يفترض هذا السيناريو استمرارَ الظروف الاقتصادية في الضفة الغربية وغزة كما كانت في السنوات القليلة الماضية. ويمكن إيجاز هذه الظروف بما يلي.1
تأثيرات جائحة كوفيد-19
بعد سنوات من السياسات النيوليبرالية المشفوعة بتدفق المساعدات الدولية بين عامي 2008 و2013 والتي أوجدت وهم النمو والتنمية في ظل الاحتلال، دخلت الأنشطة الاقتصادية في حالة انكماش، حيث انخفض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في الضفة الغربية وغزة بين 0.8% و1.3% في الفترة بين 2017 و2019. وقد أثَّرت جائحة كوفيد-19 تأثيرًا شديدًا في النشاط الاقتصادي في الضفة الغربية وغزة، حيث أشارت تقديرات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني لعام 2020 إلى انخفاض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 13.7%، وفقدان نحو 14% من العاملين وظائفهم على نحو مؤقتٍ أو دائم.
ارتفع معدل البطالة من 25.3% في 2019 إلى 25.9% في 2020. وتجدر الإشارة إلى أن هذا الارتفاع الطفيف يُعزى إلى انخفاض المشاركة في القوى العاملة من 44% في 2019 إلى 41% في 2020. وكان هذا الانخفاض أعلى بكثير في غزة منه في الضفة الغربية، حيث انخفضت المشاركة من 46% إلى 44% في الضفة الغربية ومن 41% إلى 35% في غزة. ويعكس انخفاض المشاركة في القوى العاملة ارتفاع عدد العمال اليائسين الذين لا يرون أملًا في الحصول على فرصة عمل في المستقل القريب.
ومنذ تفشي وباء كوفيد-19، دأب الاقتصاديون على مناقشة شكل التعافي، بوصفه إمّا تعافيًا سريعًا على شكل الحرف (V) أو تعافيًا بطيئًا على شكل الحرف (L)، مع العلم أن الاقتصاد الفلسطيني مُقيَّد من حيث وصوله إلى الموارد بسبب الاحتلال الإسرائيلي. بالإضافة إلى ذلك فقد تزامنت الجائحة مع مرور السلطة الفلسطينية في أزمة مالية بسبب احتفاظ إسرائيل بإيرادات المقاصة المتأتية من ضرائب الجمارك وضريبة القيمة المضافة. ونتيجةً لذلك، وكما يوضح الشكل أدناه، اتخذَ تعافي الاقتصاد الفلسطيني شكل الحرف (K)، حيث تعافت بعض القطاعات بسرعة أو حتى استفادت في الربعين الثالث والرابع من العام 2020، بينما لا تزال القطاعات الأخرى متخلفةً كثيرًا عن مستوياتها المسجلة في العام 2019.
اتسَع النشاط الاقتصادي لقطاع الصحة الفلسطيني، مثلًا، مع تفشي الوباء، بينما كان قطاعا البناء والخدمات الأشد تضررًا، والأقل فرصةً في التعافي. وشهدَ قطاعُ الزراعة وصيد الأسماك تراجعًا مستمرًا منذ الربع الثاني من العام 2020. وبخلاف القطاعات الأخرى، استمر تراجعه في الربعين الثالث والرابع، حيث سجَّلت القيمة المضافة لهذا القطاع في الربع الرابع تراجعًا بنحو 20% مقارنةً بالربع الرابع من العام 2019. ويُعزى التراجع المستمر في النشاط الزراعي إلى القيود المفروضة على الوصول إلى الأراضي الزراعية في المنطقة (ج) من الضفة الغربية، ومصادر المياه، ومصايد الأسماك في غزة، بالإضافة إلى تقاعس السلطة الفلسطينية عن وضع سياسات لمساعدة القطاع الزراعي. وقد غدت القطاعات الأكثرُ تقييدًا أقلَّ قدرةً على التعامل مع الصدمات المفاجئة.
الشكل (1): تغير النسبة السنوية والربعية للقيمة المضافة في القطاع الاقتصادي بين عام 2019 وعام 2020.
تعافت قطاعات الصحة والتعليم والقطاع المالي وقطاع المعلومات والاتصالات، والتي تُشغِّل العمالة من ذوي الأجور المرتفعة، تعافيًا سريعًا أو كانت أقل تضررًا من الأزمة. وفي المقابل، كان تعافي قطاعات الزراعة والبناء والتصنيع والتجارة والقطاعات الخدمية الأخرى، التي تميل إلى تشغيل العمالة من ذوي الأجور المتدنية، تعافيًا أبطأ بكثير. إنّ غياب التكافؤ في وتيرة التعافي بين القطاعات على هذا النحو سوف يؤدي إلى اتساع فجوة اللامساواة في الفرص وتوزيع الدخل.
كذلك فقد تدهورت الأوضاع الاقتصادية في غزة في السنوات الأربع الماضية، وتفاقمت بسبب الجائحة في العام 2020. وبحسب تقديرات البنك الدولي، ارتفعَ معدلُ الفقر في غزة بعد العدوان الإسرائيلي على غزة في أيار/مايو 2021 لتصل نسبته 50-60% من الأسر، ويعاني ما يزيد على ثلثي الفلسطينيين في غزة من انعدام الأمن الغذائي. وتقدِّر لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا) بأن يطالَ الفقرُ نحو ثلثي الفلسطينيين في غزة في السنوات الست المقبلة إذا لم يُرفَع الحصار. ومن المتوقع أن يستمرَ تدهور الظروف الحياتية والمعيشية في غزة حتى إذا لم تقع هجمات عسكرية إسرائيلية أخرى.
ونظرًا لهشاشة القطاعات الإنتاجية الفلسطينية، يغدو الاقتصاد الفلسطيني أكثر عرضةً للتأثر بالصدمات السياسية أو الاقتصادية أو المالية المستقبلية. وبسبب ضعف الاقتصاد، سيُضطرُ الفلسطينيون إلى البحث عن فرص عمل في أراضي 1948 والمستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، حيث سيخضعون لسياسة التصاريح الإسرائيلية.
الواقع الاقتصادي بعد أوسلو
ما انفك العجزُ التجاري في فلسطين يتنامى منذ توقيع اتفاقات أوسلو، حيث كان حجم الواردات قد تضاعف بحلول العام 2019 أربع مرات عن مستواه في العام 1995. ولا بد من تمويل العجز التجاري من خلال تدفقات رؤوس الأموال من الخارج. وهذا ما حصل، فمنذ تأسيس السلطة الفلسطينية سنة 1994، رسَّخت المساعدات الدولية المقدمة للفلسطينيين اعتمادَهم على الاقتصاد الإسرائيلي وسياسات الاحتلال. وبالرغم من تراجع المساعدات الدولية في السنوات الأخيرة بسبب قرار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب تعليقَ التمويل المقدم للسلطة الفلسطينية ووكالة الأونروا، استأنفت الإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة جو بايدن المساعدات. وفي حين أن استئناف المساعدات للأونروا سيساعدها في استئناف بعض خدماتها واستدامتها، ولا سيما في غزة، إلا أن أثر المساعدات الدولية على الفلسطينيين يظلُّ موضع نقاش. فمن دون إعادة توزيع المساعدات لتطوير القطاعات الإنتاجية، ومن دون وجود الإرادة السياسية لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، لن تؤدي المساعدات إلا إلى زيادة الاستهلاك وتدهور القطاعات الإنتاجية.
وكنتيجةٍ لتنامي العجز التجاري، سجَّل قطاعُ التجارة الفلسطيني توسعًا مستمرًا منذ العام 2008. وفي ظل اندثار القطاعات الإنتاجية، زادت مساهمة قطاع التجارة، المعني في الغالب باستيراد المنتجات، في الناتج المحلي الإجمالي الفلسطيني، حيث بلغت 21.3% في 2019 مقارنة بـ 9% في 2008. وهذا القطاع الوحيد الذي ما فتئ يسجِّل زيادةً في متوسط إنتاجية العمالة منذ العام 2001. وقد بلغت تلك الإنتاجية ذروتها بين عامي 2010 و2011، تزامنًا مع الزيادة في تقديم التسهيلات الائتمانية الخاصة للفلسطينيين. غير أن زيادة الإنتاجية التي لا تقابلها زيادةٌ في الأجور بالمعدل ذاته تستتبع تنامي التفاوتات وتركيز الثروة في أيدي المتاجرين مع إسرائيل.
أدى توسع قطاع التجارة إلى نشوء طبقة جديدة من النخبة في الضفة الغربية، الذين يستفيدون من الإدارة المدنية الإسرائيلية من خلال التصاريح الخاصة، حيث يُسمَح لأفراد أُسرهم وموظفيهم بدخول أراضي 1948 بترتيبات خاصة. وهذا يُسهم في إغراق السوق الفلسطينية بالمنتجات الإسرائيلية التي يُباع الكثير منها بأسعار منخفضة نسبيًا، ولا سيما المنتجات الزراعية، مما يُلحق الضرر الكبير بالمنتجين الفلسطينيين المحليين. فضلًا على أن هيمنة نخبة التجار على قطاع التجارة تُعزز نفوذهم السياسي.
يتفاقم مستوى التأثر بالمخاطر المالية بسبب توسع العمل بالتسهيلات الائتمانية الخاصة منذ التوجه النيوليبرالي في حقبة ما بعد أوسلو، أي أن التوسع في الإقراض أفضى إلى زيادة القروض المتعثرة، التي ارتفعت نسبتها في السنوات الأربع الماضية من 2.32% في 2017 إلى 4.2% في 2020. لا تُعدّ التسهيلات الائتمانية الخاصة منتجة، حيث صُرفت 22.9% من القروض الخاصة في العام 2020 لغايات استهلاكية ولتمويل شراء المركبات، و23% لغايات التمويل الإنشائي والعقاري. وبلغت التسهيلات الائتمانية للأنشطة التجارية زهاء 19% من التسهيلات الائتمانية الخاصة. إن انقطاع دخل الأسرة يعني عجزها عن سداد قروضها الاستهلاكية أو العقارية. وقد ينقطع دخل الأسرة بسبب عجز السلطة الفلسطينية عن دفع الرواتب لعدة أشهر، أو بسبب القيود الإسرائيلية المفروضة على التنقل وبالتالي الوصول إلى أماكن العمل في أراضي 1948، أو بسبب صدمة خارجية تؤثر في إنتاجية القطاعات مثل جائحة كوفيد-19. وعلى سبيل المثال، أفادت سلطة النقد الفلسطينية، بأن نسبة الشيكات المرتجعة ارتفعت في بداية الجائحة من 11% في آذار/مارس 2020 إلى 40.7% في نيسان/أبريل 2020.
عملت أوسلو كذلك على مأسسة اعتماد الاقتصاد الفلسطيني على النظام الإسرائيلي، بما في ذلك من خلال الإدارة المدنية الإسرائيلية. وبالرغم من أن دور هذه الإدارة تقلَّصَ في فلسطين بعد اتفاقات أوسلو عام 1993، إلا أن هيكلتها الجديدة جعلت منها شبه حكومة في الضفة الغربية. فلم يعد دورها مقتصرًا على إصدار تصاريح للعمال والمرضى والبناء، وإنما غدت تضع الخطط والميزانيات التفصيلية. وعلى سبيل المثال، تعمل الإدارة المدنية حاليًا مع المزارعين الفلسطينيين في المنطقة (ج)، حيث تمكِّنهم من الوصول إلى المياه، والبنية التحتية، والفسائل. ونظَّمت الإدارة المدنية الإسرائيلية أيضًا مشروعًا، تحت إشراف الرباعية الدولية، لتسهيل حركة المنتجات بين إسرائيل ومجموعة مختارة من رجال الأعمال الفلسطينيين. ويسعى هذا المشروع إلى تبسيط وتسريع سفر الفلسطينيين وصادراتهم وإلى زيادة الإشراف الإسرائيلي على عملية الإنتاج.
إن الاعتماد الاقتصادي على النظام الإسرائيلي ليس ناجمًا فقط عن الاحتلال العسكري، بل هو عملية مُأسسة آخذة بالتوسع والتغول على دور السلطة الفلسطينية في تنظيم النشاط الاقتصادي الفلسطيني. تُعدُّ التجارة مع إسرائيل من السمات المهمة لهذا الاعتماد الاقتصادي على إسرائيل، حيث تُشكل الواردات من إسرائيل نحو 60% من الواردات إلى الضفة الغربية وغزة، وتمثل الصادرات إلى إسرائيل نحو 83% من الصادرات الفلسطينية. وهكذا فإن الأسر والشركات الفلسطينية تعتمد اعتمادًا شديدًا على سهولة التجارة مع إسرائيل، والتي تخضع بدورها للقرارات السياسية التي تتجلى في سياسات الإغلاق الإسرائيلية والتأخيرات في عمليات التفتيش الأمني في الموانئ الإسرائيلية.
وفي ظل تدهور القطاعات الإنتاجية المستمر، وهيمنة نخبة التجار الفلسطينيين الفاسدين على القطاع التجاري، يزداد عمال الطبقة الوسطى فقرًا، ويتجهون إلى العمل في السوق الإسرائيلية أو قطاع التجارة، وفي كلتا الحالتين، يخضعون على نحو متزايد إلى نظام السيطرة الإسرائيلي، وسيظلون كذلك طالما استمر الوضع الراهن.