تحرير التعليم من نير الاحتلال: مبادرات وتحديات
بُذلت العديد من الجهودٌ على مر العقود الماضية من أجل تحرير النظام التعليمي من نِير الاحتلال الإسرائيلي، وتسخير التعليم كوسيلة لإعادة توحيد الجسم السياسي الفلسطيني، ولكن هذه الجهود لم تنجح حتى الساعة. فقد عانى النظام التعليمي العالي في فلسطين الى حدٍ كبير وعلى مر العقود من التشرذم الوطني ولعبت الانقسامات السياسية، ناهيك عن العوائق المادية القائمة بين الفلسطينيين على الأرض الفلسطينية المحتلة، وبين المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل واللاجئين من ناحية أخرى، دوراً في تعميق هذا التشتت والتشرذم. وبالرغم من مرور أكثر من سبعة عقود على تشريد الفلسطينيين ومن خمسة عقود على الاحتلال العسكري للأرض الفلسطينية، والتي في بعض الحالات قد تنال من أي شعبٍ مهما كانت قضيته عادلة، الا انها لم تستطع ان تنال من عزم الفلسطينيين وصمودهم ومقاومتهم. فقد تأثر الفلسطينيون جميعًا، بطبيعة الحال، باستمرار الصراع وبالمحاولات الإسرائيلية لتمزيق نسيجهم الاجتماعي، ولكنهم لم ينهاروا ولم يستسلموا، وإنما تعلموا.
أطلقتُ في العام 2015 مبادرة لتأسيس جامعة فلسطينية خارج فلسطين لتفادي القيود الجغرافية التي تفرضها القوى الأجنبية من احتلال عسكري وسياسات حكومية تضييقية على الفلسطينيين، بغرض إعداد جيلٍ من قادة المستقبل من الطاقات الفلسطينية في الوطن والمهجر. ومع أن الجامعة لم ترَ النور، إلا أن دراسة الجدوى الاولية لهذا المشروع أوجدت كمًا قيِّمًا من الوثائق والدروس المستفادة من تلك المحاولة ومن مشاريع اخرى سابقة ومشابهة سعت إلى تمكين الفلسطينيين وجمع شملهم من خلال التعليم العالي.
هدفتُ، الى جانب فريق عمل خبير في الشأن الأكاديمي من خلال تلك المبادرة التي قدناها قبل أربعة أعوام، الى تأسيس جامعة فلسطينية خارج فلسطين لتكون بمثابة مؤسسة مستقلة وعلمانية ومختلطة توالف بين أفضل المزايا في النُظم التعليمية المختلفة وتطبق معايير الجودة وتحمل فلسفة دولية وتقوم على أُسس أصلية توحد الفلسطينيين وغيرهم من خلال التعليم. ومن الأسباب الجوهرية التي دعتنا إلى التفكير في إنشاء جامعة فلسطينية خارج فلسطين هي ان المؤسسات التعليمية الفلسطينية القائمة في الفترة التالية لأوسلو ما كانت لتقدرَ على التعاطي مع توليفة الشعب الفلسطيني المعقدة حيثما وُجد، نظرًا إلى التجزؤ الجغرافي والأجندة التعليمية المتأثرة برغبات المانحين في تلك الفترة. وجاءت فكرة الغرفة الدراسية الواحدة التي تجمع طلابًا فلسطينيين من الأرض الفلسطينية المحتلة ومن داخل إسرائيل ومن الأقطار الإقليمية المختلفة بمن فيهم اللاجئون في لبنان وسوريا والأردن وغيرها وكذلك الفلسطينيون في المهجر والشتات كأحد اساسيات المشروع الجامعي، بالإضافة الى طلاب ومدرسين وموظفين عربًا وأجانب متضامنين مع النضال الفلسطيني. ووقع الاختيار لتنفيذ المشروع على دولة قبرص كموقعٍ محتمل، نظرًا لموقعها الجغرافي المتميز المتوسط بين أوروبا وبين الشرق الأوسط، وتاريخ العلاقات التجارية والثقافية الوثيقة التي تربطها بالعالم العربي. فضلًا على أن قبرص دأبت على تقديم الدعم للنضال الفلسطيني من أجل التحرر والاستقلال، وهي تخضع لاحتلال عسكري تركي، وهو ما سيجعلها حالةً دراسية مقارنةً مثالية للطلاب الفلسطينيين.
أشرك المشروع آنذاك إحدى الجامعات الفلسطينية الرائدة كشريك أكاديمي، بيد أنها كانت مستنزَفةً من حيث الموارد البشرية والمالية لدرجة أنه بالكاد كان باستطاعتها أن تمنح المشروع رؤيتها واسمها لكي يبدأ العمل. استجابت ثلاث شركات فلسطينية رائدة للمبادرة ومنحت المشروع دعمًا ماليًا أساسيًا لإنجاز دراسة جدوى أولية. وعلى الرغم من أن المبلغ الممنوح لم يكن كافياً ليلبي الاحتياجات المطلوبة، إلا ان مجرد الشعور بوجود قيمةٍ استراتيجية في إقدام الفلسطينيين في فلسطين على تقديم الدعم المادي لأجل التواصل مع الفلسطينيين في الخارج كان أمراً عظيماً. كما أظهرت دراسة الجدوى الأولية مؤشرات إيجابية، غير أن شريكنا الأكاديمي، الجامعة الفلسطينية، لم يستطع المساهمة بالمال أو بغيره في سبيل إنجاز دراسة الجدوى الكاملة. ومن دون شريكنا الاستراتيجي، شعرَ ممولونا الأساسيون من القطاع الخاص بأن المضي في هذا الاستثمار، بينما الطلب يتزايد في فلسطين، كان فوق استطاعتهم. وهكذا توقفت الجهود فجأة وبسرعة.