Nuseibah_policy memo_image_july2025

مقدمة

كشفت الإبادة الجماعية المتواصلة التي يرتكبها النظام الإسرائيلي في غزة، عن فشل القانون الدولي في حماية المدنيين. فبينما تُلزِم اتفاقية منع الإبادة الجماعية الدول بالتصدي لهذه الجريمة ومحاسبة المسؤولين عنها، وتكفل اتفاقيات جنيف حمايةَ المدنيين تحت سلطة الاحتلال، برهن الواقع عن عجز هذه الآليات القانونية في حال غياب الإرادة السياسية لتنفيذها. وأكبر دليل على ذلك هو مواصلة قوات الاحتلال الإسرائيلي حملتها العسكرية في غزة، بالرغم من إصدار محكمة العدل الدولية تدابير احترازية في كانون الثاني/ يناير 2024 لمنع ارتكاب جريمة الإبادة جماعية.

تُمثّل الإجراءات المنسقة لمجموعة لاهاي نقطةَ تحولٍ حاسمة في الجهود العالمية لتطبيق القانون الدولي ومواجهة إفلات النظام الإسرائيلي من العقاب Share on X

وتحديًا لهذا الواقع، اجتمعت عدة دول من الجنوب العالمي لتشكيل مجموعة لاهاي، وهي مبادرة تهدف إلى تقويض الحصون التي شيدها حلفاء النظام الإسرائيلي حوله لحمايته وضمان إفلاته من العقاب والمساءلة من خلال تنسيق تحرّك قانوني ودبلوماسي. وتتألف المجموعة من ثماني دول: جنوب إفريقيا، ماليزيا، ناميبيا، كولومبيا، بوليفيا، السنغال، هندوراس، وكوبا. وتعمل مجموعة لاهاي على تعزيز تطبيق القانون الدولي والتمسك بالالتزامات الدولية دفاعًا عن حقوق الفلسطينيين. وتتناول هذه المذكرة السياساتية دور مجموعة لاهاي في إبراز الإمكانات الكامنة في تحرّك الدول المنسّق لمساءلة الأنظمة التي تنتهك القانون الدولي، رغم القيود البنيوية التي تعيق إنفاذه.

تضامن بلدان الجنوب العالمي

في 31 كانون الثاني/ يناير 2025، عقدت دول المجموعة اجتماعًا في لاهاي، موطن أبرز المحاكم الدولية في العالم، واتفقت على اتخاذ إجراءات ملموسة لإنفاذ القانون الدولي. وتعهدت دول مجموعة لاهاي بحماية الشعب الفلسطيني ودعم حقه في تقرير المصير، داعيةً الدول الأخرى إلى ممارسة ضغط جماعي على النظام الإسرائيلي ووضع حدٍّ لإفلاته من العقاب.

تضم مجموعة لاهاي دولًا من إفريقيا وأمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا، ويُعدُّ غياب جميع الدول العربية والأوروبية عن مجموعة لاهاي أمرًا لافتًا -بما في ذلك الدول الداعمة للقضية مثل أيرلندا وإسبانيا- لكنه ليس غيابًا عارضًا. يعكس هذا الغياب واقعًا صار فيه الدفاع عن القانون الدولي مسألة شديدة التسييس ومرتفعة الكلفة، ولا سيما في ظل هيمنة الولايات المتحدة، التي تمارس ضغوطًا دبلوماسية، وإكراهًا اقتصاديًّا، وعداءً صريحًا تجاه المؤسسات الدولية. وقد خلق هذا المناخ بيئة رادعة تُقيَّد فيها محاسبة إسرائيل، لا سيما في عهد إدارة ترامب. فعندما انطلقت مجموعة لاهاي، دعمت إدارةُ ترامب مشروعَ قانون من شأنه أن يفرض عقوبات على كل فرد أو جهة تشارك في تحقيقات المحكمة الجنائية الدولية ضد الولايات المتحدة أو حلفائها، وعلى رأسهم إسرائيل.

إن الحفاظ على مصداقية النظام القانوني الدولي والدفاع عن حقوق الفلسطينيين يتطلب انضمام مزيدٍ من الدول إلى مجموعة لاهاي Share on X

إن تحدي الولايات المتحدة في سبيل الدفاع عن القانون الدولي في حالة إسرائيل ينطوي على مخاطر سياسية واقتصادية كبيرة، لم يُبدِ القادة الأوروبيون حتى الآن استعدادًا لتحمّلها. لذا ظل دعمهم لفلسطين رمزيًّا إلى حدٍّ كبير، مكتفين في الغالب بإيماءات دبلوماسية كالاعتراف بدولة فلسطين، وهي إيماءات لا ترقى إلى مستوى الإجراءات الحاسمة المطلوبة لوقف الإبادة الجماعية، وتفكيك نظام الفصل العنصري، وإنهاء الاحتلال. إلا أن بعض الدول الأوروبية بدأت أخيرًا في تهديد النظام الإسرائيلي بفرض عقوبات عليه، وإعادة النظر في المعاملة التفضيلية التي يحظى بها بموجب الاتفاقيات المبرمة مع الاتحاد الأوروبي. وفي استجابة للضغوط المتزايدة من الدول الأعضاء، وافقت المفوضية الأوروبية على مراجعة سجل إسرائيل الحقوقي، وإعادة تقييم اتفاقية الشراكة بينها وبين الاتحاد الأوروبي. لكن تلك الخطوات جاءت متأخرة جدًّا وفشلت في وقف العدوان الإسرائيلي المتواصل على غزة والمنطقة، وبقيت حتى الآن رمزية من حيث النطاق والتأثير.

وعلى نحوٍ مماثل، أصدرت جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي قرارات وبيانات إدانةٍ قوية، ولكنها لم تترجم بعد إلى أي تحرُّك فعلي حاسم، وبرهنت على الفجوة الدائمة بين القول والفعل. ويزداد هذا التقاعس وضوحًا مع توسُّع تطبيع العلاقات بين دولٍ عربية وإسرائيل، الأمر الذي يقوِّض الجهود الجماعية الرامية إلى محاسبة إسرائيل ويضعف النفوذ السياسي للكتلة العربية الأوسع. وعلى النقيض، شَرَعت دول مجموعة لاهاي في ترجمة الالتزامات القانونية الدولية إلى إجراءات منسقة بينما يتوانى الفاعلون الإقليميون والغربيون عن التصدي لإفلات النظام الإسرائيلي من العقاب.

تحرُّك يتجاوز حدود التضامن الرمزي

بدأت مجموعة لاهاي في اتخاذ سلسلة من الإجراءات السياسية والقانونية العملية التي تهدف إلى تقويض إفلات إسرائيل من العقاب وإنفاذ القانون الدولي. وتشمل تلك الإجراءات ما يلي:

  1. حظر تصدير الأسلحة: أعلن الأعضاء التزامهم بوقف نقل جميع الأسلحة والمعدات العسكرية إلى إسرائيل، ولا سيما في حال وضوح نية استخدامها في ارتكاب جرائم حرب أو إبادة جماعية.
  2. فرض قيود على الموانئ وعمليات العبور: تعهدت المجموعة بمنع مرور السفن التي تحمل وقودًا عسكريًّا أو إمدادات لإسرائيل في مياهها الإقليمية أو رسوها في موانئها، بهدف تعطيل سلاسل الإمداد التي قد تسهم في انتهاك القانون الدولي.
  3. دعم مذكرات التوقيف التي أصدرتها المحكمة الجناية الدولية: أقرت المجموعة رسميًّا مذكرات التوقيف التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية ضد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت، والتزمت بتنفيذها حال دخولهما ضمن ولاياتها القضائية، ما يحد من حرية تنقل المسؤولين الإسرائيليين حول العالم ويهدد حصانتهم الدبلوماسية.
  4. الإدانة العلنية والعزل السياسي: من خلال البيانات المشتركة والحملات الدولية المنسقة، تهدف المجموعة إلى فرض العزلة السياسية على إسرائيل ودحض ادعاءاتها بشرعية أفعالها، مع تكثيف الضغط على الدول والمؤسسات الأخرى الماضية في دعمها لإسرائيل.

تُمثّل الإجراءات المنسقة لمجموعة لاهاي نقطةَ تحولٍ حاسمة في الجهود العالمية لتطبيق القانون الدولي ومواجهة إفلات النظام الإسرائيلي من العقاب، غير أن تأثيرها سيبقى محدودًا ما لم تحظَ بمشاركة أوسع. فالحفاظ على مصداقية النظام القانوني الدولي والدفاع عن حقوق الفلسطينيين يتطلب انضمام مزيدٍ من الدول إلى هذه المبادرة. ويجب كذلك على منظمات حقوق الإنسان أن تمارسَ الضغط على الحكومات كي تتبنى أجندتها القائمة على مناصرة الحقوق ومناهضة الاستعمار. وبالتوازي مع ذلك، يتعين على الجهات الإقليمية، مثل منظمة التعاون الإسلامي وجامعة الدول العربية والاتحاد الإفريقي، أن تتخذ خطوات عملية تتوافق مع أهداف مجموعة لاهاي بهذا الشأن.

إنّ توسيع هذه التحالف ليصير حركةً دولية أشمل أمرٌ ضروري لوضع حدٍّ للإبادة الجماعية واستعادة المساءلة القانونية الدولية عن الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية. فالدول، بموجب القانون الدولي، تتحمل التزامًا قانونيًّا لمنع الإبادة الجماعية والامتناع عن التواطؤ فيها بأي شكل من الأشكال. وهكذا، فإن دعم مبادراتٍ مثل مبادرات مجموعة لاهاي ليس خيارًا سياسيًّا، وإنما هو واجبٌ قانوني وأخلاقي.

منير نسيبة هو أكاديمي حقوقي من جامعة القدس في فلسطين، وهو أستاذ مساعد في كلية الحقوق في جامعة القدس بالإضافة إلى شغله منصب مدير (وأحد...
في هذه المقالة

أحدث المنشورات

 السياسة
في يوم الخميس، 19 حزيران/يونيو 2025، وقف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام موقع الضربة الإيرانية قرب بئر السبع، وقال للصحفيين: "ما نعيشه اليوم يذكّرني حقًّا بما تعرّض له الشعب البريطاني أثناء قصف لندن (البليتز) في الحرب العالمية الثانية. نحن نُقصف اليوم بطريقة مماثلة". كانت البليتز حملة قصف جوي مكثفة شنَّتها ألمانيا النازية ضد المملكة المتحدة في الفترة بين أيلول/سبتمبر 1940 وأيار/مايو 1941. أراد نتنياهو بهذه المقارنة الدرامية استعطافَ الغرب وتأمين حصول حكومته على دعمٍ غير مشروط في عدوانها غير المبرر على إيران الذي يشكل تصعيدًا عسكريًّا وانتهاكًا جديدًا للقانون الدولي. ومثل تلك المراوغات الخَطابية ليست بشيءٍ جديد، بل هي نمط راسخ في الخطاب السياسي الإسرائيلي الذي يصوِّر إسرائيل كضحية دائمًا ويصف خصومها بالنازيين المعاصرين. لطالما راودت نتنياهو طموحاتٌ بضرب إيران بدعمٍ مباشر من الولايات المتحدة، غير أن التوقيت ظلّ دائمًا العنصر الحاسم. وعليه، فلا ينبغي النظر إلى هذه اللحظة على أنها مجرّد عدوان انتهازي، بل كجزء من إستراتيجية أوسع محسوبة بعناية. فشنّه هذه الحرب غير المبرّرة اليوم، نابع من حالة الإفلات غير المسبوقة من العقاب التي يتمتع بها، التي تزامنت مع تحوّلات إقليمية متسارعة أعادت تشكيل موازين القوى في المنطقة، إلى جانب الهشاشة المتفاقمة في المشهد السياسي الداخلي الإسرائيلي. يتناول هذا التعقيب التصعيدَ الأخير في هذا السياق، ويُسلّط الضوء على الدوافع السياسية التي تقف خلف شنّ الحرب في هذا التوقيت تحديدًا.
Al-Shabaka Yara Hawari
يارا هواري· 26 يونيو 2025
 السياسة
في خضمّ هذا التصعيد، تصبح ديناميكيات القوى الدولية والإقليمية وعلى رأسها الولايات المتحدة، والصين، وروسيا، وتركيا عاملاً حاسماً في تحديد مسار الصراع. ويعد دعم الولايات المتحدة للكيان الصهيوني بمثابة انحراط فعلي في الحرب كيف يمكن أن يؤثر هذا التصعيد العسكري بين إسرائيل وإيران على موازين القوى في الشرق الأوسط؟ وما هي تبعات الحرب على القضية الفلسطينية؟ في مختبر السياسات هذا، ينضم إلينا الدكتور بلال الشوبكي، وزيد الشعيبي، مع الميسر فتحي نمر، لمناقشة الأبعاد الدولية والاقليمية للحرب على إيران.
في 26 أيار/مايو 2025، تم إطلاق نظام توزيع المساعدات الجديد المدعوم من إسرائيل في غزة، الذي يجري تأمينه من قِبَل شركات أمنية أمريكية خاصة. تسبب هذا النظام في قتل أكثر من 100 فلسطيني، أثناء محاولتهم الوصول إلى نقاط توزيع المساعدات الواقعة قرب مواقع عسكرية على حدود رفح، وسط ظروف غير إنسانية. وتُثير هذه الخسائر الفادحة تساؤلات مهمة حول سلامة نظام المساعدات الجديد ودور الشركات الأمنية الأمريكية التي تعمل تحت إشراف مباشر من قوات الاحتلال الإسرائيلي. يُبيّن هذا الموجز السياساتي أن خصخصة المساعدات والأمن في غزة تمثّل انتهاكًا للمبادئ الإنسانية الأساسية، إذ تُحوِّل المساعدات إلى أداة للسيطرة السياسية، والتطهير العرقي، وإدامة الاستعمار. كما تهدّد حياة الفلسطينيين من خلال ربط الحصول على المساعدات بظروف قسرية، وتسهيل التهجير القسري، وتوفير غطاء قانوني وأخلاقي لانتهاكات الاحتلال. كذلك، تُسهم هذه الخصخصة في تهميش وتقويض دور المؤسسات المحلية والدولية، وعلى رأسها الأونروا، التي لعبت دورًا محوريًّا في دعم اللاجئين الفلسطينيين في غزة طوال عقود.
الشبكة جودة
صفاء جودة· 10 يونيو 2025
Skip to content