انهيار السلطة الفلسطينية قد يقود إلى ميلاد حالة كفاحية جديدة، وفي ذات فإنّه يمكن القول إن ميلاد الحالة الكفاحية في ظل وجود السلطة قد يؤدي إلى انهيارها. مضافاً إلى ذلك فإن تصاعد المواجهة الجماهيرية مع الاحتلال واندلاع انتفاضة فلسطينية جديدة ستعزّز من فرص تحقّق السيناريو الثالث، والذي يشير إلى إمكانية بعث وإصلاح منظمة التحرير الفلسطينية، فما عجزت عنه الفصائل حتى اللحظة، قد تقوم به تحت وطأة ضغط الشارع المنتفض.
الحديث عن أي انتفاضة فلسطينية مقبلة دائماً ما يأتي مستلهماً تجارب فلسطينية سابقة وتحديداً من الانتفاضتين الأولى والثانية. ولكن الحديث انطلاقاً من تجربتين سابقتين يتجاهل إمكانية تشكّل حالة كفاحية جديدة على شكل انتفاضة مختلفة عمّا سبقها، إذ لا يمكن تصوّر تكرار ذات التجربة في ظلّ تبدّل الكثير من العوامل، أهمّها “الانسحاب” الإسرائيلي من غزة، وتأزّم حالة الوجود الفلسطيني في بعض دول الشتات، وإعادة التحام فلسطينيي الأراضي المحتلة عام 1948 مع القضية الوطنية الفلسطيني بشكل إجرائي، وهيمنة قوات الأمن في الضفة الغربية.
إذ لم يعد هناك احتكاك مباشر ما بين الفلسطينيين والمستوطنين أو العسكر الإسرائيلي، وأي مواجهة أو التحام تعني الدخول في مواجهة عسكرية، كما حصل في حالات العدوان المتكررة على غزة، ولذلك فإنّ انخراط أهل غزة في أي انتفاضة فلسطينية جديدة سيكون مختلفاً من حيث طبيعة المشاركة، والتي قد تكون على شكل كفاح عسكريّ عن طريق قصف الصواريخ أو من خلال مواجهة عسكرية مع جيش الاحتلال في حالات اقتحام غزة برّاً. أما المقاومة الشعبية فستكون على شكل مسيرات ووقفات احتجاجية بالقرب من السياج الحدودي، وفي فترات محددة من الأسبوع أو الشهر، لصعوبة تكرارها يومياً، ومن المرجّح أن يكون تدخل غزة في أي حالة كفاحية قادمة على شكل فعلٍ عسكريّ محدود ومساند للمقاومة الشعبية الفلسطينية في أماكن أخرى، تماماً كما حصل خلال معركة سيف القدس المساندة للمقاومة الشعبية في الشيخ جراح، وفي الأراضي المحتلة عام 1948.
بالرغم من أن وجود الفلسطينيين في دول الطوق العربي لم يخل من المشاكل يوماً، إلّا أن السنوات الأخيرة حملت معها أزمات جديدة مرتبطة بالتحوّلات العميقة في المشرق العربيّ، وتحديداً في سوريا ولبنان، وهو الأمر الذي أعاد إلى الفلسطينيين في الخارج الإحساس بأنّهم يجب أن يكونوا جزءاً من الحالة النضالية الفلسطينية التي قد تفضي إلى تحقيق مخرج لهم ممّا هم فيه. ورغم أنّ إمكانيات وآفاق عمل الحركة الوطنية الفلسطينية في الخارج محدودة جداً، إلّا أن مستوى تفاعل الفلسطينيين في دول الطوق مع الأحداث في داخل فلسطين بات أكبر، وبدأت فكرة التوجّه نحو الحدود تطبّق تدريجياً بما تحمله هذه الخطوة من رسائل واضحة بأنّ حل قضية اللاجئين ستكون بالعودة لا بسواها، وأنّ القضية الفلسطينية أوسع من قضية الضفة وغزة، وكذلك الحالة النضالية الفلسطينية من المفترض أن تشمل الكل الفلسطيني. وعليه، فإنّ أي انتفاضة فلسطينية جديدة ستشمل انخراط فلسطينيين الشتات فيها، سواء على شكل حشد الدعم الماديّ، أو المناصرة المعنوية، أو حتى في مراحل لاحقة ممارسة الفعل النضاليّ بما تتيحه الإمكانيات.
فبعد عقود طويلة من محاولات تقليص التفاعل الفلسطيني في الداخل المحتل ليقتصر على التضامن المعنوي بشكل أساسي، فيما الفعل السياسي يركّز على تحصيل حقوق مدنيّة من داخل أروقة المؤسسة الصهيونية، بتنا نشهد توجّهات جديدة وتحديداً في أواسط الشباب الفلسطيني. فقد غابت ثقتهم بإمكانية تحصيل حقوق مدنية متساوية، وتحديداً في ظل قوانين تهويد دولة الاحتلال وتحوّل اليمينية من تيار إسرائيلي، إلى تيار يحتكر الهوية الصهيونية. وقم تم إعادة تعريف القضية في ذهن الفلسطيني، بحيث يجري التخلّص تدريجياً من وهم اعتبار القضية مسألة حقوق مدنية، إلى قضية وطنية وجودية في مواجهة استعمار استيطاني. هذا التعريف يدرك اختلاف أدوات القمع والضبط والسيطرة التي يستخدمها الاستعمار الاستيطاني تجاه مكونات الشعب الفلسطيني في مختلف أماكن تواجدهم وبدأ يتفاعل مع الأحداث وفقاً لهذا الإدراك، تفاعل انتقل بالفلسطيني في الأرض المحتلة عام 1948 من موقع المتضامن إلى موقع المشارك الأساسي في النضال الفلسطيني الموحّد ضد المشروع الصهيوني.
هذه التوجّهات الجديدة ستكون القاعدة التي ستنطلق منها مشاركة أهل الأرض المحتلة عام 1948 في أي انتفاضة فلسطينية جديدة، وستكون المشاركة ذات أوجه عدّة، كالمسيرات والاحتجاجات والالتحام المباشر مع سلطات الاحتلال في المناطق المختلطة، وشلّ حركة العمل والاقتصاد خلال الإضرابات والمقاطعة الاقتصادية، لتتطور لاحقاً إلى فعاليات دائمة تؤثر على مجرى الحياة اليومية للصهيوني.
شهدت نهايات الانتفاضة الفلسطينية الثانية إعادة بناء الأجهزة الأمنية الفلسطينية بإشراف أميركي مباشر، حوّلت عقيدتها العسكرية من وطنية إلى وظيفية، وقد تنامى دورها بشكل كبير خلال مرحلة الانقسام، إلى الحدّ الذي أصبح عملها ووجودها مقدّر من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي، وبات التنسيق الأمني عنوان المرحلة، وتم تقويض البنى التنظيمية لحركتي حماس والجهاد الإسلامي في الضفة الغربية وتقييد عمل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وقد رصدت الهيئة المستقلّة لحقوق الإنسان آلاف حالات الاعتقال على خلفية سياسية من قبل الأجهزة الأمنية، التي مارست التهديد والتعذيب بل والقتل بحق المعارضين السياسيين حتى أولئك الذين لم ينتموا إلى تنظيم بعينه، من ضمنها عملية اغتيال الناشط السياسي نزار بنات بتاريخ 24 حزيران 2021.
هذا الواقع الجديد في الضفة الغربية، يقلّل من فرص تحوّل أيّ هبّة جماهيرية إلى انتفاضة عامّة ومستمرّة، إذ أنّ السلطة الفلسطينية هناك تتكئ على قاعدة حركة فتح الجماهيرية وتقيّد القاعدة الجماهيرية لبقية الفصائل الفلسطينية، ولذلك تبدو فكرة تحوّل هذا السيناريو إلى واقع ذات احتمالية ضعيفة إذا لم يسبقها تراجع السلطة الفلسطينية عن سلوكها الأمنيّ تحديداً والسلوك الاقتصادي تالياً، وهو أمر ممكن الحدوث إذا ما كسر الشارع الفلسطيني حاجز الخوف، وبدأوا حراكاً جماهيرياً ضاغطاً على السلطة، سواء بهدف تهذيب سلوكها أو تغيير بنيتها بالكامل، وهي مسألة نوقشت في السيناريو الثاني بشكل مفصّل. لذلك فإنّ اندلاع انتفاضة واسعة النطاق ومستمرة في الضفة الغربية لن يكتب لها النجاح دون تحوّل جذري في أداء السلطة الفلسطينية، فإن لم تتحوّل فإنّ شكل انتفاضة الفلسطينيين في الضفة الغربية ستكون عبارة عن هبّات متفرّقة تبقي الصراع مفتوحاً دون أن تساهم في خلق حالة جديدة، ما لم تكن هذه الهبات مترافقة مع انتفاضة فلسطينية في الأماكن سابقة الذكر. أما النضال العسكري ضد الاحتلال من داخل الضفة الغربية، فسيبقى فعلاً نادر الحدوث ومحدود التأثير وفرديّ المبادرة ما لم ترفع الأجهزة الأمنية يدها، وتوقف تنسيقها، بما يتيح المجال للتنظيمات الفلسطينية المقاومة إعادة بناء هياكلها، وبما يسمح لحركة فتح العودة إلى كونها حركة تحرر لا البقاء كحزب السلطة ضمن نظام استبدادي.
تأسيساً على ما سبق، فإنّ التصوّر لشكل انطلاق انتفاضة جديدة يجب أن يأخذ بالحسبان تلك الظروف المتباينة، التي قد تعني أنّ الانتفاضة قد تكون عامة ينخرط فيها كافة الفلسطينيين، لكن كل حيّز جغرافي بأدوات نضالية مختلفة تفرضها بيئة هذا الحيّز، وقد تكون انتفاضة محدودة في حيّز جغرافيّ واحد منعتق من سطوة أجهزة الأمن الفلسطينية، بحيث لا يتجاوز دور أهل الضفة الغربية تنظيم الفعاليات التضامنية، وهذا مستبعد، إذ أن التحاق الضفة الغربية بأي انتفاضة قادمة هي مسألة وقت.
هذا من حيث تصوّر شكل الانتفاضة استناداً إلى العوامل التي تحكم أماكن تواجد الفلسطينيين، أمّا المؤشرات والدوافع التي تبرّر طرح هذا السيناريو واعتباره ممكن الحدوث في وقت قريب يمكن إيجازها في عدّة أمور، وهي: استمرار مشاريع الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، كالضمّ والتوسع وتهويد الأماكن، واستمرار الاعتقالات والاغتيالات وتقييد الحرّيات وسلب الحقوق، في ظلّ إسنادٍ أمريكي معلن كما في حالة إدارة ترامب أو مستتر كما في حالة إدارات أخرى، بالتزامن مع حالة صمت دولي وانشغال عربيّ بقضايا داخلية أو خلافات عربية بينية. كما أنّ تنامي اليمين المتطرف في إسرائيل، وبقاء التشدد في مواجهة الفلسطينيين وقمعهم النقطة الأساسية الحاسمة في استقطاب الشارع الصهيوني، من العوامل التي تدفع الفلسطينيين للانتفاض تصدّياً لهذه السياسات.
في مقابل هذه العوامل المرتبطة بالاحتلال والأنظمة الداعمة لها أو الصامتة عن جرائمه، هناك عوامل أخرى مرتبطة بالفلسطينيين، أهمّها الالتفاف الجماهيري حول المقاومة والانفضاض من حول السلطة، وقد تجلّت هذه الظاهرة خلال الهبة الشعبية في القدس والأرض المحتلة عام 1948 ومعركة سيف القدس، وقد نالت هذه الموجة من المواجهة تعاطفاً وتضامناً شعبياً على المستويين العربي والدولي لم يسبق أن تم رصده، وهو تضامن لم يكن ليتحقّق لولا التحرّر من سلطة المنابر الإعلامية التقليدية المسيطر عليها من القوى المتحالفة مع الصهيونية واللجوء إلى الفضاء الرقمي الذي أتاح للفلسطينيين ومناصريهم إيصال روايتهم للعالم، ما يؤكد دور الفضاء الرقميّ في تشكيل حالة الإسناد هذه، أنّ إسرائيل ضغطت على مالكي تلك المنصّات الرقمية لتقليص حضور المحتوى الفلسطيني على شبكات التواصل الاجتماعي، ورغم استجابة بعض المنصات كفيسبوك إلّا أن المحتوى الفلسطيني بقي حاضراً.
بالرغم من نضوج كل تلك العوامل، إلّا أنّ ما تم نقاشه في السيناريو الأول، من استمرار التدفق المالي والدعم الأمني للسلطة الفلسطينية، بما يعنيه ذلك من تعزيز سياسات بناء الفلسطيني الجديد في الضفة الغربية، واستمرار حالة الانقسام، وقيام إسرائيل بالانقضاض على الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948 بعد هبّتهم الأخيرة في 2021 يجب أن تدرس كعقبات قد تحول دون انطلاق الانتفاضة في وقت قريب.