه الهيئات الحاكمة واستراتيجياتها فقط، ولكن الأهم من ذلك أنه جرَّد الشعب الفلسطيني من قدرته على إحداث التغيير وأضعف مقدِرته على مقاومة الهياكل الاستعمارية والقمعية بصورة فاعلة.
إن استبعاد هذا المكون الأساسي (الشعب) في "مزيج الدولة" لا يعكس فشلاً محلياً فحَسب، بل هو بالفعل مشروع يتجه من الأعلى إلى الأسفل برعاية خارجية ويهدف إلى الاستثمار في بناء "مؤسسات الدولة الحديثة" بصرف النظر عن مدى شمولها وتجاوُبِها أو مساءلتها أمام الشعب، ناهيك عن أدائها الوظيفي وفعاليتها. يقول لي أحد سكان مخيم جنين بالضفة الغربية المحتلة إنَّ "عبارة دولة المؤسسات تحيّرني، فأين هي الدولة أولاً، وثانياً، كيف لهذه الدولة أن تتسع لجميع هذه المؤسسات بدون أن يكون للشعب مكان فيها! أيُّ معنى للدولة بدون الشعب؟". ويقول لي لاجئ آخر من مخيم بلاطة للاجئين في الضفة الغربية المحتلة: "كنت أشاهد محاولة الحصول على صفة الدولة في الأمم المتحدة على شاشة التلفزيون مثل أي شخص آخر يتابع كلمات المتحدثين من أي مكان في العالم. نعم، لقد أدمعت عيناي حينما صفق الناس، لكن العواطف لا تصنع الدولة، كما أن الإعلانات والخطابات لا تغيّر الحقائق، لقد بحثتُ عن الدولة في اليوم التالي ولكنني لم أجدها، والآن، بعد سنوات، ما يمكنني أن أراه هو سراب الدولة فقط. "