استفادت الشبكة من وجود عدد من مستشاري السياسات في بيروت، لبنان، لتنظيم طاولة مستديرة غير رسمية، في أيار/مايو من عام 2010، ويتضمن التقرير الحالي موجزاً لأهم جوانب اللقاء المذكور. موضوع النقاش كان التالي: ما هي مصالح الفلسطينيين في دول الشتات التي يعيشون فيها، وما هو دورهم في تأمين تلك المصالح ؟ استند النقاش إلى الافتراض القائل إنه لن يكون هناك حل للصراع في المستقبل المنظور. وقد كان من شأن طرْح افتراض مغاير – أي فرض حل يستثني حق العودة، على سبيل المثال- أن يؤدي إلى إثارة نقاش مختلف يركّز على كيفية الحيلولة دون فرض حل لا يؤمّن حقوق اللاجئين. ويعي المشاركون في الطاولة المستديرة جيداً أن ندوتهم لا تلامس سوى سطح موضوعٍ بالغ الأهمية لن يتوقف النقاش بشأنه.
ضمن المشاركين: ناديا حجاب، كاتبة ومستشارة تنمية (ميسِّـرة)؛ خليل هندي، عميد مشارك في كلية الأعمال في الجامعة الأميركية في بيروت؛ جابر سليمان، مؤسِّس ومدير مركز حقوق اللاجئين (عائدون)؛ عزيزة خالدي، أستاذ مساعد في قسم إدارة المستشفيات في الجامعة الإسلامية اللبنانية، وباحثة مستقلة تركِّز بشكل رئيسي على الظروف الصحية والاقتصادية-الاجتماعية للاجئين الفلسطينيين في لبنان؛ وأنطوان زحلان، كاتب وخبير سياسات علمية. الدول التي يعيش فيها المشاركون أو سبق وأن عاشوا فيها، تضم: فرنسا والعراق والأردن ولبنان وفلسطين وقطر والمملكة المتحدة والولايات المتحدة.
مسألة الجماعة
تختلف مصالح الفلسطينيين في الشتات ودورهم في تأمين هذه المصالح من دولة لأخرى. في بعض الدول العربية وغير العربية، يمثل الفلسطينيون جماعة متميزة، في حين أن تشكيل الفلسطينيين لجماعة متميزة، في بعض الدول الأخرى، قد لا يصب في مصلحتهم. ففي لبنان مثلاً، لا مجال للشك بأن الفلسطينيين يشكلون و ويعتبروا أنفسهم، جماعة. هنا تتحول المسألة إلى كيفية تأمين مصالح الفلسطينيين كمجموعة، سواء عن طريق التفاوض مع الحكومة اللبنانية أو عن طريق مطلبية، بما في ذلك تشكيل مجموعات ضغط مع المجموعات اللبنانية الحليفة.
في المقابل، نجد في الأردن أن ثمة أسئلة تثار حول ما إذا كانت مصلحة الفلسطينيين تقتضي أن يقدموا أنفسهم بصورة جماعة؛ فما يزال العديد منهم يعانون تداعيات تجربة أيلول الأسود المؤلمة التي حدثت عام 1970. 1 لسنوات عديدة، كانت قطاعات كبيرة من الجماعة الفلسطينية تقدم نفسها باعتبارها أردنية، كما ناضلت للحصول على حقوقها باعتبارها كذلك، رغم أن اللاجئين المسجلين احتفظوا بوضعهم القانوني بغية الحفاظ على حق العودة. وفي أجزاء أخرى من العالم العربي، كالخليج مثلاً، نجد أن السؤال المتعلق بمصلحة الفلسطينيين في تقديم أنفسهم كجماعة، يصبح أكثر حدة.
في المملكة المتحدة والولايات المتحدة، أسَّس الفلسطينيون جاليات. لكنهم كثيراً ما واجهوا تحديات مردُّها السياسات الفصائلية المماثلة لتلك الموجودة “في الوطن.” وتجدر الإشارة هنا إلى أن ذلك يُعتبر جانباً طبيعياً في سلوك الشتات. فجماعات الشتات ما هي إلا مجموعات غير رسمية من الناس تدّعي العلاقة بدولة أو بحضارة ما، وهم لا يحتاجون بالضرورة لأن يتوزعوا ضمن منظمات محددة واضحة المعالم. كما أن من الطبيعي أن جماعات الشتات لدى نشوئها لا بد وأن تضم بين صفوفها مجموعات مناوئة تسعى لتحقيق أهداف مغايرة. وعلى أية حال، لم تفلح المنظمات أو الجاليات الفلسطينية، في أي بلد، في إيجاد أو في ترسيخ ذات النفوذ الذي تمكنت المجموعات الصهيونية من إيجاده أو ترسيخه.
وهنا لن يفيدنا القول إن أياً من الجماعات الفلسطينية في الشتات هي أسوأ من مثيلاتها. فلكل جماعةٍ تحدياتها الخاصة التي تواجهها، كما في حال الفلسطينيين في العراق، أو في مصر. كما أن هناك أعداداً كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين في كلٍّ من قطاع غزة والضفة الغربية، بالتالي، يصبح السؤال: كيف يمكن تعريف الشتات الفلسطيني في الوقت الذي لا يشمل فيه هذا التعبير فقط الفلسطينيين الذين يعيشون خارج أرض فلسطين التاريخية. لكن، وحيثما عاش الفلسطينيون، فإنهم يواجهون مشكلتين، واحدة مباشرة والأخرى طويلة الأجل – وهما البقاء والعودة. وتتطلب كلٌّ من هاتين المشكلتين استراتيجيات مختلفة.
التعلّم من التجربة اللبنانية
يواجه الفلسطينيون في لبنان مستقبلاً غير واضح المعالم. فهم يعامَلون كأجانب ومع ذلك لا يتمتعون بحقوق اللاجئين التي نص عليها القانون الدولي، وهذا يُعتبر خرقاً لالتزامات لبنان باعتباره طرفاً في العديد من المواثيق الدولية المتصلة بحقوق اللاجئين، إضافة لكونه دولة عضواً في الجامعة العربية التي تبنَّت وثيقة الدار البيضاء الخاصة بمعاملة اللاجئين الفلسطينيين والصادرة عام 1965. حدث تحـوُّل إيجابي في الخطاب السياسي اللبناني اعتباراً من عام 2005، ولكن لم يطرأ تغيير كبير على أرض الواقع في ما يتعلق بالحقوق الإنسانية الأساسية، لا سيما حق العمل والتملُّك، كما وبقيت القيود الخاصة بالأنشطة في كثير من المناطق، بما في ذلك جلب مواد البناء إلى داخل مخيمات اللاجئين وإمكانية التسجيل في المدارس الحكومية. هذا بالإضافة إلى أن إعادة إعمار مخيم نهر البارد لم تكتمل بعد، وبالتالي، تستمر معاناة السكان المهجّرين من المخيم المذكور.
كيف يمكن للجماعة الفلسطينية التعبير عن نفسها ضمن هذا السياق السياسي؟ عليها أن تناضل من أجل الحصول على المزيد من الحقوق الإنسانية –لا الخيرية- الأساسية، وأن تسعى لجعل التشريعات اللبنانية منسجمة مع المعايير والقواعد الدولية. كما ويتعيّن عليها، عند مستوى آخر، ربط النضال من أجل الحقوق الإنسانية الأساسية بحق العودة. والواقع أن النضال من أجل الحقوق الإنسانية الأساسية من شأنه تمكين الجماعة الفلسطينية لدفعها للعمل من أجل حق العودة، وينبغي ألا يتملك الخوفُ أحداً من أن منح المزيد من حقوق الإنسان للفلسطينيين من شأنه أن يؤدي إلى التوطين. بل إن الطريقة الأنجع التي يمكن للبنان بواسطتها دعم حق العودة والحيلولة دون التوطين، تكمن في دعم الحقوق الإنسانية الأساسية للاجئين.
ثمة تساؤل آخر: ما نوع السلطة المرجعية المتوفرة للفلسطينيين في لبنان؟ هل ما زالت منظمة التحرير الفلسطينية تُعتبر ممثلة للفلسطينيين؟ في الوقت الحالي، تهيمن على المشهد اللجانُ الشعبية التي تمثل الفصائل المختلفة. كما تسيطر الفصائل الفلسطينية التقليدية على الجماعة بقبضتها المُحكمة، وتلجأ باسم ’القضايا المصيرية‘ إلى إهمال المصالح المباشرة للجماعة في الوقت الذي تحوّل فيه الطاقات إلى مسارب الصراعات بين الفصائل. وقد أدّت تلك الانقسامات بين الفصائل إلى الحد من إمكانية الجماعة الفلسطينية على الدفاع عن حقوقها. ما هو دور المجتمع المدني؟ والواقع أن السؤال هو، إلى أي مدى يُعتبر المجتمع المدني “مدنياً؟” ليس ملائماً للفلسطينيين الموجودين في لبنان اتّباع المنهجية الأردنية حيث تدير النخبةُ المنظماتِ الأهلية. وتعتمد المنظمات الأهلية بدورها على تمويل المانحين. بالتالي، فهي تضع برامجها بحيث تستطيع الحصول على ذلك التمويل، وهذا يؤدي إلى التنمية العمودية بدل أن يؤدي إلى تمكين المجتمع المحلي. كيف يمكن للمجتمع المحلي أن يحصل على استقلالية التمويل؟
الجماعة الفلسطينية في لبنان لا تحمل أية أوهام وردية حالياً. فالناس لا ترغب في أكثر من الحفاظ على بقائها والعيش بكرامة، والعائلات ترسل أولادها إلى أوروبا لكي يتزوجوا هناك ويرسلوا إليها الحوالات المالية. ونجد أن بعض القطاعات مهمَّشة حتى في المناطق التي ينشط فيها المجتمع المدني. فقد كشف برنامج بحثي، مثلاً، عن مدى تهميش المسنّين، رغم ما يتمتعون به من خبرة ومعارف. بل إن المسنّين يُعتبرون أشخاصاً بحاجة للرعاية لا يكفّون عن ترداد القصص القديمة عن فلسطين، بدل اعتبارهم أشخاصاً قادرين على الإسهام، ما يحرم المجموعة من مورد بشري مهم. البقاء والمشاركة الاجتماعية هما المسألتان الأساسيتان.
هناك أيضاً موارد لم تتم الاستفادة منها، وهناك أيضاً العديد من الإمكانيات الخاصة بالمبادرات الفردية والريادة. ورغم اهتمام الجميع بالشؤون السياسية، لا يبدو أن هذا الاهتمام يؤدي إلى أية نتائج إيجابية. ولا حاجة لأن يعيش الإنسان حياة بائسة لكي يؤمّن الحقوق السياسية وحق العودة. كما ونلاحظ أن معظم الحملات الخاصة بالحقوق تركّز على حقوق العمل والصحة لكنها تُسقِط من حساباتها حق التعليم. نسبة النجاح في السنوات السابقة للشهادة الثانوية هي 33% في صيدا وهناك العديد من الطلاب الذين ينقطعون عن الدراسة. وهكذا ينشأ الجيل الجديد جاهلاً، ليس فقط في مجال التعليم الرسمي، بل جاهلاً بتاريخ فلسطين أيضاً. خلال سبعينات القرن العشرين، كانت منظمة التحرير الفلسطينية تصر على إدخال كتب حول جغرافية وتاريخ فلسطين ضمن منهاج وكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين (الأونروا). حالياً، المكان الوحيد الذي يتعلم فيه الصغار أي شيء عن فلسطين هو رياض الأطفال، ولدى اشتراكهم في البرامج والأنشطة الشبابية، وجميعها تُدار من قِبل المنظمات الأهلية.
بعض الأفكار لاتخاذ إجراءات عملية
ينبغي إنشاء شبكات ضمن الجماعات الفلسطينية وبينها، وهناك تجارب يمكن الاستفادة منها واستغلالها مثل حركة حق العودة التي بدأت تتشكل في منتصف تسعينات القرن العشرين في مخيمات اللاجئين في الضفة الغربية. ومنذ انعقاد مؤتمر حق العودة، في بوسطن، في الولايات المتحدة عام 2000، الذي يمثل نقطة تحول بهذا الشأن، دأبت حركة حق العودة على الاجتماع كل عام.
يمكن الاستفادة إلى حد كبير من شبكة الإنترنت لدعم التشبيك ضمن المجتمع وبين المجتمعات المحلية. على سبيل المثال، أنشأ بعض الأشخاص الذين يعيشون داخل وخارج لبنان، شبكة دعم لسكان مخيم نهر البارد للاجئين. وتُعتبر هذه الشبكة، مجموعة اجتماعية يمكنها أن تؤمّن أيضاً معلومات محدّثة عن مراحل إعادة الإعمار إضافة إلى فائدتها كوسيلة للمناصرة وللحث على العمل المشترك لكل من يهتم بالموضوع ويرغب في المساعدة. كما ويمكن الاستفادة من الشبكات الاجتماعية وأدوات الإنترنت الأخرى لدعم المبادرة في الأعمال الحرة ولتأمين منافذ للأعمال وفضاء للإعلان. ويمكن لشبكات كهذه أن تكون شديدة التنوع وغير رسمية: المبدأ الأساسي هنا هو تعزيز العلاقات الإنسانية بين أفراد الجماعة، والسماح للفلسطينيين بتجاوز العقبات التي تعيق تطورهم القومي، وذلك من خلال تكوين صداقات، والتعاون في مجال المساعي الرامية لوضع مشاريع أعمال، والزواج.
ومن المهم أيضاً عقد تحالفات مع المجتمعات المضيفة، ليس فقط في مجال الحصول على دعمها للنضال الفلسطيني، بل في مجال دعم نضالاتها أيضاً. في لبنان، على سبيل المثال، هناك العديد من المنظمات الأهلية اللبنانية التي تدعم حملة حق الفلسطينيين في العمل، وفي نفس الوقت، تدعم المنظمات الأهلية الفلسطينية المساعي اللبنانية الرامية لإصلاح قانون الأحوال الشخصية في لبنان. إلى ذلك، يضم الفلسطينيون جهودهم إلى جهود اللبنانيين لدعم التعليم الشعبي وبرامج محو الأمية التي لا توفر المعارف فقط، بل تخلق إلى جانب ذلك، إحساساً بالهوية وبالجماعة. روابط الشتات ليست موجّهة ضد الدولة المضيفة، ويمكن للفلسطينيين أن يكونوا –وهم كذلك فعلاً- مواطنين صالحين حيثما كانوا.
وهنا ينبغي أن نأخذ بالاعتبار تشكيل جمعيات مهنية جدّية من المهندسين والعلماء والأطباء وغيرهم، والتخلّي عن النزعة التي ابتليت بها الحركات الفلسطينية والرامية إلى تسييس كل شيء.وسوف تترتب على ذلك مزايا متعددة، كتراكم المعارف ودعم التعليم وتيسير الارتباط مع المجتمعات المضيفة. لكن التحدي الأكبر البعيد الأمد هو توفير التواصل الصريح والفعّال بين الفلسطينيين أنفسهم في مواقع تواجدهم المختلفة، لاسيما بين الفلسطينيين داخل فلسطين التاريخية وبين الفلسطينيين في البلدان العربية. لأن الأسلوب الأمثل للمحافظة على الهوية الفلسطينية الجماعية هو تنمية التبادلات الثقافية بين تلك المجموعات. فمن دون شتات نابض بالحياة، لن تكون هناك عودة.
- في أيلول/سبتمبر 1970، قام الملك حسين، ملك الأردن، بسحق المجموعات الفلسطينية المسلحة التي كانت تنشط داخل بلده. هلك آلاف الأشخاص واستمرت المواجهات لغاية تموز/يوليو 1971. خلال تلك الأحداث، وبعد التوصّل إلى وقف لإطلاق النار نتيجة مفاوضات جرت تحت رعاية مصرية، أُبعِدَت منظمة التحرير الفلسطينية وآلاف المقاتلين الفلسطينيين إلى لبنان.