AbdelWahab_policybrief_main photo_jan2025

مقدمة

أصبحت الاتصالات في القرن الواحد والعشرين، ولا سيما الإنترنت، تمثل أداةً مركزية للنضال العالمي من أجل الحرية والكرامة. وبالنسبة للفلسطينيين في غزة، الذين يعيشون تحت الحصار المستمر منذ ما يزيد عن 17 عامًا وعقود من الاحتلال المتواصل، تأخذ هذه الأداةُ بُعدًا آخر، حيث تشكل خدمات الاتصالات والإنترنت قنوات حيوية للتواصل مع العالم الخارجي، ونافذةً لعرض معاناتهم أمام المجتمع الدولي. يدركُ النظام الإسرائيلي أهمية هذه الأداة وقدرتها على توثيق وبث عنفه الاستعماري الوحشي، ولذلك فرض الاحتلال هيمنة معلوماتية رقمية على الشعب الفلسطيني.

وفقاً لبيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، بلغ معدل استخدام الإنترنت بين الأفراد (10 سنوات فأكثر) في فلسطين حوالي 88% في عام 2022، بواقع 92% في الضفة الغربية، و 83% في غزة، الأمر الذي يعكس الاعتماد المتزايد على الإنترنت في مختلف جوانب الحياة اليومية، سواء للتعليم أو العمل أو التجارة. كما تُبرز تلك المعدلات دور الإنترنت الجوهري في  دعم جسور التواصل بين الفلسطينيين الذين فرقتهم الانقسامات الجغرافية والسياسية في ظل الشتات المتنامي، غير أن الفلسطينيين في الضفة الغربية و غزة يواجهون قيودًا إسرائيلية صارمة تعوقهم من دخول العالم الرقمي. فلم تسمح السلطة الإسرائيلية لشركات الاتصالات في الضفة الغربية باستخدام تكنولوجيا الجيل الثالث قبل العام 2018 وتكنولوجيا الجيل الرابع في مطلع 2023. أمّا غزة، فما تزال حبيسة الماضي إذ لا يسمح النظام الإسرائيلي لها باستخدام سوى تكنولوجيا الجيل الثاني مما يجعلها من أكثر المناطق المحاصرة رقميًا في العالم. وتفاقمت هذه التحديات الرقمية وتحولت إلى أزمة منذ بداية الحرب الإبادية الإسرائيلية على غزة، حيث عمدت القوات الإسرائيلية على تدمير البنية التحتية على نطاق واسع.

يصاحب نشر هذا الموجز دخول المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار بين حماس والحكومة الإسرائيلية حيز التنفيذ. وتأتي هذه الصفقة بعد أن شنت القوات الإسرائيل حرب إبادة جماعية مدمرة استمرت 15 شهرًا، قتلت خلالها عشرات الآلاف من االفلسطينين في غزة، وخلفت أعدادًا أكبر بكثير من الجرحى. كما كان للقصف الإسرائيلي المكثف على غزة تأثير كارثي على بنيتها التحتية بما في ذلك شبكة الاتصالات، مما أجبر السكان على مواجهة الحرب في ظل انقطاع شبه كامل للإنترنت والهواتف الخلوية.

تسببت الغارات الإسرائيلية في تدمير البنية التحتية وانقطاع الإنترنت والاتصالات عن معظم سكان غزة لفترات طويلة. وأصبح الفلسطينيون في غزة معرضين للخطر بسبب عدم استطاعتهم الحصول على معلومات قد تنقذ حياتهم، أو الاتصال بأسرهم. وقد تضرَّر القطاع الصحي بشدة جراء تعطيل الحكومة الإسرائيلية الاتصالات وخدمات الإنترنت عن غزة، حيث إن حجب التغطية يعوق تنسيق الاستجابة الطبية الطارئة. وبالرغم من أن البلديات استطاعت تحسين القدرة على الدخول إلى الإنترنت، إلا أن نسبة مستوى الوصول إلى الإنترنت لا تزال محدودة بعد انخفاضها بنسبة 80%.

يتناول هذا الموجز السياساتي الأثر الكارثي لِما يفعله النظام الإسرائيلي من تدمير البنية التحتية للاتصالات والإنترنت في غزة. ويضع الهجوم الإسرائيلي على قطاع الاتصالات ضمن إطار الاستعمار الحديث (النيو-كولونيالية)، ويوضح كيف تساهم السيطرة على البنية التحتية الرقمية في تعزيز الهيمنة السياسية والاقتصادية، وهي من أهم سمات النظام الاستيطاني الإحلالي. ويُبرز الموجز كذللك قدرة الفلسطينيين على الصمود ومقاومة حرمانهم من خدمات الاتصالات والإنترنت، وأخيرًا يُقدِّم الموجز للمجتمع الدولي والمحلي توصيات قابلة للتطبيق من أجل تعزيز الوصول الرقمي في غزة، ومحاولة التحرر من التبعية التكنولوجية الإسرائيلية.

عقود من الهيمنة الإسرائيلية على المجال الرقمي في غزة 

تمارس إسرائيل سيطرةً مفرطة على المجال الرقمي في غزة من خلال استراتيجية متعددة الجوانب تحدُّ من قدرة الفلسطينيين على التواصل مع بعضهم البعض، وتعزلهم عن العالم الخارجي. وتعتمد الحكومة الإسرائيلية في ذلك على الحجب التكنولوجي، وتدمير البنية التحتية للاتصالات تدميرًا منهجيًا، وعرقلة أعمال التصليحات، والتحكم بالاتصال بشبكة الإنترنت لخدمة مصالحها. وفي الوقت نفسه، يُروِّجُ النظام الإسرائيلي روايته ويكتم صوت الفلسطينيين عبر عزلهم عن العالم لتعزيز رسائله وكسب التعاطف العالمي. ولهذه الجهود الإسرائيلية الرامية إلى منع الفلسطينيين من الولوج إلى العالم الرقمي آثارٌ متشعبة تطال حياتهم اليومية وحالتهم النفسية وتمثيلهم العالمي.

الهيمنة التكنولوجية كأداة للسيطرة

تعمَّدَ النظامُ الإسرائيلي منذ فرض الحصار على غزة في 2006 استهدافَ البنية التحتية للاتصالات عبر شن هجمات متكررة على أبراج الاتصالات ومحطات الإرسال وغيرها من مرافق الاتصال الخلوي. وبالاقتران مع انقطاع الكهرباء بشكل متعمد، تسببت الهجمات الإسرائيلية في إضعاف البنية التحتية للاتصالات. وفي الوقت نفسه، يفرض نظام الإحتلال على شركات الاتصالات الفلسطينية قيودًا صارمة على استيراد معدات التصليح الضرورية، مثل كوابل الألياف الضوئية، مما يفاقم الضرر الذي تخلفه الهجمات الإسرائيلية.

يُجبر النظام الإسرائيلي الفلسطينيين في غزة على الاعتماد على تقنيات متأخرة مثل الجيل الثاني لشبكات الاتصال، مما يعيق قدرتهم على التواصل المحلي والدولي ويُبقيهم أسرى هذا النظام القهري Share on X

تسيطر إسرائيل على المجال الكهرومغناطيسي في غزة، وتقيد بشدة استخدام الفلسطينيين للترددات اللاسلكية واتصالات الإنترنت، فجميع وصلات الألياف في غزة تعمر عبر إسرائيل، وبذلك يضمن النظام الإسرائيلي الرقابة والسيطرة التامة على تدفق المعلومات. وهذه السيطرة تُمكِّنه من التحكم بالقدرة على الاتصال، وتمنع الفلسطينيين من التواصل بفاعلية إبان الأزمات، وتُحبط قدرتهم على التنظيم أو مقاومة الاحتلال. كما يتجاوز التحكم في البنية التحتية للاتصالات كأداة استعمارية مركزية استهداف الأبراج أو حظر المعدات. 

يُجبر النظام الإسرائيلي الفلسطينيين في غزة  على الاعتماد على تقنيات متأخرة مثل الجيل الثاني لشبكات الاتصال، مما يعيق قدرتهم على التواصل المحلي والدولي ويُبقيهم أسرى هذا النظام القهري. تعكس هذه السيطرة التقنية تكتيك الاحتلال في تقويض حياة الفلسطينيين، حيث تبقى غزة متصلة بما يكفي للبقاء ولكن معزولة بما يكفي لتقييد الحراك. كما يؤسس تقييد النظام الإسرائيلي لحركة الاتصالات والإنترنت لما يمكن تسميته احتلالًا غير مرئي، حيث لا يتحكم الاحتلال فقط في الحدود المادية بل أيضًا في الحيز الرقمي، وهو ما يحول التكنولوجيا من وسيلة للتحرر إلى أداة هيمنة. كما يعيد هذا التكتيك الاستعماري تعريف مفهوم الرقابة، حيث لا تُستخدم الرقابة فقط من أجل حجب أصوات سكان الأرض الأصليين بل لفرض واقع لا يستطيع فيه الفلسطينيون السيطرة على وسائل التواصل بينهم البعض ومع العالم الخارجي. 

التحكم بالرواية وتعزيز التبعية المعلوماتية

للهيمنة الرقمية دورٌ مهم في استراتيجية إسرائيل الإعلامية الأشمل، فمن خلال انقطاع الإنترنت والاتصالات المتكرر، يتمكن الاحتلال من التحكم في تدفق المعلومات ويُعزز الروايات الصهيونية بينما يُخفي الجرائم والانتهاكات التي تُمارس على الأرض. ويسعى أيضًا إلى تقليص قدرة الفلسطينيين على إيصال أصواتهم وتجاربهم إلى المجتمع الدولي، وفرض حالةٍ من التبعية المعلوماتية عليهم. ويضمن هذا العزل المتعمد هيمنة المنظور الإسرائيلي على الخطاب العالمي، وتهميش الأصوات الفلسطينية، والتعتيم على الجرائم الإسرائيلية. هذا لأن السيطرة على تدفق المعلومات ليست مجرد ممارسة فردية أو مؤقتة، بل هي جزء من استراتيجية إعلامية شاملة يتم تنفيذها بعناية لتعزيز التبعية المعلوماتية التي تفرضها إسرائيل على غزة. إن هذه التبعية المعلوماتية، والتي يمكن فهمها ضمن إطار الاستعمار الرقمي، تهدف إلى إنشاء فضاء إعلامي تتحكم فيه إسرائيل بشكل كامل، بحيث يسمح التعتيم الإعلامي المفروض على غزة للاحتلال بمواصلة سياساته الإبادية بلا هوادة. 

وقد أظهرت البحوث أن إسرائيل، في أثناء الهجمات العسكرية الرئيسية، لا تكتفي بقطع الاتصالات داخل غزة وإنما تحجب وصول الغزيين إلى المنصات الرقمية العالمية لكي لا تُفتضح سياساتها. وبكتم صوت الفلسطينيين، يستخدم النظام الإسرائيلي الحيز الرقمي لتعزيز أهدافه الاستعمارية والإحلالية بينما يعرض للعالم واقعًا محرَّفًا للحصار القائم. وفي هذا السياق، تصبح السيطرة على تدفق المعلومات امتدادًا للهيمنة المادية، حيث تستخدم إسرائيل روايتها كوسيلة لإعادة تشكيل إدراك العالم للصراع.

يؤسس تقييد النظام الإسرائيلي لحركة الاتصالات والإنترنت لما يمكن تسميته احتلالًا غير مرئي، حيث لا يتحكم الاحتلال فقط في الحدود المادية بل أيضًا في الحيز الرقمي، وهو ما يحول التكنولوجيا من وسيلة للتحرر إلى أداة هيمنة Share on X

وفي حين يقوم النظام الإسرائيلي بالتعتيم الرقمي من أجل تغييب الرواية الفلسطينية، يلجأ الاحتلال إلى التقنيات المتقدمة مثل الذكاء الاصطناعي لتحليل المحتوى ورصد الخطاب الفلسطيني على المنصات الرقمية. لا تهدف هذه الممارسات إلى السيطرة على ما يُقال فقط، بل إلى تحديد كيف ومتى يُقال. ومن الجدير بالذكر أن هذه الاستراتيجية تعتمد على الأدوات التكنولوجية ذاتها التي يُحرم الفلسطينيون من استخدامها. فبينما تُطوِّر إسرائيل بنيتها التحتية الرقمية لتقديم نفسها كواحة تقنية، تبقي غزة في حالة من السجن الرقمي، حيث تُختزل أصوات الفلسطينيين إلى صرخات مكتومة في حيز لا يسمعه أحد.

التداعيات: العزلة، والاغتراب، والسيطرة على الرواية

للسيطرة الرقمية آثار عميقة ومتعددة الأوجه، فعلى المستوى العملي، يتسبب تدمير البنية التحتية للاتصالات والتحكم بالوصول الرقمي والانقطاعات المتعمدة أثناء حرب الإبادة، في تعطيل مظاهر الحياة الأساسية في غزة، من الرعاية الصحية إلى الأمن الوظيفي إلى القدرة على الاستجابة لحالات الطوارئ. أمّا نفسيًا، يتم استغلال هذه الانقطاعات لزرع الخوف والشعور بالعزلة بين السكان، مما يؤدي إلى تفاقم الإحساس بالعجز والاضطراب. يُعتبر هذا النوع من الانقطاع أداة فعّالة للعقاب الجماعي، إذ يعزز من عزلة الفلسطينيين عن بعضهم البعض وعن العالم الخارجي، ويُفقدهم الاتصال بالعائلات والأصدقاء الذين قد يساعدونهم على التخفيف من وقع الحصار والدمار. نتيجةً لذلك، يصبح المجتمع محاصرًا داخل حدوده الجغرافية والرقمية، مما يُضاعف من مشاعر اليأس وفقدان الأمل في تجاوز الأزمة، وتُسمى هذه الحالة في الغالب الاغتراب الرقمي. فهي تُضعِف النسيج الاجتماعي الضروري من أجل البقاء الجمعي والقدرة على الصمود في ظل الاحتلال، حيث يصبح الفرد معزولًا عن مجتمعه وعن أدوات التعبير الأساسية. في هذا السياق، لا يُعتبر الإنترنت وسيلة للتواصل فحسب، بل مساحة للمقاومة والوجود، وعندما يُحرم الفلسطينيون من هذا الحق، فإنهم يُحرمون من أدوات تقرير المصير والقدرة على تحدي روايات الاحتلال.

ولغاية تشرين الأول/أكتوبر 2023، أسهمت هذه الجهود أيضًا في ظهور رواية عالمية مهيمنة متأثرة بشدة بالرسائل الإسرائيلية. وقد استطاعت إسرائيل، من خلال إعلاء صوتها وكتم أصوات الفلسطينيين، أن تكسبَ التعاطف الدولي وتتهربَ من مسؤوليتها عمّا تقترفه في غزة. ولهذه الرواية المهيمنة تداعيات بعيدة الأجل تُشكِّلُ التصورات إزاء الاحتلال وعموم النضال الفلسطيني من أجل التحرير.

الاتصالات والإنترنت في خضم الإبادة الجماعية

صعَّدت إسرائيل، منذ بداية الإبادة الجماعية في تشرين الأول/أكتوبر، استراتيجيتها المعهودة المتمثلة في استهداف القدرة على الاتصال، فتعمدت قصف البينة التحتية الأساسية لتعميق عزلة الفلسطينيين وتعطيل قدرتهم على الصمود. يُقدِّرُ المركز العربي لتطوير الإعلام الاجتماعي (حملة) بأن القوات الإسرائيلية دمرت ما يزيد على 50% من البنية التحتية للاتصالات في قطاع غزة تدميرًا تامًا، وألحقت الأضرار بـ 25% أخرى . وعلى الأرجح أن هذه الأرقام تُقلِّل من حجم الدمار، حيث تُفيد “بالتل”، أكبر شركات الاتصالات الفلسطينية، بأن شبكتها لا تزال معطلة بنسبة 80%. ومع انقطاع الكهرباء المستمر ، فإن أي محاولة لاستعادة الخدمة يتم إحباطها بفعل الغارات الإسرائيلية والحظر المفروض على مواد التصليح. وفي تصعيد سافر، كرَّرت القوات الإسرائيلية استهدافها لطواقم التصليح وأردتهم قتلى، حتى حينما قامت المنظمات الدولية بإخبار الجيش الإسرائيلي بإحداثيات تلك الطواقم في محاولة لضمان عبورهم الآمن.

أمّا البنية التحتية المتبقية فتعتمد الآن اعتمادًا تامًا على المولدات العاملة بمادة الديزل الشحيحة، ممَّا يجعل خدمات الاتصالات مرتهنةً بتوفر الوقود. وتُقدَّرُ الأضرار التي لحقت بأبراج الاتصالات الخلوية والبنية التحتية لشبكة الانترنت بحوالي 90 مليون دولار حتى شهر آذار/مارس 2024، في حين وصلت  قيمة خسائر البنية التحتية التي دمرتها القوات الإسرائيلية في غزة حوالي 18.5 مليار دولار. وكشف المدير التنفيذي لهيئة تنظيم قطاع الاتصالات الفلسطيني أن الخسائر المباشرة وغير المباشرة في قطاع الاتصالات تُقدر بنصف مليار دولار، مما يهدد استمرار الخدمات حتى بعد توقف حرب الإبادة الجماعية.

تطال تداعيات هذا التدمير القطاعات الحيوية الأخرى في غزة، ولا سيما قطاعي الصحة والإغاثة الإنسانية، حيث تُعد الاتصالات أساسيةً في تنسيق الجهود الإنسانية والطبية، وانقطاعها يعرض حياة المدنيين للخطر بشكل مباشر. وفي ظل غياب الاتصالات، تغدو المستشفيات والطواقم الطبية عاجزةً عن تنسيق الجهود الطبية فيما بينها أو طلب المساعدة اللازمة، ويحول ذلك دون حصول المرضى على الرعاية الطارئة. وتؤكد منظمة “أطباء بلا حدود” بأن انقطاع الاتصالات يُهدد الجهود الطبية ويُفاقمُ معاناة المدنيين، بينما وثَّقت منظمة الصحة العالمية حالات عديدة لأشخاص فقدوا حياتهم بسبب تعذر طلب المساعدة الطبية في الوقت المناسب.

بينما تُطوِّر إسرائيل بنيتها التحتية الرقمية لتقديم نفسها كواحة تقنية، تبقي غزة في حالة من السجن الرقمي، حيث تُختزل أصوات الفلسطينيين إلى صرخات مكتومة في حيز لا يسمعه أحد Share on X

وفي عالم رقمي يعتمد بشكل متزايد على المعاملات الإلكترونية، أدت أزمة الاتصالات في غزة إلى زعزعة استقرار القطاع المالي كذلك، حيث أدى انقطاع الإنترنت إلى توقف التحويلات المالية الدولية والمحلية وأصبح من الصعب على الفلسطينيين الوصول إلى حساباتهم البنكية أو إجراء أي معاملات مالية.1 وهذا الأمر فاقم من الأزمة الاقتصادية التي تعيشها غزة، حيث يعاني العديد من الأسر من انقطاع التمويل اللازم لتلبية احتياجاتهم اليومية الأساسية​.

كما أن لتلك الانقطاعات تداعيات كارثية على قطاع العمل، ولا سيما في أوساط الفلسطينيين الشباب الذين اعتمدوا العمل عن بعد لكسب عيشهم. وبينما  كانت معدلات البطالة تتجاوز 79% قبل تشرين الأول/أكتوبر 2023، كانت فرص العمل عبر الإنترنت في تخصصات مثل البرمجة والتصميم والترجمة بمثابة ملاذ للعديد من شباب غزة ، خاصة في ظل العيش في قطاع محاصر يخضع فيه التنقل والسفر إلى قيود مشدَّدة. ولكن مع بدء الإبادة الجماعية، حالَ انقطاعُ الإنترنت في غزة دون التواصل مع العملاء في الخارج، مما أدى إلى فقدان العديد من الفلسطينيين لمصدر دخلهم الوحيد في وقت عصيب ارتفعت فيه أسعار السلع الأساسية ارتفاعًا جنونيًا بسبب شح الموارد والمجاعة التي سببتها إسرائيل. 

إن اندثار فرص العمل عن بُعد بسبب الحرمان من خدمات الإنترنت مُضرٌّ جدًا بشباب غزة، فالعجز عن إدرار الدخل مع ازدياد أسعار الغذاء أدى إلى ارتفاع معدلات الفقر والإحباط واليأس في أوساط هذه الفئة المهمة في المجتمع. وتعد هذه المحنة الاقتصادية المتفاقمة عاقبة مقصودة من تبعات استراتيجية إسرائيل للسيطرة على سكان غزة وعزلهم، وهي تفاقم المعاناة الواقعة عليهم أصلًا بسبب الحصار والإبادة الجماعية.

استراتيجيات التكيف مع انقطاع الاتصالات والإنترنت

رغم التحديات الهائلة التي يفرضها الاحتلال من خلال الانقطاعات المتكررة للاتصالات والإنترنت في غزة، أظهر الفلسطينيون قدرة ملحوظة على التكيف مع هذه الظروف القاسية من خلال استخدام بدائل لخدمة الإنترنت الفضائي ومنها ما يلي: 

  1. استخدام شرائح خلوية إسرائيلية: تُوفر هذه الشرائح بديلًا لخدمات الاتصال الفضائي، ولكنها تنطوي على تحديات جديدة، إذ يقوم الاحتلال الإسرائيلي بشكل دوري بحظر أو توقيف هذه الشرائح، مما يجعل استخدامها غير مضمون على المدى الطويل. وتؤكد ممارسات الاحتلال من حجب الشرائح على التبعية التي يفرضها على الفلسطينيين حتى في محاولاتهم التغلب على انقطاع التغطية​.
  2. الاعتماد على الشرائح الخلوية المصرية: يستخدم الفلسطينيون في جنوب قطاع غزة، وخاصة في مدينة رفح القريبة من الحدود المصرية، شرائح خلوية مصرية مثل “فودافون” و”اتصالات” بديلًا للشرائح الإسرائيلية، ولكنها توفر قدرة اتصال محدودة.
  3. تقنية eSIM: وهي شريحة رقمية تُتيح لهم الاتصال بشبكات خارجية دون الحاجة إلى الشريحة الفيزيائية التقليدية. ولكن هذه التقنية لا تتوافق إلا مع الأجهزة الذكية المتقدمة، وهي غالية الثمن بالنسبة للكثيرين في غزة، وتحتاج أيضًا إلى اتصال مسبق بالإنترنت لتفعيلها.
  4. إنشاء شبكات “وي مكس” (WiMAX) المحلية: تنشئ العائلات والشركات المحلية شبكات صغيرة في الأحياء والشوارع باستخدام تقنيات مثل “وي ماكس” التي تتيح النفاذ إلي شبكة الإنترنت من مواقع ربط بعيدة، لكن هذه الشبكات تظل معرضة لانقطاع الاتصال بسبب السيطرة الإسرائيلية على المجال الرقمي.

بالرغم من أساليب التكيف تلك، يظل الفلسطينيون في غزة غير قادرين على الوصول إلى الإنترنت والمعلومات بحرية. حتى في الأوقات التي لا يحدث فيها انقطاع كامل، تظل البنية التحتية للاتصالات ضعيفة والخدمة متقطعة. فالحرمان من خدمات الاتصالات جزءًا من استراتيجية الاحتلال لفرض حالة من العجز الدائم على الفلسطينيين، حيث يتم تعمد إضعاف البنية التحتية لإبقاء غزة في حالة من التبعية وخارج التغطية.

ويتضح ممّا سبق أن أساليب التكيف الفلسطينية ليست حلولًا تقنية بحتة تهدف إلى التغلب على مشكلة الاتصالات، وإنما هي جزء من معركة يومية ضد الهيمنة التكنولوجية والمعلوماتية التي يفرضها الاحتلال من أجل عزل الفلسطينيين وسلب حقهم في تقرير المصير. ويستخدم الفلسطينيون التكنولوجيا ليس فقط كوسيلة للبقاء، بل أيضًا كأداة للصمود والمقاومة في وجه التبعية التكنولوجية التي يَفرضها عليهم النظام الصهيوني.

توصيات

ترمي التوصيات أدناه إلى التخفيف من تداعيات العزلة الرقمية، وتعزيز قدرات التواصل إبان الأزمات، ودعم إيصال الرواية الفلسطينية إلى العالم عبر تخطي التبعية التكنولوجية وتمكين الفلسطينيين من حقوقهم الرقمية ضمن الكفاح الأوسع من أجل التحرير. 

  1. إيصال المعدات الضرورية عبر المنظمات الإنسانية: يجب أن تُبذل جهود مكثفة لتأمين إدخال المعدات اللازمة عبر المنظمات الإنسانية الدولية، مثل أجهزة الاتصالات اللاسلكية، البطاريات القابلة للشحن، والهواتف الفضائية. لا بد من أن تسعى هذه المنظمات إلى إدخال هذه المعدات بشكل عاجل لضمان استمرار التواصل بين المجتمعات المحلية داخل غزة وخارجها. ولا بد من إيلاء الأولوية لتوزيع هذه المعدات على الفئات الأكثر تضررًا من أجل استدامة تدفق المعلومات وقت الأزمات وتيسير الاستجابة الفورية لحالات الطوارئ وإيصال الإغاثة الإنسانية.
  2. تنظيم شبكات وموارد تطوعية: مع استمرار انقطاع الإنترنت والاتصالات، يصبح من الضروري تنظيم شبكات تطوعية على مستوى الأحياء والمناطق المحلية، حيث تستطيع تلك المجموعات أن تسهل التواصل بين سكان الحي باستخدام أدوات تقليدية أو تقنيات بسيطة، مثل الهواتف المحمولة العاملة عبر البلوتوث أو الرسائل اللاسلكية أو سنترال محلي أو شبكة الراديو، وإنشاء مراكز مجتمعية مجهزة بتقنيات رقمية وبطاريات طويلة الأمد تكون مخصصة لتقديم خدمات الاتصالات والمعلومات أثناء الطوارئ. من خلال هذه الجهود، يمكن تزويد العائلات بالمعلومات الضرورية المتعلقة بضمان السلامة واحتياجات الإغاثة وتوزيع المساعدات، مما يُقلل من تأثير العزلة التامة.
  3. التحايل على خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي: في ظل القيود التي تفرضها الرقابة والخوارزميات على المحتوى الفلسطيني المنشور على منصات التواصل الاجتماعي، فإن من الضرورة بمكان أن تُطبَّقَ استراتيجيات للتحايل عليها. ومن بين هذه الأساليب، استخدام رموز بديلة مثل البطيخة بديلًا للعلم الفلسطيني وغيرها. بالإضافة إلى ذلك، ويمكن كذلك توزيع المحتوى على منصات متعددة لتعزيز فرص وصوله وضمان ألا تحجب الرقابة الرقمية الروايات الفلسطينية.
  4. ممارسة الضغط الدولي لوقف الهجمات على البنية التحتية للاتصالات: ينبغي لصناع السياسات في العالم أن يمارسوا ضغطًا متواصلًا للمطالبة بوقف الهجمات الإسرائيلية التي تستهدف البنية التحتية للاتصالات في غزة. وينبغي لهم أيضًا تخصيص الموارد لتوثيق تلك الانتهاكات ورفع تقارير بها إلى المنظمات الدولية مثل مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان. وينبغي لهذه الجهود أن تدعو إلى وضع إجراءات قانونية لحماية البنية التحتية المدنية عند القصف، وأن تؤكد على عدم قانونية استهداف البنية التحتية الأساسية للاتصالات. ويجب على المجتمع الدولي أن يُحاسب إسرائيل على تدمير البنية التحتية الحيوية، ويحمل الاحتلال عواقب أفعاله المتعمدة الهادفة إلى كتم أصوات الفلسطينيين.
  5. تعزيز القدرة على الصمود الرقمي: تعزيز الصمود الرقمي هو جزءٌ لا يتجزأ من الصمود العام للفلسطينيين في ظل الحصار. ويجب التركيز على تقديم التدريب على مهارات العمل عن بُعد، وتمكين الأفراد من مواصلة عملهم وتعليمهم برغم العوائق الحسية والتكنولوجية التي يفرضها الاحتلال، ودعم المبادرات التي توفر خدمات الإنترنت وأماكن العمل الآمنة، وهذا من شأنه أن يساعدالفلسطينيين على تطوير اقتصاد رقمي مستدام يُتيح الاستقلالية الاقتصادية ويوفر فرص للاعتماد الذاتي. إن تعزيز القدرة على الصمود على هذا النحو سوف يُحسِّن حياة الفلسطينيين اليومية ويقوي قدرتهم على مقاومة الاحتلال بالوسائل التكنولوجية.
  6. تفعيل حق دولة فلسطين في الاستفادة من الطيف الكهرومغناطيسي: ينبغي تفعيل دور منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية كدولة مراقب في الأمم المتحدة للمطالبة بحق الشعب الفلسطيني في الاستفادة من الطيف الكهرومغناطيسي باعتباره موردًا سياديًا حيويًا للتطور التكنولوجي والاقتصادي. يشمل ذلك رفع قضايا قانونية في المحافل الدولية، مثل الاتحاد الدولي للاتصالات، للحصول على تعويضات عن الأضرار التي لحقت بشركات القطاع الخاص جراء القيود الإسرائيلية والتدمير الممنهج للبنية التحتية. كما يتطلب ذلك تعزيز الجهود الدبلوماسية مع الدول الأعضاء لتبني قرارات تدين هذه القيود، وتوثيق الخسائر الاقتصادية التي يتكبدها الفلسطينيون، والتعاون مع منظمات دولية وخبراء لإعداد تقارير موضوعية تدعم الموقف الفلسطيني وتُبرز أهمية هذه الحقوق في تعزيز التنمية المستدامة والسيادة الرقمية.
  7. الاستثمار في القطاع التكنولوجي: بالتعاون مع المؤسسات التعليمية والقطاع الخاص، يجب على الحكومات الفلسطينية المستقبلية تبني استراتيجية وطنية شاملة للتحول الرقمي تتوافق مع متطلبات الثورة الصناعية الرابعة. يشمل ذلك رقمنة الخدمات الحكومية بالكامل، عبر استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحسين الكفاءة والسرعة في تقديم الخدمات. ينبغي إنشاء منصة وطنية لدعم العمل عن بُعد للخريجين والعاطلين عن العمل. يجب كذلك زيادة مخصصات البحث العلمي لدعم الابتكار التكنولوجي، وإنشاء مراكز تدريب تقنية تستهدف الطلبة من جميع المراحل العمرية. كما يُوصى بمراجعة التشريعات والقوانين لتحفيز الاستثمار في القطاع التكنولوجي، خاصة المشاريع الناشئة، وتدعيم الأمن السيبراني لحماية البيانات والأنظمة الرقمية الفلسطينية.
  8. الاعتماد على البرمجيات مفتوحة المصدر: تعزيز الاعتماد على البرمجيات مفتوحة المصدر يمثل خطوة استراتيجية لتحقيق استقلالية تكنولوجية وتقليل الاعتماد على التكنولوجيا المستوردة. يجب على الحكومات الفلسطينية المستقبلية والمؤسسات التعليمية تطوير خطة متكاملة لاعتماد البرمجيات مفتوحة المصدر في جميع القطاعات، مع تقديم برامج تدريبية للشباب لتطوير وتعديل هذه البرمجيات بلغات برمجية مفتوحة المصدر. كما ينبغي التعاون مع شركات دولية متخصصة في البرمجيات المفتوحة المصدر لتكييفها مع احتياجات السوق الفلسطيني. هذه الخطوة تتطلب تصميم وتطوير حلول برمجية مخصصة تخدم مختلف القطاعات الفلسطينية، مع التركيز على بناء القدرات الذاتية في إدارة الشبكات وهندسة الأنظمة الرقمية.

وختامًا، بالنظر إلى التحديات الجسيمة التي يواجهها الفلسطينيون في ظل الهيمنة التكنولوجية الإسرائيلية، أصبح من الضروري تبني استراتيجيات بعيدة المدى تهدف إلى تحقيق استقلالية رقمية وتقنية، وتحرير الاقتصاد والمجتمع الفلسطيني من التبعية المفروضة عليهما. لا تقتصر التوصيات أعلاه على معالجة الأزمات الحالية، بل تضع أسسًا لمستقبل يعتمد فيه الفلسطينيون على قدراتهم الذاتية لبناء اقتصاد رقمي مستدام ومجتمع قادر على مواجهة التحديات التكنولوجية.

  1. مقابلة مع موظفان بنك فلسطين، بتاريخ 8 أكتوبر لعام 2024.
يعمل علي عبد الوهاب كمحلل بيانات ومساعد تقييم ومتابعة في مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي في غزة، وهو حاصل على درجة بكالوريس في علوم الحاسوب، ومهتم...
في هذه المقالة

أحدث المنشورات

 السياسة
في مختبر السياسات القادم يستضيف علاء الترتير كلًا من أحمد دياب وبلال سلايمة للنقاش حول التطورات الإقليمية المتسارعة وتأثيرها على فلسطين وقضيتها، مع التركيز على الوضع في سوريا وحاضر ومستقبل الفلسطينيين فيها.
أعلنت قطر في 15 كانون الثاني/يناير 2025 عن الاتفاق الذي طال انتظاره لوقف إطلاق النار بين النظام الإسرائيلي وحماس، بوساطة قطرية ومصرية وأمريكية. وعدَ الاتفاق بإنهاء 15 شهرًا من العدوان الإبادي على غزة، الذي قتلت خلاله القوات الإسرائيلية ما لا يقل عن 64260 فلسطينيًّا ودمرت القطاع، محولة إياه إلى رُكام. وبالرغم من أن وقف إطلاق النار يفسح المجال لإغاثة الفلسطينيين في غزة، الذين كابدوا وقاوموا هذه الإبادة المروعة، فإن الشكوك لا تزال قائمة حول استمرار الهدنة والتزام النظام الإسرائيلي بتنفيذ جميع بنودها. في هذه الحلقة النقاشية، يتناول محللو الشبكة: شذى عبدالصمد، باسل فراج، طلال أبو ركبة، وديانا بطو، الجوانبَ المختلفة لاتفاق وقف إطلاق النار، وتداعياتها على السياق الأوسع للاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي لأرض فلسطين.
 الاقتصاد
منذ بدء الإبادة الجماعية في غزة، أصبحت قضية العمال الفلسطينيين في السوق الإسرائيلية محط اهتمام المجلس الوزاري المصغر للشؤون المدنية والاقتصادية الإسرائيلية ولجنة الخارجية والأمن في الكنيست. ومن ثم ألغى النظام الصهيوني تصاريح العمل لأكثر من 140 ألف عامل فلسطيني، واحتجز الآلاف منهم، وبدأ مناقشات رسمية مع مختلف الحكومات الآسيوية لتوظيف عمال أجانب بديلًا للعمال الفلسطينيين. في هذا الموجز السياساتي، يكشف إيهاب محارمة عن نمط السياسة الاستعمارية الاستيطانية الممنهجة التي يتبعها النظام الإسرائيلي مع العمال الفلسطينيين عبر تسخير اليد العاملة الفلسطينية، بحيث يتم استدعاؤها والتخلص منها وطردها واستبدالها حسب الحاجة. يشرح الكاتب أن هذا النهج الاستعماري صُمم خصيصًا من أجل تفكيك البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية الفلسطينية بشكل ممنهج، ويهدف في النهاية إلى محو الوجود الفلسطيني.
Al-Shabaka Ihab Maharmeh
إيهاب محارمه· 05 يناير 2025
Skip to content