استمرار الوضع السياسي الراهن هو السيناريو الأرجح على المدى القصير. وبموجبه، سوف تستمر المكونات الأربعة الرئيسية لقطاع الصحة الفلسطيني – وزارة الصحة الفلسطينية ووكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا) والمنظمات غير الحكومية والقطاع الخاص – في تقديم خدماتها، المتباينة في الغالب، للفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة. وإذا استمر الوضع الراهن، فإن تداعيات كبيرة قد تطال صحة الفلسطينيين، ولا سيما من جانب قطاع المنظمات غير الحكومية الذي يعتمد اعتمادًا شديدًا على المساعدات الخارجية المتذبذبة والمتضائلة نظرًا إلى وجود أزمات إنسانية عالمية أخرى تتطلب أيضًا تدخلاً متزايدًا.
الاتجاهات في ظل الوضع الراهن
من المتوقع أن تستمرَ الاتجاهات البائسة التي يشهدها قطاعُ الصحة منذ العقدين الماضيين في التدهور أكثر إذا استمرَ الوضع السياسي الراهن. ومع نمو عدد السكان الفلسطينيين منذ العام 2000، تضاعفت النفقات الصحية أربع مرات لتقاربَ 1.6 مليار دولار في عام 2020. وفي حين أن الإنفاق على الصحة كنسبةٍ مئوية من الناتج المحلي الإجمالي ظلَّ يناهز 10% – كما المتوسط العالمي – إلا أن الناتج المحلي الإجمالي الفلسطيني انخفضَ في السنوات الأخيرة، ولا سيما بسبب الآثار الاقتصادية التي خلَّفتها جائحة كوفيد-19، والتي يصعب التغلب عليها في ظل قيود الاحتلال والحصار الإسرائيليين.
زاد الإنفاق على الخدمات الإضافية – مثل الأشعة السينية والفحوص المخبرية وخدمات الصيدلة – زيادةً طفيفة، وزاد الإنفاق على الخدمات الوقائية والسلع الطبية. تُعدُّ الرعاية الوقائية والخدمات الإضافية أمرًا حيويًا في الحفاظ على صحة السكان وقدرتهم على تفادي الحاجة إلى أشكال الرعاية المتقدمة غير المتاحة بسهولة للفلسطينيين، حيث تتطلب في معظم الأحيان تصريحًا طبيًا لدخول إسرائيل أو القدس الشرقية، أو أي مكانٍ آخر في الضفة الغربية بالنسبة إلى سكان غزة.
دأبَ النظام الإسرائيلي منذ 2011 على رفض أعدادٍ متزايدة من طلبات الفلسطينيين للحصول على تصاريح طبية أو تأخير إصدارها، حيث وافق على نحو 60% فقط من الطلبات المقدمة في غزة في السنوات الأخيرة. وهو يرفض طلبًا واحدًا تقريبًا من كل أربعة طلبات للأطفال المتراوحة أعمارهم بين يوم واحد وثلاثة أعوام، ويزيد معدلُ رفضِه أو تأخيره لطلبات تصاريح مرافقي المرضى. ويُقدَّرُ أنَّ نحو 840 فلسطينيًا قضوا في غزة بينما هم ينتظرون صدورَ تصاريحهم في الفترة بين عامي 2008 و2021.
ومع تبني الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة قيودًا عقابيةً أكثر على حركة الفلسطينيين اعتبارًا من مطلع 2023، فإن من المرجح أن يستمر الرفضُ في إصدار التصاريح أو تأخيرها بالوتيرة نفسها إنْ لم تزد. وفي ظل التوجهات السياسية الإسرائيلية الحالية، من المستبعد جدًا أن تسمحَ إسرائيل بدخول المعدات الطبية اللازمة لتجنيب الفلسطينيين السفرَ لتلقي الرعاية الصحية في الضفة الغربية وغزة.
وزارة الصحة الفلسطينية
تستمدُ وزارة الصحة، المنقسمة بين الضفة الغربية الخاضعة لسيطرة فتح وغزة الخاضع لسيطرة حماس، الجزءَ الأكبر من تمويلها من المانحين والضرائب. تُقدم الجهات المانحة، بمن فيها بلدان منفردة ومنظمة الصحة العالمية، دعمَها في المقام الأول لبرامج وجهود تدريبية محددة في وزارة الصحة، مثل برامج الصحة العقلية والرعاية الإنجابية والتأهب للأمراض المعدية. غير أن وزارة الصحة، في ظل الوضع الراهن المتمثل في استمرار إسرائيل في مصادرة الأراضي وبناء المستوطنات في الضفة الغربية وكذلك الانقسام بين الضفة الغربية وغزة، ستظلُ عاجزةً عن توفير الرعاية الصحية للشعب الفلسطيني المتزايد في تشرذمه ومقيداته.
العجز المالي، إذن، ليس العامل الأكثر تأثيرًا في قدرة وزارة الصحة على توفير الخدمات الصحية للفلسطينيين، وإنما القيود التي يفرضها النظام الإسرائيلي على عملها حتى داخل الضفة الغربية وغزة هي العقبة الأكبر أمام قطاع الصحة الفلسطيني. وليس هناك ما يشير إلى أن التوجهات السياسية الحالية ستؤدي إلى تحول إيجابي على صعيد هذه القضايا، ومن المرجح أن تتناقص قدرة وزارة الصحة على العمل.
المجتمع الدولي
أظهرت السنوات الأخيرة أيضًا أنه لا يمكن التنبؤ بما سيفعله المجتمع الدولي على صعيد دعم الفلسطينيين، ولا سيما في القطاعات الاجتماعية مثل الصحة. الأونروا، على سبيل المثال، من أكبر مزودي الخدمات الصحية في الضفة الغربية وغزة، حيث تُدير 22 مرفقًا للصحة الأولية في غزة و43 في الضفة الغربية. وهي تستمد الجزء الأكبر من تمويلها من المساهمات الطوعية من الحكومات الأجنبية. وفي عام 2018، ألغت إدارة ترامب كل التمويل المقدم للأونروا ضمن خطة أوسع لإعادة النظر في مساعداتها الخارجية، وكمناورة سياسية لتقليل عدد الفلسطينيين المصنَّفين كلاجئين. ومع أن إدارة بايدن استأنفت هذه المساعدة في عام 2021، إلا أن ما حدثَ يعكسُ هشاشةَ المساعدات الحكومية ومدى عرضة القطاع الصحي لتلك التقلبات.
وبالرغم من ذلك، تلقت السلطة الفلسطينية مساعدات إنسانية بملايين الدولارات، بما في ذلك لقطاعها الصحي. وبالمثل، تلقّت حماس في غزة مساعداتٍ معتبرةً من المانحين، ولا سيما قطر. ومع ذلك، لا يزال الإنفاق الصحي منخفضًا نسبيًا في الضفة الغربية وغزة، وقد أظهرت دراسةٌ مطوَّلة لهذه المؤشرات تباينًا واسعًا على مرّ السنين، حيث انخفض الإنفاق على الرعاية الوقائية إلى 1.9% في عام 2016 وإلى 6% في السنة التالية.
تُظهر معظم المؤشرات الصحية الأخرى أيضًا انخفاضًا في الإنفاق العام، حيث بلغَ إنفاق السلطة الفلسطينية على حوكمة النظام الصحي وتمويله، على سبيل المثال، 5.4% في عام 2000، لكنه انخفض إلى 2.5% في 2020؛ ولا تزال الرعاية التأهيلية تستأثر بأقل من 1% من الإنفاق؛ كما انخفض الإنفاق على الرعاية العلاجية منذ عام 2000. وهذا التذبذب يحُول دون وضع خطة طويلة الأجل وتعاني بسببه جميع مجالات الإنفاق الصحي.
وفي حين أن النفقات قد تواصل تباينها الواسع في السنوات القادمة، فإن من المستبعد أن يشهدَ قطاعُ الصحة الفلسطيني زيادات كبيرة في الإنفاق تُفضي إلى تغييرات إيجابية كبيرة في كيفية تقديم الخدمات الصحية. ومع تراجع المساعدات الدولية للسلطة الفلسطينية في السنوات الأخيرة وتنامي عجز السلطة المالي بموازاة النمو المستمر في ميزانية الأمن (23% مقارنة بـ 14% لقطاع الصحة) – فإن من المتوقع أن يتناقصَ الإنفاقُ أكثر في قطاع الصحة الوقائية أو الرعاية المتخصصة. ولذلك، سوف ينشُد الفلسطينيون المقتدرون الرعايةَ الصحية في مرافق القطاع الخاص أو بالسفر إلى الخارج، بينما سيضطر غير المقتدرين إلى الاعتماد على المرافق العامة القاصرة أو سيمتنعون عن طلب الرعاية من أصله.
الخاتمة
من المتوقع أن تستمرَ المؤشرات الصحية الفلسطينية في الاتجاه في مسارٍ مشابه لمسار السنوات الأخيرة. وبالرغم من انخفاض متوسط العمر المتوقع للفلسطينيين لفترةٍ وجيزة بين عامي 2000 و2010، إلا إنه ماضٍ بثباتٍ في مسارٍ تصاعدي بطيء. ومع التمدد الحَضري في الضفة الغربية وغزة، انخفضَ معدلُ المواليد الفلسطينيين انخفاضًا ملحوظًا منذ عام 1990، حيث انخفض متوسط معدل الإنجاب من حوالي ستة أطفال إلى طفلين أو ثلاثة أطفال في العقود اللاحقة.
وفي ضوء الإسقاطات الحالية، يُتوقع أن يصلَ عدد السكان الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة إلى ما بين ثمانية وتسعة ملايين بحلول العام 2050. غير أن هذه التوقعات الديموغرافية لا تأخذ في الاعتبار تقلُّصَ الرقعة الجغرافية التي يعيش عليها الفلسطينيون. ومن الصعبِ تخيلُ زيادةٍ كبيرة في عدد السكان الفلسطينيين في المشهد الجغرافي الحالي لأن المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية تقيد نمو المراكز الحضرية الفلسطينية، بينما تواصل الهجمات العسكرية المتكررة على غزة تدميرَ البنية التحتية الحيوية فيها. يُجبر هذا الواقع الفلسطينيين في كلتا المنطقتين المحتلتين على تشييد بنايات سكنية كبيرة على عجل تحدُّ كثيرًا من المساحات الخضراء المتاحة والمناطق الآمنة المخصصة للعب الأطفال في الهواء الطلق. وتؤدي تلك البنايات أيضًا إلى زيادة التلوث الحضري الذي تفاقمه المستوطنات الإسرائيلية. وبمرور الوقت، ومع الزيادة السكانية، ستكون لهذه العوامل آثارٌ وبيلة على صحة الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة.