تنطوي أرجح التوقعات في الأجل القريب على استمرار الوضع الراهن من حيث الحوكمة والأمن في فلسطين. فقد مرَّ المشهد الاجتماعي والسياسي في فلسطين بتحولٍ جذري في العقود الثلاثة الماضية، يسانده جهازٌ أمني حزبي بامتياز في الضفة الغربية وغزة. وكان الاحتلال العسكري الإسرائيلي في غضون ذلك آخذًا في التوسع. ترتبط قوات أمن السلطة الفلسطينية ارتباطًا جوهريًا بهذا الترتيب، وهي تُمأسس القمعَ الممارس ضد التعبئة في المجتمع المدني الفلسطيني من خلال هيكل اقتصادي قسري قائم على الحوافز المالية.1
قوات أمن السلطة الفلسطينية، بوضعها الراهن، هي مؤسسةٌ حزبية يعتمد الارتقاء في صفوفها اعتمادًا أساسيًا على عاملي الولاء والقرابة. وقد تنامت النزعة الأبوية المميِّزة لهيكل الحوكمة التنظيمي داخل تلك القوات لتطال تفاعلها الأوسع مع المجتمع الفلسطيني بسبب قدرتها على الوصول إلى المساعدات المالية والأسلحة.
تنخرط قوات أمن السلطة الفلسطينية وإسرائيل في تنسيق أمني، حتى على مستوى الرتب الدنيا في تلك القوات، بعد أن كان التنسيق مع قوات الأمن الإسرائيلية في عهد الرئيس الفلسطيني السابق ياسر عرفات محصورًا في أربعة أو خمسة من كبار ضباطها. أمّا في الوقت الحاضر، فهناك المئات من ضباط الدرجتين الثانية والثالثة في صفوف تلك القوات ممن ينسقون مع إسرائيل بناءً على المعلومات المستقاة من أفراد الأجهزة الأمنية. وقد أخذَ أعضاء سابقون في قطاع الأمن الفلسطيني، مثل رئيس جهاز المخابرات العامة السابق توفيق الطيراوي، يحذِّرون من “الخطر الكبير” المتمثل في تشتت التنسيق الأمني مع إسرائيل ضمن صفوف قوات أمن السلطة الفلسطينية، حيث تُساعد إسرائيل من خلال هذه العملية في استحداث المزيد من الأقليات الفلسطينية المتحكمة، بما في ذلك على المستوى المحلي، الأمر الذي يؤدي إلى تزايد أعداد أصحاب المصلحة المحليين في النظام الحالي ممن لهم مصلحةٌ أيضًا في استدامة الوضع الراهن.
المجتمع الدولي كذلك معني باستدامة الوضع الراهن. فلم يكن المجتمع الدولي، ولا الولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص، وسطاء محايدين بين الفلسطينيين وإسرائيل قط، إذ دأبت واشنطن تحديدًا على الدفاع عن أهداف إسرائيل السياسية والعسكرية بينما تدَّعي التزامها بإيجاد تسوية بين الجانبين. وفي سبيل ذلك، دأبت الإدارات الأمريكية المتعاقبة على مساعدة قوات أمن السلطة الفلسطينية من خلال وكالاتها الحكومية مثل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية والمكتب الدولي لمكافحة المخدرات وإنفاذ القانون التابع لوزارة الخارجية الأمريكية. وفي نهاية المطاف، سوف يكون استقرار المجتمع الدولي موازيًا لاستقرار إسرائيل، وسيولي المجتمع الدولي الأولويةَ لأمنِ إسرائيل واستقرارها ويُؤثِره على إرساء أشكالٍ أكثرَ فاعليةً وديمقراطية للحوكمة في الضفة الغربية وغزة. أي أن اللغة الداخلية بين المانحين قد تغيَّرت إلى استدامة الوضع الاجتماعي والسياسي الراهن من خلال الاستقرار الذي ينبغي تحقيقه بواسطة فرض الأمن، وليس تقرير المصير الفلسطيني المحدود.
يتفاقم الوضع الراهن بفعل التطورات الإقليمية الأوسع، ومن أبرزها الاتفاقات التطبيعية المبرمة بين إسرائيل والعديد من الدول العربية. وثمة محاولات يبذلها قادةٌ أمنيون عاملون وسابقون في قوات أمن السلطة الفلسطينية للاستنفاع من هذه الاتفاقات، بإظهار أنفسهم كوسطاء فاعلين بين الدول المُطبِّعة وإسرائيل. ومن هؤلاء محمد دحلان الذي لا يزال له حضورٌ في غزة منذ نفته حركة فتح من الضفة الغربية في عام 2011. وبصفته رئيسًا سابقًا لفرع الأمن الوقائي التابع للسلطة الفلسطينية في غزة، فإنه يحظى بشعبية في أوساط معارضي الرئيس عباس من داخل فتح هناك. وبفضل تأثيره المتصوَّر في دولة الإمارات العربية المتحدة، ومقرِّ إقامته الحالي في أبو ظبي، زادَ حجمُ الدعم والتأييد له، ولا سيما بعد أن نسَّق جهود الإغاثة الإماراتية لغزة إبان جائحة كوفيد-19.
لم يكن أداء قطاع العدالة الفلسطيني أفضل. فالنظامان القضائيان القائمان في الضفة الغربية وغزة حزبيان لدرجة كبيرة. ولا يزال عباس يحكم بالمراسيم الرئاسية منذ 15 عامًا. وقد انتقدَ محامون وقضاة ونقابة المحامين ومنظمات غير حكومية وجهات أخرى معظمَ التعديلات التي أُجريت على هذا القطاع باعتبارها غير دستورية. وكما احتكر الرئيس عباسُ قطاع الأمن، فإنه يحتكر السيطرة على قطاع العدالة.
لم يَعد لدى أصحاب المصلحة المعنيين من الفلسطينيين والإسرائيليين والمجتمع الدولي سوى القليل من الإرادة أو المشاركة اللوجستية والسياسية في إحداث تغيير حقيقي في الضفة الغربية أو غزة. ويتجلى ذلك بوضوح في التطورات السياسية التي وضعت السلطة الفلسطينية في مواجهة أسوأ أزمة سياسية منذ إنشائها، والتي تفاقمت بسبب قرار عباس الصادر في نسيان/أبريل 2021 بتأجيل أول انتخابات فلسطينية عامة منذ 15 عامًا. وقد غضبَ الفلسطينيون في وقت لاحق عندما التزمت السلطة الفلسطينية الصمت عندما هاجمت القوات الإسرائيلية الفلسطينيين في المسجد الأقصى بعد أيام من إعلان عباس تأجيلَ الانتخابات. وتلا ذلك حملةُ اعتقالات جماعية طالت متظاهرين وناشطين وبعض مرشحي المجلس التشريعي الفلسطيني فور إعلان وقف إطلاق النار بين حماس وإسرائيل في شهر أيار/مايو 2021. وقد رأى الفلسطينيون في ذلك محاولةً من السلطة الفلسطينية وحركة فتح لاستعادة السيطرة على المستوى الشعبي.
أفضى العنف المتنامي المستخدم لقمع منتقدي السلطة الفلسطينية، أفرادًا وجماعات، إلى مقتل نزار بنات في حزيران/يونيو 2021، الناشط البارز المجاهر بانتقاداته لعباس والسلطة الفلسطينية، والمترشح لعضوية المجلس التشريعي. وقد أدى ذلك إلى تفاقم أزمة الشرعية التي تمر بها السلطة الفلسطينية، ولا سيما على المستوى الشعبي حيث طالبَ المتظاهرون باستقالة عباس وإسقاط النظام. وترسَّخ الوضع الراهن بسبب القمع العنيف الذي استخدمته قوات أمن السلطة الفلسطينية في مواجهة التظاهرات المحتجة على مقتل بنات في أواخر حزيران/يونيو وأوائل تموز/يوليو 2021. وفي حين يعكف الفلسطينيون على توسيع نطاق المقاومة الشعبية ضد العنف العسكري والاستيطاني الإسرائيلي خارج إطار المؤسسات الحاكمة، مثلما فعلت مؤخرًا مجموعة عرين الأسود في شمال الضفة الغربية، فإن السلطة الفلسطينية وقواتها الأمنية سوف تستمر في الاستسلام للنظام الإسرائيلي من أجل استدامة الوضع الراهن.