Article - Using Indigeneity in the Struggle for Palestinian Liberation

نظرة عامة

 أصدرت العديد من منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية العام الماضي في اليوم الدولي للشعوب الأصلانية، والذي يصادف في 9 آب/أغسطس من كل عام، بياناً دعت فيه المجتمع الدولي إلى “جعل تاريخ الشعوب الأصلانية مركزياً باعتباره بداية ضرورية للمصالحة التاريخية وعملية التحرر الجمعي لإنهاء الاستعمار”. أشار البيان إلى عودة ظهور مفهوم الأصلانية مؤخراً عند الحديث عن فلسطين، كما أنه أصبح أحد الجوانب الرئيسية للتعبئة السياسية. كما سلط البيان الضوء على العلاقات المتنامية بين الفلسطينيين والمجتمعات الأصلية في جميع أنحاء العالم، والنهج الجماعي لإنهاء الاستعمار، والتي بدورها تشكل أدواتٍ مهمة في النضال المستمر ضد الاستعمار الاستيطاني في العالم.1

ولكن ماذا يعني ذلك في سياق الممارسة العملية لنضال التحرر الفلسطيني، وكيف يمكن تسخير ذلك لتعزيز الحقوق والسيادة الفلسطينية، وأي أبعاد سياسية ربما تكون لاستعماله؟

يتناول هذا التعقيب االسياساتي هذه الأسئلة من خلال توضيح مفاهيم الاستعمار الاستيطاني والأصلانية، وتوضيح العلاقة بينهما من خلال دراسة عملية مأسسة الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي التي أوجدت الأصلانية الفلسطينية. ويناقش قيود تطبيق القانون الدولي على نضالات الشعوب الأصلية، ويختتم بطرح أفكار حول كيفية دمج مفهوم الأصلانية الفلسطينية بشكل أفضل في السعي الفلسطيني نحو الحرية والعدالة والمساواة.

الاستعمار الاستيطاني والأصلانية

على الرغم من أن لحالات الاستعمار الاستيطاني لديها مميزاتها الخاصة، إلا أنه يجمعها الكثير فيما بينها. بالتأكيد، ورغم وجود خصائص فريدة للتجربة الإستعمارية في فلسطين، فإن المشروع الصهيوني لا يعتبر استثنائياً لأنه يتبع نمط الاحتلال والهيمنة الأوروبية. وعلى غرار الحركات الاستيطانية الأخرى، ادعى الصهاينة الأوائل التفوق الأوروبي. بينما وفي ذات الوقت، زعموا بأنهم السكان الأصليين العائدين إلى فلسطين مستندين في ادعائهم على القصص التوراتية. تمكنوا عبر اتباع هذا النهج من طرح فكرة أنهم أصحاب الأرض الشرعيين. فمثلاً، إن النظرية التي تشير إلى أن المستوطنين الصهيونيين وحدهم القادرون على “إزهار الصحراء” في فلسطين هي إشارة الى السرد التوراتي وبالتالي “أصلانيتهم” المفترضة من جهة، وتشير ايضًا إلى تفوقهم المفترض في كل من الثقافة والمعرفة والسمة الإنتاجية للرأسمالية الأوروبية من جهة أخرى.

أعتمدت الحركة الصهيونية ادعاء الأصلانية التوراتية واعترفت بالمشروع الصهيوني كمشروع استعماري. ووضح الزعيم الصهيوني حاييم وايزمان الموقف الاستعماري في البيان التالي عام 1947:

قامت شعوب أخرى باستعمار أراض ومناطق واسعة غنية. وقد وجدوا عندما دخلوا هذه الدول سكاناً بدائيين. وقد فعلوا بالسكان البدائيين ما فعلوه … ما أود أن أقول إنه، مقارنة بنتائج الممارسات الاستعمارية للشعوب الأخرى، فإن تأثيرنا على العرب لم يسفر عن نتائج أسوأ بكثير مما أنتجه الآخرون في بلدان أخرى.

لم يعترف وايزمان وأقرانه بالطبيعة الاستعمارية للصهيونية فحسب، بل ونظروا الى “عرب فلسطين” نظرة استحقار مماثلة لما فعله المستعمرون الآخرون مع الشعوب الأصلية الأخرى.

أنشأت الحركة الصهيونية جمعيات مختلفة سعت لمساعدة اليهود الأوروبيين في الاستيلاء على الأراضي والاستيطان في فلسطين، مثل الجمعية اليهودية للاستعمار في فلسطين، التي عملت على الهيمنة على السكان الأصليين لإفساح المجال لاستيطان المستوطنين اليهود. وقد كانت طبيعة هذا المشروع الاستعماري الاستيطاني مفهومة بالنسبة للمستوطنين والسكان الأصليون على حد سواء. بالحقيقة، شعر العديد من الفلسطينيين خلال هذه الفترة بالقلق من الدوافع وراء الحركة الصهيونية والتي تتبنى مفهوم “استوطن لتحل مكان السكان الأصليين”، واعترضوا باستمرار على الاستعمار البريطاني والصهيوني في فلسطين من خلال المظاهرات العامة، والعرائض الرسمية، والتعبئة السياسية، والكتابة في الصحافة الفلسطينية والمواجهات مع المستوطنين والبريطانيين. وقد تطرقت آنذاك صحيفتا “الكرمل” و “فلسطين” المركزيتان بشكل متكرر عن الصهيونية وأثرها على فلسطين والفلسطينيين.

ولاحقاً، في العقود التي تلت النكبة عام 1948، أدرج الباحثون والمناضلون الفلسطينيون مفهوم الأصلانية ضمن الأعمال الأدبية والبحثية عن الاستعمار الاستيطاني. في عام 1965، نشر فايز صايغ ورقة بعنوان “الاستعمار الصهيوني في فلسطين”، والتي تصف إسرائيل بأنها “دولة استيطانية” وتوضح بأن خصائصها العنصرية ليست مكتسبة بل “متأصلة في إيديولوجية الصهيونية ذاتها”. هذا العمل المبكر مهم بشكل خاص لأنه يناقش الواقع الاستعماري الاستيطاني في فلسطين قبل الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة ومرتفعات الجولان عام 1967، ويؤكد على الطبيعة الاستعمارية للمشروع الصهيوني منذ بدايته، مواجهاً الافتراض السائد بأن “المشكلة” والمسألة الفلسطينية تكمن في وتتمحور حول الاحتلال الإسرائيلي منذ العام 1967.

اتبعت بعض الأدبيات في هذا السياق مؤلفات مثل مقال فايز صايغ، بما في ذلك كتاب جورج جبور، “الاستعمار الاستيطاني في جنوب إفريقيا والشرق الأوسط (1970)”، وكتاب ماكسيم رودنسون “إسرائيل: دولة استعمار-استيطاني؟ (1973)”، وكتاب إيليا زريق “الفلسطينيون في إسرائيل: دراسة للاستعمار الداخلي (1979)”. ربطت هذه الأعمال اللاحقة السياسات الإسرائيلية بسياسات الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، مساهمةً في ظهور ونشوء تيار أكاديمي غربي ساهم في جعل مفهوم الاستعمار الاستيطاني مفهوماً محورياً في تحليله لإسرائيل.

وفي مقابلة أجراءها الفيلسوف والناقد الادبي الفرنسي جيل دولوز في العام 1982 مع إلياس صنبر، أحد مؤسسي مجلة الدراسات الفلسطيني، صرح صنبر بالتالي:

نحن أيضاً الهنود الأمريكيين بالنسبة للمستوطنين اليهود في فلسطين. في نظرهم لدينا دور واحد فقط وهو الاختفاء. وبهذا فمن المؤكد أن تاريخ إنشاء إسرائيل يعيد إنتاج العملية التي ساهمت بتأسيس الولايات المتحدة الأمريكية.

تسمح هذه المقارنة بين النضال الفلسطيني ونضال الشعوب الأصلية في جزيرة السلحفاة (Turtle Island) (كما يشير السكان الأصليين إلى قارة أمريكا الشمالية) لفهم هياكل القوة والهيمنة التي تجمع بين ممارسات الدول الاستيطانية. وقد رفض رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، وجهة النظر السائدة بأن الشعوب الأصلية هشة وبدائية، ورفض هذه المقارنة منذ ثمانينيات القرن الماضي في محاولة خاطئة منه لرفض الهزيمة والتأكيد على صمود الشعب الفلسطيني. لقد فعل ذلك بشكل واضح في العام 2004 أثناء احتجازه من قبل الاسرائيليين في مقره في رام الله عندما صرح بأن الفلسطينيين هم “ليسوا الهنود الحمر”. ومع ذلك، في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، صاغت منظمة التحرير الفلسطينية بشكل أساسي أجندتها وأهدافها وتكتيكاتها على غرار نضال آخر ضد الاستعمار الاستيطاني مسترشدة بجبهة التحرير الوطني الجزائرية(FLN) ، التي انتصرت على الاستعمار الفرنسي. ومن خلال إشارتها الى الأسس المتشابهة للاحتلال الاستيطاني، سعت منظمة التحرير الفلسطينية إلى توطيد العلاقات والحصول على خبرات من القادة الجزائريين. كما سعت منظمة التحرير الفلسطينية لاحقاً إلى توطيد العلاقات مع حزب المؤتمر الوطني الأفريقي في كفاحه ضد الفصل العنصري (الابرتهايد) الذي تبناه النظام الاستعماري الإستيطاني لجنوب إفريقيا.

ومع ذلك، لم يولي المثقفون والقادة الفلسطينيون الاهتمام لتطبيق نموذج الاستعماري الاستيطاني على فلسطين أو للارتباط بحركات النضال التحررية لعدة عقود. في حين قام الفلسطينيون في الحقبة الأولى للاستعمار الاستيطاني بربط التاريخ والأيديولوجية السياسية للصهيونية وإنشاء دولة إسرائيل بالمشروع السياسي الفلسطيني للتحرر، ركزوا في الحقبة الثانية على الأيديولوجية الصهيونية والهياكل السياسية من حيث سياسات الأراضي، والتهجير، والتهويد، وركائز السيطرة. وظهر هذا بشكل خاص مع بداية اتفاقية أوسلو في أوائل التسعينيات، والتي أطرت الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي وكأنه لحركتين وطنيتين متعارضتين من شأنهما تحقيق السلام ضمن نموذج حل الدولتين. في ذات الوقت، نما بشكل واضح المجتمع المدني الفلسطيني وأصبحت المنظمات غير الحكومية تركز بعملها على الحصول على الحرية ضمن إطار القانون الدولي ومن خلال المناصرة القائمة على مطالب الحقوق الانسان. غير إن محدودية هذا النموذج باتت واضحة، فلم يقتصر الأمر على تجاهل النموذج لمفاهيم مثل التحرر الفلسطيني من الاستعمار وتأسيس والسيادة، بل جعل النقاش مقتصراً حول فلسطين والفلسطينيين ضمن مناطق 1967.

إن مقارنة النضال الفلسطيني بنضال السكان الأصليين في قارة أمريكا الشمالية يفسح المجال لفهم هياكل القوة والهيمنة التي تتشارك بها الدول الاستيطانية Click To Tweet

شهد العقد الماضي عودة ظهور الاستعمار الاستيطاني كأداة أكاديمية وتحليلية لدراسة إسرائيل والصهيونية وممارساتهما. إن إنشاء مجلة الدراسات الاستعمارية الاستيطانية وإصدارتها المختلفة، والزيادة في عدد اللقاءات الأكاديمية والإصدارات الأدبية التي تركز على هذا الموضوع، ساهم في مأسسة الاستعمار الاستيطاني كحقل أكاديمي. ومع ذلك، هناك فرق واضح بين إعادة التركيز على الاستعمار الاستيطاني وطريقة استخداماته السابقة كجزء من الممارسة الثورية وبين التعامل معه كإطار تحليلي نظري. تم ربط الأعمال السابقة بالمشروع السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية، والتي كان هدفها في ذلك الوقت التحرير الكامل لفلسطين التاريخية من الاستعمار الاستيطاني الصهيوني. على النقيض من ذلك، فقد ظهرت مؤخراً أعمال أدبية من أكاديميات غربية، والتي لا تٌعتبر ليبرالية جديدة فحسب، بل تميل أيضًا لتفضيل “عدم تسييس” الأعمال البحثية. تواجه الأعمال التي تتحدى هذا الاتجاه من خلال السعي لتسييس وتفكيك التسلسل الهرمي للمعرفة تحديات صعبة.

إن المشروع الصهيوني الإسرائيلي هو مشروع توسعي ويهدف لمحو السكان الفلسطينيين الأصليين. وقد تزايدت الأعمال الأدبية التي تستخدم هذا الإطار التحليلي، ولكن لم يتم استخدام النهج الأصلاني بنفس المستوى، على الرغم من أن نموذج الاستعمار الاستيطاني يستلزم ذلك. وفي حين أن نموذج الاستعمار الاستيطاني يتناول بنية دولة اسرائيل المرتكزة على العنف المستمر ويصف الحالة المستمرة لاستبدال السكان الأصليين، إلا أن النهج الأصلاني يتحدث عن الحياة قبل هذه البنية، وعن المقاومة خلالها وعن الرؤى المستقبلية لتفكيك منظومة الاستعمار. بعبارة أخرى، يساعد النهج الأصلاني الفلسطينيين بالتعبير عن مواقفهم ومطالبهم.

في الحقيقة، فإن الشعوب الأصلية هي تلك التي عانت من الغزو الاستعماري الاستيطاني وما زالت تعاني من هيكلية الإبادة والمحو المستمرة. في قصيدة الشاعر الفلسطيني محمود درويش عام 1992 بعنوان “خطبة الهندي الأحمر –ما قبل الأخيرة- أمام الرجل الأبيض”، يصف المنطق الاستعماري الاستيطاني للقوة والإبادة، وبعكس ياسر عرفات، فهو يشبه الحالة الفلسطينية بحالة الشعوب الأصلية في أمريكا، متبنياً صوت أحد الأفراد المنتمين للشعب الأصلي، ويشير تماماً إلى الهيكل المهيمن والمستمر:

وكولومبوسُ الحُرّ يَبْحثُ عَنْ لُغةٍ لم يجِدْها هُنا،
وعَنْ ذَهبٍ في جَماجِم أجدادنا الطّيّبين، وكَانَ لهُ
ما يُريدُ من الْحيّ والميْتِ فينا. إذًاً
لماذا يُواصلُ حَرْب الإبادَة، من قَبْرِه، للنِّهَايَةْ؟

يجب فهم الشعوب الأصلية وحالة الاصلانية ضمن هذا التركيب الذي يستمر بعد الحدث الأولي للغزو، الذي وصفه درويش على أنه “حرب إبادة” مستمرة حتى بعد الموت.

الأصلانية والقانون الدولي

تخلت القيادة الفلسطينية، بعد اتفاقية أوسلو بشكل خاص، عن الكثير من عناصر خطابها الثوري وتبنت خطاباً يتماشى مع إطار القانون الدولي. كما أدت النتائج المنبثقة عن اتفاقية أوسلو والمتمثلة بتحويل فلسطين إلى جهة معتمدة بشكل كبير على المنظمات غير الحكومية والتركيز على أجندات المانحين الأجانب إلى ميل العديد من مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني لاستخدام مصطلحات مرتكزة على القانون الدولي للمطالبة بالحقوق الفلسطينية. في عام 2007، تم تبني إعلان الأمم المتحدة بشأن حقوق الشعوب الأصلية(UNDRIP)  في محاولة لتعزيز حقوق الشعوب الأصلية في العالم تحت إطار قانوني دولي. وفي حين احتفل الكثيرون بهذا الإعلان رغم وضعه القانوني كوثيقة غير ملزمة، فقد تعرض الإعلان للانتقاد والجدل لا سيما من الشعوب الأصلية التي شعرت أن الإعلان لم يكن محدوداً بتعريفه للشعوب الأصلية فحسب، بل إنه لم يتطرق لحق السيادة للشعوب الأصلية بل وشدّد الإعلان على الحفاظ على السلامة الإقليمية واستقلالية الدول القومية القائمة وسيادتها.

واستناداً للمعايير الرئيسية للقانون الدولي، يعتبر إعلان الأمم المتحدة بشأن حقوق الشعوب الأصلية(UNDRIP)  الدولة كإطار قانوني وسياسي، كما هو مذكور في المادة 46 (1):

 ليس في هذا الإعلان ما يمكن تفسيره بأنه يعني ضمناً أن لأي دولة أو شعب أو جماعة أو شخص أي حق في المشاركة في أي نشاط أو أداء أي عمل يناقض ميثاق الأمم المتحدة، أو يُفهم منه أنه يخول أو يشجع أي عمل من شأنه أن يؤدي، كلياً أو جزئيا، إلى تقويض أو إضعاف السلامة الإقليمية أو الوحدة السياسية للدول المستقلة وذات السيادة.

بينما يشير إعلان الأمم المتحدة بشأن حقوق الشعوب الأصلانية(UNDRIP)  بشكل متكرر إلى الحق في الحكم الذاتي، إلا أنه يستبعد الحق في الاستقلال الوطني وحق تقرير المصير والسيادة خارج إطار الدولة القائمة، والتي تبقى طموحًا للعديد من الشعوب الأصلية، بما في ذلك الفلسطينيين. بالواقع يشير الإعلان الى الحكم الذاتي للسكان الأصليين في الشؤون الداخلية فقط وذلك للحفاظ على الهوية الثقافية. لذلك وبنظر الشعوب الأصلية فإن الإعلان يقوض الكثير من التطلعات السياسية للمجتمعات الأصلية. وبالطبع، قد يشير مفهوم “السيادة” إلى مضامين وأشكال مختلفة للشعوب الأصلية المختلفة، والذي يتراوح بين الحكم الذاتي الداخلي والحفاظ على الموروث الثقافي والكرامة، وصولاً إلى الحكم الذاتي الخارجي من خلال عملية التخلص من الاستعمار. يشير المعنى الأول الى الحكم الذاتي داخل تركيب وهيكلية الدولة القائمة، بينما يشير الأخير ضمنياً إلى تفكيك هياكل القوى القائمة.

ينظر أيضاً هذا النهج التحليلي القانوني للأصلانية إلى الاستعمار الاستيطاني كحدث محدود وليس كنظام بنيوي مستمر. فمن خلال عدم الإشارة إلى الاستعمار الاستيطاني باعتباره عملية مستمرة – وبالتالي الفشل في استخدام إطار الاستعمار الاستيطاني – يتجاهل الإعلان الإشارة إلى العديد من القضايا التاريخية والمعاصرة التي تمس بالعدالة وينتقل إلى مرحلة “ما بعد الصراع” من خلال إضفاء الشرعية على وجود الدول الاستعمارية المعاصرة. علاوة على ذلك، يفتقر الإعلان للنقاش الجاد حول عملية التخلص من الاستعمار أو لمناقشة العناصر التي يمكنها المساهمة في هذه عملية، مثل قضايا العدالة التاريخية أو الاصلاح والتعويض. وبشكل أساسي، إن وضع نضالات الشعوب الأصلية تحت الأطر القانونية، يضع قيودًا على أوضاع الشعوب الأصلية وطرق تخيلها لمستقبل بدون استعمار.

لا يقوض إعلان الأمم المتحدة بشأن حقوق الشعوب الأصلية(UNDRIP)  التطلعات السياسية للعديد من الشعوب الأصلية فحسب، بل ويحصرهم ضمن اطار محدد. على هذا النحو، فإن العديد من العاملين في مجال الانتهاكات الاسرائيلية للحقوق الفلسطينية ضمن إطار القانون الدولي يفضلون استخدام أطر مختلفة مثل نظام الفصل العنصري (الأبارتهايد)، حيث أن نظام الفصل العنصري يعتبر جريمة خطيرة بموجب القانون الدولي واستطاع جذب وتجييش التضامن الدولي في النضال ضده. ومع ذلك، وبالابتعاد عن القانون الدولي، من الواضح أن نظام الفصل العنصري ونهج الأصلانية هي مصطلحات غير متعارضة، حيث أن نظام الفصل العنصري أصبح آلية يتم من خلاها إدارة شؤون الشعوب الأصلية والسيطرة عليها.

إن تقنين نضالات الشعوب الأصلية يحد من أساليبها وتطلعاتها لمستقبلٍ دون استعمار Click To Tweet

ومع ذلك، فإن استخدام الأصلانية يعتبر أكثر تعقيدًا في الحالة الفلسطينية. فعلى سبيل المثال، وظف بعض المناصرين لحقوق المجتمعات الفلسطينية البدوية في منطقة النقب مفهوم الأصلانية خلال عملهم في المرافعة لضمان حقوق هذه المجتمعات بشكل منحصر ومستقل. ومع ذلك، فبدلاً من تأكيد حقوق المجتمعات البدوية كجزء من الشعب الفلسطيني بأكمله، وبالتالي العمل تجاه ضمان استحقاقهم للحقوق الجماعية والفردية، فقد تحولت الأصلانية في تلك الحالة كآلية تجزئة. من خلال تمييز أصلانية المجتمعات البدوية وعدم اعتبار الفلسطينيين جمعاً من السكان الأصليين، تضع استراتيجية المناصرة هذه المجتمعات البدوية ضمن فئة وتوجه الأقليات، وتفصلها بذلك عن سياقها العربي والفلسطيني، وتعزز الصورة النمطية للشعوب الأصلية بأنها مجتمعات قبلية ومتحجرة في نقطة تاريخية عابرة.2 إن النظر إلى المجتمعات الفلسطينية البدوية بأن لديها ثقافة وهوية مميزة وفي ذات الوقت بأنها جزءاً من المجتمع الفلسطيني الأوسع هو أمر أساسي لفهم مسيرتهم النضالية بشكل دقيق. يجسد مثال المجتمعات الفلسطينية البدوية على التقاطعات المهمة بين مجموعات الشعب الفلسطيني ومفهومي الأصلانية والقومية، بالدلالة إلى ضرورة دحض أحدهما الأخر. بل أنه يمكن للأصلانية تعميم تجربة النضال الوطني الفلسطيني كنضال ضد الاستعمار.

من المهم الإشارة إلى أن الانتقادات والتحفظات الواردة في هذا التعليق بشأن الخطابات القانونية المتطورة وفئات الأصلانية لا تشير إلى رفض هذه الخطابات بالكامل. بدلاً من ذلك، يهدف هذا التحليل إلى تسليط الضوء على محدودية منظور أو مبدأ “الأصلانية القانونية” بشكل خاص ومحدودية القانون الدولي عموماً، والإشارة إلى الحاجة للتوصل إلى فهم أكثر شمولية للأصلانية ولتطلعات الشعوب الأصلية في التحرر من الاستعمار ضمن الخطاب القومي الوطني الفلسطيني ومجموعاته المختلفة.

مستقبل أصلاني

لا يزال الفلسطينيون اليوم مجزئين جغرافياً داخل إسرائيل والضفة الغربية وقطاع غزة، كما وأنهم مشتتين في جميع أنحاء العالم في المنفى، وتجمعهم مع ذلك تجربة جامعة وهي عملية الاستعمار الاستيطاني، والمعروفة أيضًا بالنكبة المستمرة. يعمل نموذج الأصلانية على ربط هذه الفئات والتجارب المجزئة ضمن تجربة واحدة- كما أنه يجمع هذه الفئات المجزئة بمكان واحد وهو فلسطين حتى ولو كان في المخيلة المستقبلية. إن الأصلانية كنموذج وكهوية يهدف الى إعادة التمحور حول الشعوب الأصلية عابرة الثقافات واللغات والمعارف. تضع الأصلانية المعرفة والادراك الأصلانيين، وبالذات مقاومة الاستعمار ومحاولات المحو والإبادة، في صميمها. وتقدم إعادة تفكير جذري في المعرفة وإنتاجها، لا سيما التساؤل عن المعرفة والمصادر التاريخية وأيها تعتبر جديراً وموثوقاً. 

لا يزيد هذا النموذج من إدراك فهم الفلسطينيين لماضيهم وحاضرهم فحسب، بل يساهم في تشكيل تصوراتهم حول المستقبل أيضاً. تستدعي الأصلانية بأن يعيد الفلسطينيون تركيز نضالهم على التخلص من الاستعمار وتحقيق التحرر لجميع الفلسطينيين. وبهذا المعنى، تجعل الأصلانية الأطر الحالية لمفهومي “الأرض” و “المفاوضات” غير كافية لتحقيق الحرية والعدالة. يجب تناول مستقبل الفلسطينيين بكل تجزءآتهم، ولا يمكن القيام بذلك إلا من خلال فهم الصهيونية كمشروع استعماري استيطاني أنتج الفلسطينيين كأصلانيين ضمن هذا المشروع. إن المواجهة الاستعمارية هي التي خلقت الواقع السياسي الجديد للسكان الأصليين. لذلك، يجب التعامل مع الأصلانية كواقع سياسي يأتي تغييره مع إنهاء الاستعمار.

يواجه نهج تسخير الأصلانية كأداة للحصول على الحقوق والسيادة الفلسطينية تحديات حقيقية. إذ يبقى نهج الأصلانية وتحليل الاستعمار الاستيطاني منتشراً بين حلقات الأكاديميين وبعض مساحات النشطاء إلى حد ما، ولكن يبقى الاستخدام الحقيقي له محدودة في الساحة السياسية. فقد سعى التمثيل السياسي الفلسطيني داخل إسرائيل في الغالب إلى تحقيق حقوق “متساوية” في إطار الدولة، وتسعى السلطة الفلسطينية إلى إقامة دولة في الضفة الغربية وقطاع غزة (على الرغم من التساؤلات التي تشوب تلك الامكانية) ضمن المعايير القانونية الدولية. وقد فشل كلاهما في تحقيق أهدافهما السياسة، إضافة إلى فشلهما في شمل قضية اللاجئين الفلسطينيين وحقهم في العودة إلى الوطن وحقهم في التعويض بشكل مرضي. 

الأصلانية وسيلة لإعادة النظر في المشروع السياسي الفلسطيني باعتباره مشروعاً يخاطب جميع الفلسطينيين، بوصفهم سكاناً أصليين يواجهون محاولات المحو والإبادة Click To Tweet

يتناقض ويتداخل مفهوم الأصلانية ومفهوم القومية مع بعضهما البعض. إن الشعوب الأصلية بإمكانها امتلاك تطلعات قومية وبعضها لديها تطلعات قومية. ومثل المجتمعات الأخرى، فهي تتسم بالتعددية وقد تتغير هياكلها السياسية والاقتصادية كما قد تتغير تطلعاتها. ومع ذلك، فإن نظم وبنيوية محاولات المحو والإبادة المستمرة تحاول محو أصلانية هذه المجتمعات وآمالها في تكوين أمة تحدد هي بنفسها تجربتها وتطلعاتها. نتيجةً لذلك توفر الأصلانية وسيلة لإعادة النظر في المشروع السياسي الفلسطيني باعتباره مشروعاً أكثر شمولية يخاطب جميع الفلسطينيين أينما كانوا، بوصفهم سكان أصليين يواجهون محاولات محو وإبادة. 

علاوة على ذلك، فإن نموذج الأصلانية يفكك اعتبار المشروع الصهيوني كمشروعًاّ فريدًا ومتميزاً لحالة فلسطين ويضعه في السياق العالمي للمشاريع الاستعمارية الاستيطانية اخرى. يتيح هذا للفلسطينيين أن يعززوا علاقات التضامن مع الشعوب الأصلية الأخرى وأن يدركوا شبكات الاضطهاد المتشابكة. إن تشكيل رؤى عن مستقبلٍ دون استعمار يعتبر جزءاً مهماً من (إعادة) توجيه بوصلة النموذج السياسي. والواقع أن النضال الفلسطيني من أجل الحرية والعدالة يجب أن يتم إعادة تعديله بحيث يعيد توجيه وتثبيت رؤى فلسطينية للمستقبل، وليس رؤية واحدة تفرضها قوى خارجية مصممة للحفاظ على الوضع الراهن كما هو.

  1. لقراءة هذا النص باللغة الفرنسية، اضغط/ي هنا. تسعد الشبكة لتوفر هذه الترجمات وتشكر مدافعي حقوق الإنسان على هذا الجهد الدؤوب، وتؤكد على عدم مسؤوليتها عن أي اختلافات في المعنى في النص المترجم عن النص الأصلي.
  2.  هذا على الرغم من أن البدو الفلسطينيين لديهم تاريخ طويل في الدفاع عن هويتهم ونمط حياتهم.
العضو السياساتي في الشبكة أحمد أمارة مدافع عن حقوق الإنسان، وحاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ والدراسات العبرية واليهودية من جامعة نيويورك. قبل الالتحاق ببرنامج...
يارا هواري هي مديرة الشبكة بالمشاركة. عملت سابقًا كزميلة سياساتية للشبكة في فلسطين وكمحللة رئيسية في الشبكة. نالت درجة الدكتوراه في سياسة الشرق الأوسط من...

أحدث المنشورات

 السياسة
تكشفُ تغطيةُ وسائل الإعلام الرئيسية في الغرب لمجريات الإبادة الجماعية في غزة تحيزَها الشديد للنظام الإسرائيلي، وتُبرزُ أيضًا سهولةَ نزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين. تتناول يارا هواري في هذا التعقيب استراتيجيةَ إسرائيل في نزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين في المجال العام، ودور وسائل الإعلام الغربية في تحقيق أهداف إسرائيل. وتبين أنماطَ التقصير الصحفي المستمرة منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وتخلُص إلى أنّ وسائل الإعلام الغربية متواطئة حتمًا في الإبادة الجماعية التي يرتكبها النظام الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني في غزة.
Al-Shabaka Yara Hawari
يارا هواري· 03 أبريل 2024
لعبت كل من مصر والأردن عبر التاريخ أدواراً جيوسياسية مهمة في القضية الفلسطينية، حيث شكلت حدودهم مع قطاع غزة والضفة الغربية على التوالي المنفس الوحيد للعمق العربي وخاصة بعد حرب 1967. تزايدت وتضاءلت نفاذية هذه الحدود مع اختلاف الحكومات والظروف في المنطقة، لكن يمككنا الجزم أن مع مرور الزمن أصبحت هذه الحدود بشكل تدريجي جزءاً من الحصار على الشعب الفلسطيني وأداة ضغط على الفلسطينيين.
تعكف المصادر الإسرائيلية الرسمية على تضليل العالم إعلاميًا على نطاق واسع لتبرير الإبادة الجماعية التي ترتكبها في غزة. وقد أجَّجَ الصحفيون ومحللو استخبارات المصادر المفتوحة الحملةَ المسعورة لشيطنة الفلسطينيين بنشرهم الأنباء الكاذبة دون تدقيقها كما ينبغي. يتناول طارق كيني الشوا، في هذا الموجز السياساتي، أساليبَ الحرب الإعلامية الإسرائيلية، ويبيِّن كيف أسهمت هذه الجهود في تآكل الحقيقة وإعاقة الجهود الرامية إلى تنظيم استجابة عالمية. ويقدم توصيات للصحفيين والمحللين وعامة الجمهور للاستفادة من الأدوات مفتوحة المصدر لدحض الدعاية الإسرائيلية والمعلومات المضللة السائدة.
Skip to content