مقال - فلسطين بعد عباس: السيناريوهات المحتملة واستراتيجيات المواجهة

لمحة عامة

في الفترة التي سبقت الانتخابات الأمريكية، احتدمت المنافسة بين الفصائل الفلسطينية تحسبًا لمرحلة ما بعد عباس. وكان من المأمول أن يوفر مؤتمر حركة فتح السابع المؤجل إلى 29 تشرين الثاني/نوفمبر 2016 بعضَ التصورات بشأن كيفية انتقال السلطة، ويبيِّن كيف ومتى قد يترك محمود عباس منصبًا واحدًا أو أكثر من مناصبه الثلاثة التي يشغلها وهي: رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، ورئيس السلطة الفلسطينية، ورئيس حركة فتح، أكبر فصيل سياسي فلسطيني.1

تعتقد إسرائيل أن لديها الحرية المطلقة الآن، بعد انتخاب دونالد ترامب، لتفعلَ ما يحلو لها في الأراضي الفلسطينية المحتلة وخارجها، مما يزيد صعوبة انتقال السلطة الفلسطينية. يتناول محللو الشبكة السياساتيون في هذه الحلقة النقاشية السيناريوهات المختلفة لفلسطين ما بعد عباس. يعتقد البعض مثل هاني المصري أن على الفلسطينيين الخوف من حدوث فراغ في السلطة من حيث زيادة التشرذم والتدخل الخارجي، بينما يقول آخرون مثل نورا عريقات إن الفلسطينيين سيكسبون أكثر مما سيخسرون بالنظر إلى فرص التغيير. يحذر جميل هلال من مخاطر التناحر على السلطة، ويحث على التحول إلى النضال من أجل الحقوق الجماعية للشعب الفلسطيني ككل، وليس من أجل مصير فرد ما أو حاشيته. ويتناول سام بحور السوابق والجهات الفاعلية المختلفة، ويشير إلى أن فصائل منظمة التحرير الفلسطينية الأخرى فقدت نفوذها السابق لأن وجودها السياسي متيسر بفضل السلطة التي قد يسعون للطعن فيها.

يحذر جابر سليمان، من محل إقامته في لبنان، من أن انهيار السلطة الفلسطينية قد يتسبب في موجة من الهجرة أو النزوح نحو الضفة الشرقية، ويحيي المشاريع الإسرائيلية التي ترتأي حكمَ الضفة الغربية وقطاع غزة بالتشارك مع الأردن أو مصر، مما سيكون له تداعيات على الجاليات الفلسطينية في لبنان وأماكن أخرى. وتأمل ديانا بطو أن يُصلِح القادة الجدد الآثار الكارثية المترتبة على اتفاقات أوسلو، ويُخضِعوا إسرائيل للمساءلة، ويضعوا استراتيجيات شعبية للصمود، بدلاً من الاكتفاء ببساطة “بحكم” السلطة الفلسطينية. ويحث وجيه أبو ظريفة الفلسطينيين على ترسيخ قواعد دولة فلسطين المعترف بها في الأمم المتحدة من خلال إنشاء مجلس تأسيسي.

هاني المصري

ليس مفروغاً منه أن الرئيس محمود عباس يستعد للرحيل، ولذا السؤال الذي من المفترض أن نبدأ بطرحه والإجابة عليه هو سيناريوهات بقاء عباس في الحكم. فهناك من الدلائل ما يكفي ويشير أن الأرجح أن يسعى الرئيس لتمديد رئاسته من خلال الإسراع بعقد مؤتمر فتح السابع الذي يستهدف تمديد وتجديد شرعية عباس وإغلاق الطريق على عودة دحلان للجنة المركزية كخليفة لعباس أو على الأقل كأحد اللاعبين المهمين في صناعة خليفته والتحكم به. ويعزز من سيناريو بقاء عباس عدم توفر البديل المتماسك الوطني؛ فالأشخاص المطروحون في غالبيتهم من المدرسة عينها وبعضهم أسوأ.

أما سيناريوهات ما بعد عباس، فهي متوقفةٌ على توقيت رحيله، أي إذا ما رحل عباس قبل عقد مؤتمر حركة فتح أو وانعقاد المجلس الوطني الفلسطيني أو نهاية الانقسام بين فتح وحماس أو عودة دحلان إلى فتح. فإذا رحل قبل المؤتمرـ سيكون الصراع على الخلافة شديدًا ويحتمل أن يقود إلى الفوضى والاقتتال، وقد ينجم عنه انهيار السلطة أو انقسامها إلى عدة سلطات أو إلى سلطة لحدية عميلة لإسرائيل. وإذا رحل عباس بعد الاتفاق على نائب للرئيس في فتح ونائب آخر في المنظمة وثالث للسلطة – بدلًا من الاستمرار بجمع المناصب الثلاثة في يد شخص واحد كما حصل منذ تأسيس السلطة الفلسطينية وحتى الآن – فإن ذلك سيقلل الفوضى على الأرجح.

تتوقف سيناريوهات ما بعد عباس أيضًا على كيفية رحيله، سواء بالاستقالة أو المرض أو الاغتيال. فإذا اغتيل الرئيس مثلاً على خلفية تهديد دحلان وإنذاره العلني بأنه لن يسمح لعباس باختطاف فتح من خلال اختطاف المؤتمر السابع، فسيفتح ذلك بوابة السيناريوهات الأسوأ. وهناك سيناريو أن يتحالف دحلان مع حماس أو ألاّ يحدث ذلك لأن حماس يمكن أن تغلِّب إدراكها أن عداء دحلان والحلف العربي الذي يستند إليه (مصر والسعودية والإمارات والبحرين) أكبر بكثير من عداء أبو مازن أو خصومته معها.

لدى الفلسطينيين الكثير مما يخشونه من الفراغ القيادي لأن اللاعبين الذين يمكن أن يملؤوا هذا الفراغ هم إسرائيل أولاً واللجنة العربية ثانياً والجهات التكفيرية والمتطرفة ثالثاً وحماس وغيرها من الفصائل الفلسطينية اليسارية أو الاسلامية رابعاً. ويبقى السيناريوهان المرجحان هما سيناريو تحكم إسرائيل أو عودة الوصاية العربية على الفلسطينيين، وكلاهما أسوأ من الآخر وخصوصًا أن الدول العربية المؤهلة والساعية لفرض الوصاية، مثل السعودية، تربطها علاقات وثيقة بإسرائيل وتتجه للمزيد من توثيقها تحت شعار محاربة الاٍرهاب والتكفير وإيران والإخوان المسلمين.

هناك الكثير مما يمكن عمله لقطع الطريق على السيناريوهات السيئة، يجب على القوى الفلسطينية السياسية اليسارية وغيرها وكذلك المجتمع المدني وشركات القطاع الخاص الوطني أن تستعيد خطاب التحرر الوطني وخطاب الحقوق، وأن تعيد تعريف المشروع الوطني وتعيد بناء الحركة الوطنية على أسس وطنية وديمقراطية توافقية ومشاركة سياسية حقيقية بهدف تنظيم الانتخابات على المستويات كافة. ولا بد للأطراف المشاركة ألا تنظر إلى الانتخابات كوسيلة لحسم الصراع الداخلي وإنما كتنافس ضمن إطار الوحدة.

إن الحوار حول هذه القضايا ينبغي أن يخرج من دائرة النخبة إلى الرأي العام عبر الإعلام ووسائل الاتصال الاجتماعي والمؤتمرات الشعبية والوطنية على المستوى المناطقي والوطني، ويمكن اللجوء أيضاً إلى العرائض والاعتصامات والمظاهرات.

نورا عريقات

يشرف محمود عباس على مؤسسة السلطة الفلسطينية التي لا تتأثر بتغير رئيس الدولة، حيث يتوقف سير عملها على الممولين والحراس الخارجيين، مثل الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، المعنيين بالحفاظ عليها لأسباب عديدة أبرزها أنها تضطلع بوظيفة إدارية تخفف الأعباء اليومية للاحتلال، وتساعد في احتواء الصراع. فضلًا على أن 40 في المائة من الفلسطينيين يعملون في القطاع العام، لذا من مصلحتهم أن يستمرَ الوضع الراهن الذي يكفل سبلَ عيشهم وبقاءهم، رغم إضراره بمصالحهم الهيكلية.

سوف نشهد في مرحلة ما بعد عباس على الأرجح تعيين زعيم انتقالي حتى يتسنى التخطيط للانتخابات. ومن الأسماء المتوقعة لخلافة رئيس الدولة شخصيات معروفة مثل محمد دحلان وجبريل الرجوب. وبالنظر إلى الدعم الخارجي والداخلي الذي يحظى به دحلان ومدى التهديد الذي يمثله على عباس وحرس فتح القديم، فإن ترشح دحلان أمرٌ واقعي بقدر ما هو مريع. وتشير المحاولات السابقة لاستبعاد قطاع غزة من الانتخابات، وتهميش الفرص الانتخابية لحركة حماس، إلى أن هذه الانتخابات ستبعث على النزاع.

تشتمل السيناريوهات الأسوأ على سيناريو انهيار السلطة الفلسطينية واستيلاء إسرائيل أو قوات حماس عليها. غير أنه من غير المرجح أن تجازف حماس بمواجهة إسرائيل مباشرة في الضفة الغربية ما لم تكن مستعدة لتصعيد آخر في قطاع غزة بالتزامن مع عدوان إسرائيلي على الضفة الغربية. وهذا مستبعد ما لم يكن من شأن المحصلة أن تعيد حسابات الوضع الراهن لصالح الحركة، وهذا ليس مرجحًا بالنظر إلى تضاؤل الدعم الشعبي لحماس في الضفة الغربية، وتكاليف العمل على جبهتين. الأرجح هو أن ينظم قادة حماس احتجاجات إبان الانتخابات، ويوظفونها لتعزيز شرعية حكمهم في قطاع غزة، عوضًا عن استخدام القوة.

سوف يستفيد الشعب الفلسطيني من الفراغ القيادي أكثر مما سيخسر، لأن الفراغ سيخلق فرصةً للتغيير، والتغير الهيكلي ضروري للتحرر الوطني الفلسطيني. سوف يتعين على القيادة الجديدة أن تتبرأ من الهياكل المضرة بالسلطة الفلسطينية، وتعلنَ بطلان إطار أوسلو، وتوقف التعاون الاقتصادي والأمني مع إسرائيل، وتصرَّ على مواصلة الكفاح من أجل التحرر.

تتوقف إعادة الهيكلة الجذرية هذه على التعبئة الشعبية لكتلة حرجة من الفلسطينيين، بيد أن تشكيل هذه الكتلة صار متعذرًا بسبب تفنن إسرائيل في تجزئة الفلسطينيين القانونية والسياسية والاجتماعية. ولا بد لمجموعة عوامل أن تجتمع بكيفية ما ودون ترتيب من أجل التغلب على هذا التشتت، ولَإن كان رحيل عباس عاملًا واحدًا من مجموعة العوامل هذه، فإنه وحده لا يكفي.

سوف يأتي التغيير في نهاية المطاف على الأرجح من كوادر الشباب الشعبية التي لا تدين بالفضل إلى الأطر المؤسسية الحالية، والتي تتمتع بمخيلةٍ أكبر وتخوف أقل من آفاق المستقبل. إن هذه الكوادر غير موجودة في الوقت الراهن، رغم وجود العديد من بذورها في المشهد الفلسطيني في إقرث وحيفا ورام الله والقدس وغزة ونابلس.

جميل هلال

لن تُسفر المؤسسات الوطنية الجامعة ذات الشرعية عن انتخاب زعيم بعد عباس لأن هذه المؤسسات معطلة. فالمجلس الوطني الفلسطيني لم ينعقد منذ إبرام اتفاقات أوسلو، بينما لا تزال مؤسسات السلطة الفلسطينية التشريعية والقضائية والتنفيذية منقسمة سياسيًا وجغرافيًا ومؤسسيًا منذ حزيران/يونيو 2007، مُذ سيطرت حماس على قطاع غزة. أمّا حركة فتح باعتبارها الحزب السياسي الحاكم فتشهد في الوقت الراهن انقسامات داخلية، حيث يعارض فصيل محمد دحلان زعامةَ عباس.

وكنتيجة لذلك، فإن نخبةً سياسية صغيرة ضمن القيادة الفتحاوية هي مَن سيقرر خليفة عباس، وليس الشعب الفلسطيني بعمومه. وبغياب المؤسسات الوطنية الممثلة للفلسطينيين في فلسطين التاريخية والشتات، لن يتسنى التوصل إلى حل مُرضٍ لمعضلة القيادة، بل سوف تظل هذه المعضلة مدعاة للنزاع حتى تؤسَّس مؤسسات وطنية تمثيلية. غير أن احتمالية تأسيس هذه المؤسسات مستبعدة بالنظر إلى الانقسام بين فتح وحماس.

إن أي صراع عنيف بين القوى على الزعامة داخل فتح سيعني تشرذمًا سياسيًا وجغرافيًا أكثر، وتدخلًا إسرائيليًا وإقليميًا ودوليًا أكثر في الشؤون الفلسطينية السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

الدخول في لعبة الأسماء المرشحة لخلافة عباس يصب في مصلحة إسرائيل والقوى الإقليمية والدولية المعنية بمكانتها والتي لا تهمها مصلحة الشعب الفلسطيني وحقوقه.

ينبغي للفلسطينيين أن يركزوا اهتمامهم على إعادة بناء التمثيل الوطني على أساسٍ جامع وديمقراطي بحيث يستوعب مكونات الشعب الفلسطيني كافة على أرض فلسطين التاريخية وخارجها. وينبغي أن يكون همّهم النضال من أجل الحقوق الجمعية للكل الفلسطيني، وليس مصير فرد أو جماعة ما. وعلى الفلسطينيين إعادة بناء مصادر القوة الذاتية الفلسطينية في مؤسسات وأطر ورؤى واستراتيجيات تُفضي إلى انتخاب قيادات سياسية ومجتمعية وثقافية أيضًا. وعلى هذه القيادات الجديدة أن تركِّز جهدها على توحيد الشعب الفلسطيني، حيثما كان، في صراعه الطويل من أجل حريته وحقه في تقرير المصير والخلاص من الاحتلال والاستعمار والاستيطان والتمييز العنصري وفي بناء وطنه والعودة إليه. وكل ما سوى ذلك لا يخرج عن التعمية والإلهاء وتبديد الجهد والوقت.

سام بحور

عندما توفي ياسر عرفات في 2004، احترم الفلسطينيون القانون الأساسي المعدل، فتولى المجلس التشريعي الفلسطيني ورئيسه السلطة لمدة 60 يومًا حتى أجريت الانتخابات. أمّا اليوم، فالمجلس التشريعي الفلسطيني غائب، ورئيسه من حماس، ولذلك لن يُحترمَ القانون الأساسي على الأرجح، بل ستُتَخذ “تدابير استثنائية” للحفاظ على السيطرة. قد يعني ذلك أن تتشاور اللجنة المركزية لحركة فتح ثم ترجع إلى اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ذات الهيمنة الفتحاوية، من أجل تنفيذ قرارها. وقد تطعن في هذا القرار فصائلُ منظمة التحرير الفلسطينية الأخرى، بعد أن فقدت كلَّ نفوذ ثانوي تمتعت به في السابق، ولكن ذلك سيُحدِث صدامًا مع المسؤولين الذين بات حضورهم السياسي اليوم ممكنًا. ولأن حركة فتح مجزأة بشدة اليوم، ليس من الواضح ما إذا كانت ستقدر على الاتفاق على شخصٍ واحد أو آلية واحدة للاضطلاع بدور القيادة. ولعل من الترتيبات الممكنة تقسيم العمل بين رؤساء السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية لإرضاء الأجندات الشخصية المتنافسة.

إن المخاوف مما هو قادم كثيرة. وفي مقدمتها الخوف من التدخل الإقليمي أو الدولي في القرارات الوطنية. وقد جرَّب الفلسطينيون ذلك بالفعل على مدى السنوات القليلة الماضية، وهذا التدخل قد يُسفر عن آثار مدمرة إذا مكث أو تمدد. وثمة تخوف آخر من أن قيادة السلطة الفلسطينية قد تحاول الاستيلاء على السلطة، مستغلةً مواردها، والاعتراف الدولي بها، وأجهزتها الأمنية. وتخوفٌ آخر هو أن يحاول أحد رؤساء الأجهزة الأمنية تولي زمام السيطرة السياسية، بيد أن هذا ليس مرجحًا لأن أيًا من الأجهزة الأمنية مكتفٍ ذاتيًا. وأخيرًا هناك التهديد بأن تزرع إسرائيل أحد عملائها في دور القائد. وما هو أرجح من ذلك هو أن تعلن إسرائيل إقامة دولة للفلسطينيين في غزة بينما ترسخ وجودها في الضفة الغربية، ولربما من خلال ضمها بالكامل. فإذا نهجت إسرائيل هذا النهج، ورضيت حماس في غزة بتلك الخطوة، سيغدو الانقسام الحالي متعذرَ الإصلاح.

حفاظًا على النزاهة التمثيلية القليلة التي لا تزال في النظام السياسي الفلسطيني، وللتصدي للتهديدات المذكورة أعلاه، لا بد أن يطالب الفلسطينيون بإجرائين فوريين: 1) أن يدعو عباس لانتخابات تعيد المجلس التشريعي الفلسطيني الذي – رغم تمثيله الفلسطينيين في الضفة الغربية فقط – فإنه يمكن البناء عليه بسرعة وأن يحظى ببعض الشرعية الشعبية،2 2) أن تنعقد لجنة القيادة المؤقتة في منظمة التحرير الفلسطينية، والتي تشمل المنظمة وسائر الفصائل الوطنية، وأن تُكلَّف بالسماح بتشكيل أحزاب سياسية جديدة والاعتراف بها. وهذا من شأنه أن يضعَ مسارًا لإعادة ضبط النظام السياسي الفلسطيني من خلال التمثيل النسبي بواسطة أعلى هيئة في منظمة التحرير الفلسطينية ألا وهي المجلس الوطني الفلسطيني.

جابر سليمان

سوف نواجه بعد عباس سيناريوهين رئيسيين: السيناريو الأول يذهب باتجاه الفوضى، حيث أن غياب الرئيس الذي تفرد بالسلطة والقرار، وضعف أدوات النظام السياسي الفلسطيني ومكوناته وعجزها عن إعادة تجديد شرعياتها المنتهية، ينذر بتحويل الصراع على السلطة من خانة الخلاف السياسي المشروع على البرنامج الوطني واستراتيجياته إلى خانة الاقتتال وتعميق الانقسام، ما سيسفر على الأرجح عن انفصال كامل بين سلطتي غزة ورام الله، بل وقد يمتد مشهد الانقسام إلى الضفة الغربية بسيطرة حماس على جنوب الضفة. يتغذى هذا السيناريو من التدخلات العربية، ولا سيما الرباعية العربية، والتدخلات الإقليمية في الشأن الفلسطيني الداخلي. ولا نستبعد هنا دور العدو الإسرائيلي الذي يملك كل أسباب القوة للدفع في هذا الاتجاه الذي يخدم مصلحته ويؤكد ادعائه بأن الفلسطينيين عاجزين عن إدارة أنفسهم، وغير جديرين بسلطة، ناهيك عن دولة.

سوف يبلغ هذا السيناريو أوجه بانهيار السلطة الفلسطينية، وسوف يتسبب في هجرة أو تهجير واسعين باتجاه الضفة الشرقية، مما سيحيي على الأرجح بعض المشاريع المشبوهة مثل مشروع “التقاسم الوظيفي” الذي اقترحه شمعون بيريز لمشاركة الحكم مع الأردن أو مصر، ولكن بشكل جديد تحلُّ فيه السلطة الفلسطينية/منظمة التحرير الفلسطينية محل الأردن أو مصر. سوف تترتب على هذا السيناريو آثار كارثية على وحدة الفلسطينيين في لبنان، ولا سيما أنهم بالكاد استطاعوا تجنب تداعيات الانقسام، والدعوة إلى أجندة وطنية موحدة تسعى إلى إحراز الحقوق الفلسطينية غير القابلة للتصرف، بالإضافة إلى نضالهم لنيل حقوق الإنسان الأساسية في لبنان.

يتمثل السيناريو الثاني في الانتقال السلمي للسلطة من خلال تشكيل قيادة وطنية مؤقتة تستند إلى الأسس الوطنية التي تمّ التوصل إليها في اتفاقات المصالحة كاتفاق القاهرة وغيره. سوف يتعين على هذه القيادة تصحيح العلاقة الملتوية والملتبسة بين المنظمة والسلطة، باعتبار السلطة مجرد أداة من أدوات منظمة التحرير وليس العكس. وسيتوجب عليها أيضًا إجراء إصلاح حقيقي في أطر منظمة التحرير الفلسطينية وهياكلها وعلى رأسها المجلس الوطني الفلسطيني، وفي بنى السلطة وأجهزتها وعلاقتها بالدولة وآلية اتخاذ القرار على أسس ديموقراطية.

سوف يواجه هذا السيناريو عراقيل وعقبات من جانب إسرائيل وبعض الأطراف العربية لأنهم يفضلون التحكم “بالورقة” الفلسطينية. وبالتالي لا يتطلب هذا السيناريو إرادة سياسية من كافة الفصائل الوطنية، وبخاصة فتح وحماس، وحسب بل يتطلب أيضًا تعبئة الأغلبية الفلسطينية “الصامتة”، أي تحرك الأطر الوطنية الشعبية باختلاف تعبيراتها وتلاوينها في فلسطين والشتات، لحشد كتلة وازنة يكون بمقدورها ممارسة الضغط على الفصائل مجتمعة لترجيح سيناريو الانتقال السلمي للسلطة وإعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني ومؤسساته الوطنية على أسس ديموقراطية.

ديانا بطو

تشمل السيناريوهات الممكنة بعد عباس الانتقال السلمي للسلطة إلى رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني، أو نشوب صراعٍ على السلطة بين شخصيات داخل حركة فتح أو منظمة التحرير الفلسطينية يُفرز “قيادات” متعددة، أو حدوث فراغ في السلطة إلى حين عقد الانتخابات. وبالنظر إلى الفوضى التي أحدثها عباس وما رافقها من اضطراب وتشوش في الأحزاب السياسية الفلسطينية، فإن من المستبعد أن تُنظَّم الانتخابات في وقت قريب.

ينبغي أن يعكف القادة الفلسطينيون حاليًا على المصالحة مع حماس، ووضع الترتيبات لسلطة/منظمة ما بعد عباس التي من شأنها أن تطرح استراتيجية لتحرير فلسطين والبدء في تمثيل الفلسطينيين داخل إسرائيل. ترتأي الاستراتيجية أن يوجد قادةٌ جدد يُصلِحون الآثار الكارثية المنبثقة من اتفاقات أوسلو، ويُخضِعون إسرائيل للمساءلة، ويضعون استراتيجيات شعبية للصمود، بدلاً من الاكتفاء ببساطة “بحكم” السلطة الفلسطينية.

يستطيع الطيفُ السياسي الفلسطيني ومنظمات المجتمع المدني استغلالَ فرصة تغير القيادة لإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية لتمثلَ المجتمع الفلسطيني، والجيل الجديد الصاعد. ستنطوي هذه الاستراتيجية على الاستفادة من قوة الشعب الفلسطيني ككل ومن تحركاته، وعلى نبذ المفاوضات الثنائية العقيمة. وكخطوة أولى، يتعين على فلسطين أن تكسر قيود الابتزاز المالي الذي يُلزم السلطة الفلسطينية / منظمة التحرير الفلسطينية بهذه المفاوضات الثنائية. وفضلًا على ذلك، فإن المنظمة ستخطو بإشراك الفلسطينيين في إسرائيل خطوتَها الأولى لتصبحَ ممثلا للفلسطينيين كافة بالفعل لا بالقول فقط بينما تهمش الفلسطينيين القاطنين في الضفة الغربية وقطاع غزة.

إن من شأن الفراغ القيادي أن يلهينا كثيرًا عن التركيز على هذه الاستراتيجية، وهو في الواقع حلم إسرائيل الذي يسمح لها بزرع الفرقة بين الفلسطينيين والتسيُّد عليهم واستغلال زمن الفوضى في بناء مستوطنات أكثر.

وجيه أبو ظريفة

إذا بقي عباس في السلطة على المدى القصير، فإن أول سيناريو محتمل هو إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس كما ينص اتفاق القاهرة. غير أن هذا الخيار مستبعد في ظل الانقسام العميق وانعدام الثقة بين فتح وحماس. السيناريو الثاني هو إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية حيثما أمكن، أي في الضفة الغربية إذا قررت غزة مقاطعتها. غير أن هذا الخيار مستبعدٌ أيضًا لأن من شأنه أن يرسخ الانقسام وربما يدفع نحو الانفصال، فضلاً على أن إسرائيل قد لا توافق على اجراء الانتخابات في القدس، مما سيرسخ انفصال القدس.

أما السيناريوهات الممكنة في حال غاب عباس فتشتمل على أن يتولى رئيس المحكمة الدستورية رئاسة السلطة الفلسطينية إلى حين إجراء الانتخابات، أو أن يحول منصب رئيس السلطة الفلسطينية إلى اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير وقد يتولاه أمين سر المنظمة بصفة مؤقتة. ومع ذلك، هنالك سيناريو واحد فقط عملي ومنطقي أكثر رغم أنه ليس دستوريًا ولا قانونيًا: تحويل صلاحيات رئاسة السلطة الفلسطينية إلى رئيس الحكومة بصفته مسؤول السلطة التنفيذية، على أن تنظم انتخابات رئاسية وتشريعية في غضون 60 يومًا. وهذا الخيار يتطلب وفاقًا وطنيًا.

الإشكالية في هذا الخيار الأكثر منطقية تكمن في أن تنفيذه أشبه بالمستحيل في ظل المعطيات الحالية وفي ظل حالة الانقسام. لذا لا بد من دعوة كافة القوى السياسية إلى حوار حقيقي وجاد حول وضع الآليات المناسبة للتغلب على الانقسامات، وتنفيذ اتفاق القاهرة، وإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية قبل غياب عباس. ويتعين على الفلسطينيين كذلك عقد الإطار القيادي المؤقت لمنظمة التحرير الفلسطينية ولجنة إصلاح المنظمة من أجل تجديد المجلس الوطني الفلسطيني وعقد جلسة له تضم الأطراف كافة بما فيها حركة حماس والجهاد الإسلامي. ولا بد أيضًا من تشكيل المجلس المركزي واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية واختيار رئيس جديد لها. وفي الأجل البعيد، ينبغي أن يعمل الفلسطينيون على ترسيخ وجود دولة فلسطين التي اعترفت بها الأمم المتحدة من خلال تشكيل مجلس تأسيسي للدولة الفلسطينية يضم أعضاء المجلس المركزي والمجلس التشريعي والحكومة واللجنة التنفيذية بهدف صياغة دستور فلسطيني واختيار رئيس لدولة فلسطين.

  1. تتوفر كافة إصدارات الشبكة باللغتين العربية والانجليزية (اضغط/ي هنا لمطالعة النص بالإنجليزية). لقراءة هذا النص باللغة الفرنسية، اضغط/ي هنا. تسعد الشبكة لتوفر هذه الترجمات وتشكر مدافعي حقوق الإنسان على هذا الجهد الدؤوب، وتؤكد على عدم مسؤوليتها عن أي اختلافات في المعنى في النص المترجم عن النص الأصلي.
  2. يدافع هيثم الزعبي عن هذا الطرح في مقالة رأي منشورة بعنوان “مشورة دستورية هادئة إلى سيادة الرئيس الفلسطيني،” صحيفة القدس، 20 تموز/يوليو 2013.
وجيه ابو ظريفة صحفي وباحث وأستاذ للعلوم السياسية في غزة وزميل معهد السياسة في جامعة شيكاغو. حاصل على درجة الدكتوراة من معهد البحوث والدراسات العربية بالقاهرة...
نورا عريقات هي أستاذة مساعدة في جامعة جورج مايسون في مادة الدراسات القانونية والدولية، وتركز في بحثها على قضايا حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية. وهي محامية...
يقطن سام بحور مدينتي البيرة ورام الله في فلسطين. ويعمل في تقديم الاستشارات التجارية وإدارة المعلومات التطبيقية، وهو مختص في تطوير قطاع الأعمال وتحديدًا قطاع...
جميل هلال هو باحث اجتماعي وكاتب فلسطيني مستقل. نشر العديد من الكتب والمقالات عن المجتمع الفلسطيني، الصراع العربي الإسرائيلي، وقضايا الشرق الأوسط. شغِل هلال، وما...
جابر سليمان هو باحث ومستشار مستقل في مجال دراسات اللجوء واللاجئين. منذ العام 2011، يعمل كمستشار ومنسق لمنتدى الحوار الفلسطيني اللبناني في مبادرة الفضاء المشترك،...
هاني المصري هو مدير عام المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية (مسارات). وهو المؤسس والمدير العام للمركز الفلسطيني للإعلام والأبحاث والدراسات (بدائل) في الفترة 2005...
ديانا بطو هي محامية، شغلت منصب مستشارة قانونية سابقة لوفد المفاوضات الفلسطيني. كانت واحدة من الفريق الذي ساعد في انجاح الدعوى الخاصة بالجدار امام محكمة...
علاء الترتير، مستشار سياسات وبرامج لدى الشبكة: شبكة السياسات الفلسطينية، ومدير وباحث رئيسي في برنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام. الترتير هو...

أحدث المنشورات

 السياسة
بعد عام من المعاناة تحت وطأة العنف والدمار المستمرين ، يقف الفلسطينيون عند لحظة مفصلية. تتناول يارا هواري، في هذا التعقيب، الخسائر الهائلة التي تكبدها الشعب الفلسطيني منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023 والفرص المنبثقة عنها للعمل نحو مستقبل خالٍ من القمع الاستعماري الاستيطاني. وترى أنّ الوقت قد حان الآن لكي تتحول الحركة من رد الفعل إلى تحديد أولوياتها الخاصة. وكجزء من هذا التحول، تحدد يارا ثلاث خطوات ضرورية: تجاوز التعويل على القانون الدولي، وتعميق الروابط مع الجنوب العالمي، وتخصيص الموارد لاستكشاف الرؤى الثورية لمستقبل متحرر.
Al-Shabaka Yara Hawari
يارا هواري· 22 أكتوبر 2024
منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، قتلت القوات الإسرائيلية ما يزيد عن 40,000 فلسطيني في غزة، وجرحت 100,000 آخرين، وشرَّدت كامل سكان المنطقة المحتلة تقريبًا. وفي ذات الوقت شرَعَ النظام الإسرائيلي في أكبر اجتياح للضفة الغربية منذ الانتفاضة الثانية مما أدى إلى استشهاد ما يزيد عن 600 فلسطيني واعتقال 10,900 آخرين. كما وسعت إسرائيل نطاق هجومها الإبادي الجماعي في لبنان، مما أسفر عن مقتل ما يزيد على ألف شخص ونزوح أكثر من مليون آخرين. يسلط هذا المحور السياساتي الضوء على مساعي الشبكة في الاستجابة لهذه التطورات على مدار العام الماضي، من وضع أحداث السابع من أكتوبر في سياق أوسع للاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، إلى استجواب آلة الحرب الإسرائيلية متعددة الأوجه، إلى تقييم العلاقات الإقليمية المتغيرة بسرعة. هذه المجموعة من الأعمال تعكس جهد الشبكة المستمر في تقديم رؤية فورية للوضع الفلسطيني.
لا تنفك شركات الأسلحة البريطانية تتربّح من بيع الأسلحة لإسرائيل من خلال التراخيص الصادرة من الحكومة البريطانية، حيث بلغ إجمالي هذه الصادرات منذ العام 2008 ما يقدر بنحو 740 مليون دولار، وهي ما تزال مستمرة حتى في ظل الإبادة الجماعية الجارية في غزة. يشعر البعض بتفاؤل حذر إزاء احتمال فرض حظر على الأسلحة بعد فوز حزب العمال في انتخابات يوليو/تموز 2024، وبعدَ أن وعدَ بالانسجام مع القانون الدولي. في سبتمبر/أيلول 2024، علقت الحكومة البريطانية 30 ترخيصاً من أصل 350 ترخيصاً لتصدير الأسلحة إلى إسرائيل. ويرى الناشطون وجماعات حقوق الإنسان أن مثل هذا القرار محدود للغاية. وبناء على ذلك، تُفصِّل هذه المذكرة السياساتية الالتزامات القانونية الدولية الواقعة على عاتق بريطانيا وكذلك المناورات الحكومية الممكنة فيما يتصل بمبيعات الأسلحة لإسرائيل.
شهد الحموري· 15 سبتمبر 2024
Skip to content