Palestinian workers wait at the Erez crossing as they prepare to leave Beit Hanun

مقدمة

منذ بدء الإبادة الجماعية في غزة، أصبحت قضية العمال الفلسطينيين في السوق الإسرائيلية محط اهتمام المجلس الوزاري المصغر للشؤون المدنية والاقتصادية الإسرائيلية ولجنة الخارجية والأمن في الكنيست. واستهدفت  الإدارة الإسرائيلية العمال الفلسطينيين عقب السابع من تشرين الأول/أكتوبر عبر اتخاذ قرارات تعسفية ضدهم ومنها إلغاء تصاريح العمل لأكثر من 140 ألف عامل فلسطيني من الضفة الغربية وقطاع غزة، واعتقال الآلاف منهم بشكل غير قانوني ونقلهم إلى مراكز احتجاز. كما شرعت الحكومة الإسرائيلية في مناقشات رسمية مع حكومات دول آسيوية لاستقدام آلاف العمال الأجانب لاستبدال العمال الفلسطينيين.

يتناول هذا الموجز السياساتي النمط الذي اتبعته الحكومة الإسرائيلية في تعاملها مع العمالة الفلسطينية، والذي يُظهرُ سياسةً استعمارية استيطانية ممنهجة تهدف إلى تسخير اليد العاملة الفلسطينية بحيث يتم استدعاؤها و التخلص منها وطردها واستبدالها حسب الحاجة. تهدف تلك السياسة – بحسب هذا الموجز التحليلي – إلى تعطيل البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية الفلسطينية، ومن ثم محو الوجود الفلسطيني. 

سرد تاريخي: تعامل الاحتلال الصهيوني مع العمالة الفلسطينية

الاستبعاد:الصهيونية في بداياتها 

استأثر العمال الفلسطينيون منذ بداية المشروع الاستعماري الاستيطاني في فلسطين باهتمام كبير من قادة الحركة الصهيونية. وعلى الرغم من أن الصراع على الأرض كان ولا يزال يشكل لب جهود الحركة الصهيونية، إلا أنّ الحركة كانت تنظر إلى العمل والعمال كمسألة مرتبطة جوهريًا بسعيها للسيادة على أرض فلسطين. سعت في هذا الإطار الحركة الصهيونية منذ بدايات الاستعمار إلى إخضاع العمال الفلسطينيين عبر التحكم في أرزاقهم  بشكل يؤثر على قدرتهم على العيش والبقاء على الأرض.

كانت الصهيونيةُ العمالية هي الأيديولوجيةَ السائدة في بدايات المشروع الصهيوني، ودعا المنادون بها إلى استبعاد العمال الفلسطينيين من أجل إنشاء الطبقة العاملة اليهودية اللازمة لبناء الدولة اليهودية. واستخدمَ الصهاينة العماليين، في إطار سعيهم لجسر الهوة بين الاشتراكية الأممية والقومية اليهودية، شعارات من قبيل “احتلال العمل” و”العمل العبري” التي حثَّت اليهود الأوروبيين إلى بناء اقتصاد يهودي حصري.

وجد العمال الفلسطينيون أنفسهم وقد أصبحوا، بفعل فاعل، يدًا عاملةً احتياطية متدنية الدخل لدى النظام ذاته الذي انتزع موطنهم التاريخي بالتطهير العرقي Share on X

تتوجت هذه الجهود التهويدية في تأسيس أول اتحاد عمالي قومي في إسرائيل، الهستدروت، في عام 1920. ولم يُخفِ مؤسسوه، وبينهم  دافيد بن غوريون أول رئيس وزراء إسرائيلي، منذ مؤتمرهم الأول في حيفا نيتهم استبعاد العمال الفلسطينيين وبناء مجتمع حصري لليهود في فلسطين وتقديم المصالح القومية على المنفعة الاقتصادية.

غير أن توسع الاقتصاد الاستيطاني بسبب تنامي معدلات الهجرة اليهودية إلى فلسطين في عقدي الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي اقتضى تشغيل المزيد من العمال . وهكذا أخذَ المستوطنون اليهود في تشغيل العمال الفلسطينيين بمعدلات متزايدة، مما تسبب أيضًا في إبعادهم عن أشغالهم الأصلية . اتسمت هذه الفترة اذًا بالمحاولات الصهيونية لاستبعاد العمال الفلسطينيين ودمجهم حسب الطلب في سوق العمل الإسرائيلي، بالتوازي مع مصادرة الأراضي الفلسطينية وتشريد المزارعين الفلسطينيين بالمحصلة و اضطرارهم إلى البحث عن فرص عمل أخرى. وكانت النتيجة الحتمية لتلك السياسات الاستيطانية تدهور قطاعي الزراعة والصناعة الفلسطينيين إلى أن وصلا مرحلة الفوضى التامة في نكبة 1948.

الاحتواء: من النكبة وحتى أوسلو

طردت العصابات الصهيونية ما يزيد على 700 ألف فلسطيني من أراضيهم إبان النكبة، ومنح النظام الإسرائيلي جنسيته لقرابة 150 ألف فلسطيني ممن بقوا في الداخل بعد تجريدهم من أراضيهم، وإخضاعهم  قسرًا لمجموعة من السياسات والقوانين العنصرية التي هدفت إلى ترسيخ تبعيتهم السياسية والاقتصادية.

وبحلول منتصف الستينيات، شكّل الفلسطينيون نسبةً كبيرة في اليد العاملة في سوق العمل الإسرائيلي بعد انحسار التهديد الديموغرافي الفلسطيني في الداخل المحتل. وعمل الفلسطينيون في المقام الأول في قطاعات الزراعة والبناء والتصنيع بأجورٍ متدنية. وكان هذا النهج في التشغيل يخدم سياسة الاحتواء الإسرائيلية التي استطاع نظام الاحتلال من خلالها استغلال القوى العاملة الفلسطينية لصالحه من أجل تلبية احتياجاته الإنتاجية، مع الحرص في الوقت نفسه على إفقار الفلسطينيين بشكل ممنهج لضمان تبعيتهم له عبر تحويلهم إلى عمالة رخيصة.

وهكذا مثَّلت هذه المرحلة خروجًا عن السياسة الصهيونية المبكرة المنادية باستبعاد العمال الفلسطينيين. وبفضل سياسة الدمج المضبوط داخل سوق العمل الإسرائيلي تلك، عملت الدولة الاستعمارية على إخضاع الفلسطينيين واحتوائهم، كما سعت إلى تقزيم القطاعات الاقتصادية الفلسطينية عبر السيطرة على وسائل الإنتاج وبالتالي سلب مقومات الاستدامة الذاتية. ونتيجة لذلك، وجد العمال الفلسطينيون أنفسهم وقد أصبحوا، بفعل فاعل، يدًا عاملةً احتياطية متدنية الدخل لدى النظام ذاته الذي انتزع موطنهم التاريخي بالتطهير العرقي. واستمرت هذه الحالة حتى اندلاع الانتفاضة الأولى، حين فرضت إسرائيل قيودًا مشددة على العمال الفلسطينيين وشرعت باستبدالهم بعمال مهاجرين من الاتحاد السوفييتي السابق.

التقويض: أوسلو والانتفاضة الثانية

جلبت أوسلو في أعقاب الانتفاضة الأولى وعدًا بإقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وغزة، غير أن ذلك لم يثنِ النظام الإسرائيلي عن سعيه لمحو قدرة الفلسطينيين على الاستقلال الاقتصادي. وعبر الاستمرار في السيطرة الفعلية على الاقتصاد الفلسطيني والموارد الفلسطينية، استطاع النظام الإسرائيلي أن يُبقي الفلسطينيين يدًا عاملةً مُسخّرة تُستدعى أو تُطرَد حسب الحاجة. وبحلول عام 1999، كان قرابة 23% من اليد العاملة الفلسطينية من الضفة الغربية وغزة تعمل إمّا داخل أراضي 1948 أو في المستوطنات الإسرائيلية. غير أن النسبة انخفضت بحلول 2005 إلى ما دون 10% بعد أن فرضت إسرائيل سلسلةً من العقوبات الجماعية على الفلسطينيين إبان الانتفاضة الثانية.

يسعى النظام الإسرائيلي في تعامله مع العمال الفلسطينيين إلى تحقيق هدف أساسي يطال كل جوانب الحياة الفلسطينية، والمتمثل في جعل حياة الفلسطينيين اليومية لا تطاق بحيث يصبحوا مجبرين على الخروج من موطنهم Share on X

كثفت الحكومة الإسرائيلية في السنوات التي أعقبت الانتفاضة الثانية سياساتها الساعية إلى تفتيت الضفة الغربية، فضمّت المزيد من الأراضي، ونشرت نقاط التفتيش والمعابر، وشيّدت جدار الفصل العنصري ضمن المسعى الاستعماري لتقويض قدرة الفلسطينيين على البقاء في أرضهم و مزاولة الزراعة والصناعة والتجارة. وقد خلقت هذه الإجراءات فجوة هيكلية ملحوظة بين تكاليف الإنتاج في الاقتصادين الفلسطيني والإسرائيلي، لصالح الأخير، مما أدى إلى تفكيك العديد من القطاعات الإنتاجية والزراعية الفلسطينية تدريجيًا.

تقزيم الصراع وعسكرته 

يعدُّ القادة الإسرائيليون تصاعد أعمالَ المقاومة الفلسطينية على مدار العقد الماضي تهديدًا رئيسيًا لاستقرار دولة الاستعمار الاستيطاني. ولذلك ابتكروا تدابير أمنية واقتصادية لمراقبة النضال الفلسطيني وترويضه. وتبعًا لذلك، انطوت سياسة إخضاع الفلسطينيين في السنوات الأخيرة على زيادة ملموسة، مرة أخرى، في عدد تصاريح العمل الممنوحة للعمال من الضفة الغربية وقطاع غزة. فارتفع عدد العمال الفلسطينيين في أراضي 1948 والمستوطنات من حوالي 77 ألف في 2012 إلى نحو 178 ألف في 2023، يُضاف إليهم عمالة فلسطينية غير رسمية تقدر بأكثر من 40 ألف عامل. وفي 2022، سمحت إسرائيل للعمال من غزة بالعودة إلى العمل فيها بعد انقطاع كان قد استمر منذ عام 2006. وفي الوقت نفسه، وبينما كانت النيوليبرالية تترسخ في أوساط النخب الفلسطينية في الضفة الغربية، والتي عجزت عن خلق فرص العمل في الاقتصاد الفلسطيني، لجأ فلسطينيون كُثر إلى العمل داخل أراضي 1948 والمستوطنات الإسرائيلية سعيًا لتحسين أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية المعدمة.

أُسس الاستراتيجية الإسرائيلية

استنادًا إلى السرد التاريخي سابق الذكر، يتبع النظام الإسرائيلي أربعة أساليب رئيسية من أجل ترسيخ تبعية اليد العاملة الفلسطينية:

  • أولًا، تشغيل العمال الفلسطينيين في أعمال متدنية الأجور بشكل حصري عند الحاجة لسد الفجوات في القوى العاملة في السوق الإسرائيلي.
  • ثانيًا، التركيز على تشغيل الفلسطينيين في قطاعات الزراعة والصناعة والبناء، بشكل يضمن حدوث عجز خطير في الأيدي العاملة في النظير الفلسطيني، كون تلك القطاعات، خاصة الزراعة والصناعة، ضرورية لتحقيق الاكتفاء الاقتصادي الذاتي.
  • ثالثًا، الاستمرار في التوسع في بناء المستوطنات غير القانونية في الضفة الغربية، وبذلك تُنمِّي إسرائيل إقتصادها وفي الوقت نفسه تتسبب في انكماش الاقتصاد الفلسطيني بسبب الاستيلاء على الأراضي.
  • رابعًا، سحب تصاريح العمل حينما تنتفي الحاجة إلى العامل الفلسطيني أوحين يشاء المستعمرفرض عقوبة جماعية على السكان الأصليين، ليعود العمال إلى القطاعات الفلسطينية التي جفَّفها الاحتلال أصلًا بالأساليب آنفة الذكر ومن ثم استبدالهم بعمال أجانب.

على المدى القصير، نجم عن هذه الاستراتيجية الإسرائيلية يدٌ عاملة فلسطينية مُجرَّدة من إنسانيتها ويسهل الاستغناء عنها ومعتمدة في الغالب على السوق الإسرائيلية، ونجم عنها كذلك تدهور كبير في الاقتصاد الفلسطيني. وعلى المدى البعيد، يسعى النظام الإسرائيلي في تعامله  مع العمال الفلسطينيين إلى تحقيق هدف أساسي يطال كل جوانب الحياة الفلسطينية، والمتمثل في جعل حياة الفلسطينيين اليومية لا تطاق بحيث يصبحوا مجبرين على الخروج من موطنهم. فإن الغاية، كما كانت دومًا، هي محو الوجود الفلسطيني والتوسع في الاستيطان اليهودي.

الإبادة الجماعية في غزة: إسرائيل تعود إلى استراتيجية معهودة

مع بدء الحرب الإبادية الإسرائيلية على غزة، عاد النظام الاستعماري الاستيطاني وبقوة إلى أسلوب العقاب الجماعي المألوف ضد العمال الفلسطينيين. لجأت الحكومة الإسرائيلية إلى سحب تصاريح العمل من عمال الضفة الغربية وغزة، واعتقلت بشكل تعسفي نحو10 آلاف و300 عامل مباشرةً عقب 7 تشرين الأول/أكتوبر وأودعتهم السجون والمعتقلات الإسرائيلية وامتنعت عن الكشف عن أسمائهم وأماكن احتجازهم. ومن بين هؤلاء، أُطلق سراح 3200 في غضون شهر، ورُحّل نحو 6441 آخرين إلى الضفة الغربية، ولا يزال حوالي 1000 عامل في عداد المفقودين. وفي مطلع تشرين الثاني/نوفمبر 2023، رحَّل الجنود الإسرائيليون الآلاف من هؤلاء العمال قسرًا إلى غزة بعد تجريدهم من ممتلكاتهم. و أفادت التقارير بأن السلطات الإسرائيلية اعتقلت العمال الفلسطينيين القادمين من الضفة الغربية وعذبتهم كذلك، كما حُرم أكثرهم من الحصول على أجورهم ومستحقاتهم المالية.

قاد وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، ووزير الأمن، إيتمار بن غفير، حملة عاتية ضد العمال الفلسطينيين عقب السابع من تشرين الأول/أكتوبر، واصفين إياهم بأنهم أعداء من الداخل يشكلون خطر على استقرار الدولة الإسرائيلية. وتزامن ذلك مع دعوات قادها وزير الاقتصاد والصناعة الإسرائيلي، نير بركات، طالب خلالها بعدم ترك عجلات الاقتصاد الإسرائيلي في يد العمال الفلسطينيين، كما أعاد تفعيل خطط كان قد قادها في السنوات الأخيرة لاستقدام عشرات الآلاف من العمال الأجانب من دول مثل سريلانكا والصين والهند وتايلاند في إطار سياسة إحلال العمالة الأجنبية بديلًا عن الفلسطينية.

يسلط اقتراح بركات الضوء على استراتيجية أوسع تسعى إلى تهميش الفلسطينيين إقتصاديًا. كما تتفاقم تداعيات هذا النهج القائم على الاستبعاد الاقتصادي بسبب الوضع المالي المتردي الذي يعيشه الفلسطينيون، والذي يضطرهم بدافع اليأس إلى دخول أراضي 1948 عبر طرق التهريب للعمل بشكل غير شرعي أو البحث عن فرص للهجرة.

 تنطوي السياسات الإسرائيلية تجاه العمال على آثار بعيدة المدى، لأن تشغيل الفلسطينيين في السوق الإسرائيلي لازال يشكل ركيزة رئيسة للاقتصاد الفلسطيني. تدر أجور العمال أكثر من 380 مليون دولار أميركي إلى السوق الفلسطينية، وتشكل دعامة أساسية لعائلاتهم. كما يتقاضى العامل الفلسطيني نحو 81 دولارًا أميركيًا كمتوسط أجر يومي، أي أكثر من ضعف متوسط أجر العامل في الضفة الغربية. كما يتعدى فقدان تلك الأجور المشقة الشخصية للأفراد والأسر كون إلغاء تصاريح العمال يهدد بخسارة أكثر من 20% من الناتج المحلي الإجمالي السنوي الفلسطيني.

واليوم، لا يعد الهجوم الإسرائيلي على العمالة الفلسطينية مجرد قضية اقتصادية، بل وجودية، لأنه يشكل عنصراً أساسياً في جهود النظام الرامية إلى محو الوجود الفلسطيني Share on X

بات التأثير الاقتصادي للأزمة واضحًا، فقد أدى الإلغاء التعسفي لتصاريح العمل إلى تعطيل الخدمات الحيوية والقطاعات التجارية كذلك.  وفقد الفلسطينيون في الضفة الغربية ما مجموعه 306 ألف وظيفة، أي ما يعادل أكثر من ثلث إجمالي العمالة، وارتفعت معدلات البطالة بين الأفراد المشاركين في القوى العاملة إلى نحو 32% مقارنة بما يقارب 13% في الربع الثالث من عام 2023، وزادت معدلات الفقر من 12٪ إلى 28٪، في تفاقم ملحوظ للأزمة الاجتماعية والاقتصادية.

فشلت الحكومة الفلسطينية طيلة الأزمة الراهنة في معالجة قضية خلق فرص عمل بديلة لعمالها. دعا رئيس الوزراء الفلسطيني السابق، محمد اشتية، العمال الفلسطينيين للعودة إلى الزراعة في 22 كانون الأول/ ديسمبر 2023، وهو تصريح قوبل برد فعل ساخر من العمال، كما أثار تساؤلات عن آلية تنفيذ هذه الدعوة في ظل استيلاء المستوطنين على أراضي الفلسطينيين. وبالإضافة، طرحت السلطة الفلسطينية برنامج ‘بادر’ ضمن مبادرة أطلقها رئيس الوزراء الفلسطيني، محمد مصطفى، بالشراكة مع سلطة النقد ووزارة العمل الفلسطينية، والتي تسعى إلى تقديم قروض بدون فوائد للعمال المحرومين من الوصول إلى أماكن عملهم من أجل تأسيس وتمويل  المشروعات الصغيرة. مع ذلك، يواجه هذا البرنامج تحديات بسبب محدودية القدرة الشرائية للفلسطينيين وتراجع إنتاجية القطاع الخاص الفلسطيني، الذي قامت 42% من منشآته في الضفة الغربية بتقليص عدد عامليها. لا ترقى مبادرات السلطة الفلسطينية إلى معالجة الأزمة الاقتصادية الهيكلية، كما يعمق غياب البدائل الفاعلة شعور الفلسطينيين بتخلي السلطة عنهم. 

إن الحملة التي تشنها الحكومة الإسرائيلية ضد العمال الفلسطينيين، وخاصة في أعقاب أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول، هي جزء من حرب اقتصادية واسعة تهدف إلى إضعاف المقاومة الفلسطينية من خلال إفقار الناس وحرمانهم من حقوقهم. يسعى النظام الإسرائيلي إلى السيطرة على حياة الفلسطينيين من خلال تقويض قدرتهم على إعالة أنفسهم وأسرهم، وذلك باستخدام الحرمان الاقتصادي كأداة للإكراه. وفي نفس الوقت، فإن استخدام النظام الإسرائيلي الفقر كسلاح في حربه ضد الشعب الفلسطيني له عواقب وخيمة على الاقتصاد الإسرائيلي أيضًا.

ومع طرد العمال الفلسطينيين، بدأ الاقتصاد الإسرائيلي أن يعاني من تبعات النقص في اليد العاملة الضرورية لتشغيله، حيث تُقدر الخسارة بأكثر من 800 مليون دولار أميركي شهريًا بسبب نقص العمالة في قطاعات البناء والزراعة والتصنيع. وقد أدى التراجع المفاجئ في القوى العاملة إلى تأخير عشرات من مشاريع الإسكان، وزيادة التكاليف، ونمو التضخم. وحذرت العديد من شركات المقاولات الإسرائيلية التي فقدت جزءًا كبيرًا من قوتها العاملة الحكومة الإسرائيلية من التأثير السلبي طويل المدى لنقص العمالة بعد فشل الخطط الرامية لاستبدال العمال الفلسطينيين بعمال إسرائيليين وأجانب، ذلك لأن تجميد البناء اليوم سيؤدي إلى زيادات حادة في الأسعار في السنوات القادمة بسبب النقص المحتمل في الشقق الجديدة.

ورغم عودة بضعة آلاف من الفلسطينيين إلى العمل في نهاية تشرين الأول/ أكتوبر 2023، ولا سيما العاملين في المستوطنات الصناعية والزراعية في الضفة الغربية، فإن عسكرة أماكن العمل التي يواجهها هؤلاء العمال تكشف عن ظروف عمل قاسية وغير مسبوقة. يواجه هؤلاء العمال الإهانة والتهديد والإساءة اللفظية بشكل متزايد عند نقاط التفتيش العسكرية من قبل الجنود الإسرائيليين، في حين تحولت أماكن العمل إلى ثكنات عسكرية مراقبة يشرف عليها أرباب عمل مسلحين.  يصف العديد من العمال الفلسطينيين الإذلال اليومي الذي يتعرضون له، بما في ذلك أثناء التفتيش الجسدي عبر أجهزة الكشف عن المعادن المتواجدة في أماكن العمل من مزارع ومصانع. ويصاحب هذا العنف في محلات العمل حوادث متكررة من تدمير المستوطنين لعشرات السيارات التابعة للعمال الفلسطينيين في مناطق صناعية، مثل واقعة  ميشور أدوميم. 

وفي الوقت نفسه، تُنبىء مصادقة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على مخطط تجريبي لإدخال عمال من الضفة الغربية للعمل في قطاع البناء الإسرائيلي في آذار/ مارس 2024 بزيادة الوضع سوءا، حيث اشتملت على مجموعة من الاشتراطات الأمنية الجديدة المقيدة. ومن أبرز هذه الاشتراطات إجراء فحص أمني شامل على العامل الفلسطيني وجميع أفراد عائلته، و إخضاعه لتفتيش أمني مكثف على الحواجز العسكرية، ونقل العمال في حافلات خاصة مزودة بمعدات مراقبة دقيقة، وإجبارهم على التوقيع الإلكتروني عند الدخول والخروج يوميًا من أراضي 1948، ووضع سوار إلكتروني على أيديهم لتحديد مواقعهم في كل لحظة، بالإضافة إلى نشر عناصر أمن مسلحين في أماكن عملهم من أجل حراستهم بشكل مشدد. تعزز هذه الإجراءات الأمنية الدعاية الاستعمارية التي تحرض على عدم الوثوق بالفلسطينيين داخل أراضيهم، وتدعي أن وجودهم يجب أن يخضع للمراقبة والسيطرة بشكل مستمر.

إن عسكرة محلات العمل التي تنعكس في تشغيل الفلسطينيين في المستوطنات الإسرائيلية في ظل إجراءات أمنية مشددة غير مسبوقة يجب أن تُفهم على أنها جزء من استراتيجية مدروسة لتحويل الحياة اليومية للعمال إلى جحيم مميت لا يطاق، فهي بمثابة حرب نفسية من شأنها أن تدفع الفلسطينيين إلى هجرة أراضيهم بحثًا عن فرصة للعمل والعيش بعيدًا عن وطنهم. وبعبارة أخرى، فإن الإجراءات الأمنية المفروضة على هؤلاء العمال من شأنها أن تخلق حالة من الخوف المستمر، ليس فقط من أجل إذلالهم والسيطرة عليهم ولكن أيضًا بهدف دفعهم للبحث عن بدائل للعيش خارج فلسطين. وبالتالي فإن استهداف العمال الفلسطينيين، وخاصة في سياق الإبادة الجماعية المستمرة، هو جزء من الاستراتيجية الاستعمارية القائمة منذ أوائل القرن العشرين، عندما سعى المستوطنون الصهاينة إلى تهميش الفلسطينيين واستبعادهم من القوى العاملة. واليوم، لا يعد الهجوم الإسرائيلي على العمالة الفلسطينية مجرد قضية اقتصادية، بل وجودية، لأنه يشكل عنصراً أساسياً في جهود النظام الرامية إلى محو الوجود الفلسطيني.

تهدف سياسة طرد العمال الفلسطينيين، وتهميشهم، وتدمير قدرتهم على الاستقلال الاقتصادي، في ظل المعاملة القاسية التي يتعرضون لها في أماكن عملهم، إلى تعزيز المشروع الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي. يقوم النظام الإسرائيلي بموجب تلك السياسة بخلق بيئة طاردة يضطر فيها الفلسطينيون، كونهم غير قادرين على إعالة أنفسهم وأسرهم، إلى ترك وطنهم بحثًا عن حياة أفضل. وبالتالي، يعد استهداف العمالة الفلسطينية أكثر من مجرد تكتيك يهدف إلى الحرمان المالي، بل هو جهد متعمد لكسر إرادة الفلسطينيين وقدرتهم على مقاومة الاحتلال، وإبعادهم عن أرضهم.

توصيات

لضمان تجاوز هذا الواقع الذي جعل عمل الفلسطينيين جزءًا من الاستراتيجية الاستعمارية لمحو وجود السكان الأصليين، ومن أجل أن تتصدر قضية التحرر في مواجهة الهيمنة الاستعمارية، يجب اتخاذ الخطوات التالية:

  • يجب أن يتجاوز أي نقاش سياسي أو أكاديمي المدى القصير المتمثل في مسألة ما إذا كان العمال الفلسطينيون سيعودون للعمل في إسرائيل والمستوطنات أم لا، ويتم التركيز في المقابل على جريمة التطهير العرقي التي يقوم بها المحتل الإسرائيلي. وإدراكًا لحقيقة أن استغلال العمالة الفلسطينية هو جزءٌ من استراتيجية المحو الاستعماري الاستيطاني، فإن النقاش يجب أن يشتبك  مع التربح الناتج عن استغلال العمالة، والذي يدعم المشروع الاستيطاني، وأن يتناول أيضًا العلاقة بين النيوليبرالية والاستعمار الاستيطاني، كون العمال الفلسطينيون ضحايا لهذه العلاقة المزدوجة.
  • ينبغي لفعاليات التضامن أن تنطلق من الجهود الهامة  التي بذلتها الحركة العمالية الدولية منذ بدء الإبادة الجماعية. فالبيانات والمظاهرات والدعاوى القانونية  الصادرة عن الحركة قادرة على أن تشكل جميعها مساحة رئيسة لاحتضان قضايا العمال الفلسطينيين في المستقبل وإيجاد حلول سياسية واقتصادية واجتماعية وقانونية تحمي حقوقهم وتضمن بقائهم في فلسطين، وتوفر لهم بدائل اقتصادية في ظل عجز مؤسسات فلسطينية وإقليمية ودولية على القيام بهذا الدور.
  • ينبغي للمجتمع الفلسطيني بالتعاون مع المنظمات والحركات العمالية الدولية  الاستثمار في المعارف الاستثنائية التي يتقنها العمال لمقاومة الهيمنة الاقتصادية والسياسية الاستيطانية والنيوليبرالية، والتحرر من خلال وسائل غير تقليدية، وهي حاضرة في أذهان العمال ويومياتهم. يمكن لهذه الوسائل أن تشمل تعزيز التعاونيات المحلية، والمشاريع المحلية الصغيرة، وتطوير الزراعة بأشكال غير تقليدية، وتوسيع الاقتصاد الاجتماعي التضامني، إضافة إلى استغلال التكنولوجيا لخلق منصات اقتصادية تدر الدخل على الفلسطينيين.
إيهاب محارمه هو باحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة، وسكرتير تحرير دورية "سياسات عربية" الصادرة عن المركز. عمل سابقًا في جامعة بيرزيت،...

أحدث المنشورات

 السياسة
يحلل رئيس مجلس أمناء الشبكة طارق بقعوني تداعيات الإبادة الجماعية المستمرة في غزة منذ ما يزيد على 12 شهرًا، ويناقش آثارها على حركة التحرير الفلسطينية والمنطقة والعالم بأثره. ويطرح نقدًا للنظام الدولي القائم ويشتبك مع قواعده وأسسه، مركزًا على النفوذ المتنامي للأغلبية العالمية.
Al-Shabaka Tareq Baconi
طارق بقعوني· 17 ديسمبر 2024
دأبت إسرائيل على الإحجام عن تحويل إيرادات المقاصة الفلسطينية لمعاقبة السلطة الفلسطينية أو التلاعب بها. ومنذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، أمعنَ النظام الإسرائيلي في سرقة الأموال الفلسطينية، دافعًا السلطة الفلسطينية إلى شفير الانهيار المالي. يرى الكاتب في هذه المذكرة السياساتية أنّ استخدام إسرائيل إيرادات المقاصة كسلاح ليس استمرارًا لتدابير سابقة وحسب، بل يعكس أجندةً جديدة أكثر تطرفًا يقودها اليمين المتطرف.
عصمت قزمار· 01 ديسمبر 2024
 السياسة
في مختبر السياسات القادم ينضم إلينا من غزة د. طلال أبوركبة ود. محمد الحافي مع الميسر د. علاء الترتير لمناقشة غزة ومستقبلها من منظور فلسطيني.
Skip to content