القدس .. السياسة المشتبِكة في أبهى صورها
ما نشهده اليوم في القدس المحتلة هو فعل اشتباكي شعبي، وردّة فعل طبيعية على الظلم والاضطهاد، والذي يمكن تأطيره في نظريات السياسة المُشتبِكة والحراك الاجتماعي، إذ تشير حلقات الاشتباك الجارية مع المحتل الإسرائيلي إلى أنّ الشعب ملّ الشعارات الفارغة والقيادات المهترئة والبرامج الهزيلة، وقرّر أن يتصدى للأمر بنفسه في ظلّ عجز المنظومة الرسمية والقيادة التقليدية عن فعل ذلك. لكنّ حلقات الاشتباك هذه لا يمكنها الاستمرار والاستدامة، من دون مدعّمات مؤسساتية وشعبية، ومن دون حاضنة مجتمعية تتعدّى الجغرافيا ومحدّداتها. أهميتها القصوى تكمن في فعل الرفض والإصرار والتضحية والمقاومة.
تمثل القدس اليوم وحراكها الشعبي، كما كانت عليه الحال في هبّتي أكتوبر/ تشرين الأول 2015 ويوليو/ تموز 2017، السياسة المشتبكة في أبهى صورها، فهذه الحراكات، كما حاججتُ سابقاً، تقوم على توحيد جهود الفاعلين الُمشتَبِكين الذين يتّحدون ويجادلون السلطات والنخب وادّعاءاتهم التمثيلية، غير أنّه من أجل التحوّل من حالة الغضب الُمشتَبِكَة إلى حالة حراك اجتماعي، ممثل للمجتمع الفلسطيني ككلّ "كمجتمع حراك اجتماعي" فإنّ المطلوب هو البناء على الشبكات الاجتماعية الموجودة وغيرها، لتوحيد الأهداف الجمعية، بجهد اشتباكي يبني على ثقافة التحرّر من الاستعمار، ويؤسّس على ضرورة تحدّي السلطات القمعية والنخب المستبدة. وعليه، يدرك المقدسيون ذلك جيداً، ويدركون أيضاً أن تحوّل موجة الغضب الحالية إلى حالة اشتباك دائمة مع المستعمِر تجعل المستعمَر أقرب إلى الحرية والانعتاق وتقرير المصير.
ومن أجل المساهمة في تحقيق هذه الغاية، وكما حاجَج المحلل السياسي، هاني المصري، إبّان هبة يوليو 2017، هناك ضرورة لتوفر أربعة أركان: العمق الشعبي، والاستمرارية، والهدف والبرنامج، والقيادة. أركان الانتفاض هذه تتوفر بصورة جزئية فقط في موجة الانتفاضة المقدسية اليوم، لأنّ التفتت الجغرافي يحصر أثر العمق الشعبي، وخزّان الإصرار والإرادة سينضب من دون تجديد متعدّد الأوجه، كما أنّ مرحلة تطوير الهدف والبرنامج ما زالت قيد البلورة، والطريق ليس سهلاً، وإن كان طبعاً ممكناً ومطلوباً، من أجل الانتقال من الحلول والمطالب الآنية إلى المطالب بعيدة المدى، ومن مرحلة المطالب المفروضة إلى المطالب المرغوبة. أما "فراغ" القيادة، فيشكّل التحدّي الأكبر في ظلّ ديناميات القوة والسيادة والسيطرة السائدة، لكنّ المهم في خضّم هذه المعركة ملء دفة القيادة بقيادة شرعية وممثلة وفاعلة، تحدّد توجهات النظام السياسي واتجاهاته لما بعد القدس.