A Palestinian money changer counts money at an currency exchange office

مقدمة

إنّ إحجام إسرائيل عن تحويل إيرادات المقاصة الفلسطينية ليس ممارسة جديدة، بل إنها دأبت على ذلك لمعاقبة السلطة الفلسطينية أو التلاعب بها. ومنذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، أمعنَ النظام الإسرائيلي في سرقة الأموال الفلسطينية، دافعًا السلطة الفلسطينية إلى شفير الانهيار المالي. يرى الكاتب في هذه المذكرة السياساتية أنّ استخدام إسرائيل إيرادات المقاصة كسلاح ليس استمرارًا لتدابير سابقة وحسب، بل يعكس أجندةً جديدة أكثر تطرفًا يقودها اليمين المتطرف. وفي حين يواصل المجتمع الدولي دوره المُخفِّف لوطأة تداعيات ذلك على السلطة الفلسطينية، يرى الكاتب أن عدم اليقين يكتنف مستقبل السلطة والاقتصاد الفلسطيني مع تشديد إسرائيل قبضتها على الروافع المالية الرئيسية.1

معلومات أساسية:

إيرادات المقاصة هي الضرائب التي تجبيها إسرائيل بالنيابة عن السلطة الفلسطينية، وتشمل الرسوم الجمركية وضرائب المشتريات وضريبة القيمة المضافة على الواردات من إسرائيل وسائر بلدان العالم. يأتي نحو 99% من إيرادات المقاصة من هذه المصادر، وتأتي نسبة 1% المتبقية من ضرائب الدخل التي يدفعها الفلسطينيون العاملون في أراضي 1948. يُملي بروتوكول باريس منذ 1994 الشروط التي تجبي إسرائيل بموجبها هذه الإيرادات وتحولها، وهو ما رسَّخَ سيطرة إسرائيل على الموارد المالية الفلسطينية.

سمحَ هذا الترتيب لإسرائيل بتعليق تحويل الأموال أو الاقتطاع منها كما شاءت. بل إنّ إسرائيل علقت تحويل الضرائب الفلسطينية مرات عديدة منذ وُضع هذا البروتوكول، بما في ذلك أثناء الانتفاضة الثانية، وفي 2006 بُعيد فوز حماس في الانتخابات التشريعية، وفي كانون الأول/ديسمبر 2012 ردًا على رفع تصنيف فلسطين في الأمم المتحدة، وفي 2015 بعدما قبلت فلسطين بولاية المحكمة الجنائية الدولية على الجرائم المرتكبة في الضفة الغربية وغزة. ومنذ العام 2019، اقتطعت إسرائيل أيضًا مبالغ تعادل المدفوعات التي قدمتها الحكومة الفلسطينية لأسر الأسرى والشهداء الفلسطينيين. وبلغ مجموع الاقتطاعات في الفترة ما بين شباط/فبراير 2019 وتموز/يوليو 2024 3.54 مليار شيكل – أقل بقليل من 1 مليار دولار، أي ما يصل إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي الفلسطيني لعام 2023.

تزايد حالات الإحجام عن تحويل الإيرادات بعد تشرين الأول/أكتوبر 2023

ساء هذا الوضع أكثر في أكتوبر/تشرين الأول 2023، عندما أحجمت إسرائيل عن تحويل 75 مليون دولار إضافية شهريًا – وهو ما يعادل حجم الرواتب التي تدفعها السلطة الفلسطينية لموظفي الخدمة المدنية في غزة. ومنذ ذلك الحين، فاقَ مجموع الإيرادات التي أحجمت إسرائيل عن تحويلها 750 مليون دولار. وعلاوة على ذلك، ترفض إسرائيل تحويل إيرادات ضريبة المغادرة على معابر الأردن، والتي تراكمت على مر السنين وتجاوزت 238 مليون دولار. وبذلك، وصل مجموع الاقتطاعات نحو 1.23 مليار دولار – نصفها تقريبًا من إيرادات مقاصة السلطة الفلسطينية.

مقاربة إسرائيل الحالية إزاء الإحجام عن تحويل الأموال إلى السلطة الفلسطينية... يشير إلى تحول استراتيجي يهدف إلى تقويض السلطة الفلسطينية ذاتها Share on X

فاقم الامتناع عن تحويل الأموال الأزمةَ المالية التي تواجهها السلطة الفلسطينية، وتسببت في تأخير صرف رواتب الموظفين العموميين لفترات طويلة. وعندما استلموا رواتبهم بعد طول انتظار استلموها 70-80% من مبالغها الأصلية، وعُدَّت النسبة المتبقية البالغة 30% مستحقات متأخرة. وارتفع الدين طويل الأجل للبنوك المحلية من 1.04 مليار دولار في تشرين الأول/أكتوبر 2023 إلى 1.59 مليار دولار في تموز/يوليو 2024، بينما ارتفع الدين للمؤسسات المحلية من 50.5 مليون دولار إلى 95 مليون دولار في الفترة نفسها. وأسهم إحجام إسرائيل عن تحويل قرابة 2 مليار دولار من الأموال، وتوقف دخل العمال الفلسطينيين في إسرائيل، وتشديد القيود على الحركة في قفزة في معدلات البطالة من 12% إلى 32%، وفي ارتفاع معدلات الفقر وانعدام الأمن الغذائي في الضفة الغربية. وتسبب ذلك أيضًا في انخفاض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 25% ، الأمر الذي رسم صورةً قاتمة لوضع السلطة الفلسطينية المالي.

هدف استراتيجي جديد: القضاء على السلطة الفلسطينية

إنّ مقاربة إسرائيل الحالية إزاء الإحجام عن تحويل الأموال إلى السلطة الفلسطينية أو الاقتطاع منها تُمثِّل خروجًا عن استراتيجية الاحتواء السابقة. ورغم أنَّ إسرائيل اتخذت إجراءات مماثلة في الماضي لمعاقبة السلطة الفلسطينية أو الضغط عليها، فإن حجم الأموال التي تُمسك عن تحويلها في هذه المرة يشير إلى تحولٍ استراتيجي يرمي إلى تقويض السلطة الفلسطينية ذاتها. وقد أعلن وزير المالية الإسرائيلي بتسلائيل سموتريتش هذا الهدف صراحةً لسنوات، داعيًا إلى إنهاء السلطة الفلسطينية و”توحيد” الضفة الغربية وإسرائيل. وبالتزامن مع الإحجام عن تحويل الإيرادات، تمنع إسرائيل العمال الفلسطينيين من العمل في أراضي 1948، وأقرَّت أكبر عملية استيلاء على أراضي الضفة الغربية في 30 عامًا، ونفَّذت أكبر هجومٍ عسكري على الضفة الغربية منذ عقدين من الزمن. 

وهكذا فإن النظام الإسرائيلي لم يعد مهتمًا باستدامة الوضع الراهن أو استخدام الحوافز الاقتصادية للسيطرة على السكان. وإنما صارَ هدفه الواضح أن يفكِّكَ السلطةَ الفلسطينية ويفرض سيطرته الكاملة على حياة الفلسطينيين، وألا يترك فسحةً لأي شكل من أشكال الحكم أو الحكم الذاتي الفلسطيني. ونتيجة لذلك شهدَ النشاطُ الاقتصادي الفلسطيني تراجعًا ملحوظًا، وتدهورت الظروف المعيشية، وزاد انعدام الأمن في أوساط الفلسطينيين في الضفة الغربية.

قد تستطيع السلطة الفلسطينية أن تتحملَ المستوى الحالي من الاقتطاعات الإسرائيلية من إيرادات المقاصة إذا زادت الاقتراض وحشدت الدعم الدولي لدعمها. غير أن تعليق تحويل تلك الإيرادات بالكامل وقطع العلاقات المصرفية بين البنوك الإسرائيلية والفلسطينية سيؤدي على الأرجح إلى انهيار السلطة الفلسطينية. وفي حين أن ضغوط الولايات المتحدة وغيرها من الفاعلين الدوليين قد نجحت حتى الآن في إقناع إسرائيل بتجنب هذه الخطوات، إلا أن انهيار السلطة الفلسطينية المحتمل يشكل واقعًا جليًا لا يمكن تجاهله.

  1. لقراءة هذا النص باللغة الفرنسية، اضغط/ي هنا. تسعد الشبكة لتوفر هذه الترجمات وتشكر مدافعي حقوق الإنسان على هذا الجهد الدؤوب، وتؤكد على عدم مسؤوليتها عن أي اختلافات في المعنى في النص المترجم عن النص الأصلي.
عصمت قزمار باحث اقتصادي مُقيم في رام الله بفلسطين. يشغل حاليًا منصب مسؤول العلاقات الخارجية في معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني (ماس). عمل سابقًا مع...
(2024, ديسمبر 1)
في هذه المقالة

أحدث المنشورات

 السياسة, الاقتصاد
في مختبر السياسات هذا، نستضيف الأستاذتين مروة فطافطة وإسلام الخطيب، وبمشاركة الميسر فتحي نمر، في جلسة تحليلية تبحث في استخدام الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا المعلومات في قمع وابادة الشعب الفلسطيني.
في 17 تشرين الثاني/ نوفمبر 2025، اعتمد مجلس الأمن القرار رقم 2803 الذي يزكِّي الخطة ذات العشرين بندًا التي طرحها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن غزة. وقد فُرض التصويت بعد أسابيع من الضغوط الأمريكية، ليُقرَّ إنشاء هيئتين يُفترض أنهما انتقاليتان لتولي السيطرة على غزة: "مجلس السلام" المكلف بالإشراف على توزيع المساعدات، وإعادة الإعمار، والإدارة اليومية، و"قوة دولية لتحقيق الاستقرار في غزة"، المكلفة بتولي الشؤون الأمنية ونزع سلاح حركة حماس. ومن اللافت أن القرار لا يشير إلى الإبادة الجماعية التي فتكت بغزة خلال العامين الماضيين، ولا يتطرق إلى المساءلة عنها. توضح هذه المذكرة السياساتية كيف يعيد القرار تغليف السيطرة الاستعمارية على الشعب الفلسطيني في غزة، ويُكافئ الولايات المتحدة -وهي شريكة في الإبادة الجماعية- بالسيطرة على غزة وعلى عملية إعادة الإعمار التي قد تدرّ أرباحًا كبيرة، بينما يُعفي في الوقت نفسه النظام الإسرائيلي من جميع مسؤولياته كقوة احتلال غير قانونية. وبذلك، يُقوِّض مجلس الأمن مرة أخرى مبادئ الأمم المتحدة القانونية تحت ضغط الولايات المتحدة، بدلًا من أن يدفع في اتجاه العدالة.
Al-Shabaka Yara Hawari
يارا هواري· 20 نوفمبر 2025
 اللاجئين
أعاد المسؤولون اللبنانيون طرح مسألة نزع سلاح الفصائل الفلسطينية داخل المخيمات، باعتبارها جزءًا من الجهود المبذولة للحدِّ من "الأسلحة غير الشرعية" وتعزيز سيادة الدولة. غير أن هذا الطرح يُنظر إليه، من قِبَل كثير من الفلسطينيين والمراقبين الإقليميين، باعتباره تمهيدًا لمرحلة جديدة من الضغوط السياسية والأمنية على اللاجئين ضمن رؤية أوسع لإعادة تشكيل البنية الأمنية الإقليمية. كما أنه يثير ذكريات جماعية مؤلمة عن حملات نزع السلاح السابقة التي تركت المخيمات عرضة للمجازر والدمار.