شكّلت المبادرة التي تقدمت بها منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية لنيل الاعتراف بدولة فلسطين وقبول عضويتها في الأمم المتحدة تحدياً إضافياً بالنسبة للاجئين الفلسطينيين في لبنان الذين يواجهون منذ لجوئهم الى لبنان بعد العام 1948 تجاهل الدولة المضيفة لحقوقهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وقد أتت هذه المبادرة في ظل تنامي وتصاعد نضال المجتمع الفلسطيني في لبنان من أجل اعتراف الحكومة اللبنانية بهذه الحقوق، ومن أجل التغلب على واقع التهميش الذي يعيشه اللاجئون اقتصادياً ومؤسساتياً ومكانياً. يتناول جابر سليمان في هذه الورقة التحدي المزدوج الذي يواجهه اللاجئون الفلسطينيون في لبنان بين مأزق الحرمان من الحقوق وسراب الدولة، ويلقي بعض الضوء على ديناميات المجتمع الفلسطيني في لبنان، والأهلي منه بشكل خاص، من أجل التغلب على هذا المأزق وتحدياته.
الفلسطينيون في لبنان و”كرسيّ” الأمم المتحدة
في رأينا لم تكن خطوة الذهاب الى الأمم المتحدة وطلب انضمام “دولة فلسطين” الى عضوية المنظمة الدولية سوى تعبير عن الطريق المسدود والمأزق الذي وصلته قيادة السلطة الفلسطينية في مفاوضاتها مع الجانب الإسرائيلي والراعي الأمريكي. وهي على ما قد تنطوي عليه من مخاطر على وحدانية تمثيل منظمة التحرير الفلسطينية للشعب الفلسطيني في كل أماكن وجوده وعلى حق عودة اللاجئين وحق تقرير المصير لمجموع الشعب الفلسطيني، ليست سوى نوع من الهروب الى الأمام، بغية التخلص من ذلك المأزق.
ولكن، كيف نظر وينظر الفلسطينيون في لبنان على اختلاف انتماءاتهم الى هذه المبادرة؟ تراوحت الآراء والمواقف الفلسطينية من المبادرة في لبنان بين الحماس والتهليل للمبادرة ( فتح وفصائل م.ت.ف) أو التحفظ والرفض الضمني والمبطّن لها (حماس والجهاد الاسلامي) وبين إبداء المخاوف والمحاذير من أن تشكلّ هذه المبادرة تنازلاً عن الحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني وفي مقدمها حق العودة وحق تقرير المصير( قطاع من منظمات المجتمع الأهلي وخاصة لجان وهيئات حركة العودة) وبين الرفض الصريح الذي وصل الى حدّ اتهام القيادة الفلسطينية بالخيانة والتفريط بالحقوق الوطنية في “لعبة الأمم” (فصائل المعارضة).
ونشير في هذا السياق الى المواقف المستقلة والمتميزة لبعض جمعيات المجتمع الأهلي الفلسطيني في لبنان وخاصةً تلك المنخرطة في حركة العودة التي عقدت اللقاءات ونظمت الندوات لشرح مخاطر المبادرة على قضية اللاجئين وحق العودة، وذلك بالتفاعل مع جمعيات المجتمع الأهلي في فلسطين والشتات، وخاصةً اللجنة الوطنية للمقاطعة BNC، والائتلاف الفلسطيني العالمي لحق العودة.1
أما دور الحراك الشبابي المستقل الذي تجلى في حملات التصدي لواقع الانقسام الفلسطيني (آذار/مارس من العام ) فقد غاب عن الساحة قبيل طرح مبادرة أيلول وبعدها خلال العام 2011، ليطلّ في بدايات العام 2012 متمثلاً في مبادرتين: الأولى؛ مبادرة أطلقها عدد من الشباب الفلسطيني المنضوي تحت راية “الأندية الثقافية الفلسطينية المستقلة في لبنان” في كانون الثاني/يناير 2012 لبدء حراك شبابي مستقل من أجل اعلان دولة فلسطين على كامل التراب الفلسطيني في خطوة رمزية لرفض مبادرة الدولة التي أطلقتها منظمة التحرير الفلسطينية. ولا يزال هذا الحراك الذي جاء متأخراً نسبياً في بداياته الأولى. وفي المبادرة الثانية المسماة “كامل الصوت” نظمت مجموعة أخرى من الشباب الفلسطيني المستقل “أسبوع التمثيل الفلسطيني” (3-4 شباط/فبراير 2012) بهدف بلورة حملة شعبية لإصلاح الواقع التمثيلي لمنظمة التحرير الفلسطينية انطلاقاً من ضرورة تنظيم انتخابات مباشرة للمجلس الوطني الفلسطيني، باعتبار إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية مسألة وطنية تعلو على مسألة إعلان الدولة في مرحلة التحرر الوطني التي لا نزال نعيشها.2
ونعتقد أن بالإمكان قياس حقيقة الموقف الشعبي من مبادرة “الدولة” بشكل ملموس من خلال المقارنة بين الطابع النمطي بل و”المعّلب” الذي اتسمت به الاحتفالات الجماهيرية التي نظمتها حركة فتح وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية دعماً للمبادرة تحت عنوان ” فلسطين دولة 194″ في الأمم المتحدة، والتي افتقدت الى الطابع الشعبي واقتصرت في الغالب على الأعضاء والموالين، من جهة، وبين الحماس والاندفاع والزخم الجماهيري الذي يميز نشاطات المجتمع الأهلي عامة، والذي ميزّ مسيرة العودة في الذكرى 63 للنكبة (15 أيار/مايو 2011) بشكل خاص، من جهة أخرى.
انطلقت مبادرة الدولة من رام الله، حاملة كرسياً مصنوعاً من خشب الزيتون مرسوما عليه شعار الأمم المتحدة، ثم وصلت الى لبنان، حيث طافت بالكرسي في مختلف المخيمات. ولذا سميت “حملة الكرسي”. أما مسيرة العودة فكانت في بدايتها مبادرة خالصة من المجتمع الأهلي الفلسطيني التحقت بها مختلف الفصائل لاحقاً، ثم سعت الى استثمارها لأغراض سياسية وتنظيمية ضيقة. ولكن أهم ما ميّز هذه المسيرة أنها انطلقت من المخيمات وشارك فيها نحو 70 ألفاً من الفلسطينيين جُلّهم من أبناء الجيل الثالث للنكبة الذين ولدوا في الشتات. كان المشهد مهيباً بحق حيث حمل العديد من أبناء هذا الجيل أجدادهم وجداتهم على ظهورهم صعوداً الى تلّة مارون الراس المطلة على فلسطين. وكانوا هم من اقتحم الأسلاك الشائكة التي تفصلهم عن أرض الأجداد، مقدمين ستة من الشهداء سقطوا على السياج مباشرة، لكنهم في المقابل أسقطوا المقولة الصهيونية البائسة “الكبار يموتون والصغار ينسون”، وأكدوا رفضهم في الوقت نفسه مقايضة العودة بسراب “الدولة الموعودة”.
وعلى الرغم من محاولات الاستثمار السياسي للمسيرة إلا أنها نجحت في إيصال الرسالة المطلوبة الى المجتمع اللبناني والدولة اللبنانية والمتمثلة في التمسك بحق العودة ورفض التوطين. وأثبتت المسيرة أن معنى العودة في الوجدان الشعبي الفلسطيني عامةً هو المعنى النقيض للنكبة واللجوء والمنفى، وأن فكرة العودة ظلت كما كانت طوال العقود السابقة القوة المحركة للنضال الفلسطيني المعاصر والحلم الذي أضحى جزءاً من ذاكرة جماعية خصبة من الأحزان والمعاناة والآمال المشتركة.
اللاجئون الفلسطينيون والدولة اللبنانية: تاريخ من التهميش والعلاقات المضطربة
يعيش اللاجئون الفلسطينيون في لبنان ولا سيما سكان المخيمات، منذ حوالي ستة عقود، أوضاعاً معيشية بالغة الصعوبة تتنافى مع أبسط معايير الكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان الأساسية.3 وبشكل عام يتعرض الفلسطينيون في لبنان إلى أشكال عدة من التهميش: التهميش الاقتصادي الذي يفرض قيوداً صارمة على حق الفلسطينيين في العمل والضمان الاجتماعي والتهميش المؤسساتي الذي يستبعد الفلسطينيين من مؤسسات الحياة الاجتماعية والثقافية، فضلاً عن التهميش المكاني الذي حول المخيمات الفلسطينية إلى جزر شبه معزولة عن محيطها السكاني وظيفتها احتواء اللاجئين بوصفهم مصدر خطر وتهديد محتملين للمجتمع المضيف. وغالباً ما ارتبط هذا التهميش للمجتمع الفلسطيني بتاريخ متواصل من العنف والتهجير.
هذا ويمكن تقسيم تاريخ الوجود الفلسطيني والعلاقات اللبنانية الفلسطينية إلى مراحل تاريخية مختلفة.4 أولها مرحلة التكيف والأمل (1948-1958) التي تميزت بداياتها بترحيب لبناني رسمي وشعبي بلجوء الفلسطينيين إلى لبنان و بقدر نسبي مقبول من حرية التعبير السياسي والتنظيمي وبتوفير فرص العمل للاجئين الفلسطينيين في مرحلة الفورة الاقتصادية التي شهدها لبنان في عقد الخمسينيات. ثم كانت المرحلة الثانية وهي مرحلة القمع والتهميش (1958-1969) التي بدأت بصعود الجنرال فؤاد شهاب الى السلطة وانتهت بما سميّ “انتفاضة المخيمات” وتوقيع اتفاقية القاهرة. وخلال هذه المرحلة اتخذت محاولات تنظيم الوجود الفلسطيني وضبطه طابع التهميش والإكراه والقمع من خلال حظر النشاطات السياسية والإعلامية والنقابية في المخيمات. أما المرحلة الثالثة فهي مرحلة الازدهار وبناء المؤسسات (1969-1982) التي تمتعت خلالها المخيمات الفلسطينية للمرة الأولى منذ إنشائها بإدارة ذاتية. وشهدت هذه المرحلة تراجع “القوة الإكراهية” للدولة ونمو الوجود الفلسطيني على كل المستويات. وبلغ هذا النمو ذروته قبيل خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان عام 1982الى حدّ تحولت فيه منظمة التحرير الفلسطينية في المناطق التي تواجدت فيها إلى ما يشبه “الدولة” ضمن الدولة.
بدأت مرحلة الانحسار وانهيار المؤسسات (1982-1989) بخروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان وانتهت بتوقيع اتفاق الطائف. وقد تميزت هذه المرحلة بانهيار مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية التشغيلية وبتراجع الخدمات الاجتماعية والصحية والتعليمية التي كانت توفرها للشعب الفلسطيني وبتعزيز دور المجتمع الأهلي في تقديم الخدمات الإغاثية. أما مرحلة الإهمال المتعمد (1989-2005) فبدأت بتوقيع اتفاق الطائف وامتدت إلى ما بعد توقيع اتفاقية أوسلو وصولاً إلى تاريخ اغتيال الرئيس رفيق الحريري. وشهدت هذه المرحلة استئناف الحوار المقطوع بشأن حقوق الفلسطينيين بين الدولة اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية منذ إغلاق مكتبها في بيروت عام 1982 وإلغاء اتفاقية القاهرة عام 1987 من جانب واحد هو الجانب اللبناني.
ثم جاءت المرحلة الحالية التي بدأت ما بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري والتي شهدت انفتاحاً كبيراً على منظمة التحرير الفلسطينية توج بعدد من الخطوات الملموسة أهمها: إنشاء لجنة خاصة تحت رئاسة مجلس الوزراء اللبناني مهمتها إجراء الحوار مع الجانب الفلسطيني، سميت “لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني” (تشرين الأول / أكتوبر 2005)؛ إعادة فتح مكتب منظمة التحرير في بيروت (أيار/مايو 2006) ثم رفع مستوى التمثيل الفلسطيني الى سفارة مؤخراً. وشهدت هذه المرحلة الحرب على مخيم نهر البارد (أيار/مايو 2007) وتدميره بالكامل وتشريد سكانه كافة والفشل في إعماره حتى الآن في ظل سعي الدولة اللبنانية لجعل مخيم نهر البارد نموذجاً للسيطرة الأمنية قابلاً للتعميم على بقية المخيمات.
واقع الحرمان من الحقوق
يعتبر اللاجئون الفلسطينيون أجانب بموجب التشريعات اللبنانية، بل فئة خاصة من الأجانب. ويخضع حقهم في العمل الى قيود صارمة: شرط الحصول على إجازة عمل، شرط المعاملة بالمثل، والأفضلية الوطنية. كما أنهم محرومون من حق الملكية العقارية منذ أن تم تعديل قانون تملك الأجانب عام 2001. وهم لا يستفيدون من خدمات المستشفيات الحكومية العلاجية والاستشفائية، كما أن التحاقهم بالجامعة اللبنانية والمدارس الحكومية يخضع لمبدأ الأفضلية الوطنية.5
وفي منتصف العام 2010 تقدمت بعض الكتل البرلمانية باقتراحات قوانين الى البرلمان تتعلق بحقي العمل والتملك بالنسبة للفلسطينيين. وفي جلسته العامة بتاريخ 17/8/2010 أصدر البرلمان القانون رقم 129 الذي عدّل المادة (59) من قانون العمل اللبناني، كما أصدر القانون رقم 128الذي عدّل المادة (9) من قانون الضمان الاجتماعي. وجاءت التعديلات ملتبسة ولم تلبّ الحد الأدنى المطلوب. إذ أبقت التعديلات على شرط حصول العامل الفلسطيني على إجازة العمل بوصفه أجنبياً في نظر القانون، في حين المطلوب إلغاء الإجازة كما هو الحال بالنسبة للعمال السوريون. واستمر الحظر المفروض على حق الفلسطينيين في مزاولة المهن الحرة مثل الطب والمحاماة والهندسة وغيرها، حيث يخضع هذا الحق لشرط المعاملة بالمثل- State Reciprocity الذي لا يمكن تطبيقه في الحالة الفلسطينية. وبهذا لم يترك للفلسطينيين سوى مزاولة المهن اليدوية والمكتبية بشرط الحصول على إجازة العمل.
وبالنسبة للضمان الاجتماعي، سمحت تلك التعديلات للعامل الفلسطيني المنتسب الى صندوق الضمان الاستفادة من صندوق تعويضات نهاية الخدمة، بعدما كان العامل الفلسطيني يدفع مساهمته في الصندوق من دون أن يكون له حق الاستفادة من تعويضاته. وفي المقابل لم تسمح التعديلات له بالاستفادة من صندوقي التعويض العائلي والأمومة والمرض، في حين ألزمته بدفع مساهماته في هذين الصندوقين، الأمر الذي يشكل إجحافاً كبيراً بحق العامل الفلسطيني.
وعلى أية حال، لم يدخل القانونان 128 و129 حيز التنفيذ على الرغم من مرور حوالي سنة ونصف على إصدارهما، وذلك في انتظار صدور مرسوم تطبيقي من مجلس الوزراء لإنفاذهما. ولا أحد يعلم متى سيصدر هذا المرسوم.6 وهكذا التف المشّرع اللبناني على حق اللاجئين الفلسطينيين في العمل في حين أرجأ مناقشة حق التملك الى أجل غير مسمى، حيث جرى ربطه على نحو مضلل بفزاعة التوطين وإدخاله في سوق المزايدات اللبنانية. وفي ظل تغير الأولويات الوطنية اللبنانية في المرحلة الحالية وغياب الإجماع اللبناني على القضايا الوطنية الأساسية ومنها قضية المحكمة الدولية ودور المقاومة يبقى الملف الفلسطيني غير ذي أولوية، وفي أحسن الأحوال موضوع تجاذب ومساومة في البازار السياسي اللبناني.
الطريق المسدود بين مأزق الحرمان من الحقوق وسراب الدولة
بناءاً على ما سبق، بوسع المرء أن يفهم ويستوعب بشكل أفضل مخاوف اللاجئين الفلسطينيين في لبنان التي عبر عنها بقوة نشطاء المجتمع الأهلي، هذه المخاوف المتعلقة بالانعكاسات السلبية لمبادرة “الدولة” على قضية اللاجئين وحق العودة فيما لو تمّ استبدال عضوية منظمة التحرير الفلسطينية المراقبة في الأمم المتحدة بعضوية دولة فلسطين المراقبة. ويمكن صياغة هذه المخاوف وتلخيصها في التساؤلات التالية:
- ماذا لو أصبح اللاجئون الفلسطينيون في لبنان مواطنين رعايا للدولة الموعودة، فهل سيكفوا عن أن يكونوا لاجئين قانوناً؛ وبالتالي هل سيفقدون حقهم في العودة والتعويض واستعادة الممتلكات؟
- ما هو بشكل خاص مصير الأونروا في مناطق عملياتها الخمس والتي يجسّد استمرار عملها مسوؤلية المجتمع الدولي السياسية والأخلاقية عن خلق مشكلة اللاجئين، وبالتالي مسوؤليته عن حلها وفق مبادئ القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة؟
- وماذا عن ولاية الأونروا؟ وهل سينتقل اللاجئون الفلسطينيون من حماية الأونروا الى حماية المفوضية السامية للأمم المتحدة للاجئين؟ وهل ستطبق عليهم حلول المفوضية الثلاثة المعروفة: التوطين في بلد اللجوء الأول، أو التوطين في بلد ثالث، أو العودة (Repatriation)؟ وفي الحالة الأخيرة العودة إلى أين: إلى الدولة الفلسطينية في حدود السادس من حزيران 1967 أم إلى بيوتهم وممتلكاتهم الأصلية التي طردوا منها منذ العام 1948 كما ينص عليه القرار194؟
إزاء هذا الواقع يقف الفلسطينيون في لبنان حالياً أمام طريق مسدود بين عدم إعتراف الدولة المضيفة بحقوقهم الأساسية، من جهة، وبين الركض وراء سراب الدولة الوطنية التي تكفل عودتهم وبالتالي تصون حقوقهم في المواطنة الكاملة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: كيف تكيّف ويتكيّف اللاجئون الفلسطينيون في لبنان مع هذا الواقع الصعب؟
في الخط الواصل بين حدّي هذه المعادلة يخوض اللاجئون الفلسطينيون في لبنان كل أشكال النضال المطلبي من أجل تحصيل أوسع طيف من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية أساساً. ويُجمع الفلسطينيون في لبنان منظماتٍ أهلية وفصائل على أن التمتع بطيف واسع من حقوق الإنسان لا يُعتبر ولا ينبغي أن ينظر اليه من قبل الدولة اللبنانية والنخب اللبنانية على أنه خطوة على طريق الاندماج الذي يقود الى التوطين. بل على العكس من ذلك يرى الفلسطينيون على اختلاف فئاتهم الاجتماعية وانتماءاتهم التنظيمية أن حصولهم على هذه الحقوق يدعم نضالهم من أجل العودة ويمكنهم من إفشال سيناريوهات التوطين التي قد تُفرض على اللبنانيين والفلسطينيين من قبل المجتمع الدولى، بحكم الأمر الواقع في ظل انسداد الأفق أمام “عملية السلام”.
ويتبنى الفلسطينيون مجتمعاً أهلياً وفصائل خطاباً حقوقياً وسياسياً موحداً يقول: ” إذا كان التمسك بحق العودة ورفض التوطين ثابتة لبنانية فلسطينية مشتركة فدعونا نعمل سوياً على محاربته ولكن عبر بوابة الحقوق”. ويرون أن أي خطاب لبناني داعم لحق العودة ورافض للتوطين لا يرتبط بمنح الحقوق الأساسية للفلسطينيين إنما هو خطاب معادل لتهجير الفلسطيينيين من لبنان وتوطينهم في بلدان أخرى.
وقد تمّ التعبير عن هذه المعادلة بشكل لا يقبل الالتباس في أكثر من مناسبة، لعّل أهمها مسيرة 17 حزيران/يونيو 2010 من أجل مناصرة الحقوق الأساسية للفلسطينيين في لبنان، والتي عرفت باسم مسيرة “الحقوق المدنية”، التي شارك فيها أكثر من مائة جمعية أهلية لبنانية وفلسطينية، والتي استبقت جلسة البرلمان اللبناني في آب/أُغسطس 2010 التي ناقش فيها اقتراحات القوانين المقدمة اليه في هذا الخصوص. وكان شعارها الأساسي: “بدنا نعيش بكرامة الى حين العودة “.
وكانت مسيرة العودة في الذكرى الثالثة والستين للنكبة في 15 أيار/مايو2011 الوجه الآخر المعبر عن ثنائية أو معادلة حق العودة /الحقوق الأساسية. حيث نجحت المسيرة في تطمين المجتمع اللبناني والدولة اللبنانية أن الفلسطينيين في الوقت الذي يناضلون فيه من أجل الحقوق الأساسية في لبنان يتمسكون بحقهم في العودة ويرفضون التوطين.
وخلاصة القول أن الفلسطينيين في لبنان يعتبرون نضالهم من أجل حقوق الإنسان الأساسية مجرد وسيلة لتخفيف معاناتهم اليومية ومجرد إستراتيجية للبقاء و”رصيد” أساسي an asset في نضالهم الطويل والشجاع من أجل الحفاظ على هويتهم الوطنية وتحقيق حلم العودة.
توصيات واقتراحات
- على الرغم من الطبيعة المستعصية ظاهرياً للمأزق الذي يواجهه اللاجئون الفلسطينيون في لبنان، فإن هناك العديد من الوسائل العملية للمضي قدماً:
- دعوة الدولة اللبنانية الى إعادة تفسير التشريعات اللبنانية ومواءمتها مع المعايير الدولية من خلال تأسيس وضع قانوني خاص للاجئين الفلسطينيين في لبنان Separate Legal Status يميزهم عن الأجانب.
- التخلي عن المعالجة/النظرة الأمنية للوجود الفلسطيني المدني في لبنان وخاصة النظرة إلى المخيمات واستبدالها بمقاربة مبنية على مفهوم الأمن الإنساني Human security . وبمعنى أدق النظر إلى هذا الحق بوصفه واحداً من منظومة حقوق الإنسان وأحد مكونات النموذج الكلي للتنميةHolistic Paradigm of Development.
- ضرورة أن يعمل الفلسطينيون بشكل ملحّ وجدّي على تطوير مرجعية فلسطينية موحدة للحقوق الفلسطينية مؤهلة لإجراء الحوار مع مؤسسات الدولة اللبنانية المعنية، بحيث تشمل هذه المرجعية كافة الفصائل، فضلاً عن هيئات المجتمع الأهلي الفلسطيني التي تتميز بدينامية عالية في الدفاع عن حقوق اللاجئين ومصالحهم.
- الحرص على ضرورة استمرار وجود الأونروا التي تعتبر الشاهد الحيّ على خلق مشكلة اللاجئين وعلى مسؤولية المجتمع الدولي عن حلّها وفق مبادئ القانون الدولي.
- ضرورة أن تحافظ أي مبادرة بخصوص الدولة الفلسطينية وفي جميع الأوقات على الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف وفي مقدمها حق العودة وحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني في أماكن وجوده كافةً، وضرورة الحفاظ على المكانة التمثيلية لمنظمة التحرير الفلسطينية، والحرص على عدم استخدام أية لغة قانونية وسياسية يُفهم منها أن ” دولة فلسطين” في حدود العام 1967 هي من تمثل مجموع الشعب الفلسطيني أو أن مجرد قيامها يعني تطبيقاً لحق تقرير المصير.
- عقد مركز حقوق اللاجئين/ عائدون بالتعاون مع مركز “باحث” للدراسات ندوة قانونية في بيروت بتاريخ 17/9/2011 استضاف فيها د. سوزان أكرم للحديث عن آثارمبادرة القيادة الفلسطينية بالذهاب الى الأمم المتحدة على قضية اللاجئين. كما استضاف المركز بالاشتراك مع هيئة تنسيق الجمعيات الأهلية الفلسطينية في لبنان “اللقاء الحادي عشر للإئتلاف الفلسطيني العالمي لحق العودة” (3-8/12 2011). وتضمن برنامج هذا اللقاء عقد ندوة حول الآثار القانونية والسياسية للمبادرة على قضية اللاجئين وحق العودة. وتحدث فيها كل من د.شفيق المصري ود. أنيس القاسم.وعقدت جمعيات أخرى مثل منظمتا “ثابت” و “واجب” للدفاع عن حق العودة ندواث مماثلة. ↩
- للاطلاع على أنشطة أسبوع التمثيل أنظر:http://kamel-al-sawt.ourproject.org/ ↩
- بحسب سجلات الأونروا، بلغ عدد اللاجئين الفلسطينيين المسجلين لديها في لبنان نحو 455000 شخصا (حتى حزيران 2010). ويعيش أكثر من نصفهم بقليل (%52) في 12 مخيماً في حين تعيش بقيتهم في المدن وفي عدد من التجمعات الريفية . أما العدد الفعلي لمن يقيم منهم في لبنان فيبلغ حسب معظم التقديرات 280000 شخصاً. ↩
- للمزيد من النقاش حول تاريخ الوجود الفلسطيني في لبنان؛ أنظر: Jaber Suleiman. ‘Refugees or Foreigners? The case of Palestinians in Lebanon”. In Forced Displacement: Why Rights Matter, edited by Katarzyna Grabska & Lyla Mehta. (London: Palgrave Macmillan, 2008), pp. 93- 115. ↩
- للمزيد من التفاصيل حول الوضع القانوني للاجئين الفلسطينيين في لبنان؛ أنظر:
Dalal Yassine’s Al-Shabaka policy brief Unwelcome Guests and Jaber Suleiman’s ”Marginalised Community : The Case of Palestinians in Lebanon”, Research Report, Development Research Centre on Globalisation & Poverty, University of Sussex, April 2006. www.migrationdrc.org/publications/research_reports.html ↩ - أصدر وزير العمل اللبناني الدكتور شربل نحاس في اليوم نفسه الذي قدّم فيه استقالته من الوزارة (22/2/2012) قراراً وزارياً ينظم آلية منح إجازة العمل للأجراء الفلسطينيين وتحديد المستندات المطلوبة للحصول عليها. بيد أن هذا القرار الوزاري قابل للنقض على يد أي وزير عمل لاحق، ولذلك فهو لا يغني عن مرسوم تطبيقي يصدر عن مجلس الوزراء لإنفاذ القانون رقم 129 بشكل نهائي. ↩