
ملخص تنفيذي
الملخص التنفيذي
أصبحت الصهيونية المسيحية أداة رئيسية للنفوذ الإسرائيلي في الجنوب العالمي، وتبرز جنوب إفريقيا اليوم كساحة مركزية لهذا الصراع. فبعد أن كانت متجذِّرة في لاهوت إمبريالي منذ القرن التاسع عشر، أضحت الصهيونية المسيحية في الوقت الراهن مشروعًا سياسيًّا يسعى إلى إضفاء الشرعية على الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي عبر الروايات الدينية. وفي جنوب إفريقيا -التي طالما شكَّلت حصنًا راسخًا للتضامن بين السود والفلسطينيين- يهدِّد الانتشار المتسارع للصهيونية المسيحية بإضعاف الدعم الشعبي لتحرير الشعب الفلسطيني وتعزيز جهود الضغط المؤيِّدة لإسرائيل.
توسَّعت التحالفات الداعمة لإسرائيل مع شبكات الصهيونية المسيحية بالتوازي مع نموِّ الكنائس الخمسينية وجماعات "إنجيل الازدهار" في جنوب إفريقيا خلال العقود الماضية. إذ تعمل هذه التوجُّهات اللاهوتية على تقديم دعم إسرائيل بوصفه واجبًا دينيًّا، وأسهمت في بلورة لوبي مؤيِّد لإسرائيل وقاعدة واسعة تُحجِم عن الانخراط في الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني. ويمثِّل ذلك خطرًا متزايدًا على المشهد السياسي في جنوب إفريقيا في ظل تصاعد الائتلافات كضرورة سياسية داخل البرلمان، حيث يمكن لأحزاب صغيرة مؤيِّدة لإسرائيل التأثير بصورة مضخَّمة في صنع القرار.
لمواجهة هذا المنحى وتعزيز التزام جنوب إفريقيا التاريخي بمشروع التحرُّر الفلسطيني، يقدِّم هذا الموجز السياساتي مجموعة من التوصيات الموجَّهة إلى الجهات التالية:
الحركات الشعبية والشبابية
- إعادة تأطير القضية الفلسطينية بوصفها جزءًا من مشروع التحرُّر من الاستعمار في الجنوب العالمي، وربطها بتاريخ جنوب إفريقيا النضالي ضدَّ نظام الفصل العنصري.
- كشف الصهيونية المسيحية بوصفها أداة لمصالح استعمارية جديدة، وتسليط الضوء على دور إسرائيل في القمع العالمي، بما يشمل تجارة السلاح والتجسُّس ودعم الأنظمة الاستبدادية.
- بناء تحالفات بين منظمات المقاطعة والتشكيلات الشبابية والحركات الشعبية لمواجهة الروايات الصهيونية وربط تحرير فلسطين بالنضالات الإفريقية الأوسع.
الفاعلون في مجال السياسات والرقابة الإعلامية
- التحقيق وكشف شبكات الصهيونية المسيحية ومسارات التمويل والتعاون مع النظام الإسرائيلي.
- تعزيز الرقابة على المنظمات غير الحكومية والجمعيات المتورِّطة في انتهاكات الحقوق، وسحب صفة المنفعة العامة عند اللزوم.
- إغلاق الثغرات القانونية التي تتيح تمويل الأنشطة الإسرائيلية غير القانونية وزيادة الشفافية في تقارير الإعفاءات الضريبية.
القيادات والمؤسسات الدينية
- تعزيز لاهوت التحرير كبديل للصهيونية المسيحية، وتشجيع الكنائس على تبنِّي تضامنًا يستند إلى العدالة.
- الاستفادة من المنتديات الدولية -بما في ذلك مجلس الكنائس العالمي- في إيصال الرواية النضالية الفلسطينية.
- تقوية وتدويل الشراكات مع الحركة المسيحية الفلسطينية "كايروس فلسطين"، الداعية إلى إنهاء الاحتلال، بما يشمل تعميق التنسيق مع "كايروس جنوب إفريقيا".
مقدمة
في القرن التاسع عشر، استخدمت الإمبراطوريات الأوروبية الإرساليات المسيحية لإضفاء الشرعية على غزوها الأراضي الإفريقية، ونهب الموارد، وترسيخ الهيمنة الثقافية. فأسهمت المدارس والكنائس التبشيرية في نشر القيم الغربية وتقويض التقاليد الإفريقية، وربطت خدمة الإمبراطورية بخدمة الرب. وفي الفترة نفسها تقريبًا، ناصر الإنجيليون البريطانيون فكرةَ إنشاء كيان صهيوني في فلسطين. ورغم أن الدعوة إلى عودة اليهود إلى أرض فلسطين تعود إلى العصور الوسطى في أوروبا، فإن اللورد شافتسبري -أحد أبرز رموز الصهيونية المسيحية في إنجلترا الفيكتورية- هو من سعى في مطلع القرن التاسع عشر لإقناع وزير الخارجية اللورد بالمرستون بدعم توطين اليهود في فلسطين بوصفه وسيلة لتعزيز النفوذ البريطاني في مواجهة الطموحات الفرنسية والروسية المنافسة. وبهذا، أعاد الإنجيليون صياغة الصهيونية المسيحية لتتحول من عقيدة لاهوتية إلى أيديولوجية سياسية يخدم فيها الشعورُ الديني المصالحَ الاستعمارية.1
وترتكز الصهيونية المسيحية المعاصرة على الاعتقاد بأن قيام دولة يهودية في فلسطين شرط لعودة المسيح ونهاية العالم، حيث يجري تصوير إسرائيل الحديثة باعتبارها امتدادًا للمملكة التوراتية، وتُطرح سياساتها كـ مشيئة إلهية، مع تصوير الوجود الفلسطيني كعقبة أمام “خطة” مزعومة إلهيًّا. وبذلك يُعاد تأطير تهجير الفلسطينيين قسرًا ليس فقط كأمر مبرَّر، بل كتكليف ديني.
يتناول هذا الموجز السياساتي انتشار الصهيونية المسيحية المؤيِّدة لإسرائيل في الجنوب العالمي، مع التركيز في جنوب إفريقيا التي شكَّلت تاريخيًّا حصنًا لتضامن السود والفلسطينيين. ويبيِّن كيف سعى النظام الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي إلى تقويض هذا التضامن عبر استثمار الصهيونية المسيحية في الضغط لصالح الدولة الاستيطانية وإضعاف التأييد الشعبي لحقوق الشعب الفلسطيني.
الصهيونية المسيحية في الجنوب العالمي
سعى النظام الإسرائيلي، منذ عقود، إلى تجاوز مقاومة التطبيع في بلدان الجنوب العالمي، وهي مقاومة متجذِّرة في التضامن المناهض للاستعمار ودعم منظمة التحرير الفلسطينية. وهو ما تزامن مع صعود التيارات اللاهوتية الخمسينية والتيارات اللاهوتية المسيحية التدبيرية الألفية في إفريقيا وأمريكا اللاتينية خلال العقود الثلاثة الماضية. في عام 2004، استحدثَ صانعو القرار الإسرائيليون “تجمُّع الحلفاء المسيحيين” في الكنيست بهدف “إقامة قنوات مباشرة للتواصل والتعاون والتنسيق” مع القادة المسيحيين حول العالم.
إذا تمكَّنت الصهيونية المسيحية والتضامن مع إسرائيل من مدِّ جذورهما في جنوب إفريقيا، هذا المعقل الراسخ للتضامن مع فلسطين، فسيكون لذلك تأثير بالغ في سائر دول الجنوب العالمي Share on Xتواصل الصهيونية المسيحية كسب مزيد من النفوذ خارج نطاق الشمال العالمي، وهو ما يتجلى في التحولات التي شهدها عيد المظال، وهو تجمع إنجيلي سنوي يُعقد في القدس منذ عام 1980 لإظهار الدعم لإسرائيل. ففي أول دورة للعيد، كان الأمريكيون يشكِّلون نحو نصف المشاركين البالغ عددهم 3,000 شخص. غير أنه بحلول عام 2008، أصبحت البرازيل صاحبة أكبر وفد، إذ بلغ عدد المشاركين منها ما بين 1,300 و1,500 شخص. وانطلاقًا من هذا التوسُّع في قاعدة الدعم المسيحي لإسرائيل في الجنوب العالمي، افتتحت السفارة المسيحية الدولية في القدس -وهي من أبرز مؤسسات الصهيونية المسيحية في العالم- مكتبًا لها في ريو دي جانيرو عام 2023.
في جنوب إفريقيا، يرتبط تنامي نفوذ الصهيونية المسيحية ارتباطًا وثيقًا بالانتشار السريع للتيارات اللاهوتية المنسجمة مع معتقداتها الأساسية. فعلى سبيل المثال، لم يكُن أتباع الكنائس الخمسينية يشكِّلون سوى 0.2٪ من المسيحيين في جنوب إفريقيا عام 1950، بينما يشكِّلون اليوم نحو 10٪ منهم. وتشير الاستطلاعات إلى أن مستوى الدعم لإسرائيل في أوساط المجموعات الكنسية الخمسينية يبلغ ضعف مستواه في المتوسط لدى المجموعات المسيحية الأخرى. ورغم أن الخمسينيين ليسوا جميعًا مؤيِّدين لإسرائيل، فإنهم يميلون إلى التفسير الحرفي للنبوءات التوراتية، ما يجعلهم أكثر قابلية لتبنِّي فكرة أن الدولة الإسرائيلية الحديثة تُحقِّق النبوءات. ويدفع هذا التوجُّه بالخمسينيين إلى الاصطفاف مع السرديات الصهيونية المسيحية، ويساهم في تسجيل مستويات دعم أعلى لإسرائيل مقارنة بالطوائف الأخرى.
جديرٌ بالذكر أن صعود الصهيونية المسيحية في جنوب إفريقيا يحمل في طياته تداعيات مهمة على حركة التضامن مع فلسطين. فللفلسطينيين والسود في جنوب إفريقيا تاريخٌ من النضال ضد الفصل العنصري والاستعمار، دعمَ فيه كلُّ طرفٍ سعيَ الطرف الآخر نحو التحرر. ولطالما حافظت منظمة التحرير الفلسطينية على روابط الدعم والتضامن المتبادل مع حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، بما في ذلك تدريب المقاتلين جنوب الإفريقيين من أجل الحرية إبَّان نضالهم ضد الفصل العنصري. وهذا التضامن بين السود والفلسطينيين يتناقضُ تناقضًا واضحًا مع دعم إسرائيل التاريخي لنظام الفصل العنصري الأبيض، الذي تضمَّن إرسالَ قوات عسكرية والمساهمة في قمع كفاح جنوب إفريقيا من أجل الحرية، بل والحركات التحررية الإفريقية الأخرى.
أسهمت هذه العوامل في جعل جنوب إفريقيا قوةً مؤثرة في دعم تحرير فلسطين، وتجسَّد ذلك أخيرًا في الدعوى التي رفعتها أمام محكمة العدل الدولية واتهمت إسرائيلَ فيها بارتكاب إبادةٍ جماعية. وفي المقابل، كثّفت الحكومة الإسرائيلية جهودها الدبلوماسية العامة -وتدخلاتها- في جنوب إفريقيا، سعيًا إلى إضعاف هذا التضامن. وإذا تمكَّنت الصهيونية المسيحية والتضامن مع إسرائيل من مدِّ جذورهما في جنوب إفريقيا، هذا المعقل الراسخ للتضامن مع فلسطين، فسيكون لذلك تأثير بالغ في سائر دول الجنوب العالمي.
شبكات تأييد إسرائيل في جنوب إفريقيا
لا توجد صيغة واحدة أو تعريف متفق عليه عالميًّا للصهيونية المسيحية، ويتفاوت مستوى الدعم للنظام الإسرائيلي تفاوتًا واسعًا، فيتراوح بين صلوات شكلية محضة تُؤدَّى أثناء القدَّاس وتقديم الدعم المالي إلى المستوطنين الذين يستولون على الأراضي والمنازل الفلسطينية. وعمومًا، يمكن تصنيف الصهيونية المسيحية في جنوب إفريقيا إلى مجموعتين رئيسيتين: جماعة ضغط نشيطة مؤيدة لإسرائيل، وتيار تعبُّدي أوسع نطاقًا وأقل نشاطًا ينتهجه أفراد أو مجموعات كنسية يعتنقون اللاهوت الصهيوني المسيحي الذي يُمجِّد الدولة الإسرائيلية، ولكنهم لا يمارسون أي نشاط سياسي مباشر لدعمها.
الجماعات الصهيونية المسيحية النشيطة هي تلك التي تعبِّر عن إيمانها من خلال تقديم دعمٍ فعلي إلى النظام الإسرائيلي وأهدافه الجيوسياسية. ورغم انخراط هذه الجماعات في قضايا سياسية متعددة، فإن تأييد الصهيونية يبقى محورًا رئيسًا في معتقداتها ونشاطها المناصر. وعليه، تحافظ هذه الجماعات على روابط وثيقة مع شبكات إسرائيلية وصهيونية تسعى إلى تعزيز دعم النظام الإسرائيلي محليًّا ودوليًّا.
ترتبط الجماعات الصهيونية المسيحية في جنوب إفريقيا ارتباطًا وثيقًا بشبكات الضغط المناصرة لإسرائيل، حيث يتنقل القادة في مناصب عبر منظمات متعددة لتعزيز الأجندات الداعمة لإسرائيل Share on Xتُعدُّ السفارة المسيحية العالمية في القدس ومنظمة “جسور السلام” من أبرز الجماعات الصهيونية المسيحية الأكثر نشاطًا وتأثيرًا في جنوب إفريقيا. وبوصفهما فرعين لحركات دولية معنية بـ”دعم إسرائيل“، فإن لهاتين المؤسستين مكاتب حول العالم، وهما تتعاونان تعاونًا وثيقًا مع منظمة أصدقاء إسرائيل في جنوب إفريقيا، التي تتعامل مباشرةً مع وزارة الشؤون الإستراتيجية الإسرائيلية، ولا سيما في أنشطة مكافحة حركة مقاطعة إسرائيل. ورغم أن السفارة المسيحية العالمية في القدس ومنظمة جسور السلام متجذرتان بشكل أساسي في أوساط المجتمعات البيضاء في جنوب إفريقيا، فإن منظمة أصدقاء إسرائيل في جنوب إفريقيا نجحت في بناء علاقات وثيقة مع المجموعات الكنسية السوداء، ونشر اللاهوت المؤيد لإسرائيل بين مختلف المجموعات العرقية.2
علاوة على هذا، تعهَّد الحزب الإفريقي الديمقراطي المسيحي -وهو حزب ذو طابع مسيحي صريح يُمثَّل في برلمان جنوب إفريقيا- في بيانه الانتخابي لعام 2024 بـ”إعادة العلاقات الدبلوماسية الكاملة مع إسرائيل” ونقل السفارة جنوب إفريقيا إلى القدس. مؤسِّس الحزب، كينيث ميشو، هو أيضًا عضو في مؤسسة حلفاء إسرائيل، وهي شبكة عالمية تسعى إلى تمرير تشريعات مؤيدة لإسرائيل في أكثر من أربعين برلمانًا وطنيًّا، من بينها برلمان جنوب إفريقيا.
ترتبط الجماعات الصهيونية المسيحية في جنوب إفريقيا ارتباطًا وثيقًا بشبكات الضغط المناصرة لإسرائيل، حيث يتنقل القادة في مناصب عبر منظمات متعددة لتعزيز الأجندات الداعمة لإسرائيل. فذاك كينيث ميشو -مؤسس الحزب الإفريقي الديمقراطي المسيحي- أسَّسَ أيضًا منظمة “دافِع واحتضِن واستثمر وادعم إسرائيل” التي تهدف إلى التصدي لحركة المقاطعة. وكان مالكوم هيدينغ -أحد أبرز اللاهوتيين في جنوب إفريقيا- يرأس منظمة العمل المسيحي من أجل إسرائيل في بلاده، ثم انتقل إلى القدس حيث تقلَّد منصب المدير التنفيذي للسفارة المسيحية العالمية في القدس. وشاركت كاساندرا ماييكيسو في تأسيس التحالف المسيحي من أجل إسرائيل في إفريقيا، ثم عملت لاحقًا مع منظمة أصدقاء إسرائيل في جنوب إفريقيا، وهي ترأس حاليًّا فرع منظمة “قِف معنا” في جنوب إفريقيا. تستغل وزارة الشؤون الإستراتيجية الإسرائيلية هذا التداخل بين قيادات الجماعات الصهيونية المسيحية والمنظمات المناصرة لإسرائيل في جنوب إفريقيا لتمرير أنشطتها من خلال قنوات محلية، تفاديًا لاتهامات التدخُّل الأجنبي.
تبقى مصادر تمويل الجماعات الصهيونية المؤيدة لإسرائيل غامضة في ظل غياب البيانات المالية المدقَّقة، رغم وجود مؤشرات تدل على تلقيها دعمًا من الحكومة الإسرائيلية. فمثلًا، تلقَّت منظمة “إعلان العدالة للأمم” -وهي منظمة صهيونية مسيحية أمريكية مصنَّفة كجماعة كراهية مناهضة للمسلمين- تمويلًا مباشرًا من الحكومة الإسرائيلية لتنظيم فعاليات في جوهانسبرغ وكيب تاون بالتعاون مع شركاء محليين، مثل الاتحاد الصهيوني جنوب الإفريقي والسفارة المسيحية العالمية في القدس. وقد اتضح ذلك نتيجةً لطلبٍ قُدِّم بموجب قانون حرية المعلومات، كُشف من خلاله عن مدفوعات أقرتها وزارة الشؤون الإستراتيجية الإسرائيلية لصالح جماعات في مختلف أنحاء العالم، ولكن لا تزال المنظمة تنكر تلقيها هذه الأموال.
تشكِّل هذه البنية من الجماعات الصهيونية المناصرة لإسرائيل شبكة ضغط منظمة، ينتقل قادتها بسلاسة بين مناصب محلية ودولية، ويتفقون على خطاب موحِّد وأهداف دعوية مشتركة في أنشطتهم داخل جنوب إفريقيا وخارجها. ونتيجة لذلك، صار هناك تشابك عميق بين المناصرة الصهيونية المسيحية المحلية في جنوب إفريقيا وبين آلة الدعاية الصهيونية الدولية الأوسع نطاقًا.
بعيدًا عن الضغط المنظَّم، تنتشر الصهيونية المسيحية أيضًا في أبرشيات إنجيل الازدهار الكنسية، التي ترى دعمَ إسرائيل واجبًا روحانيًّا مرتبطًا بالبركة الإلهية، وكذلك بالصحة والثروة والنجاح في الحياة الدنيا. تؤدي هذه التفسيرات الإنجيلية إلى وقوف عديد من الصهاينة المسيحيين -ولا سيما ضمن الجماعات المهمشة– في صف إسرائيل تلقائيًّا، وذلك عبر مساواة الإسرائيليين في النصوص التوراتية بدولة إسرائيل الحديثة وتصويرها بـ”أمة الله”.3 وانتشرت هذه الأفكار على نطاق واسع في الكنائس ومن خلال كُبرى شبكات الإعلام المسيحي، التي تصل إلى قاعدة جماهيرية واسعة وتروِّج للرسائل الصهيونية صراحةً. وقد أسهمت رحلات الحج إلى فلسطين المحتلة ومبادرات الحوار الهادفة إلى إضفاء شرعية دينية على الاحتلال الصهيوني في تعزيز هذا التصور للعالم. ونتيجة لذلك، تشهد الصهيونية المسيحية انتشارًا سريعًا عبر التيارات الخمسينية والكاريزمية في أنحاء الجنوب العالمي.
يمثِّل هذا التيار التعبُّدي الواسع -رغم كونه أقل نشاطًا من شبكات الضغط المنظمة- الغالبية من الصهيونيين المسيحيين في جنوب إفريقيا، ويلعب دورًا محوريًّا في استمرار المواقف المؤيِّدة لإسرائيل. ولا يتمثَّل تأثيره الأساسي في الدفاع العلني المباشر عن إسرائيل، بل في تشجيع الابتعاد عن التضامن مع الفلسطينيين وتعزيز الصمت تجاه حقوق الشعب الفلسطيني. ومعًا، يؤسِّس التيار التعبُّدي وشبكة الضغط المؤيِّدة لإسرائيل في جنوب إفريقيا قاعدة صهيونية راسخة، تمتدُّ من الكنائس إلى داخل البرلمان.
التأثير السياسي للقاعدة الصهيونية
يشهد حزب المؤتمر الوطني الإفريقي (الحزب الحاكم الرئيسي في جنوب إفريقيا) انخفاضًا مطردًا في عدد مقاعده البرلمانية. وينتج عن هذا التراجع اعتمادًا متزايدًا على سياسة التحالفات البرلمانية التي تتيح للأحزاب الصغيرة ممارسة نفوذ يفوق حجمها النسبي. ومن اللافت أنه مع تراجع هيمنة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، تزداد قدرة الجماعات المؤيدة لإسرائيل ضمن الأحزاب الصغيرة على التأثير السياسي.
تمتلك الأحزاب المؤيدة لإسرائيل في جنوب إفريقيا مثل: الحزب الإفريقي الديمقراطي المسيحي، وحزب الجبهة من أجل الحرية، وحزب التحالف الوطني 3 و6 و9 مقاعد برلمانية على التوالي. بمفردها، يظل نفوذ هذه الأحزاب محدودًا مقارنةً بحزب المؤتمر الوطني الإفريقي أو حزب التحالف الديمقراطي. غير أنه وفي سياق مفاوضات التحالفات أو عند وجود أصوات متقاربة، قد يصبح دعمها مؤثرًا وحاسمًا، ما يتيح لها الضغط للحصول على تنازلات في مقابل التعاون. وفي برلمان يتزايد اعتماده على التحالفات، تستطيع حتى الأحزاب المحايدة ظاهريًّا -مثل حزب الحرية “إنكاتا” الذي يمتلك 17 مقعدًا- أن تقيِّد السياسات المؤيدة للفلسطينيين عن طريق حجب الدعم، الأمر الذي يجبر حزب المؤتمر الوطني الإفريقي على تقديم تنازلات أو تعديل مواقفه للحفاظ على استقرار البرلمان واستمرار عمل الحكومة.
ومع تزايد حالة التشظِّي الحزبي في جنوب إفريقيا، يُرسِّخ تشكُّل كتلة انتخابية صهيونية مسيحية نفوذَ الأحزاب الصغيرة المؤيِّدة لإسرائيل، ويُكثِّف جهود الضغط المناوئة لالتزام البلاد التاريخي بالتضامن مع فلسطين. فشارك الأسقف ليكغانيان من الكنيسة المسيحية الصهيونية في جولة دعائية إلى فلسطين المحتلة تحت ستار “مهمة سلام”، وطلب لاحقًا من سيريل رامافوزا، رئيس جنوب إفريقيا، أن يليِّنَ موقف حزب المؤتمر الوطني الإفريقي تجاه إسرائيل. وزار إنكوسي شيمبي، رأس كنيسة الناصرة المعمدانية، مدينةَ القدس أثناء الإبادة الإسرائيلية لإظهار التضامن مع نظام الاحتلال الصهيوني، وصرَّح حينها عن مهمته بقوله: “تتمثل مهمتنا في تحويل هذا الدعم [لإسرائيل] إلى نتائج ملموسة ولتوضيح أن القيادة السياسية [في جنوب إقريقيا] لا تمثل صوت الشعب”.4 واضطلعَ قادة كنائس آخرون أيضًا بزيارات مماثلة، غالبًا ما كانت ممولةً من إسرائيل ووكلائها في جنوب إفريقيا. ومن المفارقات أن هذه الجولات الدعائية المنظَّمة بعناية تعكس الأساليب نفسها التي استخدمتها جنوب إفريقيا زمن الفصل العنصري في محاولتها غير المجدية لتحسين صورتها أمام المجتمع الدولي.
التصدي للصهيونية المسيحية
في ظل الإبادة الجماعية المستمرة التي تشنها إسرائيل في غزة، أعاد التاريخ الطويل للتضامن بين السود والفلسطينيين تنشيطَ الشبكات المناهضة للاستعمار في جميع أنحاء إفريقيا، بما في ذلك جنوب إفريقيا، إذ أصبح التصدي للصهيونية المسيحية جبهةً أخرى للنضال الأوسع من أجل تحرير الفلسطينيين.
تتجاوز المعركة ضد الصهيونية المسيحية في الجنوب العالمي حدود اللاهوت، فهي صراع ضد المصالح الاستعمارية المادية Share on Xوتصدَّر المجلسُ الكنسي جنوب الإفريقي طليعة هذا النضال، حيث نظَّم حلقات عمل ومؤتمرات لدعم فلسطين، بالإضافة إلى تصديه للصهيونية المسيحية وإنجيل الازدهار. يتعدى نشاط المجلس الكنسي جنوب الإفريقي السياسة المحلية، إذ يُسهِم أيضًا في مناصرة القضية الفلسطينية على المستوى الدولي عبر مجلس الكنائس العالمي، وتحديدًا من خلال وثيقة كايروس فلسطين التي تدعو المسيحيين في كل أنحاء العالم إلى دعم الفلسطينيين في مقاومتهم للاحتلال، وقد أصدرها علماء لاهوت مسيحيون فلسطينيون في بيت لحم عام 2009. تشبه هذه الوثيقة وثيقة كايروس لعام 1985 التي أصدرها علماء لاهوت في جنوب إفريقيا، التي دعت المسيحيين في كل أنحاء العالم إلى دعم جنوب الإفريقيين في مواجهة الفصل العنصري. وأخيرًا، انعقدت اللجنة المركزية لمجلس الكنائس العالمي في جوهانسبرغ، وأصدرت بيانًا قويًّا يدعم حقوق الفلسطينيين، ويستنكر الفصل العنصري الإسرائيلي، ويطالب بفرض عقوبات وحظر اقتصادي على إسرائيل ردًّا على انتهاكها القانونَ الدولي والإنساني.
لا تزال هناك كنائس عديدة لم تتصدَّ لدعمها السلبي للصهيونية، الذي غالبًا ما يستمر نتيجة جمود التعاليم القديمة. ومع ذلك، تبقى هناك فرصة للمشاركة الفعَّالة والتغيير. فيمكن حثُّ الجماعات الكنسية على إعادة النظر في مواقفها من خلال إبراز العلاقة بين عقائد الصهيونية المسيحية والمعاناة المباشرة للفلسطينيين. وهذا ما حدث مع نكاميسيل باميلا نغوباني التي كانت ناشطة صهيونية مسيحية بارزة، لكنها قدمت استقالتها من منصب المتحدثة باسم منظمة أصدقاء إسرائيل في جنوب إفريقيا بعد اكتشافها حقيقة قمع الفلسطينيين.
أطلقت مؤسسة مانديلا أخيرًا دعوةً لتقديم مقترحات لنيل جائزة “التضامن العملي” التي تقدمها، وأولت اهتمامًا خاصًّا بالتصدي للصهيونية المسيحية في جنوب إفريقيا. وصرَّحت المؤسسة بأن “تحريف النصوص الدينية لتبرير الهيمنة والتمييز أمر نعرفه جيدًا في جنوب إفريقيا”، وهو تصريح يربط مباشرةً بين المبررات الدينية للفصل العنصري في الماضي وبين الدعم اللاهوتي للنظام الإسرائيلي في الوقت الحاضر.
لا يمكن مواجهة الصهيونية المسيحية بالجدل اللاهوتي فقط، بل يجب التركيز في دور إسرائيل كقوة قمعية في الجنوب العالمي، حيث استهدفت المجتمعات السوداء والأصلية عبر دعم أنظمة استبدادية تمارس الإبادة الجماعية. ويشمل ذلك تأييدها لنظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، وتورطها في الإبادة الجماعية في غواتيمالا، وتقديمها الأسلحة والتدريب إلى الدكتاتورية العسكرية في البرازيل.
الخاتمة
يشكِّل تنامي الصهيونية المسيحية في جنوب إفريقيا -بفعل التفسيرات اللاهوتية الحرفية والتنسيق الدولي والمصالح السياسية- تحديًا متزايدًا لدعمها الطويل لنضال الشعب الفلسطيني من أجل التحرر. وسواء عبر الوسائل المباشرة أو غير المباشرة، أمست الصهيونية المسيحية راسخةً في أوساط بعض فئات المجتمع في جنوب إفريقيا، ولا سيما لدى التيارات الخمسينية والتيارات اللاهوتية التي تتبنى إنجيل الازدهار. عادةً ما يُقدَّم هذا الدعم الديني في صورة مبادرات إيمانية بعيدة عن السياسة، لكنه في الحقيقة يخدم الأهداف الجيوسياسية للنظام الإسرائيلي من خلال تكوين قاعدة مؤيِّدة له، تظل معزولة عن حقائق الاستعمار الصهيوني. وفي ظل تأثير هذه المعتقدات في السياسة، ولا سيما في مرحلة تعتمد على التحالفات، يتنامى خطر تراجع الموقف الرسمي لجنوب إفريقيا تجاه فلسطين.
إن تصاعد نفوذ الصهيونية المسيحية في جنوب إفريقيا والجنوب العالمي يُبرز الحاجة الملحة إلى إعادة بناء العلاقات وتعزيز التحالفات التاريخية بين سكان جنوب إفريقيا الأصليين والفلسطينيين بشكل إستراتيجي. فبدلًا من السماح للروايات الصهيونية بالهيمنة، يجب على الناشطين السعي لتوضيح حقيقة الصهيونية المسيحية، ومواجهة مبرراتها، وفضح صلاتها بالأنظمة الاستعمارية وأنظمة الفصل العنصري قديمًا وحديثًا. إن إرساء التضامن الصادق ونشر الوعي بحقيقة الاستعمار في فلسطين، وإبراز أوجه الشبه مع تجربة جنوب إفريقيا في مقاومة الفصل العنصري، يمكن أن يساعد في استعادة تلك المساحات من التأثير الصهيوني. تتجاوز المعركة ضد الصهيونية المسيحية في الجنوب العالمي حدود اللاهوت، فهي صراع ضد المصالح الاستعمارية المادية. فالأمر يتطلَّب نهجًا شعبيًّا متجددًا يقوم على استحضار التاريخ المشترك لحركات المقاومة ضد الاستعمار والإمبريالية.
التوصيات
يتطلب التصدي للصهيونية المسيحية بوصفها أداة لنفوذ إسرائيل في إفريقيا وخارجها تنسيقًا بين جهود الحركات السياسية والدوائر السياساتية والمجتمعات الدينية، لكشف دور إسرائيل في تعزيز التوسع والنفوذ الاستعماري الجديد. وتوضح التوصيات التالية خطوات عملية للناشطين والمدافعين والقادة الدينيين لتعزيز التضامن، ومواجهة التضليل الإعلامي، ودعم المقاومة العالمية.
الناشطون، ومجموعات الشباب، وحركات التضامن
- إعادة تقديم فلسطين كجزء من عملية التحرر غير المكتملة في دول الجنوب العالمي، وربطها مباشرةً بنضال جنوب إفريقيا ضد الفصل العنصري.
- فضح الصهيونية المسيحية باعتبارها أداة لمصالح الاستعمار الحديث، وتسليط الضوء على دور إسرائيل في القمع العالمي من خلال الأسلحة، وبرامج التجسس، والتدريب على الحكم الاستبدادي.
- العمل مع قدامى الناشطين في مناهضة الفصل العنصري وعلماء اللاهوت لتعزيز التضامن التاريخي.
- إقامة تحالفات بين حركة مقاطعة إسرائيل (BDS)، والشباب، والحركات الشعبية لمواجهة روايات الصهيونية وربط النضال الفلسطيني بمقاومة الأفارقة للاستعمار الجديد والرأسمالية.
- تطوير أدوات رقمية وحلقات عمل وبرامج ثقافية لتبسيط فهم الصهيونية المسيحية وتحفيز الشباب على المشاركة.
- تنسيق حملات وأنشطة مباشرة ضد الشركات المتواطئة في جرائم إسرائيل ومعارضة نقل الموارد، مثل: الفحم.
المناصرون السياساتيون، والصحفيون، والجهات الرقابية
- تقصِّي شبكات الصهيونية المسيحية وكشفها، وكشف مصادر تمويلها، وعلاقاتها بالدعاية الإسرائيلية.
- الضغط من أجل خضوع المنظمات غير الحكومية والجمعيات الخيرية المتواطئة في انتهاكات الحقوق لرقابة صارمة، وسحب صفة الجمعية الخيرية منها عند الاقتضاء.
- سدُّ الثغرات القانونية التي تسمح بتمويل الأنشطة الإسرائيلية غير القانونية، وزيادة الشفافية في تقارير الإعفاء الضريبي.
القادة الدينيون وعلماء اللاهوت
- الترويج لللاهوت التحرري كبديل للصهيونية المسيحية وإشراك الكنائس في التضامن الشعبي.
- تعزيز أصوات علماء اللاهوت الفلسطينيين وبناء تحالفات عالمية مع الكنائس التي تقاوم اللاهوت الاستعماري.
- الاستفادة من المنتديات الدولية (مثل المجلس العالمي للكنائس) لتسليط الضوء على وجهات نظر الفلسطينيين.
- توسيع مبادرة كايروس فلسطين لتصبح تحالفًا دوليًّا يوحِّد حركات التحرر في الجنوب العالمي.
- تعميق التعاون الإستراتيجي مع كايروس جنوب إفريقيا من أجل المناصرة اللاهوتية والسياسية المشتركة.
- Curtin, P.D. (1971). The “Civilizing Mission”. In: Curtin, P.D. (eds) Imperialism. The Documentary History of Western Civilization. Palgrave Macmillan, London.
- مقابلة أجراها الكاتب مع نكاميسيلي نغوباني، 20 آب/ أغسطس 2025.
- Gamedze, T. (2025). Christian Zionism in South Africa: An Initial Mapping [Manuscript submitted for publication]. Desmond Tutu Centre for Religion and Social Justice, University of the Western Cape.
- Gidron, Yotam. Israel in Africa: Security, migration, interstate politics. Bloomsbury Publishing, 2020




