تتميز المساحات التعليمية عن المساحات العامة الأخرى بالعديد من الصفات التي تعطيها طابعاً خاصاً وتؤهلها لتلعب دوراً متمايزاً في التنظيم السياسي والمقاومة وكذلك لإحباط الحركة السياسية والاجتماعية. أهم هذه الصفات هي قدرة هذه المساحات على أن تجسر الهوة الطبقية والأيديولوجية بين المتعلمين/ات المتباينة خلفياتهم، حيث يضمن التعليم العام أن يتلقى الطلاب معارف متماثلة وفرص تعليمية متكافئة. هذه الميزة مهمة جداً في أي حراك شعبي أو اشتباك حيث تؤثر الفروقات الطبقية الصارخة وانعدام العدالة في توزيع الموارد إلى إضعاف أثر أي انتفاضة أو اشتباك. وليس غريباً أن تقوم إسرائيل بتحريك أي فروقات طبقية أو أيديولوجية لصالحها لوأد محاولة لحراك شعبي.
يتناول التحليل التالي شكل قطاع التعليم الفلسطيني إن تم حدوث تحرك شعبي ضمن انتفاضة فلسطينية جديدة.
التمويل
من المتوقع أن يتأثر تمويل تعليم الفلسطينيين بدرجات متفاوتة وفقاً لأماكن تواجدهم وحسب المؤسسات التعليمية التي ينتسبون إليها (السلطة الفلسطينية، المعارف الإسرائيلية، وكالة الغوث، الأوقاف، القطاع الخاص، وغيرها). لكن المشترك بين مناطق التواجد الفلسطيني هو أن قدرات التمويل ستتأثر بشدة وذلك لسببين: الأول أن حالة الاشتباك ستلقي بظلالها على أولويات التمويل الحكومية (السلطة الفلسطينية) وغير الحكومية (وكالة الغوث)، حيث من المتوقع أن تزيد حصة إنفاق السلطة الفلسطينية على قطاع الأمن على حساب قطاع التعليم، وأن يزيد إنفاق الأونروا لقطاع الإغاثة والتشغيل على حساب قطاع التعليم.
في ذات الوقت، من المتوقع أن يزيد التمويل للتعليم في مختلف المناطق إذا لم تُحدث الانتفاضة الشعبية تغييرًا كبيرًا في الوضع الراهن، وذلك لأن التحركات الشعبية تخلق فرصًا لأصحاب المصلحة للاستثمار في استعادة الوضع الراهن، فمثلاً، أعقب الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987-1993) اتفاقية أوسلو و”عملية السلام” والتي أفرزت خطاب “بناء الدولة”، والذي كان من مرتكزاته، بناء مؤسسات التعليم. الجدير بالذكر أن استثمار الممولين بالتعليم كان سخياً لخصوصية التعليم وارتباطه بالطفولة والتي مثلت مساحة آمنة للاستثمار في سياق الجو السياسي المشحون وقتها بقضايا السيادة والأمن.
الجودة
يتطلب العمل على جودة التعليم وربطها بمستقبل فلسطين السياسي والاجتماعي والاقتصادي عدة مقومات منها وضوح الرؤية السياسية والتغلب على الانقسام السياسي والمكاني. ومن شأن غياب هذه المقومات، في ظل الحراك الشعبي، أن يغيب التركيز على الجودة.
وفي الوقت ذاته، يجدر إعادة تعريف مصطلح الجودة داخل إطار ثوري، فقد تشكل حالة الاشتباك الشعبي مع أدوات وأجهزة و بنى القمع والاستبداد سياقاً مناسباً لتجريب وتطوير أساليب تربوية أصيلة مرتكزة على الحال السياسي، ووثيقة الصلة بأهداف الحراك. فمثلاً، سيعطي هذا السياق الفرصة لطرائق جديدة كالتعليم الشعبي الذي كان للفلسطينيين تجربة فيه خلال فترات مختلفة من الانتفاضة الأولى في غزة والضفة. كرد فعل على إغلاق المدارس والجامعات خلال الانتفاضة الأولى قام العديد من المربين والمعلمين/ات بتنظيم حركات دراسية في بيوتهم وفي المساحات المجتمعية وذلك بشكل غير مركزي، وعفوي، وطوعي. لم يكن رد السلطات العسكرية الإسرائيلية مفاجئاً حينها حيث عمدت على تجريم هذه المبادرات حتى وإن كانت تتم في البيوت، وعمدت إلى فرض العقوبات والغرامات على من كانوا يقومون بتنظيم هذه الدروس أو الجلسات.
المميز في التعليم الشعبي، من ناحية الجودة، هو قدرته على بناء معارف ومهارات تعكس حالة الكفاح الوطني، وبشكل أفقي وغير مركزي، وهو ما يلعب دوراً في تحرير المعرفة لتصبح ملكاً لكل المعلمين والمتعلمين، وبشكل يتجاوز البيروقراطية وجماد المحتوى والطرق ومعيرتهما. من شأن هذه الطريقة أن توفر معرفة مشكلة ومبنية على التجربة الشخصية لكل من المتعلمين والمعلمين على حد سواء. ولكن على الرغم من أهمية هذه الطريقة، من الصعب التكهن إذا ما كانت ستنجح على الأمد الطويل في ظل غياب أي مصادر تدعم صمود القائمين عليها.
البنية التحتية
من المرجح أن تستمر البنية التحتية القائمة خلال الحراك الشعبي، ويرجع ذلك إلى صعوبة تفكيك وإعادة بناء البنية التعليمية وحاجتها إلى مصادر مالية وبشرية كبيرة. حدث ذلك في التاريخ المعاصر عندما أبقت إسرائيل على بنى التعليم العام عقب احتلالها للضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، وغزة عام 1967 بعد أن ورثت هذه البنى من الإدارة الأردنية والمصرية على الترتيب. حدث ذلك أيضاً عندما قامت السلطة الفلسطينية عام 1994 ببناء النظام التعليمي وهيكلية التعليم بناء على ما كان قبل اتفاقية أوسلو. الجدير بالذكر أن حالة الاشتباك الشعبي لا توفر الظروف المناسبة لنقض البنية الموجودة، ولكنها تؤسس وتفسح المجال لهيكليات ورؤى وبيروقراطية محدثة تعقب الواقع السياسي المستجد.
وعلى الرغم من الثبات النسبي لهذه البنى خلال غياب الاستقرار، إلا أن السياق قد يفتح المجال لتكوين اتحادات معلمين ومعلمات فاعلة، تستغل المساحات والخطاب السياسي القائم للمناصرة نحو حقوق وظروف أفضل للعاملين في هذا القطاع. ترتكز أهمية هذه الاتحادات في اتساع قاعدتها من العاملين وهو ما يعني قدرتها على التأثير على القرار التعليمي، وأيضاً السياسي. من المتوقع أيضاً أن تقوم هذه الاتحادات بمطالب تتخطى ظروف عمل العاملين/ات لتركز على تحرير المعرفة والأساليب المستخدمة في التعليم بحيث تتماشى وتساند صوت الشارع. هذا السياق قد يفتح المجال أيضاً لبناء حركة طلابية وطنية، ليس فقط في إطار الجامعات، ولكن أيضاً بين فئة الشباب واليافعين. وكلما طالت حالة الاشتباك، ستتمكن تلك الحركة تدريجياً من التأثير في خطاب الشارع السياسي.
المحتوى (المناهج)
في الوقت الذي قد نشهد فيه عدم تبدل البنية التحتية العامة للتعليم، يمكن النظر إلى المحتوى والمناهج كمساحة بديلة للتغيير. ويكمن ذلك في سهولة الأمر نسبياً مقارنة بالبنية التحتية القائمة حيث لا يتطلب الأمر موازنات وتغييرات هيكلية جوهرية. وبالتالي توفر المساحات التعليمية القائمة إمكانية تحريك الطلاب والعاملين نحو رؤى سياسية جديدة وثورية، تتجسد في تخطي المناهج والمحتوى الرتيب والانطلاق منه إلى ما يجب فعله لتحرير المعرفة والمؤسسة التعليمية. قد نشهد مثلاً تبلور المواد الدراسية كاللغة العربية والجغرافيا والتاريخ حول الأدب الشعبي والوطني، والتاريخ السياسي، بشكل يؤسس لمعرفة تحررية. وتحقيق هذا الأمر سيتطلب تحفيز الشعب المنتفض على التصرف بطريقة لامركزية ومنسقة خارج سلطة الإدارة التعليمية. لذا من المتوقع أن يضطلع المعلمون/ات بأدوار قيادية باتجاه ينسجم من الرؤى السياسية للحراك الشعبي.