Pubs with elements template - 3

ملخص تنفيذي

تقدّم شركات التكنولوجيا الأمريكية الكبرى نفسها على أنها جهات ابتكار مسؤولة، تسعى إلى بناء عالمٍ أفضل من خلال الذكاء الاصطناعي و"الحوسبة السحابية" (cloud computing). غير أنّ هذه السرديات انهارت في غزة، حيث صارت أنظمة الذكاء الاصطناعي والبُنى التحتية الرقمية وأدوات المراقبة التي توفّرها شركات التكنولوجيا العملاقة، مثل: جوجل وأمازون ومايكروسوفت وبالانتير جزءًا لا يتجزأ من أدوات الحملة الإبادية التي تشنّها إسرائيل ضد الفلسطينيين.

فمن خلال عقودٍ بمليارات الدولارات، مثل: "مشروع نيمبوس" (Project Nimbus)، قدّمت هذه الشركات إلى الجيش الإسرائيلي قدراتٍ متقدمة في الحوسبة عالية الأداء تُستخدم في أتمتة الاستهداف القتالي و"المراقبة الجماعية" (automation). وبهذا أُدمِجت التقنيات التجارية في آلةِ الاحتلالِ والإبادةِ، في تجسيدٍ واضحٍ لكيفيةِ مساهمةِ عسكرةِ الذكاءِ الاصطناعيِ في تضخيمِ العنفِ الممنهج، خصوصًا مع تجاوزِها أنظمةَ الرقابةِ والمساءلةِ.

يكشف هذا الموجز السياساتي عن تواطؤ شركات التكنولوجيا الكبرى في جرائم الحرب والاحتلال الإسرائيلي، محذرًا من التسارع المقلق في أتمتة الحروب في ظلّ غياب الأطر التنظيمية والرقابية. كما يطرح مساراتٍ لتعزيز المساءلة والمحاسبة من خلال التوصيات التالية الموجّهة إلى الحكومات والهيئات التنظيمية ومنظمات حقوق الإنسان والمجتمع المدني الأوسع:

  • المطالبة بكشف ومحاسبة جميع الشراكات المالية والبحثية والتجارية المتورطة في دعم المنظومة العسكرية الإسرائيلية وأنظمة المراقبة المرتبطة بها.
  • العمل على سحب الاستثمارات وفرض العقوبات على الشركات المتواطئة في جرائم الحرب والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.
  • توظيف التقاضي لمحاسبة الشركات التي تسهم أو تتواطأ في ارتكاب الجرائم الدولية.
  • بناء تحالفات بين منظمات المجتمع المدني والحقوقيين والعاملين في قطاع التكنولوجيا لكشف العقود العسكرية وعرقلتها.
  • تعزيز الأطر القانونية والرقابية المُلزِمة لتنظيم الذكاء الاصطناعي العسكري، وسدّ ثغرات الحوكمة، والحيلولة دون تكرار حالات تواطؤ مماثلة في المستقبل.

مقدمة

تُقدِّم شركات التكنولوجيا الأمريكية الكبرى نفسها كصانعةٍ لعالَمٍ أفضل يقوم على الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية وحلول البيانات. وتحت شعارات، مثل: “الذكاء الاصطناعي من أجل الخير“، تتعهد هذه الشركات بالالتزام بدور الوصي الأخلاقي على هذه التقنيات الآخذة في إعادة تشكيل مجتمعاتنا. غير أنَّ ما يحدث في غزة يكشف زيف هذه الروايات، بالتزامن مع انهيار الأعراف الدولية وما تبقَّى من النظام العالمي المحكوم بالقواعد.

ولكن في ظل حرب إسرائيل الإبادية على غزة، تزايد التركيز على دور شركات التكنولوجيا الكبرى في دعم العمليات العسكرية وإدامة الاحتلال. فخلف هذا الدمار “خوادمٌ” (servers) و”شبكاتٌ عصبية” (neural networks) وأنظمةٌ برمجية طورتها ونشرتها بعض أقوى الشركات في العالم. تؤدي العسكرة المتزايدة للتقنيات والبنى التحتية الرقمية إلى إعادة صياغة النقاشات حول المساءلة، وتكشف عن ثغرات خطِرة في نظم الحوكمة الحالية. يتناول هذا الموجز السياساتي كيف امتدَّ نطاق مساءلة شركات التكنولوجيا ليشمل احتمال تورطها في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية، ويؤكِّد الحاجة الملحة إلى اتباع نُهجٍ جديدة لتنظيم عسكرة الذكاء الاصطناعي.

إبادة يدعمها الذكاء الاصطناعي

استخدمَ النظامُ الإسرائيلي أنظمة الذكاء الاصطناعي لأول مرة في تحديد الأهداف القتالية وترتيبها حسب الأولوية إبَّان حملة القصف الوحشية غير القانونية على غزة التي استمرت 11 يومًا في أيار/مايو 2021، التي وصفها الجيش الإسرائيلي لاحقًا بأنها: “أول حربٍ تستخدم الذكاء الاصطناعي”. ومنذ ذلك الحين، زاد اعتماد قوات الاحتلال على أدوات الذكاء الاصطناعي بشكل ملحوظ، حيث استفادت من الحوسبة السحابية والتعلُّم الآلي لتخزين كمٍّ صخم من بيانات المراقبة وتحليلها، تشمل: صور الأقمار الصناعية والاتصالات المُعترَضة، بهدف “أتمتة” (automate) عملية تحديد الأهداف وأولويات الهجوم.

يقع مشروع نيمبوس(Project Nimbus) في قلب منظومة الحرب الإسرائيلية القائمة على الذكاء الاصطناعي، وهو عقد قيمته 1.2 مليار دولار تُقدِّم بموجبه شركتا جوجل وأمازون إلى الحكومة والجيش الإسرائيليين تقنيات حوسبة سحابية متقدمة وقدرات تعلُّم آلي متطورة. وفي أولى أيام الإبادة الحالية على غزة، أفادت تقارير بأن القوات الإسرائيلية اعتمدت بشكل شبه كامل على أنظمة توليد الأهداف بالذكاء الاصطناعي، مثل: “لافندر” (Lavender) و”ذا جوسبل” (The Gospel) و”ويرز دادي” (Where’s Daddy)، لتسريع وتيرة القتل والدمار الواسع في أنحاء غزة. تستوعب هذه الأنظمة كمًّا هائلًا من بيانات المراقبة الشاملة لسكان غزة، وتَستخدم -على نطاق واسع- خوارزميات لتحديد مَن ينبغي استهدافه بالقتل، وأيِّ مبانٍ يجب قصفها، وما مقدار الخسائر الجانبية الذي يُعدُّ مقبولًا.

مكّن الذكاء الاصطناعي النظامَ الإسرائيلي من تنفيذ منطق الإبادة بكفاءةٍ آلية، عبر جعل الفلسطينيين وأسرهم ومنازلهم 'أهدافًا قابلةً للإزالة' (garbage targets) ... وهو وصفٌ بشع يعتمده الجيش الإسرائيلي Share on X

المثير للقلق هو أنَّ أنظمة الذكاء الاصطناعي هذه لا تسرِّع وتيرة العنف فحسب، بل تتبنى المنطق الإبادي لمشغِّليها أيضًا. فتقوم قوة الاحتلال بتدريب هذه الأنظمة على اعتبار المدنيين “إرهابيين”، استنادًا إلى منطقٍ إباديٍّ عبَّر عنه مسؤولون إسرائيليون، كما جاء في تصريح أحدهم حين قال: “لا يوجد مدنيون أبرياء في غزة“. وفي إطار “أتمتة الاستهداف القتالي” (automation) أفادت تقارير بأن القادة العسكريين طلبوا من الجنود تحديد أكبر عدد ممكن من الأهداف وإدخالها على نظام الاستهداف الآلي، ما خفّض فعليًّا الحدَّ الأدنى الذي يتطلّبه لتصنيف الأهداف المحتملة. ورغم الارتفاع الواضح في معدلات الخطأ، أشارت تقارير استقصائية إلى أن “الجنس” (الذكورة) كان من بين الخصائص التي استخدمها النظام الآلي للاستهداف، أو التي اعتمدها المراجعون البشريون، لتحديد نطاق الأهداف، بحيث خفّض ذلك فعليًّا الحدَّ الأدنى الذي يحتاجه النظام الآلي لتصنيف الأهداف المشروعة للقتل باعتبار جميع الذكور -كبارًا وصغارًا- مقاتلين في حماس. وهكذا، مكّن الذكاء الاصطناعي النظامَ الإسرائيلي من تنفيذ منطق الإبادة بكفاءةٍ آلية، عبر جعل الفلسطينيين وأسرهم ومنازلهم “أهدافًا قابلةً للإزالة” (garbage targets) -أي تلك التي تُعدّ غير مهمة عسكريًّا، ومع ذلك فهي قابلة للإزالة وتُستهدف بالقصف- وهو وصفٌ بشع يعتمده الجيش الإسرائيلي.

في حين تظلّ عديد من التفاصيل التقنية الخاصة بأنظمة الاستهداف المعتمدة على الذكاء الاصطناعي في إسرائيل سرِّية، إلا أن هناك أدلة عديدة موثوقة تثبت أن تشغيلها يعتمد على البنية التحتية السحابية وقدرات التعلُّم الآلي التي تطورها وتديرها شركات التكنولوجيا الكبرى، وتشمل: جوجل وأمازون ومايكروسوفت وبالانتير. ويطرح تزويد شركات التكنولوجيا الكبرى المباشر للأنظمة الرقمية المستخدمة في الإبادة التي تنفذها إسرائيل في غزة تساؤلاتٍ ملحّة حول تواطئها المؤسسي في انتهاكات جسيمة للقانون الدولي، التي دفعت المحكمة الجنائية الدولية إلى إصدار مذكرات توقيف ضد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف جالانت.

من برمجيات إلى قوائم قتل

مع تصعيد إسرائيل هجماتها على غزة، تنامت حاجتها إلى تقنيات الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية التي توفرها شركات التكنولوجيا الأمريكية الكبرى، فصارت البنية التحتية لهذه الشركات جزءًا لا يتجزأ من آلة الحرب. وفي آذار/مارس 2024، عززت جوجل تعاونها مع وزارة الدفاع الإسرائيلية عبر توقيع عقدٍ جديد يتضمن إنشاء “منطقة إنزال” مخصَّصة في بنيتها التحتية السحابية، بما يتيح لعدة وحدات عسكرية الاستفادةَ من أنظمة التشغيل الآلي التي توفرها الشركة. ووفقًا للتقارير، قامت شركة أمازون ويب سيرفيسز -شريكة جوجل في مشروع نيمبوس- بتزويد جهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية بـ”مزرعة خوادم” (server farm) خاصة، تتيح لها مساحة غير محدودة لتخزين بيانات المراقبة التي تُجمَع عن جميع سكان غزة تقريبًا.

كشفت تقارير حديثة عن التوسع السريع في القدرات العسكرية الإسرائيلية المعتمدة على الذكاء الاصطناعي، بما يؤكد دور شراكات إسرائيل المتنامية مع شركات التكنولوجيا في تسريع استخدام الأنظمة المتطورة في حربها على غزة. وقد أفادت وثائق مسرَّبة أن شركة مايكروسوفت استضافت مكونات من برنامج المراقبة الجماعية التابع للجيش الإسرائيلي على “خوادمها السحابية” (cloud servers)، حيث خُزِّنت تسجيلات لملايين المكالمات الهاتفية المُعترَضة للفلسطينيين في غزة والضفة الغربية. وأشارت تقارير إلى أن قوات الاحتلال الإسرائيلي استخدمت هذه الملفات لتحديد أهدافٍ للقصف، وممارسة الابتزاز ضد الأفراد، واعتقال بعضهم، بل ولتبرير جرائم قتل بعد تنفيذها. 

وقد زاد اعتماد الجيش الإسرائيلي على خدمات مايكروسوفت آزور بشكل ملحوظ، إذ ارتفع متوسط الاستخدام الشهري بنسبة 60% في الأشهر الستة الأولى من الحملة الإبادية، بينما زاد استخدام أدوات التعلُّم الآلي في المنصة إلى 64 ضعفًا مقارنة بما كان عليه قبل الحرب. وبحلول مارس 2024، ارتفع استخدام القوات الإسرائيلية لأدوات مايكروسوفت و”أوبن أيه آي” (OpenAI) التقنية إلى نحو 200 ضعف مقارنة بالأسبوع الذي سبق 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. بالإضافة إلى ذلك، تضاعف حجم البيانات المخزنة على خوادم مايكروسوفت ليصل إلى أكثر من 13 بيتابايت.

أظهرت التحريات الداخلية التي أجرتها شركة مايكروسوفت، والتي أُعلن عنها في أيلول/سبتمبر 2025، أن إحدى الوحدات التابعة لوزارة الدفاع الإسرائيلية كانت قد استخدمت بعض خدمات الشركة في أنشطة مراقبة غير مشروعة. وعلى إثر ذلك، أوقفت الشركة تشغيل بعض الخدمات السحابية وأدوات الذكاء الاصطناعي، مُعترفة بأن تقنياتها استُخدمت في ممارسات تنتهك شروط الاستخدام. ومع ذلك، كان تعليق مايكروسوفت لخدماتها للجيش الإسرائيلي محدودًا للغاية؛ إذ لا تزال العديد من العقود والمهام التشغيلية مع الجيش الإسرائيلي والهيئات الحكومية الأخرى المسؤولة عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وجرائم الفظائع قائمة كما هي. وبينما لا تزال عملية المراجعة نفسها جارية، يكشف هذا الإقرار الضيق بوضوح عن تورط الشركة في آلة إسرائيل العسكرية.

علاوة على ذلك، لا تقتصر مشاركة شركات التكنولوجيا الكبرى في حرب إسرائيل على توفير الخدمات التقنية التقليدية فحسب. فقد أفادت تقارير أن مهندسين من شركة مايكروسوفت قدموا دعمًا تقنيًّا مباشرًا وعن بُعد إلى القوات الإسرائيلية، ومنها الوحدة 8200 (المعنية بالعمليات السيبرانية والمراقبة)، والوحدة 9900 (المختصة بالاستخبارات الجغرافية وتحديد الأهداف). وتعاقدت وزارة الدفاع الإسرائيلية على قرابة 19 ألف ساعة من خدمات الدعم الهندسي والاستشاري من مايكروسوفت، بقيمة تُقدَّر بنحو 10 ملايين دولار. وهكذا تورطت شركة أمازون، حيث أفادت التقارير بأنها قدَّمت دعمًا مباشرًا في التحقُّق من أهداف الغارات الجوية، علاوة على توفير البنية التحتية السحابية. كما يُثير دور شركة جوجل مزيدًا من القلق، إذ كشفت وثائق داخلية أن الشركة شكَّلت فريقًا خاصًّا وسريًّا من موظفين إسرائيليين لديهم تصاريح أمنية، وكلفتهم بتلقي معلومات حساسة من الحكومة الإسرائيلية لا يُسمح بمشاركتها مع باقي أفراد الشركة. ومن المقرر أن يتولى هذا الفريق تنفيذ “برامج تدريبية متخصصة بالتعاون مع وكالات أمنية حكومية”، والمشاركة في “تدريبات وسيناريوهات مشتركة مُصمَّمة للتعامل مع تهديدات محددة”. وجدير بالذكر أنه لا يبدو أن هناك شراكةً مماثلة بين شركة جوجل وأي حكومة أخرى، مما يؤكد الطابع الاستثنائي وعمق التعاون القائم بينها وبين النظام الإسرائيلي.

لا يمثل الربح الدافع الوحيد لتنامي تعاون شركات التكنولوجيا الكبرى مع المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، وإنما يُعدُّ التقارب السياسي بين الجانبين عاملًا مؤثرًا أيضًا. فقد أعربت شركة “بالانتير تكنولوجيز” (Palantir Technologies) الأمريكية المتخصّصة في تحليل البيانات وأنظمة المراقبة، المعروفة بعلاقاتها الوثيقة مع أجهزة الاستخبارات والدفاع، عن دعمها الصريح لحرب الإبادة الإسرائيلية على غزة. وأقامت بالانتير شراكة مع أمازون ويب سيرفيسز لتطوير أدوات تُمكِّن عملاءها -ومنهم الجيش الإسرائيلي- من “الانتصار في ميادين القتال”. كذلك أبرمت الشركة اتفاقية شراكة إستراتيجية مع وزارة الدفاع الإسرائيلية، لتقديم تقنيات تستخدمها مباشرة لدعم حربها الإبادية. ولشركة مايكروسوفت كذلك علاقات راسخة وطويلة الأمد مع المؤسسة العسكرية والأمنية الإسرائيلية، وهي علاقات وثيقة إلى درجةٍ دفعت رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى وصفها يوما بأنها: “زواج عُقِد في السماء وأُقِرّ على الأرض“.

لا يقتصر دور شركات التكنولوجيا في تقديم الدعم المباشر للعمليات العسكرية الإسرائيلية على توفير البنية التحتية، وإنما تشارك فعليًّا في أنشطة المراقبة والاستهداف وتنفيذ ممارسات تنتهك القانون الدولي. يُمثِّل توظيف أنظمة الذكاء الاصطناعي التجارية في غزة جبهة مخيفة؛ فالأنظمة التي صُمِّمت لتسهيل إدارة العمليات واتخاذ القرار على نطاق واسع صارت تُستخدم لتوليد قوائم للقتل، وإبادة الأُسر، وتدمير أحياء عن بكرة أبيها. وصارت التكنولوجيا التي توفّرها الشركات الكبرى العمود الفقري للحرب والتطهير العرقي والإبادة الجارية في فلسطين نموذجًا أوليًا لمستقبل “الحروب المؤتمتة” (automated warfare)، أي تلك المعزَّزة بالذكاء الاصطناعي والأنظمة الآلية.

مستقبل الحروب

رسَّخَ النظامُ الإسرائيلي توجهه نحو الحرب المؤتمتة بإنشاء قسمٍ مخصص لأبحاث الذكاء الاصطناعي في وزارة الدفاع يُعنى بتطوير القدرات العسكرية استعدادًا لمستقبلٍ: “ستشهد فيه ساحات القتال فرقًا متكاملة من الجنود والأنظمة الذاتية التي تعمل معًا بتناغم”. ويعكس هذا التوجه تحولًا متسارعًا نحو تطبيع القتال المدعوم بالذكاء الاصطناعي. وتسير الحكومات الغربية –مثل: فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة– في الاتجاه نفسه، إذ تتسابق لدمج الذكاء الاصطناعي في أنظمة أسلحتها وقواتها المسلحة. تُسهم هذه التحولات مجتمعة في ترسيخ موقع إسرائيل بوصفها من أوائل الدول التي تبنت هذا النهج، وبوصفها نموذجًا يُحتذى به في العصر القادم للحروب الخوارزمية.

يطرح تزويد شركات التكنولوجيا الكبرى المباشر للأنظمة الرقمية المستخدمة في الإبادة التي تنفذها إسرائيل في غزة تساؤلاتٍ ملحّة حول تواطئها المؤسسي في انتهاكات جسيمة للقانون الدولي Share on X

بالتوازي مع ذلك، أخذت شركات التكنولوجيا الكبرى تتخلى عن القيود الأخلاقية التي فرضتها على نفسها، طمعًا في العقود العسكرية المربحة. ففي وقتٍ سابقٍ من هذا العام، تخلّت شركتا جوجل وأوبن إيه آي بهدوء عن تعهداتهما السابقة بعدم توظيف الذكاء الاصطناعي في الأغراض العسكرية، وهو ما يعكس إعادة تموضع أوسع للشركات التكنولوجية داخل قطاعي الأمن والدفاع. وبعد أسابيع قليلة من تعديل شركة جوجل لمبادئها الخاصة بالذكاء الاصطناعي، وقّعت شراكة رسمية مع شركة “لوكهيد مارتن” (Lockheed Martin)، أكبر مُصنِّع للأسلحة في العالم وأحد المورِّدين الرئيسيين للجيش الإسرائيلي. وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2024، أعلنت شركة “ميتا” (Meta) أنها ستتيح نماذجها اللغوية الكبيرة، المعروفة باسم “لاما” (Llama) لوكالات الحكومة الأمريكية والمقاولين العاملين في مجال الأمن القومي. ومنذ ذلك الحين، أدمجت شركة لوكهيد مارتن نماذج لاما في عملياتها.

في إطار سباق تطوير الذكاء الاصطناعي من أجل الحرب، دخلت شركة ميتا في شراكة مع شركة “أندوريل” (Anduril) المتخصصة في تكنولوجيا الدفاع لتطوير تقنيات وأجهزة واقع افتراضي معزَّز، لصالح الجيش الأمريكي. ورغم تصنيف شركة أوبن إيه آي كمؤسسة غير ربحية فإنها دخلت في تعاون مع شركة أندوريل لتطبيق تقنياتها في ميدان الحرب. وفضلًا على ذلك، أعلنت شركتا “أنثروبيك” (Anthropic) وبالانتير المتخصصة في تكنولوجيا الدفاع عن عقد شراكة مع أمازون ويب سيرفيسز بهدف “إتاحة تقنيات الذكاء الاصطناعي الخاصة بهما لوكالات الاستخبارات والدفاع الأمريكية.”

وكدليل دامغ على هذا المنعطف الحاسم في علاقة شركات التكنولوجيا الكبرى بالمؤسسات العسكرية، قرّر الجيش الأمريكي منح عددًا من القيادات التنفيذية في شركات: بالانتير وميتا وأوبن إيه آي و”ثينكينج ماشينز لابز” (Thinking Machines Labs) رتبةَ عقيد، وتعيينهم مستشارين في هيكل قواته المسلحة. وقُدِّمت هذه المبادرة باعتبارها جهدًا يهدف إلى “إيجاد حلول تكنولوجية سريعة وقابلة للتطبيق على نطاق واسع لمعالجة المشكلات المعقدة“، حيث تسعى إلى جعل القوات المسلحة الأمريكية “أكثر كفاءة وذكاء وفتكًا”. ولا يسعنا تجاهل رمزية هذه الخطوة، فلم يعُد قادة شركات التكنولوجيا في سيليكون فالي مطوِّرين للأدوات العسكرية فحسب، بل صاروا جزءًا أساسيًّا من الهيكل القيادي لساحة القتال.

عسكرة الذكاء الاصطناعي في ظل غياب الأطر التنظيمية

تتفاقم أزمة العسكرة غير المنضبطة للذكاء الاصطناعي في ظل غياب الأطر التنظيمية الفعالة. فبينما تواصل الدول مفاوضاتها في أروقة الأمم المتحدة لصياغة معايير تنظم الأسلحة ذاتية التشغيل، تظل عملية تطوير هذه الأسلحة ونشرها غير محكومة بأي معاهدة دولية مُلزِمة. تخضع التقنيات ذات الاستخدام المزدوج، مثل النماذج اللغوية الضخمة (LLMs) والبنى التحتية السحابية، لتنظيمٍ أقل، رغم توظيفها المتزايد في العمليات العسكرية. وبينما تركز النقاشات والمقترحات التنظيمية المحلية والدولية الحديثة في حوكمة الذكاء الاصطناعي على صَوْن الخصوصية وحقوق الإنسان، فإنها تتجاهل -إلى حدٍّ كبير- الآثار الكارثية لاستخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي في مناطق الصراع وساحات الحرب. ويتجلى هذا التناقض بوضوح في توقيع إسرائيل على معاهدة الذكاء الاصطناعي لمجلس أوروبا، التي تُعنى بحقوق الإنسان والديمقراطية وسيادة القانون، في وقتٍ كانت تتوالى فيه تقارير موثوقة بشأن استخدامها لأنظمة استهداف مدعومة بالذكاء الاصطناعي في غزة. ورغم أن المعاهدة تحتوي على عددٍ من التحفّظات التي تحدّ من فعاليتها، فإن توقيع إسرائيل عليها في ظلّ حملةٍ مستمرةٍ من الإبادة الجماعية يسلّط الضوء على الفجوة العميقة بين القواعد القانونية الجاري صياغتها والاستخدمات الميدانية التي يُفترض بها تنظيمها.

في الوقت نفسه، دأبت الشركات على تجاهل االإرشادات الطوعية أو آليات “القانون المرن” (soft-law mechanisms) بشكلٍ روتيني. فمثلًا تضع المبادئ التوجيهية للأمم المتحدة بشأن الأعمال التجارية وحقوق الإنسان التزاماتٍ على الدول ومسؤولياتٍ على الشركات لرصد مخاطر انتهاك الحقوق والحدِّ منها، ولكنها غير مُلزمة قانونيًّا وغالبًا ما تُهمَل. وبينما تؤكد هذه المبادئ بوضوح وجوب تعامل الشركات العاملة في مناطق الصراع مع إمكانية تورطها في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني باعتبارها قضية قانونية، فإن شركات التكنولوجيا تمارس الانتقائية في اختيار توقيت الامتثال لتلك المبادئ أو ما إذا كانت ستلتزم بها فعليًّا أم لا. ومن الأمثلة على ذلك اعتراف شركة مايكروسوفت المتأخر باستخدام بنيتها التحتية السحابية في عمليات المراقبة الجماعية في غزة. ففي حين نفت مايكروسوفت في أيار/مايو 2025 تمكينَها النظامَ الإسرائيلي من إلحاق الأذى بالفلسطينيين من خلال المراقبة الجماعية، عادت لتعترف بعد بضعة أشهر على استحياء بسوء استخدام تقنياتها. ومثلما أشرنا سابقًا، فإن هذا الإقرار يكشف إلى أي مدى تفشل الشركات في الاضطلاع بمسؤوليتها، وفقًا لمبادئ الأمم المتحدة التوجيهية، في تحديد مثل هذا الضرر والتخفيف من حدّته.

لم يعد قادة شركات التكنولوجيا في 'سيليكون فالي' مطوِّرين للأدوات العسكرية فحسب، بل صاروا جزءًا أساسيًّا من الهيكل القيادي لساحة القتال Share on X

لا يزال القانون الجنائي الدولي يفتقر إلى الآليات الكفيلة بالتصدي لقضية تورط الشركات في جرائم الحرب. فيقتصر نطاق المسؤولية الجنائية في القانون العرفي و”نظام روما الأساسي” (Rome Statute) على الأشخاص الطبيعيين، ويستثني الشركات بوصفها كيانات قانونية. ونتيجةً لذلك، فإن السعي إلى مساءلة الشركات عن تورطها في ارتكاب الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، يُعَدّ معركةً قانونيةً بحدّ ذاتها.

على الرغم من أن احتمال محاكمة مسؤولٍ تنفيذي في قطاع التكنولوجيا قد يبدو أمرًا مستبعدًا، فإن الدعوات المتواضعة المنادية بوضع ضوابط وتشريعات وتعزيز المساءلة صارت تواجه هجومًا متزايدًا. وفي ظل إدارة ترامب، صارت شركات التكنولوجيا الكبرى جزءًا من المسعى الأوسع للولايات المتحدة نحو الهيمنة العالمية، وباتت تتمتع بحصانةٍ كبيرة. وتماشيًا مع رغبة جماعات الضغط في صناعة التكنولوجيا، تعهَّد ترامب بمعارضة أي جهود لتنظيم القطاع على مستوى الولايات، وشَرَع فعليًّا في تقويض آليات الرقابة القائمة. إنّ فرض العقوبات على فرانشيسكا ألبانيزي، المُقرِّرة الخاصة للأمم المتحدة بشأن فلسطين، عقب نشر تقريرٍ عن تواطؤ الشركات في ممارسات الاحتلال والإبادة غير القانونية، يعكس طبيعة المرحلة الراهنة التي تتضافر فيها جهود الحكومة الأمريكية والشركات لحماية نفسها من أي محاولة لمساءلتها أو إخضاعها للعدالة. ونتيجة للتحيز المتأصل ضد الفلسطينيين وازدواجية المعايير تجاه الاحتلال والجرائم الإسرائيلية، نشأت بيئة قانونية وسياسية متساهلة تحصِّن قطاع التكنولوجيا ضد أي مساءلة أو تدقيق. وهكذا تستطيع شركات التكنولوجيا الاستمرار في تطوير أنظمة الاستهداف والمراقبة الجماعية المدعومة بالذكاء الاصطناعي ونشرها، بالتنسيق المباشر مع الاحتلال العسكري الإسرائيلي، دون أن تخضع لأي رقابة قانونية حقيقية أو تبعات ملموسة.

وفي ظل أزمة المساءلة الراهنة، يتصدر العاملون في قطاع التكنولوجيا الجهود الرافضة لتواطؤ الشركات. فبينما يوطد المسؤولون التنفيذيون في الشركات علاقاتها التجارية بالنظام الإسرائيلي، يتنامى الرفض من داخل الصناعة نفسها، إذ يتزايد عدد الموظفين الذين يرفضون المشاركة في تطوير أدوات تدعم الإبادة الجماعية والاستعمار والفصل العنصري. وقد ترددت أصداء الإقالات الأخيرة لموظفي مايكروسوفت الذين احتجوا على تورط الشركة في الإبادة الجماعية في شركة جوجل، حيث خضع بعض موظفيها لإجراءات عقابية لاعتراضهم على التعاون مع الأجهزة العسكرية والأمنية الإسرائيلية. وتصدَّر منظمون من مجموعات، مثل: “لا تكنولوجيا للفصل العنصري” (No Tech for Apartheid) و”ائتلاف عمال التكنولوجيا (Tech Workers Coalition) الجهود الرامية إلى كشف الارتباط الوثيق بين قطاع التكنولوجيا وممارسات عنف الدولة، الذي يتم غالبًا من خلال عقود عسكرية غامضة وسرية.

التوصيات

مع تنامي المقاومة الداخلية في قطاع التكنولوجيا، صار من الضروري أن يضاعِفَ المجتمع المدني الفلسطيني وحركات التضامن الدولية جهودهما لتفكيك الأنظمة والبنى التي تصادر إنسانية الفلسطينيين وتُجرِّبُ فيهم التقنيات الحربية الحديثة.

أولًا، تتطلب مواجهة تواطؤ هذه الشركات في الإبادة، التصدي للشراكات البحثية بين القطاع الخاص والأوساط الأكاديمية، التي تُسهم في تطوير التقنيات ذات الطابع العسكري وتوسيع انتشارها. كذلك يقتضي الأمر دراسة مسارات التمويل وتدفقات التجارة والروابط الاقتصادية الأوسع التي تُسهم في استدامة قطاع التكنولوجيا العسكرية الإسرائيلي وإضفاء الشرعية عليه. يوصَف قطاع التكنولوجيا المتقدمة في إسرائيل في كثير من الأحيان على أنه “محرك النمو”، وهو يعتمد هيكليًا على رأس المال الخاص والأجنبي، حيث يؤمِّن القطاع الخاص 91% من تمويله، بينما يُعزى نحو 80% من استثمارات رأس المال المغامر إلى مصادر أجنبية. تكشف هذه الأرقام عن التورط المباشر للمستثمرين الدوليين والجامعات والشركات في تمويل قطاعٍ يشكِّل دعامة أساسية للمنظومة العسكرية التقنية الإسرائيلية وإضفاء الشرعية عليه. ولذلك، ينبغي للحكومات والهيئات التنظيمية والمجتمع المدني العمل على تعزيز الشفافية في تدفقات التمويل، ووضع الالتزام بالقانون الدولي شرطًا لعقد الشراكات البحثية والتجارية، وتطبيق سياسات سحب الاستثمارات وفرض العقوبات على الشركات التي يثبت تورطها في تمكين جرائم الحرب أو الانتهاكات الممنهجة لحقوق الإنسان.

ثانيّا، ينبغي لمنظمات المجتمع المدني والمبادرات القانونية المعنية بالمساءلة أن تسلِّط مزيدًا من الضوء على البنى التحتية الرقمية التي تمكِّن إسرائيل من ارتكاب جرائمها في غزة والضفة الغربية. فقد أصدر مكتب المدعي العام بالمحكمة الجنائية الدولية أخيرًا المسوَّدة الأولى لسياسة التحقيق في الجرائم التي تُرتكب أو تُيسَّر عبر الفضاء السيبراني ومقاضاة مرتكبيها، وهو اعترافٌ متأخّرٌ بالبُعد الرقمي في فظائع الجرائم التي تُرتكب في عصرنا. ورغم أن ملاحقة المسؤولين التنفيذيين في شركات التكنولوجيا بتهمة التواطؤ في هذه الجرائم عمليةٌ معقدة وبعيدة المدى وتتخللها صعوبات تتعلق بإثبات الأدلة وتحديد النية والاختصاص القضائي، فإنها تظلُّ تمثل مسارًا لا يمكن تجاهله. 

أوضحت الفتوى الاستشارية الأخيرة التي أصدرتها محكمة العدل الدولية بشأن عدم شرعية الاحتلال الإسرائيلي أنّ الدول ملزمة قانونيًّا بالامتناع عن دعم هذا الاحتلال أو المساعدة في استمراره بأي شكل من الأشكال. وهذا يفتح المجال أمام رفع دعاوى قانونية لا تقتصر على الحكومات المرتبطة بعلاقات الاقتصادية والعسكرية مع إسرائيل، بل وتطال أيضًا الشركات التي تقع مقراتها في تلك الدول وتُستخدم تقنياتها في خدمة التطهير العرقي والاحتلال. ومن ثم، ينبغي للجهات الفاعلة في المجتمع المدني استغلال هذه الفتوى للضغط على الدول بهدف وضع أطر تنظيمية تحدُّ من تورط الشركات، ومتابعة الدعاوى القضائية ضد الشركات غير الملتزمة، والدعوة إلى سحب الاستثمارات من الشركات التي تستمر في توفير البنى التحتية الرقمية للنظام الإسرائيلي.

ثالثًا، لا بد من العمل على توطيد التحالفات بين الحقوقيين والعاملين في قطاع التكنولوجيا؛ فمن شأنها أن تتيح إمكانية الكشف عن العقود العسكرية غير الشفافة، وتعزيز آليات جمع الأدلة، وتوسيع دائرة الرفض داخل صناعة التكنولوجيا. ومن خلال الربط بين الإستراتيجيات القانونية والمقاومة التي يقودها العاملون، تستطيع تلك التحالفات مواجهة التواطؤ المتأصل في البنى التحتية الرقمية للحرب ونظام الفصل العنصري، وبناء أرضية صلبة لتطوير آليات مساءلة مستقبلية.

وختامًا، يتطلّب وضعُ آليات واضحة للمساءلة في مجال الذكاء الاصطناعي العسكري تعاونًا منسَّقا بين الحكومات والهيئات التنظيمية والمجتمع المدني لسدِّ الثغرات القانونية، وإعادة صياغة المشهد التكنولوجي العالمي بما يضمن احترام القانون الدولي. وتلك ضرورة ملحة في ظل التسارع المتزايد في استخدام الذكاء الاصطناعي في الحروب. تعمل هذه التقنيات على تعظيم نطاق استخدام القوة الفتاكة وتسريع وتيرة تطبيقها، مع زيادة مستوى الغموض حول آليات اتخاذ القرار والمسؤولية. ففي فلسطين، مكَّنت تقنياتُ الذكاء الاصطناعي التي وفّرتها شركاتُ التكنولوجيا الكبرى النظامَ الإسرائيلي من شنِّ حملةً إباديّةً وحشيةً في غزة، اتّسمت بتدميرٍ واسع النطاق وباستخدامٍ مفرطٍ وغير مسبوقٍ للقوة. ومن ثمّ، فإنّ مساءلة هذه الشركات تمثّل عنصرًا أساسيًّا في السعي الأوسع إلى تحقيق العدالة والمحاسبة على جرائم الحرب الإسرائيلية.

مروة فطافطة كاتبة وباحثة فلسطينية، ومحللة سياساتية في الشبكة، مقيمة في برلين. تدير حاليًا عمل مؤسسة أكسس ناو في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في مجال...
(2025, أكتوبر 26)
في هذه المقالة

أحدث المنشورات

على مدى عامين، ألحقت إسرائيل دمارًا هائلًا بغزة، متسببة في أعدادٍ هائلة من الشهداء بسبب القصف المتواصل وسياسة التجويع الممنهجة. ولا تزال الجهود الدولية للاعتراف بجرائم الحرب الإسرائيلية ووقف عملية القضاء على الشعب الفلسطيني متأخرة وقاصرة. في 16 أيلول/سبتمبر 2025، خلصت لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة إلى ما كان الفلسطينيون قد أكدوه منذ البداية: أن إسرائيل ترتكب جريمة الإبادة الجماعية. وفي 29 سبتمبر/أيلول، كشف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن مقترحٍ يعد بوقف إطلاق النار، لكنه يخضع الفلسطينيين في غزة لحكم خارجي، وينكر عليهم حقهم في تقرير المصير، ويُرسّخ السيطرة الإسرائيلية على الأرض. ورغم أن الخطة تُقدَّم كأنها مبادرة سلام، فإنها في الواقع محاولة من الولايات المتحدة لحماية النظام الإسرائيلي من المساءلة، في تجسيد واضح لتواطؤ الغرب في استعمار فلسطين وإبادة شعبها. وفي هذا السياق، تُعدّ موافقة حركة حماس على إطلاق سراح جميع الأسرى الإسرائيليين إشارة إلى التزامها بإنهاء العنف الدائر، وفي الوقت نفسه نقلًا للمسؤولية إلى النظام الإسرائيلي وإدارة ترامب لتوضيح وتعزيز التزاماتهم بعملية وقف إطلاق النار. يجمع هذا الموجز السياساتي تحليلات الشبكة خلال العام الماضي، مسلطًا الضوء على السياق البنيوي لفهم جريمة الإبادة الجماعية وآثارها الإقليمية. كما يرصد ويحلل الحملة الإبادية التوسعية التي ينفذها النظام الإسرائيلي في غزة والضفة الغربية والمنطقة الأوسع، كاشفًا تواطؤ الغرب ليس فقط في تمكين النظام الإسرائيلي من ارتكاب جرائمه، بل أيضًا في حمايته من المساءلة. وفي الوقت نفسه، يُبرز هذا الموجز المبادرات التي تتصدى لحصانة إسرائيل، وتدفع باتجاه تحقيق العدالة والتحرر.
تُبين هذه المذكرة السياساتية كيف أن "حياد الصين المنحاز" إلى النظام الإسرائيلي يتجلى في نأيها الإستراتيجي عن الإبادة الجارية في غزة. فمن خلال الدعوة إلى الوحدة الفلسطينية دون ممارسة أي ضغط مباشر على إسرائيل، تحافظ بكين على علاقاتها مع الدولة الصهيونية متظاهرة بالحياد. لا يعكس هذا الموقف خضوع بكين لهيمنة واشنطن في القضايا المتعلقة بإسرائيل فحسب، بل هو قرار مدروس منها لصون مصالحها الإستراتيجية على المدى البعيد. وبدلًا من أن تتدخل الصين مباشرةً لردع إسرائيل، تُلقي بالمسؤولية على مجلس الأمن، وتتعامل مع قضايا وقف إطلاق النار وإيصال المساعدات وإطلاق سراح الأسرى وكأنها التزامات تقع على عاتق الآخرين لا ضمن نطاق مسؤولياتها.
رزان شوامرة· 16 سبتمبر 2025
 السياسة
يقع محو الشعوب الأصلية في صميم السرديات الاستيطانية الاستعمارية، إذ تعتمد هذه السرديات على إنكار وجود الجغرافيات والمجتمعات والتاريخ لتبرير تهجير السكان الأصليين وإحلال مستوطنين مكانهم، ولم يزِغ المشروع الصهيوني عن هذا النهج. فمن الأساطير التي قام عليها زعمُه أنه "أحيا الصحراء"، وأن المستوطنين الأوائل أسسوا درَّة تاجه، تل أبيب، من كثبان رملية قاحلة وخلاء مُقفرٍ غير صالحٍ للسكن. تطمس هذه الرواية حقيقةَ أن تل أبيب أُنشئت بدايةً على مشارف مدينة يافا الفلسطينية المزدهرة والعامرة بالحياة الثقافية، المشهورة بتجارة البرتقال الرائجة. أمّا اختيار وصف "الكثبان الرملية"، فيوحي بالخلاء ويُخفي الحياة الزراعية والاجتماعية النابضة التي كانت مزدهرة في المنطقة. وقد أسهمت هذه الرواية التي صوَّرت الأرض وكأنها لم تكن صالحة للعيش حتى مجيء المستوطنين في تبرير سلبها والتغول الاستعماري فيها. وقد تسارعت هذه العملية في أعقاب 1948، حين ضمت تل أبيب أراضي القرى الفلسطينية المطهَّرة عرقيًّا، بما فيها صميل وسَلَمة والشيخ مُوَنِّس وأبو كبير، لتمتد في نهاية المطاف إلى مدينة يافا. إن هذا الخطاب الاستعماري الاستيطاني نفسه هو ما يغذي الحرب الإبادية المستمرة على غزة، إذ يُعاد تأطير الدمار من خلال رواية "عدم صلاحية القطاع للعيش،" التي تصوِّر غزة كأنقاض، وهي رواية بعيدة عن الحياد. يرى هذا التعقيب أن مصطلح "غير صالح للعيش" مصطلحٌ مشحون سياسيًّا يعفي الجاني من المسؤولية، ويُعيد إنتاج المحو الاستعماري، ويشكِّل السياسات والتصورات العامة بطرق تؤثر في حياة الفلسطينيين ومستقبلهم تأثيرًا عميقًا. ويتناول التعقيب جذورَ هذا الخطاب ووظيفته وتبعاته في إطار المنطق الأوسع للاستعمار الاستيطاني. ويدعو في خاتمته إلى تحوُّل جذري في اللغة، من روايات تتستر على العنف إلى روايات تُثبِّت الوجود الفلسطيني وتاريخه وحقه في السيادة.
عبدالرحمن كتانة· 27 أغسطس 2025
Skip to content