تمدد المشروع الصهيوني وتراجع الفعل الفلسطيني
يمكن قراءة التحولات الدراماتيكية التي تعصف بالمجتمع الإسرائيلي كمجتمع استعماري، منذ نشأته على أنقاض الشعب الفلسطيني في أربعينيات القرن الماضي وحتى اللحظة، إلا أن المتابع لهذه التحولات سيجد أنها تتم وفق متطلبات تمدد المشروع الصهيوني. يرتكز هذا المشروع على ثلاثة تيارات رئيسية. الصهيونية العمالية، والتي أخذت على عاتقها إقامة الدولة وحماية وجودها، وتثبيتها على الأرض وصولا إلى تحويلها إلى قوة اقليمية مؤثرة في المنطقة. وهي المرحلة الأولى من مراحل المشروع الصهيوني والتي قادتها نخب اليسار الإسرائيلي ممثلة في حزب العمل (مباي سابقاً). انتهجت القيادات الإسرائيلية سياسة التدرج، ودحرجة المشروع الصهيوني خطوة خطوة نحو أهدافه الاستراتيجية. وبالتالي القبول بقرار التقسيم الدولي 181، ثم الانقضاض عليه مباشرة والسيطرة على أرض فلسطين التاريخية.
الصهيونية التصحيحية، (مدرسة جابوتنسكي)، وهي مرحلة حزب الليكود والذي جاء في إطار تمدد المشروع الصهيوني خارج حدود التقسيم عقب ما بات يؤرخ له بالانقلاب الكبير في السياسية الإسرائيلية 1977. وبدوره، نقل المجتمع الإسرائيلي من ثقافة (الكيبوتس أو الموشاف) التي أقامها حزب العمل في البدايات، إلى ثقافة الاستيطان التي يتم من خلالها تبرير تمدد المشروع الصهيوني في الأراضي العربية، سواء في الضفة الغربية أو الجولان السورية، لتكريسها كأمر واقع. مما يجعل من المستوطنات، والتي تصنف حسب القانون الدولي بأنها غير شرعية، خط دفاع متقدم عن المدن الرئيسية في دولة إسرائيل.
وفي ضوء التحولات الدولية والاقليمية التي شهدها العالم منذ انطلاق عملية التسوية الفاشلة، وانهيار النظام العربي الرسمي، كان لا بد من أن يكون للصهيونية الدينية دوراً في إطار المحافظة على المشروع الصهيوني وتمدده. فظهرت الصهيونية الدينية وقدمت مسوغها الديني لضرورة بقاء المستوطنات في الأرض المحتلة، التي نشأت وترعرعت فيها، وصارعت الفلسطيني صاحب الأرض بشكل يومي. فقتلت وحرقت ودمرت تحت مبرر الحق التاريخي والأصول التاريخية للشعب اليهودي في إطار نسف الرواية الفلسطينية، وبناء رواية تاريخية إسرائيلية مغلفة بثوب دين للحق اليهودي في الأرض العربية. وإعطاء الصراع على الأرض طابع عرقي وعلى أساس تراتبية الحاكم والمحكوم. وهو تماماً ما تسعى إليه إسرائيل في إطار محاولتها لإنهاء ضم المنطقة (ج) في الضفة الغربية، عبر توظيف التيار الديني في خدمة التطلعات، والتي لن تتوقف عند هذا الحد، بل قد تمتد لاحقاً لأراضي عربية مجاورة حسب معطيات الحالة الإقليمية، كما حدث مؤخراً مع الإعتراف الأمريكي بضم الجولان السورية رسميا إلى أراضي الدولة.
وربما ما نشهده من محاولات استحضار الحق التاريخي في الآونة الأخيرة على لسان رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، والتي يحاول من خلالها نفي صلة الشعب الفلسطيني بهذه الأرض عبر رد جذوره إلى أصول عربية في إطار استحضار تلك الرواية الدينية التي يحملها التيار الديني في الصهيونية.
إن الانزياح الإسرائيلي نحو اليمين المتطرف، ليس وليد ظروف مفاجئة، أو خارجة عن الإرادة، بل هو أحد أشكال تطور المشروع الصهيوني والذي لن تجد إسرائيلي واحد يختلف عليه من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين. بل على العكس، هناك دوما اتفاق عام حول حماية هذا المشروع وحفظه، فيما يتجلى الاختلاف فقط في الأليات والادوات بينهم.
ان التوافق في ضوء التناقض هي سمة التيارات الثلاثة المشكلة للفكر الصهيوني والتي قد تبدو متصارعة في مرحلة ما، إلا أن الحقيقة هي التكامل في خدمة المشروع الاستعماري الاستيطاني. فاستحضار كل تيار يتم وفقاً لمتطلبات حماية المشروع، وطبقاً للظروف الراهنة، وهو ما يعني بشكل أو بآخر تقسيم أدوار ممنهجة وفق فلسفة استعمارية تسعي في إطاره الحركة الصهيونية على تجديد ذاتها والمحافظة على مشروعها.