كان الحديث يتم باستمرار حول مصير السلطة الفلسطينية. هذه الورقة ستناقش احتمالية حدوث سيناريو تفكيك أو انهيار أو إعادة تشكيل للسلطة، وستقدم تحليل للعوامل التي تؤثر على كل احتمال.
التفكيك
بشكل عام يمكن القول أنّ تفكيك السلطة هو خيار ممكن للسلطة وللاحتلال الإسرائيلي ولبعض القوى الدولية مع تباين درجة الإمكانية، أو قد يتحوّل إلى خيار ذو احتمالية حدوث عالية إذا ما كان خياراً مشتركاً بين اثنين أو أكثر من العناصر الثلاثة سابقة الذكر.
التفكيك كخيار فلسطيني
صدر عن المسؤولين الفلسطينيين تصريحات تلوّح بحل السلطة الفلسطينية، من أبرزها تصريح أبو مازن عام 2013 بأنّه سيسلم السلطة للاحتلال كي يتولّى مهامه. تكرّر هذا التصريح على لسان ذات الشخص وغيره كجزء من محاولات الضغط على المجتمع الدولي والاحتلال الإسرائيلي لوقف السياسات الإسرائيلية وإحراز تقدم في مسألة بناء دولة فلسطينية كاملة السيادة على حدود عام 1967. هذه التصريحات تشير إلى أنّ فكرة التفكيك قائمة ولو في سياق التلويح أو التهديد، وبشكل أدقّ هي فكرة التخلّي عن السلطة وتسليمها للاحتلال الإسرائيلي.
الأزمة التي يعكسها هذا التصريح من داخل المطبخ السياسي الفلسطيني هو أنّ الإفصاح عن خيار تفكيك السلطة كعامل ضغط على الاحتلال، ينطلق من إيمان متجذّر لدى القائمين عليها بأنّ وجودها ضروريّ للاحتلال الإسرائيلي أكثر من كونه ضروري للفلسطينيين، وهو إيمان المدرك بطبيعة الدور الوظيفي الذي تقوم به السلطة الفلسطينية، والخدمات التي تقدّم للاحتلال على الصعيد الأمني، مضافةً إلى إعفائه من عبء إدارة شؤون المواطنين واحتياجاتهم.
وعليه فإنّ قيادة السلطة الفلسطينية تغفل ثلاث مسائل، الأولى: أنّ اليد العليا للاحتلال الإسرائيلي فيما يتعلق بالسلطة الفلسطينية وعملها ونوعية القائمين عليها، ولذلك فإن التلويح بحلّ السلطة هو تلويح العاجز عن الفعل، فإسرائيل تستطيع الإبقاء على السلطة وإن لم ترد قيادة السلطة الفلسطينية ذلك. أمّا الثانية: وهي أنّ الوظيفة التي تؤدّيها السلطة الفلسطينية قد تؤدّى من أطراف أخرى، وهنا تبدو قيادة السلطة الفلسطينية وكأنّها مغيبة تماماً عن إعادة تفعيل الإدارة المدنية، أو البحث في شكل جديد لكيان فلسطيني وظيفي بحت. فيما الثالثة يمكن اختصارها بتبلور فئات نافذ منتفعة من السلطة ووجودها، وبقاء السلطة بصورتها الحالية هو ما يعتاشون عليه. تأسيساً على ذلك، فإنّ تفكيك السلطة الفلسطينية كخيار منفرد من القيادة الفلسطينية هو أمر ذو احتمالية حدوث ضعيفة جداً، مقارنة بعملية التفكيك التي من الممكن أن تحدث كخيار إسرائيلي.
التفكيك كخيار إسرائيلي
أمّا أن يكون التفكيك خياراً إسرائيلياً، فهو أمر لن تطرحه إسرائيل ما لم تكن متيقنة من أنّ تقويض الوجود الفلسطيني ككتلة وطنية متماسكة قد تم. أي أنّ إسرائيل ستكون مستعدّة لطرح هذا الخيار حين تُجهز على الهوية الوطنية القادرة على التناقض مع الاحتلال الإسرائيلي، إلى جانب استمرار سياسات الضم والتوسّع في الضفة الغربية. تنامي حضور اليمين الصهيوني في أروقة صنع القرار، بل والوصول إلى مرحلة ربط اليمينية بالوطنية في دولة الاحتلال، من العوامل الدافعة لبحث هذا السيناريو كمحصلة لسياسات الاحتلال الإسرائيلي متعدّدة المسارات وتواطؤ السياسات الفلسطينية لفترة طويلة، وهنا لا يبدو الخيار الإسرائيلي منفرداً خالصاً، بحكم وظيفية السلطة الفلسطينية.
التفكيك كخيار مشترك
ويبدو تصوّر التفكيك على أنّه خيار مشترك بين الأطراف الثلاثة أو طرفين على الأقل هو التصوّر الأقرب للواقع. فتفكيك السلطة الفلسطينية من قبل الاحتلال الإسرائيلي عبر استراتيجية المدّ الاستعماري البطيء تحتاج إلى غطاء دولي يتمثّل في الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا ما تجلّى في عهد دونالد ترامب. إلّا أنّ تفكيك السلطة الفلسطينية بصورتها الحالية لن يكون منفصلاً عن خطوة ضرورية ولازمة لضمان الإسناد الدولي، وهي إعادة تركيب/ تشكيل السلطة المفككة.
العقبات
هذا التصوّر لسيناريو “نهاية السلطة” تعزّزه بعض العوامل، بيد أنّ عوامل أخرى تحول دون أن تقدم أي جهة على التفكيك، فالسلطة الفلسطينية وإن تجاوزت عجزها عن حل ذاتها، فإن قيادتها لا تمتلك أي رؤية تدفعها للمضي قدماً في حلّها. أما الاحتلال الإسرائيلي فسيكون امام مواجهة سؤال الجدوى، إذ ما الذي سيجنيه إن حلّ السلطة في ظل ما تقوم به من خدمات أمنية، وما تحمله من عبء إدارة شؤون المواطن بديلاً عن الاحتلال.
كما أنّ حل السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية دون وجود بديل بذات الكفاءة، يعني المخاطرة بتحويل المنطقة إلى بيئة عنف لا متناهية، قد يتحمّل أذاها الفلسطينيون بالدرجة الأولى، لكن عشرات آلاف المستوطنين في الضفة الغربية سيكونون محلّ تهديد، وهو ما لا تريده إسرائيل في ظل إصرارها على زيادة عددهم. هذه المخاطرة أشارت إليها الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية بشكل واضح خلال العام 2020، حيث أشار العميد دور شالوم، رئيس دائرة الأبحاث في شعبة الاستخبارات العسكرية في الجيش الإسرائيلي، أنّ أبرز خطرين على إسرائيل الآن هما “خطر التهديد الإيراني، وخطر انهيار السلطة الفلسطينية”.
هذا ويعتبر إدراك إسرائيل لحقيقة عدم تمثيل القيادة الفلسطينية الحالية للفلسطينيين، عاملاً مانعاً لتفكيك السلطة، فإسرائيل ستأخذ بعين الاعتبار أن تفكيك السلطة يعني فكّ قيود الحركات الفلسطينية المقاومة، والتي لا تستطيع القيام بأي فعل نضالي وتحديدا في الضفة الغربية بفعل السلطة وذراعها الأمني، ومقيدة في غزة بدرجة أقل بفعل أعباء السلطة والحكم، وعليه يصبح حلّ السلطة مصلحة وطنية للفلسطينيين، وإسرائيل لن تساعدهم على ذلك. خصوصاً أنّ كل العوامل التي تم اعتبارها في بداية الورقة من عوامل انهيار السلطة ستتحول إلى عوامل إشعال ثورة جديدة في وجه الاحتلال الإسرائيلي، وستصبح المطالبات بإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية على أسس جديدة أكثر مقبولية، وآخر ما تريده إسرائيل أن يتم تفعيل منظمة التحرير الفلسطينية على أساس رؤية جديدة متجاوزة لحل الدولتين وتستند إلى شارع نابض، فالفلسطيني الجديد، فلسطيني مكبّل وليس معدم، وما أن يتحرر من قيود السلطة سيتحرّك بشكل مناوئ للاحتلال.
الانهيار
يرتكز هذا السيناريو على افتراض استمرار كل العوامل الداخلية المحفّزة لتحرّك الشارع ضد سياسات السلطة الفلسطينية، بحيث يتجاوز التحرّك الشعبي القضايا المطلبية، ليصبح أكثر شمولية مطالباً بتقويض السلطة، في ظل عجزٍ وفشل متراكم للحكومة الفلسطينية في مواجهة العديد من القضايا التي تمسّ الحياة اليومية للمواطن الفلسطيني. هذا التصوّر يقوم على ذات العوامل المعزّزة للتصوّر الأول، لكن مع دخول عاملين آخرين محتملين، يمكن لتلك العوامل المعزّزة، أن تقود الفلسطينيين باتجاه آخر، بعيداً عن تفكيك السلطة.
أولها تجدد الثورات العربية، فما زالت الشعوب العربية تئن تحت وطأة الاستبداد، وما زالت العوامل التي ساهمت في تحرّك الشارع العربي قائمة، ومن المحتمل أن نشهد موجة جديدة، تأتي بحكومات أقرب إلى نبض الشارع العربي، مما قد يدفع الفلسطينيين إلى استلهام ذات التجربة، بحكم أنّ السلطة الفلسطينية انزلقت في السنوات الأخيرة نحو استنساخ أدوات القمع العربية في السياق الفلسطيني، بما يعني أنّ الشارع الفلسطيني قد يتحرّك أيضاً ضد النظام السلطوي، دون أن يلتزم بسقف التحرّك المطلبي المرتبط بالرواتب وما هو في حكمها ليصل إلى المطالبة بتقويض النظام السلطوي، والمسيرات التي حدثت بعد مقتل الناشط نزار بنات على يد الأجهزة الأمنية الفلسطينية وانبعاث مقاومة شعبية في عام 2022 تحت قيادة عرين الأسود في شمال الضفة الغربية، تعتبر مؤشرات قويّة على إمكانية انتفاض الشارع بشكل قويّ.
أما العامل الثاني فهو دخول الحركات الفلسطينية على مسار الحراكات الشعبية، فقد شهد المجتمع الفلسطيني في السنوات القليلة الماضية العديد من الحراكات المطلبية، دون أن يكون للفصائل الفلسطينية أي دور يذكر فيها. هذا التصور يفترض إمكانية تغيير هذه الفصائل موقفها والدخول إلى ذات المسار مما يعطيه زخماً أكبر، من حيث القاعدة الجماهيرية، وطبيعة أهداف هذا المسار، خصوصاً في ظل تعثّر مسار الانتخابات كمدخل للتغيير من داخل النظام السياسي الفلسطيني.
وعليه، فإنّ تحرّك الشارع الفلسطيني المسنود من بعض الفصائل المعارضة، والمستلهم لتجربة الثورات العربية، سيقود في نهاية المطاف إلى انهيار السلطة الفلسطينية، إذا ما استمرت هذه التحركات لفترات طويلة، ومما يزيد من فرص التحرّك الشعبي، العوامل التالية:
الانقسام
منذ أن تكشّف العوار الماثل في جسم السلطة الفلسطينية خصوصاً بعد انتخابات 2006، فشلت حركتا فتح وحماس في حل مشكلة الانقسام. فبعد التوقيع على اتفاقية الوفاق الوطني عام 2006 والمنبثقة عن وثيقة الأسرى، مروراً باتفاق مكة وصنعاء والدوحة والشاطئ وصولاً إلى مخرجات حوار القاهرة 2021 لم تستطع النخب السياسية في الضفة الغربية وغزة تحويل ما خطّته أيديهم على الورق إلى فعلٍ ممارس على الأرض، وتعود أسباب استمرار الانقسام وهذا الفشل في تطبيق الاتفاقيات بشكل مختصر إلى الآتي:
أولاً: بُني الحوار الوطني الفلسطيني انطلاقاً من تجاهل العامل المنشئ للانقسام وهو “صيغة العلاقة مع الاحتلال الإسرائيلي” بما يعنيه ذلك من تجاهل الحديث عن المعضلة الأهم وهي “الحكم” تحت الاحتلال وبإرادته وموافقته، والبدء بالحوار بتجاوز غير مبرّر للعوامل الجوهرية المسببة له، مع تركيز على أعراضه المتمثّلة في توزيع النفوذ داخل مؤسسات السلطة. بيد أنّ هذه الفصائل اصطدمت بحقيقة صارخة وهي أنّ ممارسة هذا النفوذ المتفق عليه لا يتسنّى لها دون أن تحدد موقفها من الاحتلال ومن واجبات السلطة تجاهه، بشكلٍ يعيدها في كلّ مرة إلى العامل المنشئ للانقسام دون أن تجرؤ على نقاشه.
ثانياً: تمت صياغة بنود الكثير من اتفاقيات وإعلانات المصالحة بشكل مرن فضفاض قابل للتأويل وفقاً لرغبة كل فصيل. كان ينظر إلى هذه الصياغة كمحاولة للقفز عن الشيطان الذي يكمن في التفاصيل، مدفوعين بضغط الشارع الذي ينتظر المصالحة، وأحياناً القوى الإقليمية الراعية للحوارات، لكنّها كانت عبارة عن عملية تأجيل للخلاف لا أكثر، ولفترات قصيرة جداً، كما حصل مثلاً في اتفاقية الوفاق الوطني التي نصّت على “تركيز” النضال الفلسطيني في المناطق المحتلة عام 1967، لتتحوّل كلمة تركيز لاحقاً إلى نقطة خلاف حول تأويلاتها، كما حصل أيضاً في خطاب التكليف للحكومة الحادية عشر عام 2007 الذي نصّ على “احترام” الاتفاقيات التي وقعتها منظمة التحرير، ليتحوّل الجدل لاحقاً حول دلالات الاحترام، إن كان من بينها الالتزام أم لا.
ثالثاً: جزء من السعي الفلسطيني للتوافق الداخلي لم يكن سعياً مستجيباً للشارع الفلسطيني بقدر استجابته للتدخلات الإقليمية، مما أدخل السلطتين في غزة والضفة الغربية إلى قلب التجاذبات العربية البينية، وهو ما أحال جولات الحوار المستضافة إقليمياً إلى جولات احتواء للفصائل الفلسطينية من قبل أنظمة إقليمية تعاملت مع الفصائل من منظور أمني، وقد قبلت الفصائل الفلسطينية برمّتها هذا التعامل، وخصوصاً من جمهورية مصر العربية، التي تعتبر ملف المصالحة الفلسطينية جزءاً من مهام المخابرات المصرية.
الفساد
بحسب استطلاع للرأي أجراه ائتلاف أمان في فبراير 2021، فإن أغلبية الفلسطينيين في الضفة الغربية يعتبرون تفشّي الفساد هو التحدّي الأول للمجتمع الفلسطيني. فيما احتلّ موضوع الفساد المرتبة الثانية من بين التحديات الأربعة الرئيسية التي يواجهها الفلسطينيون في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، وغزة (القضايا الاقتصادية، الفساد، الاحتلال، والانقسام). هذا من أهم العوامل التي قد تغذّي التحرك الشعبي ضد السلطة الفلسطينية، خصوصاً في ظل انعكاس هذا الفساد على حياة المواطنين المنهكين بفعل ارتفاع نسبة البطالة وتدنّي مستوى الأجور، وانخفاض جودة الخدمات.
انتهاك القانون والحريات والحقوق
يعيش المواطنون الفلسطينيون منذ أن تم تأسيس السلطة الفلسطينية وهم يرون الفجوة تتسع رويداً رويداً بين الخطاب المنادي بدولة المؤسسات والديمقراطية والسلوك الفعلي المناقض لهذا الخطاب. إنَ عدم احترام القانون وانتهاك الحقوق والحريات تمثّل في عدة صور، يمكن إيجازها في الآتي:
أولاً: مساهمة السلطة في إحياء البنى العشائرية التي قامت مقام السلطات الثلاث في كثير من القضايا الخلافية بين المواطنين، كالخلافات المالية والأسرية والجرائم وغيرها، لكن هذه العشائر بدأت تتدخل مؤخراً في الشأن العام، وتحديد المسموح والممنوع في الحيّز العام من أنشطة ثقافية ورياضية، بل ولعب أدوار سياسية، وهي مسألة تقوّض التحوّل الديمقراطي دون شك.
ثانياً: الانتهاك المباشر والواضح للحقوق والحريات من خلال القمع بصوره المختلفة (كالضرب والتعذيب والسجن والاغتيال أحياناً) في الضفة الغربية وغزة، بحيث أصبح الفلسطيني لا يأمن على نفسه من سلطته أكثر من تحسّبه من ملاحقات الاحتلال الإسرائيلي، وقد أكّدت على ذلك تقارير الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان الشهرية والسنوية.
ثالثاً: التغول على السلطتين التشريعية والقضائية من قبل السلطة التنفيذية، وتحديداً من الرئيس الفلسطيني. ففي ظل تغييب المجلس التشريعي خلال سنوات الانقسام، أخذ الرئيس الفلسطيني يمارس صلاحيات تشريعية بخلاف ما نصّ عليه القانون الأساسي، من خلال ما عرف بصلاحية إصدار القرارات بقوانين، والتي اشترط المشرّع الفلسطيني توفّر عاملين من أجل استعمالها، وهما أن يكون القرار بقانون في غير أدوار انعقاد المجلس التشريعي وأن يكون من القضايا التي لا تحتمل التأخير، لتأتي عشرات القرارات بقوانين التي لا يتوفّر فيهما هذين العاملين. مضافاً إلى ذلك، فقد أجرى الرئيس الفلسطيني عدة تغييرات على السلطة القضائية زادت من نفوذه فيها، من بينها تشكيل المحكمة الدستورية، وتعيين قضاة جدد وإحالة بعضهم إلى التقاعد، مما أدّى إلى فرض سيطرته بالكامل على السلطات الثلاث، وفقد مبدأ الفصل بين السلطات معناه عملياً.
العجز الاقتصادي والمالي
بالتزامن مع الفساد وانتهاك الحقوق والحريات، سجّلت السلطة الفلسطينية العديد من المرّات التي عجزت فيها عن سداد التزاماته تجاه المواطن الفلسطيني من الناحية المالية، حيث انقطعت الرواتب أكثر من مرة، مبرّرة ذلك بالموقف الإسرائيلي والدولي، بيد أنّ المواطن الفلسطيني بات يدرك أنّ السبب الأساسي في هذا العجز يعود إلى البنية الاقتصادية التي تبنّتها السلطة منذ تأسيسها والمرتبطة بالاحتلال والمعونات الدولية. هذا العجز المالي جاء ليلقي الضوء أيضاً على معضلة توزيع موازنة السلطة الفلسطينية، إذ تتلقّى الأجهزة الأمنية الميزانية الأكبر، مع تزايد نسبة الجريمة وتراجع الاستقرار الأمني، فيما قطاعات حساسة ومهمة لتعزيز صمود الفلسطينيين تتلقّى مستوى أقل من الدعم كالزراعة والصناعة والصحة والتعليم، وقد كشفت جائحة كوفيد-19 منذ بدايات 2020 عن المستوى المتدنّي في إدارة الأزمات والمترتّب على الفساد الإداري والمالي.
عطفاً على ما ورد أعلاه من عوامل دافعة لانهيار السلطة الفلسطينية بالتزامن مع تحرّك شعبي، فإنّ غياب أي رؤية إصلاحية للسلطة الفلسطينية متبنّاة من قبل تيار سياسي قادر على تحويلها إلى برنامج، وفي ظل غياب استراتيجية وطنية شاملة لمواجهة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، تتعزّز احتمالية انهيار السلطة الفلسطينية في السنوات القليلة القادمة، إلّا أنّ ما يمكن أن يحول دون حدوث هذا السيناريو، مجموعة من المثبّطات وهي:
تدخل الاحتلال
يدرك الاحتلال الإسرائيلي أنّ التحرّك الشعبي لمواجهة السلطة الفلسطينية وما آلت إليه أحوالها، لن يتوقّف عند حد تقويض السلطة الفلسطينية، فسرعان ما سيتحوّل هذا المدّ الجماهيري نحو الاحتلال الإسرائيلي، هذا بالإضافة إلى كون شريحة واسعة من الفلسطينيين سيتعاملون مع التحرّك ضد السلطة على أنّه تحرّك ضد مشروع التسوية مع الاحتلال والذي يعتبر السلطة أهم أدواته. كما أنّ انهيار السلطة الفلسطينية دون استدراك مسبق لمخرجات هذا السيناريو من قبل الاحتلال تعني أنّ إسرائيل ستعود لتتحمّل مسؤولية إدارة الأراضي المحتلة، ولذلك من المتوقّع أن تبذل إسرائيل قصارى جهدها لإضعاف المعارضة الفلسطينية وتعزيز فرص استمرار السلطة الفلسطينية، وهذا ما تؤكده التقديرات الأمنية الإسرائيلية حول خطورة منع تحويل الأموال إلى السلطة، حيث حدث خلاف بين المستويين السياسي والأمني في إسرائيل حول منع تحويل أموال المقاصة، إذ قدرت الجهات الأمنية أنّ هذه الخطوة ستكون مؤذية لإسرائيل في نهاية المطاف.
الشارع المستقطب والانقسام
بالرغم من الإشارة أعلاه إلى احتمالية تحرك الشارع الفلسطيني ودخول بعض الفصائل المعارضة إلى هذا المسار، واعتبار هذا الاحتمال عامل دافع باتجاه انهيار السلطة، إلّا أن احتمالاً آخر يجدر عدم تجاهله وهو أن دخول هذه الفصائل قد يعني إجهاض الحراك، بسبب الحواجز النفسية القائمة بين النّاس بفعل سنوات من خطاب الكراهية، الذي أوصل المجتمع الفلسطيني إلى مرحلة انبثاق هويات فئوية حزبية متصارعة وتحاول احتكار الوطنية. أي أنّ شريحة واسعة من الشارع ستنسحب من أي تحرك محتمل إذا ما بذلت السلطة جهداً إعلامياً تُظهر فيه التحرّك على أنّه صراع فتحاويّ حمساويّ على السلطة.
في هذه الجزئية تحديداً، يتبيّن أنّ الانقسام يلعب عاملاً محفّزاً للحراك الشعبي من جهة، لكنّه من جهة أخرى يقلل فرص التحرّك الموحد، وبالتالي يضعف من إمكانية استمرارية الحراكات الشعبية في مواجهة السلطة، إذ سرعان ما ستنفضّ الفئات المؤيدة للحزب الحاكم من الجانب المساند لهذه الحركات إلى الجانب المشكّك في وطنيتها بل والمحارب لها، وليس مستبعداً أن يتولّد لدينا حراك جماهيري مضاد على غرار الثورات المضادة وتكون مساندة بأدوات القمع والإكراه التي تمتلكها السلطة الفلسطينية.
القوى الإقليمية
في مقابل الاحتمال المدرج أعلاه حول إمكانية تجدد الثورات العربية، فإنّ احتمالية تثبيت أنظمة الحكم القائمة لدعائم وجودها وتكاتفها في مواجهة قوى الإصلاح على المستوى الإقليمي، ما تزال واردة، ويمكن لهذه الأنظمة أن تلعب دوراً جوهرياً في الحفاظ على استقرار السلطة الفلسطينية بشكلها الحالي، إذ أنّ اندلاع ثورة شعبية فلسطينية تتخلّص من السلطة وتتوجّه للنضال ضد الاحتلال سيعني تحريك الشارع العربي مجدداً لمساندة القضية الفلسطينية، وسيضع الحكومات في مواجهة جديدة مع شعوبها. شكل الدعم العربي لاستقرار السلطة قد يأخذ عدّة أوجه، لكنّه بالدرجة الأولى سيركّز على الضغط على الفصائل الفلسطينية المعارضة من أجل الاكتفاء بدور المعارضة المهادن للقيادة الفلسطينية دون التصادم معها، مع احتمالية تجدد الدعم المالي لتأمين قدرة السلطة على الايفاء بالحدّ الأدنى من التزاماتها تجاه المواطن الفلسطيني.
إعادة التركيب/ التشكيل
مفاد هذا التصوّر؛ أن تكون نهاية السلطة الفلسطينية متمثلة في نهاية الغاية المفترضة لوجودها، فستتحوّل من كونها جسراً نحو الدولة، أو وسيلة لخلق الدولة إلى غاية في حد ذاتها بحيث تصبح هي منتهى ما يمكن تحقيقه. عملياً، فإن السلطة وفقاً لهذا التصوّر ستكون عبارة عن بلدية كبرى تدير شؤون تابعيها من المواطنين دون أي دور وطني وسيقتصر عملها في المرحلة الأولى في الضفة الغربية دون غزة إلى حين تبدّل الظروف فيه، ولا تمتد صلاحياتها إلى التحكم بالأرض والموارد، ولا الأمن. على أن تكون هذه السلطة ذات ارتباط أكبر بالاحتلال من حيث الاقتصاد والأمن. هذا التصوّر يرتبط أيضاً بعمل إسرائيلي ممنهج لوأد الوجود المعنوي الفلسطيني من خلال السياسات التي مارستها السلطة الحالية، وما يمكن أن تمارسه السلطة المفترض تشكّلها وفقاً لهذا التصوّر.
ما سيجعل من هذا التصوّر سيناريو قابل للتطبيق، أّنه لن يطرح بشكل سريع، بل بتنفيذ بطيء، علماً أنّه قد بدأ حقيقة منذ أن تأسست السلطة الفلسطينية، أي أن إسرائيل بدأت بعملية إعادة تشكيل السلطة في السنوات الأولى من عمر السلطة وتحديداً بعد هبّة النفق عام 1996، وبلغت أوجها مع خطط الإصلاح المالي والأمني خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وفي اللحظة التي ستتوقف فيها السلطة الحالية عن القيام بما ينبغي عليها فعله وفقاً لتصوّرات الاحتلال، سيطرح الاحتلال بديله الجديد، وهو الذي أعدّ العدّة لمثل هذا التحوّل السلس. من أهم العوامل التي تدفع نحو دراسة هذا التصوّر لسيناريو مصير السلطة الفلسطينية:
التحوّل من الحركي إلى الحزبي
إذ أدّى تأسيس السلطة الفلسطينية إلى تحوّل حركة فتح من حركة تحرر وطني إلى حزب حاكم، وهي خسارة لا يمكن إنكارها، فهي كبرى الحركات الفلسطينية، التي أدى تحوّلها هذا إلى إخراج شريحة واسعة من الفلسطينيين من دائرة النضال إلى دائرة حماية السلطة التي تماهت معها حركة فتح، وأصبحت منبرها وحصنها في آن. فيما حركة حماس التي قرّرت دخول السلطة من بوابة المجلس التشريعي نهايات الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وإن لم تقبل بالتحوّل من الحركي إلى الحزبي، إلا أنها أجبرت على ضبط حركتها ونشاطها المقاوم بناء على متطلبات مرحلة الحكم، وبذلك تحققت رؤية الإدارة الأمريكية لانتخابات 2006 بأنّ مشاركة حماس ستكون عبارة عن احتواء لها، وعملية تحويل تدريجية.
التنسيق الأمني
استمرار التنسيق الأمني بين الأجهزة الأمنية الفلسطينية والاحتلال الاسرائيلي، في كل الظروف حتى تلك التي أعلن فيها المستوى السياسي عن القطيعة مع الاحتلال، تشير إلى أن “إصلاحات” الجنرال الأمريكي دايتون قد أثمرت، وأنّ هناك أطرافاً فلسطينية مستعدّة للعمل على ضمان التنسيق في كل الظروف، وهذه الأطراف ربما يكون لديها الاستعداد للعمل بنفس الوتيرة في إطار سلطة وظيفية كاملة لا تطمح للتحول إلى دولة، إنما يكفيها أن تحقق شكلاً من الهدوء والاستقرار والرفاه للمواطنين، بحيث يستمر استخدام نمط الحياة الهادئ كأداة تهديد للفلسطيني الذي تكيّف معها وبات مستعدّاً للاستكانة خشية من تبدّل الحال، تحت شعارات الواقعية وتعزيز الصمود، ولن يكون هناك ضير من إبقاء شعار “بناء الدولة” حاضراً، دون أن يتجاوز مرحلة الشعارات.
تفعيل الإدارة المدنية والمنسق والتواصل مع الجمهور
شهد الفلسطينيون في الضفة الغربية سلوكاً إسرائيلياً ممنهجاً يهدف إلى كسر الحواجز ما بين المواطن الفلسطيني وسلطات الاحتلال، من حيث التواصل المباشر لتيسير أمور حياتهم المقيّدة بفعل الاحتلال، وقد أخذ هذا التوصل عدة أشكال، من بينها عمل حملات “التنظيف الأمني” التي تتطلب مقابلات جماعية لكل سكان منطقة مع القائد العسكري لها، إذ يمنح الآلاف خلالها “صكوك الغفران” الإسرائيلية التي تعني إمكانية تنقله بين الضفة الغربية والأراضي المحتلة عام 1948 والعمل فيها. مضافاً إليها التواصل المكثّف من خلال شبكات التواصل الاجتماعي، التي أظهرت أنّ من الفلسطينيين من لا يتورّع عن مجاملة الاحتلال ومخاطبة ودّه لضمان الحصول على تصريح حركة مثلاً لا حصراً.
خطورة هذا النوع من التواصل تكمن في النظر للاحتلال كسلطة عاديّة لا يتوجب العمل ضدّها، بل العمل لكسب ودّها، وكسر الحواجز النفسية معها، بما يعنيه ذلك من ابتعاد عن أي عمل يحمل بعداً وطنياً خشية من خسارة الامتيازات التي يتمتع بها من نال “رضى” الاحتلال، وسواء كانت هذه الشريحة من المجتمع الفلسطينية كبيرة أم صغيرة، فهي تدلّ على نجاح الاحتلال في عملية إنتاج الفلسطيني الجديد الذي من الممكن أن يتناقض مع الأعمال النضالية ويحمل خطاباً مشكّكاً في جدواها، ليصبح التنعّم بهذه الامتيازات كافياً للتكيّف مع ما يفرضه الاحتلال، بل أصبحت مشاريع الضمّ الإسرائيلية مسألة غير مرفوضة من قبل بعض الفلسطينيين لما قد تحمله من تسهيلات في الحركة كما يعتقدون، وهذه الفئة سترحّب بأي خطوة تجعل من هذه الامتيازات دائمة. ما يساعد على مضيّ إسرائيل في سياساتها أنّ الحركات الفلسطينية منشغلة في خلافتها الداخلية، ولم تمارس أي أنشطة وبرامج للحدّ من نجاح هذه السياسات، فيما السلطة الفلسطينية تفتقر إلى مقومات الانفكاك عن الاحتلال أو تبنّي أي عمل مناوئ له نتاجاً لهشاشة بنائها وارتباطه أساساً بقبول الاحتلال لوجودها.
تطبيع الاحتلال مع المحيط والإسناد الدولي
عملت إسرائيل في السنوات الأخيرة على استثمار الانتكاسة التي شهدتها الثورات العربية، وحاجة الأنظمة إلى إسناد دولي، وذلك عن طريق تأمين الصمت الأميركي مقابل التطبيع العلني مع دولة الاحتلال، وانتقل مستوى التطبيع من مرحلة إقامة علاقات مع الاحتلال إلى مرحلة استعداء الفلسطيني والعمل على شيطنته في معظم وسائل الإعلام بهدف تجييش الشعوب العربية ضدّ الشعب الفلسطيني، وتمرير مشروع تصفية القضية الفلسطينية دون أي تحرّك عربي، وهي خطوة لا يوجد مؤشر على نجاحها على مستوى الشعوب، إلا أن استمرارها دون جهد فلسطيني معاكس، يعني إمكانية خلق وعي عربي جديد كما يتم خلق الفلسطيني الجديد، وهي مرحلة متقدّمة ستجعل من وأد حلم الدولة الفلسطينية مسألة في متناول يد الاحتلال.
هذا التصوّر هو الأوفر حظّاً في الحدوث نتاجاً لكونه تصوّر يحافظ على وجود سلطة فلسطينية، ويبقي على هذه المؤسسة كأداة ضبط للمجتمع الفلسطيني، والعقبات في طريق هذا التصوّر محدودة جداً لغاية اليوم، وتكاد تقتصر على بقاء حركات فلسطينية رافضة له وعاملة ضدّه، لكن عملها محدود نتاجاً لقدراتها المتواضعة والتي ستتلاشى تدريجياً بحكم كل العوامل المذكورة أعلاه، فيما العقبة الأخرى تتمثّل في أن بعض التيارات اليمينية الصهيونية لن تقبّل بأي وجود فلسطيني حتى لو كان من نوع “الفلسطيني الجديد”.