مقال - استمرار الاستعمار الاستيطاني الصهيوني

مقدمة

يرتكب النظام الإسرائيلي حاليًا إبادةً جماعية بحق الفلسطينيين في غزة، إذ لا يكتفي بقصف الفلسطينيين عشوائيًا، بل يتعمدُ أيضًا استهداف البنية التحتية المدنية الحيوية كالمستشفيات والمدارس والجامعات ومخيمات اللاجئين والمباني السكنية. ومَن ينجو مِن القصف ليس آمنًا البتة، بل يواجه نقصًا شديدًا في المياه النظيفة والغذاء والكهرباء والإمدادات الطبية الضرورية.1

ومثلما يعكف النظام الإسرائيلي على تجويع الفلسطينيين وذبحهم، فإنه يسعى أيضًا إلى إخراجهم من أرضهم كليًا، كما يتجلى في تصريحات المسؤولين والسياسيين الإسرائيليين العديدة، وفي الوثائق المسربة التي تظهر نوايا “نقل” (مصطلح ألطف للتطهير العرقي) الفلسطينيين في غزة إلى مصر أو خارجها – علمًا بأن قرابة ثلاثة أرباعهم أصلًا لاجئون بسبب الحروب الإسرائيلية السابقة على الفلسطينيين. وهذه المبادرة جزءٌ من العقاب الجماعي المستمر الذي تمارسه إسرائيل على شعبٍ تجرأ على مقاومة استعماره والتعبير عن سيادته الأصلية على الأرض.

يتناول الكاتب في هذا التعقيب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي الذي يمارسه النظام الإسرائيلي ضد الفلسطينيين في غزة كاستمرارٍ للمشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني. والأهم من ذلك أنه يؤكدُ أن ما يرتكبه النظام الإسرائيلي الآن من مذابح وتهجير بحق الفلسطينيين رغم فظاعتها لا يحيد عمَّا دأب على فعله طوال الاستعمار الصهيوني المستمر منذ 75 عامًا. ويُبيِّن ذلك من خلال تحديد ثلاث سمات رئيسية للاستعمار الاستيطاني الصهيوني: 1) طبيعته كهيكل دائم، 2) أهدافه في إقصاء الشعب الفلسطيني، 3) استخدامه التجزئة – للأرض والشعب على حد سواء – كاستراتيجية رئيسية يسعى من خلالها إلى القضاء على هذا الشعب. ويؤكد في التعقيب أن المشروع الصهيوني يسعى من خلال هذه الأساليب إلى القضاء على السيادة الفلسطينية الأصلية في نهاية المطاف.

الاستعمار الاستيطاني الصهيوني

لطالما كانت الصهيونية أيديولوجية استعمارية استيطانية، وهي حقيقةٌ أعلنها صراحةً مهندسو الصهيونية، مثل الزعيم الصهيوني الروسي زئيف (فلاديمير آنذاك) جابوتنسكي، الذي لعب دورًا رئيسيًا في استعمار فلسطين والذي كتب سنة 1923:

كل شعبٍ أصلي سيقاوم المستوطنين الأجانب ما دامَ يرى أملًا في تخليص نفسه من خطر الاستيطان الأجنبي.

وهذا ما يفعله العرب في فلسطين، وما سيواصلون فعله، ما دامت هناك بارقةُ أمل وحيدة في أنهم سيقدرون على الحيلولة دون أن تتحول ‘فلسطين’ إلى ‘أرض إسرائيل’.

[…] ولا بد إمّا من إنهاء الاستعمار الصهيوني، حتى وإنْ كان الأكثر تقييدًا، وإمّا من فرضه رغمًا عن إرادة السكان الأصليين.

إن الأيديولوجية الاستعمارية الاستيطانية الصهيونية متشبعة بالعنصرية الأوروبية، إذ تجمعها تشابهات عديدة مع توهم المستوطنين البيض المتمثل في “القدر الواضح”. وفي معرض النقاش عمّا إذا كان ينبغي اتخاذ الأرجنتين أو فلسطين موطنًا للاستعمار الصهيوني، زعمَ مؤسس المنظمة الصهيونية، تيودور هرتزل، أن الدولة اليهودية في فلسطين ستكون “جزءًا من سور أوروبا ضد آسيا، ومعقلًا للحضارة مقابل البربرية.” ويوظَّفُ هذا الخطاب التفوقي العنصري الأبيض لتبرير استعمار الأراضي الفلسطينية والعنف اللامحدود الذي ينطوي عليه.

لم يسبقْ لواقع النكبة كعمليةٍ مستمرة أنْ كانَ أكثر وضوحًا مما هو عليه الآن Share on X

وعى الفلسطينيون منذ زمن الطبيعةَ الاستعمارية الاستيطانية للصهيونية. وعلى سبيل المثال، اضطلع فايز الصايغ في كتابه الصادر سنة 1965 والمعنون ” الاستعمار الصهيوني في فلسطين،” بتحليلٍ حاذق للاستعمار الصهيوني باعتباره أيديولوجية ومشروعًا سياسيًا. ولاحقًا في سنة 1976، عبَّرَ جميل هلال عن منطق الاستعمار الاستيطاني بصياغة موجزة ميزته عن الاستعمار الاستخراجي، حيث “لم يسعَ الصهاينة إلى استغلال السكان الفلسطينيين الأصليين، بل إلى تهجيرهم.” وبناءً على هذه النظريات الفلسطينية، يجب النظر إلى الاستعمار الاستيطاني الصهيوني كهيكل دائم يهدف إلى إقصاء الفلسطينيين من خلال تجزئة الشعب والأرض، كما يتضح من ثلاث سمات رئيسية.

أولاً، يجب اعتبار الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، وسائر المشاريع الاستعمارية الاستيطانية، هيكلًا دائمًا، وليس حادثةً منعزلة. أي أن هدف الاستعمار الاستيطاني الأساسي هو إرساء المجتمع الاستيطاني على الأرض المستعمرة على نحو دائم. ورغم المجيء على  هذه الفكرة بشيء من التفصيل في الإطار الأكاديمي للدراسات الاستعمارية الاستيطانية، فإن هذا الشعور لطالما كان محسوسًا من خلال نظرة الفلسطينيين إزاء النكبة على أنها حدثٌ مستمر. فمن ناحية، يؤكد هذا التنظير اليومي أن آثار نكبة 1948 ما تزال محسوسةً حتى اليوم – والنكبة هي عملية التطهير العرقي الذي أُخرجَ بموجبها 780,000 فلسطيني من أرضهم،. وما يزال جميع الفلسطينيين الذين طردتهم الميليشيات الصهيونية قسرًا إبان نكبة 1948 محرومين من حقهم في العودة إلى ديارهم في فلسطين. ومن ناحية أخرى، وعلى صعيد متصل، تُشير فكرة النكبة المستمرة إلى أن المشروع الصهيوني الرامي إلى تطهير فلسطين عرقيًا من الفلسطينيين هو عملية مستمرة حتى اليوم: فمنذ عام 1948 ما يزال نحو ثلثي (9.17 مليون) الشعب الفلسطيني البالغ تعداده 14 مليون حول العالم نازحون قسرًا، وجميعهم محرومون من حقهم في العودة إلى ديارهم.

ثانيًا، الهدف المركزي للاستعمار الاستيطاني الصهيوني هو إقصاء الشعب الفلسطيني عن أرض فلسطين. ويتخذ هذا الإقصاء أشكالًا عديدة ومتنوعة بما فيها، على سبيل المثال لا الحصر، الإبادة الجماعية والتطهير العرقي. ولعل الشكل الأكثر فظاعة هو أن الإقصاء الاستعماري الاستيطاني الصهيوني غالبًا ما يتخذ شكل الإبادة الجسدية للفلسطينيين، كما يتجلى، على سبيل المثال، في المجازر التي ارتكبتها الميليشيات الصهيونية بحق الفلسطينيين إبان نكبة 1948، ومذبحة صبرا وشاتيلا عام 1982، والحرب الإسرائيلية الحالية والحروب الأربعة الكبرى السابقة على غزة، وكذلك في الاعدامات المتكررة للفلسطينيين على يد الجنود الإسرائيليين والشرطة شبه العسكرية (والتي تحدث غالبًا في الضفة الغربية، ومن ضمنها القدس الشرقية). 

تتخذ عملية الإقصاء الاستعمارية الاستيطانية الصهيونية أيضًا أشكالًا أكثر غدرًا ومكرًا. ومن أمثلتها محاولة النظام الإسرائيلية محو هوية الفلسطينيين القاطنين في الأرض المحتلة عام 1948 – هؤلاء الفلسطينيون المحسوبون كمواطنين من الدرجة الثالثة في إسرائيل على الأرض الفلسطينية المحتلة في 1948. وتسعى إسرائيل إلى نزع الطابع الفلسطيني عن هذه الفئة من خلال مجموعة واسعة من السياسات مثل تجريم التعبيرات عن الهوية الفلسطينية كرفع العلم الفلسطيني أو إحياء ذكرى النكبة. تقترن هذه السياسات بعقود من مساعي الصهيونية إلى فرض عقيدتها من خلال المناهج المدرسية والجامعية، بالإضافة إلى طرق أخرى شتى لطمس تاريخ فلسطين وإعادة كتابته. وهذه السياسات شبيهة بسياسات المستعمرات الاستيطانية الأخرى، بما فيها نُظم المدارس الداخلية فيما يسمى بكندا والولايات المتحدة وكذلك الأجيال المسروقة في مستعمرة أستراليا. 

ثالثًا، تجزئة فلسطين والفلسطينيين هي إحدى الإستراتيجيات الاستعمارية الرئيسية التي تنتهجها إسرائيل لإقصاء الفلسطينيين عن أرضهم. فهذه التجزئة تؤدي في نهاية المطاف إلى الإقصاء من خلال العمل على تمزيق الفلسطينيين ثم إخراجهم من الأرض. وكما الإقصاء، تتخذ التجزئة أشكالًا مختلفة ومتنوعة، مثل تقسيم الأرض الفلسطينية، وتشتيت الأهالي، وتدمير الأسر، وتفكيك المؤسسات، وتمزيق المكان والزمان والذاكرة الفلسطينية، وتحطيم الذات، وكسر إرادة المقاومة. وهذه الأشكال ليست منفصلة وإنما مترابطة ترابطًا وثيقًا، حيث تصل صدوعها وشروخها إلى مختلف جوانب حياة الفلسطينيين.

كانت نكبة 1948 بداية تجزئة فلسطين، حيث أدى استعمار إسرائيل 78% من الأرض الفلسطينية إلى فصلها عن سائر فلسطين، أي الضفة الغربية وقطاع غزة، المنفصلتين جغرافيًا. وإبان نكسة 1967، احتلت إسرائيل الضفة الغربية وغزة عسكريًا (بالإضافة إلى أراض في سوريا ومصر)، وما يزال احتلالها الاستعماري قائمًا حتى هذا اليوم. وتشتت الشعب الفلسطيني في هذه المناطق الثلاث وفي المنفى، وباتت كل شريحة منهم تعيش واقعًا مختلفًا إلى حد كبير، وتواجه أشكالًا متنوعة من العنف الاستعماري الإسرائيلي.

يهدف المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني من خلال الجمع بين هذه السمات الرئيسية الثلاث المبينة أعلاه، الاستعمار والإقصاء والتجزئة، إلى القضاء على السيادة الفلسطينية الأصلية، التي تُجسِّد الحق في الأرض الذي لم يتم التنازل عنه قط ويقوم على استمرار وجود السكان الفلسطينيين الأصليين الذي سبق قيام دولة الاستيطان الإسرائيلية. ومع أن السيادة الأصلية تتخذُ أشكالاً تختلف باختلاف الشعوب الأصلية، إلا أن القاسم المشترك بينها هو أن جميعها يشير إلى مداومة السكان الأصليين على المطالبة بالأرض، ورفض سيادة الدولة التي تفرضها المُستعمَرة الاستيطانية.2 وفي الوقت نفسه، لا تعتمد أصلانية الفلسطينيين على “إثبات” استمرار ممارسات ثقافية معينة أو قدر معين من “الدم الأصلي.” وخلافًا لتعريف الأصلانية بموجب القانون الدولي، فإنها ليست مجموعة من المعايير الواجب استيفاؤها، بل هي علاقة سياسية ببنية الاستعمار الاستيطاني. وبقدر ما تحاول دولة إسرائيل الاستيطانية إقصاء الفلسطينيين عن أرضهم، يظل الفلسطينيون شعبًا أصليًا يقاوم هذا الإقصاء.

الحاضر الاستعماري الاستيطاني

تترددُ أصداءُ الخطاب العنصري للصهاينة الأوائل فعلًا في لغة الإبادة الجماعية التي يستخدمها القادة الإسرائيليون اليوم. فبينما كان النظام الإسرائيلي يستهلُّ مذابحه الحالية في غزة، نشر بنيامين نتنياهو من الحساب الرسمي لرئيس وزراء إسرائيل على موقع إكس (قبل أن يحذف المنشور لاحقا): “هذا صراع بين أبناء النور وأبناء الظلام، بين الإنسانية وشريعة الغاب.” وعلى نحو مماثل، نوَّه الرئيس الإسرائيلي، إسحاق هرتسوغ، إلى أن الحرب على غزة “تهدف إلى إنقاذ الحضارة الغربية”، وأنه لولا إسرائيل، “لكانت أوروبا هي التالية.” هذا الخطاب هو اجترارٌ للأيديولوجية الاستعمارية، التي تسعى إلى تبرير الإبادة الجماعية باعتبارها معركة “الخير مقابل الشر.” وفي الإعلان عن خطة إسرائيل لفرض عقاب جماعي على الفلسطينيين في غزة بقطع كافة المقومات الضرورية للحياة، أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، أنه “لن يكون هناك كهرباء ولا غذاء ولا ماء ولا وقود. كل شيء مغلق. نحن نقاتل حيوانات بشرية، ونتصرف وفقًا لذلك.” إن هذه اللغة العنصرية واللاإنسانية تمهد الطريق أمام الإبادة الجماعية والتطهير العرقي الذي تمارسه إسرائيل ضد الفلسطينيين.

جهودُ المناصرة والدفاع عن فلسطين المقتصرة على إنهاء الاحتلال الإسرائيلي و/أو الفصل العنصري قاصرةٌ عن الإقرار بالسبب الجذري للعنف، ألا وهو الاستعمار الاستيطاني الصهيوني Share on X

لم يسبقْ لواقع النكبة كعمليةٍ مستمرة أن كانَ أكثر وضوحًا مما هو عليه الآن. فقد قتلَ الجيش الإسرائيلي منذ بداية عدوانه الحالي على غزة ما يزيد على 26 ألف فلسطيني، وأخرجَ 1.9 مليون إنسان (أكثر من 80% من سكان غزة) من منازلهم. وتشهد على حجم المعاناة الصورُ القادمة من غزة – وليس أقلها صورة أبٍ يمسك بطفله المحترق حيًا بالفسفور الأبيض، وطفلٍ يحفر بين أنقاض منزله أملًا في العثور على ناجٍ واحدٍ من عائلته. إن أثر الإبادة الجماعية على هؤلاء البشر لا يُعقل. أمّا لقطات أفواج الفلسطينيين وهم يفرون من منازلهم تحت وابل النيران الإسرائيلية فتُعيد للأذهان صور نكبة 1948، وما تلاها من حالات التهجير الكبرى. وكثيرون من هؤلاء الفارين حاليًا من العنف الصهيوني هم من أبناء الفلسطينيين الذين أُخرجوا من أرضهم في 1948 ضمن عمليات التطهير العرقي.

هذا هو الإقصاء الاستعماري الاستيطاني الصهيوني في أبشع صوره. ومثلما اقترنت المذابح التي ارتكبتها إسرائيل بحق الفلسطينيين في 1948 بالتطهير العرقي، فإن ما ترتكبه إسرائيل اليوم من إبادة جماعية وتطهير عرقي هو استراتيجيات مترادفة في المشروع الصهيوني لإقصاء الشعب الفلسطيني. فبعد أن طردت إسرائيل غالبية الفلسطينيين من منازلهم بغزة، أخذت تسعى جاهدةً الآن إلى إخراجهم من القطاع وتطهيرها عرقيًا بالكامل. وقد كشفت وثيقة مسربة بتاريخ 28 تشرين الأول/أكتوبر أن وزارة المخابرات الإسرائيلية أوصَت بتطهير غزة عرقيًا من جميع الفلسطينيين البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة بإخراجهم من منازلهم وتهجيرهم للأبد في شبه جزيرة سيناء المصرية. وبالرغم من رفض الحكومة المصرية المتكرر لهذه المخطط، إلا أن الإجراءات التي اتخذتها قوات الاحتلال الإسرائيلي في غزة حتى الآن تعكس الخطوات المنصوص عليها في الوثيقة، حيث أخرجت قوات الاحتلال الإسرائيلي الفلسطينيين من شمال غزة إلى جنوبها، وجعلت من ادعائها بإخلاء المدنيين لأسباب إنسانية مثارًا للسخرية بعد أن قصفتهم وأطلقت عليهم النار طوال الطريق. والآن بدأت تلك القوات بطرد الفلسطينيين من منازلهم في جنوب غزة، الأمر الذي يثير مخاوف جدية ومبررة بأنهم سوف يُجبَرون على التجمع عند حدود رفح، ما سيزيد الضغوط على مصر. ولا تقتصر الدعوة إلى التطهير العرقي على الوزارات الحكومية، بل إنها تصدر أيضًا من سياسيين وأكاديميين بارزين وعموم المواطنين الإسرائيليين على حد سواء. وهذا هو الهدف الأساسي أصلًا للصهيونية ودولة إسرائيل: طرد الشعب الفلسطيني والاستيلاء على أرضه.

تجدر الإشارة إلى أن إسرائيل آخذةٌ أيضًا في تصعيد عمليات التطهير العرقي المستمرة منذ عقود ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية التي تشهد زيادةً حادة في عنف المستوطنين المستعمرين الإسرائيليين الذين تجرأوا بفعل الإبادة الجماعية التي تُقتَرف في غزة والحصانة الدولية لجرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل في هذا العدوان، ويمارس هؤلاء المستوطنون عنفَهم بدعمٍ كامل من الجيش الإسرائيلي لإرهاب الفلسطينيين وطردهم من منازلهم. وتُعدُّ استراتيجية التجزئة المذكورة أعلاه من الطرق الرئيسية التي تتبعها إسرائيل في ممارسة التطهير العرقي في الضفة الغربية، إذ قامت إسرائيل فعليًا بتقسيم الضفة الغربية إلى 227 جيبًا منفصلاً، وعزلت القدس الشرقية تمامًا عن سائر الضفة الغربية. ويُعزى بعض السبب في نجاحها بذلك إلى جدارِ الفصل العنصري البالغِ طوله 730 كم ويمتدُ عبر الضفة الغربية ويتعدى الخط الأخضر لعام 1967، ويقطع المدن والقرى الفلسطينية إلى قسمين، ويفصل المزارعين عن أراضيهم والمجتمعات الفلسطينية عن بعضها. والغرض من هذه الأدوات الاستعمارية وغيرها الكثير من أساليب التجزئة الإسرائيلية هو أن تجعلَ حياة الفلسطينيين في الضفة الغربية لا تُطاق، ومن ثم طردهم من منازلهم ليتسنى للمستوطنين الإسرائيليين الاستيلاءُ عليها.

وفي غزة، نشهد شكلاً أكثر تطرفًا من التجزئة الاستعمارية الاستيطانية، حيث تسعى إسرائيل إلى عزل الفلسطينيين عن سائر فلسطين بشكل منهجي. وقد اشتدت هذه العزلة الجغرافية والاجتماعية والسياسية مع فرض الحصار الإسرائيلي على غزة في أعقاب فوز حماس في انتخابات 2006. وبموازاة الإمعان في قتل الفلسطينيين في غزة بحملات القصف المتقطعة، وفرض قيودٍ مشدَّدة على حركة الأشخاص الداخلين إلى القطاع والخارجين منه، ينطوي هذا الحصار على تقييد شديد لعددٍ لا يحصى من المواد التي يحتاجها الفلسطينيون يوميًا، من مناديل المعقمة للأطفال وحتى البذور الزراعية. ففي أعقاب عملية حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر والقصف الذي تلاها على غزة، قطعَ النظام الإسرائيلي الماء والغذاء والكهرباء والوقود وغيرها من مقومات الحياة في غزة إلى حد كبير – الأمر الذي وصفه العديد من الخبراء بأنه فعلٌ من أفعال الإبادة الجماعية. باختصار، لقد هيأت إسرائيل الأرضية للإبادة الجماعية الراهنة في غزة من خلال 17 عامًا من الحصار الوحشي، و56 عامًا من الاحتلال العسكري، تسبَّبا مجتمعين إلى عزل غزة بشدة عن سائر فلسطين. 

يجب النظر إلى الاستعمار الاستيطاني الصهيوني كهيكل دائم يهدف إلى إقصاء الفلسطينيين من خلال تجزئة الشعب والأرض Share on X

وبعزل غزة سياسيًا واجتماعيًا وجغرافيًا عن سائر فلسطين، تسعى إسرائيل إلى اقتطاع المزيد من الأراضي الفلسطينية التي يمكنها تطهيرها عرقيًا وضمها إلى الدولة الاستيطانية. وهذه ليست استراتيجيةً جديدة، وإنما منسجمة تمامًا مع المشروع الصهيوني والمشاريع الاستعمارية الاستيطانية عمومًا التي تعمل على تقسيم الشعوب الأصلية وقهرها، والاستيلاء على أرضها، والقضاء عليها.

الخاتمة

لكي يعيشَ الفلسطينيون بحريةٍ وكرامة، يتوجب علينا أن ننظرَ إلى العدوان الإسرائيلي الحالي على غزة كاستمرارٍ للمشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني. وهذا يعني نبذ الإطار السائد للصراع بأنه “نزاع” بين “جانبين.” فهذا التأطير، المروَّج له من خلال ما يسمى بعملية “السلام” بنسخها المختلفة، يُخفي علاقات القوة الاستعمارية بين دولة إسرائيل والشعب الفلسطيني ويُعززها أيضًا. ولعل الأمر الأكثر وضوحًا هو أن إسرائيل دأبت على استخدام مفاوضات السلام كغطاء لسرقاتها المتزايدة للأراضي الفلسطينية. فعلى سبيل المثال، ضاعفت إسرائيل بين عامي 1993 و2000 – الفترة التي شهدت ذروة عملية “السلام” – عددَ المستوطنين الإسرائيليين المقيمين على الأرض التي كان من المفترض أن تصبح أرض الدولة الفلسطينية. إن المشروعَ الصهيوني في جوهره مشروعٌ توسعي، ولا تبذلُ إسرائيل جهودًا تُذكر للتستر على هذه الحقيقة.

منذ بداية حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية الحالية على غزة، اتسعت حركة التضامن العالمية مع فلسطين ونمت باطراد، إذ خرجت أعداد غير مسبوقة حول العالم للاحتجاج من أجل فلسطين. ومع أن رؤيةَ الناسِ حولَ العالم وهم يتيقظون للواقع الغاشم الذي يواجهه الفلسطينيون تُثير الإعجاب، إلا أن منظمي جهود التضامن يعيدون في بعض الأحيان إنتاجَ الإطار الإشكالي الموصوف أعلاه الذي يُسهم في دعم الاستعمار الإسرائيلي. وعلى وجه التحديد، تُعد جهودُ المناصرة والدفاع عن فلسطين المقتصرة على إنهاء الاحتلال الإسرائيلي و/أو الفصل العنصري قاصرةً عن الإقرار بالسبب الجذري للعنف، ألا وهو الاستعمار الاستيطاني الصهيوني. وفي المستعمرات الاستيطانية مثل الولايات المتحدة وكندا وأستراليا، وكذلك في العواصم الاستعمارية مثل المملكة المتحدة، ينبع عدم الإقرار بهذه الحقيقة على الأرجح من تواطؤ الناشطين أنفسهم في أشكالٍ استعمارية ذات صلة. ولإحقاق العدل والحرية للفلسطينيين، لا بد من تفكيك المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني المعني بشكل أساسي، كما تَبينَ، بإقصاء الشعب الفلسطيني والقضاء على سيادته الأصلية على أرض فلسطين.

وفي مواجهة هذا الاستعمار المدمر، يمكننا أن نتعلمَ من هؤلاء الذين يُعبِّرون فعلًا عمّا يعنيه التضامن. فتلك جنوب إفريقيا قدَّمت إسرائيل إلى محكمة العدل الدولية، متهمةً إياها بجريمة الإبادة الجماعية. وها هم الحوثيون اليمنيون استولوا على سفن مرتبطة بإسرائيل في البحر الأحمر، رافضين التراجع في مواجهة العدوان الذي تقوده الولايات المتحدة ضدهم. وهناك الناشطون المتضامنون مع فلسطين الذين حالوا دون دخول السفن الإسرائيلية إلى موانئ عديدة حول العالم، من سان فرانسيسكو إلى سيدني. وقد أمست حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات التي يقودها الفلسطينيون أقوى من أي وقت مضى. وما هذه سوى بضع أمثلة يمكننا أن نتعلمَ منها في سياق الدعوة إلى تحرر الفلسطينيين وإدراك السبب الجذري لعرقلته، ألا وهو الاستعمار الاستيطاني الصهيوني. وعلينا أن نواصلَ تضامننا حتى ينال الفلسطينيون، وسائر الشعوب المستعمرة والأصلية، الحريةَ الحقيقية.

  1. لقراءة هذا النص باللغة الفرنسية اضغط/ي هنا. تسعد الشبكة لتوفر هذه الترجمات وتشكر مدافعي حقوق الإنسان على هذا الجهد الدؤوب، وتؤكد على عدم مسؤوليتها عن أي اختلافات في المعنى في النص المترجم عن النص الأصلي.
  2. يرجع جلُّ الفضل في فهمي ومعرفتي حول سيادة السكان الأصليين إلى التوجيه الفكري من الأستاذة تشيلسي واتيجو المنحدرة من شعب مونانجالي وجزر بحر الجنوب، بالإضافة إلى أعمالها المنشورة. وأستندُ في هذا التعقيب كثيرًا أيضًا إلى أعمال الأستاذة إيلين موريتون روبنسون المنحدرة من شعب جوينبول.
جمال النابلسي كاتب وباحث من فلسطيني الشتات، يعيش كمستوطن على أرض ياجيرا وتربال. أكاديمي في كلية العلوم السياسية والدراسات الدولية بجامعة كوينزلاند، وزميل في مركز...
في هذه المقالة

أحدث المنشورات

منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، قتلت القوات الإسرائيلية ما يزيد عن 40,000 فلسطيني في غزة، وجرحت 100,000 آخرين، وشرَّدت كامل سكان المنطقة المحتلة تقريبًا. وفي ذات الوقت شرَعَ النظام الإسرائيلي في أكبر اجتياح للضفة الغربية منذ الانتفاضة الثانية مما أدى إلى استشهاد ما يزيد عن 600 فلسطيني واعتقال 10,900 آخرين. كما وسعت إسرائيل نطاق هجومها الإبادي الجماعي في لبنان، مما أسفر عن مقتل ما يزيد على ألف شخص ونزوح أكثر من مليون آخرين. يسلط هذا المحور السياساتي الضوء على مساعي الشبكة في الاستجابة لهذه التطورات على مدار العام الماضي، من وضع أحداث السابع من أكتوبر في سياق أوسع للاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، إلى استجواب آلة الحرب الإسرائيلية متعددة الأوجه، إلى تقييم العلاقات الإقليمية المتغيرة بسرعة. هذه المجموعة من الأعمال تعكس جهد الشبكة المستمر في تقديم رؤية فورية للوضع الفلسطيني.
لا تنفك شركات الأسلحة البريطانية تتربّح من بيع الأسلحة لإسرائيل من خلال التراخيص الصادرة من الحكومة البريطانية، حيث بلغ إجمالي هذه الصادرات منذ العام 2008 ما يقدر بنحو 740 مليون دولار، وهي ما تزال مستمرة حتى في ظل الإبادة الجماعية الجارية في غزة. يشعر البعض بتفاؤل حذر إزاء احتمال فرض حظر على الأسلحة بعد فوز حزب العمال في انتخابات يوليو/تموز 2024، وبعدَ أن وعدَ بالانسجام مع القانون الدولي. في سبتمبر/أيلول 2024، علقت الحكومة البريطانية 30 ترخيصاً من أصل 350 ترخيصاً لتصدير الأسلحة إلى إسرائيل. ويرى الناشطون وجماعات حقوق الإنسان أن مثل هذا القرار محدود للغاية. وبناء على ذلك، تُفصِّل هذه المذكرة السياساتية الالتزامات القانونية الدولية الواقعة على عاتق بريطانيا وكذلك المناورات الحكومية الممكنة فيما يتصل بمبيعات الأسلحة لإسرائيل.
شهد الحموري· 15 سبتمبر 2024
في مختبر السياسات هذا، تنضم الينا ريتا أبو غوش وصالح حجازي مع الميسّر فتحي نمر لمناقشة التضامن التاريخي بين الجنوب العالمي والقضية الفلسطينية وسبل تطويرها.
Al-Shabaka Fathi Nimer
صالح حجازي،فتحي نمر· 11 سبتمبر 2024
Skip to content