ينطلق هذا التحليل من افتراض أن أي حل و/أو إعادة تشكيل لبنى ووظائف السلطة الفلسطينية لن يكون قراراً فلسطينياً حصرياً حيث سيكون لإسرائيل اليد العليا في إقراره وتنفيذه. لذلك يتناول هذا التحليل شكل وبنى النظام التعليمي للفلسطينيين إذا ما تولت إسرائيل أمر الفلسطينيين بالكامل.
قرار إسرائيلي
يمكن القول إنه في حال حلت إسرائيل السلطة الفلسطينية، سيترتب على ذلك انتقال المسؤوليات التي كانت تقوم بها السلطة الفلسطينية إلى الحاكم العسكري الإسرائيلي، مما يعنى أن تعليم الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية (بما فيها القدس الشرقية) سينظمه بشكل مباشر الفاعل الإسرائيلي. ويضم الفاعل الإسرائيلي هنا الجيش والحاكم العسكري، والجامعات والعاملون الإسرائيليون في حقل التربية والتعليم. حيث سيناط بهم النصح فيما يتعلق بالبنى والمحتوى والتخطيط بالشكل الذي يضمن ألا تتحول المساحات التعليمية إلى مساحات سياسية للحراك الشعبي والتعبئة الوطنية. ولولا هذا الأثر المحتمل لهذه المساحات التعليمية، لأناطت إسرائيل بتعليم الفلسطينيين جملة لأطراف دولية، منها على سبيل المثال وكالة الغوث.
وفي حقيقة الأمر، يمثل إلقاء مسؤولية تعليم الفلسطينيين على وكالة الغوث فرصة للتخلص من عبء الإدارة والتمويل، ولكن ذلك يعني أمرين جللين، كلاهما يعمل ضد منطق الإنهاء والتخلص من الفلسطيني كنظام استعمار استيطاني. أول هذان الأمران هو تحول إسرائيل إلى فاعل سلبي في صياغة وعي الفلسطيني الأصلي في الوقت الذي ستحتاج إسرائيل إلى ذلك خاصة في أعقاب أي ضم للضفة الغربية، أو أجزاء منها، أو كنتيجة لاختفاء السلطة الفلسطينية من المشهد بما تمثله من وسيط يمنع الاشتباك المباشر. أما ثاني الأمرين فيتمثل في أن الإبقاء على دور وكالة الغوث، وهي المرشحة التقليدية للقيام بهذا الدور للكثير من الأسباب، التي يطول شرحها هنا، يعني تعميق هوية اللاجئ وتاريخ ورواية الفلسطيني الأصلي وهو ما سعت وتسعى إسرائيل على الدوام إلى تمويعه وتشويهه واذابته.
هذه التصورات تبقي احتمالاً ضئيلاً وهو أن تترك إسرائيل مسؤولية التعليم للفلسطينيين أنفسهم ينظمونه بعيداً عن البنى الرسمية أو ضمن ترتيبات تشبه التعليم الخاص و/أو الشعبي كتلك التي شاعت في أوقات إغلاق إسرائيل للمدارس والجامعات خلال الانتفاضة الأولى. يعتبر هذا الاحتمال ضعيفاً لأنه يعني مخاطرة إسرائيل عبر تركها مساحات فارغة للفلسطينيين للمناورة، أو بناء الذات أو الجمع الفلسطيني. كما يعنى ذلك احتمالية أن ينهض الفلسطينيون بتعليم أنفسهم (من ناحية الجودة) بالشكل الذي لا يضمن تبعية الأفراد للاقتصاد الإسرائيلي.
يناقش التحليل التالي شكل قطاع التعليم الفلسطيني في حال أصبح النظام الإسرائيلي هو القيِّم عليه.
التمويل والأولويات
لإسرائيل تجربة طويلة في القدرة على إدارة نظامي تعليم للفلسطينيين الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية واليهود داخل حدود عام 1948. وحافظت إسرائيل على ترتيب من هذا النوع، خلال احتلالها غزة والضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، عام 1967. أدى ذلك، في وقتنا الحالي، إلى تهميش التعليم في القرى العربية بالداخل، كما أدى بالسابق إلى تهميش تعليم الفلسطينيين في الضفة وغزة حيث لم تبن إسرائيل لا مدرسة ولا جامعة، ولم تطور مناهج بل استخدمت قبضتها على قطاع التعليم لإفراغه من أهدافه الوطنية.
هذا يعني أنه سيتمخض عن السيناريو الحالي، الإنفاق على قطاع التعليم بالحد الأدنى ليس فقط مقارنة بما ينفق على التعليم لصالح المواطنين في إسرائيل، ولكن أيضاً مقارنة مع إنفاق السلطة الفلسطينية الحالي على التعليم. وقد تتحلل إسرائيل حتى من هذا العبء عبر قبول تمويل التعليم من أطراف دولية وعربية بشرط أن تحافظ إسرائيل على سيطرتها على إدارة البنى والبيروقراطية، والموارد البشرية، والمحتوى.
الجودة
إذا حل النظام الإسرائيلي السلطة الفلسطينية وضم الفلسطينيين كمواطنين سيعني ذلك دوماً أن الفلسطينيين في غزة والضفة سيتعلمون فقط بما يخدم دورهم الهامشي والملحق بالاقتصاد الإسرائيلي. أي أن جودة التعليم ستتركز على مجموعة من المهارات والمعارف الدنيا التي تخدم دورهم كعمال. هذا يعني أيضاً أن جودة التعليم تلك لن تمكنهم من الالتحاق بالجامعات ومؤسسات التعليم بالخارج. ولهذا سابقة حيث كانت وكالة الغوث، منذ نشأتها عام 1949 تحاول أن يحصل الفلسطينيون في الشتات على جودة تعليم أقل من نظرائهم بالدول المستضيفة لتسهيل اندماجهم عبر ضمان دونيتهم، وستعمل إسرائيل على أن تبقى لها الأسبقية، وللفلسطينيين ولتعليمهم الدونية على الدوام.
يظهر سرد ممارسات الاحتلال في ميدان التربية والتعليم أن إسرائيل لم، ولن، تقدم على أي عمل تطويري ينهض بالجودة كونها كانت تكتفي بتحريك وتطويع التعليم ليخدم مصالحها عبر تقويض محاولات الحراك السياسي. وهذا يعني أنها ستحاول أيضاً منع انفتاح التعليم على حركات التعليم الدولية مثل “التعليم للجميع” أو اختبارات الجودة العالمية التي من شأنها تحريك عجلة التعليم والدفع بجودته.
البنية التحتية
حتى وإن تم انهيار السلطة الفلسطينية، فيمكن القول إن مشهد التعليم قد يديره على الأرض أطراف عدة – أي قد يتطور قطاع تعليمي هجين يكون فيه دور للقطاع الخاص، والأونروا، والحاكم العسكري، و/أو الأوقاف – كما هو الحال اليوم في القدس الشرقية. في الوقت ذاته ستكون للسلطات الإسرائيلية كلمة الفصل فيما يتعلق بالأهداف، والوظيفة، والإدارة، والجودة والمحتوى والأهداف. وحتى لو كانت هناك أطراف أخرى كالتعليم الخاص والأونروا ضمن مزودي خدمة التعليم، إلا أن كلاهما سيخضع إما بشكل مباشر أو غير مباشر إلى سياسات إسرائيل بما يتعلق بالتعليم. فعلى سبيل المثال، سيضطر القطاع الخاص إلى محاباة السلطات، واستعمال ما تقره إسرائيل من مناهج بغية الاستمرار في العمل في هذا القطاع، أما إدارة الأونروا فستتبع نهجاً براغماتياً يمكنّها من التحرك ضمن المتاح لها من مساحة، مستعينة بمنطق العمل الإنساني الإغاثي.
وضمن هذا السيناريو سيتم توظيف المعلمين والمعلمات بالشكل الذي يضمن عدم انحيازهم إلى قضيتهم الوطنية، ولذلك، سيكون الانضمام إلى هذه البيروقراطية الجديدة محكوماً بالانتماء السياسي والنشاط السياسي السابق، وهو ما يعني أن أجهزة المخابرات سيكون لها القول الفصل ليس فقط عند التوظيف، ولكن في المتابعة لنشاط هؤلاء الموظفين بعد ذلك. وفي هذا الإطار سيتم تسويق التعليم كرأس مال بشري يجب التركيز عليه لنماء غزة والضفة وسينظر إلى أي عمليات لتسييس التعليم (من الفلسطينيين) على أنها أعمال غير مسؤولة.
وفيما يتعلق بالعمل النقابي والاتحادات، فلن تسمح إسرائيل بتشكل نقابة للمعلمين يختارها المعلمون/ات أنفسهم/ن بشكل ديمقراطي وشفاف، وبدلاً منه قد تخلق إسرائيل جسماً بديلاً مكون من فلسطينيين يعمل كوسيط بين طبقة المعلمين وممن هم في أعلى الهرم الإداري المتسم بالمركزية. وسيناط بهذا الجسم، الذي قد يعطي جملة من الامتيازات كاقرار العلاوات وخلافه، مسؤولية تلقي الشكاوى والتعامل معها أو إدارتها بالشكل الذي يعطل إمكانية أن يتحول الآلاف من المعلمين إلى قوة سياسية مؤثرة في القرار التعليمي.
أما بالنسبة إلى الهيئات الإدارية وشؤون المديريات والمناطق التعليمية فستتميز بالمركزية وسيديرها في أعلى الهرم لجان مشكلة خصيصاً لإدارة تعليم الفلسطينيين تضم علماء اجتماع وانثروبولوجيون وتربويون وغيرهم ممن يعملون بالجامعات الإسرائيلية ومراكز الأبحاث. إلاّ أن هذه اللجان لن تكون مقتصرة على طبقة التقنيون ممن سيعطون النصيحة حول أفضل السبل لتحقيق الأسرلة/التحكم/أو الإجهاز على هوية الأصلي، ولكن ستضم أيضاً جهات أمنية واستخباراتية ترفع تقاريرها مباشرة للحاكم العسكري.
من المرجح أن تحافظ إسرائيل على القوانين والتشريعات التي تنظم العملية التعليمية خاصة وإن كانت تنسجم مع أهدافها كما فعلت في الضفة الغربية وغزة إبان احتلالهما عام 1967، وستسند إسرائيل هذه القوانين بمجموعة من الأوامر العسكرية. ولذا فمن غير المرجح أن تنفذ إسرائيل قوانينها وتشريعاتها السارية بأي شكل يضمن تقارب حقوق الفلسطينيين والإسرائيليين تحت مظلة الحقوق والقانون.
المحتوى (المناهج)
تعتمد الخطط فيما يتعلق بالمحتوى والمناهج كثيراً على تفاصيل سيناريو حل السلطة و/أو إعادة تشكيلها. الاحتمال الأقرب للحدوث هو أن حل السلطة لن يترتب عليه ضم السكان ليصبحوا مواطنين في إسرائيل وبذلك يمكن القول إن النظام التعليمي للفلسطينيين، بما في ذلك المناهج، سيتطور بشكل فريد ومتمايز عن تعليم المواطنين في إسرائيل. ينسجم هذا التصور مع طريقة إسرائيل الطويلة الأمد فيما يتعلق بإدارة الشأن العام وهو ما حدث قبل ذلك خلال احتلالها لغزة والضفة، بما فيها القدس الشرقية، وصولاً إلى إنشاء السلطة الفلسطينية. حيث عمدت إسرائيل، عبر جملة من الأوامر العسكرية، إلى الإبقاء على تدريس المناهج الأردنية والمصرية، بعد المراجعة والحذف، ولم تستثمر في تطوير المناهج أو في تدريب المعلمين/ات على الإطلاق خلال تلك الفترة.
المؤكد أن استراتيجية إسرائيل ستركز على إهمال القطاع التعليمي، وبذلك لن يتم تطوير مناهج جديدة أو تحديثها كل فترة، وستبقى هذه المناهج قيد الاستخدام لفترة طويلة وستصبح قديمة وغير عصرية، بشكل يخرج أجيالاً غير مرتبطة بالتقنية الحديثة أو بالمحيط العربي أو التراث الفلسطيني. سيضمن هذا النهج تبعية القوى العاملة الفلسطينية لسوق العمل والاقتصاد الإسرائيلي، حتى وان تكوّن هناك اقتصاد فلسطيني فرعي أو موازي، فسيكون هشاً غير قابل للنمو.