لمحة عامة
لا تُعتبر الزراعة بالنسبة للفلسطينيين مورد رزق وحسب أو مجرد فئةً اقتصاديةً في الموازنات والخطط، فهي ترتبط بتاريخ الشعب الفلسطيني وهويته وتعبيره عن ذاته، وتحفز النضال ضد جدار الفصل الإسرائيلي. وفي هذه الورقة السياساتية، ينضم الناشط والكاتب والخبير الزراعي اللبناني رامي زريق إلى مستشاري الشبكة لشؤون السياسات سامر عبد النور وعلاء الترتير لمناقشة الأهمية الفائقة للأرض بالنسبة للفلسطينيين والمساعي الإسرائيلية الهادفة لقطع حلقة الوصل بين المزارعين ومحاصيلهم. ويناقشون أيضًا تقصير السلطة الفلسطينية وإهمالها الكبير للقطاع الزراعي والأثر الهدّام لبعض معونات المانحين.1 ويُحاجُّون بأن الزراعة شكلٌ إنتاجي وذو جدوى ومتعدد الأبعاد من أشكال المقاومة التي يتسنى للفلسطينيين من خلالها أن يُظهروا – لأنفسهم وللعالم أجمع – الحاجةَ الملحةَ لاسترجاع الأراضي وسُبل العيش والحرية.2
ثقافة الأرض
تَبرز قيمة الأرض في الكثير من الأعمال الأدبية والشعرية الفلسطينية، ومنها أعمال توفيق زياد ومحمود درويش وغسان كنفاني. فبالأرض يتغنى محمود درويش إذ يشدو بكلمات مؤثرة،
وعلى أهدابنا عشب الجليل،
هذه الأرض التي تمتص جلد الشهداء،
تعد الصيف بقمح وكواكب.
وفي قصيدة “أرض”، وهي من القصائد الأحدث، تصف سهير حماد حبَّ الفلاح كعاطفةٍ متئدةٍ وحانية تضفي الصفة الإنسانية على الأرض وتخلط التراب بالعشق.
هناك محاصيل رئيسية كالزيتون والزعتر والتين والتمور متجذرةٌ بعمق في ثقافة الأرض وتاريخها. فهي توفر القوت في أوقات الشدَّة، ولا تتطلب سوى القليل من الماء والرعاية، وهي متكيفةٌ جدًا مع المناخ. ويترتب على تدمير أشجار الزيتون واقتلاعها أثرٌ مدمِّر بوجه خاص، إذ يبين تقرير أصدرته منظمة أوكسفام في العام 2010 بعنوان الطريق إلى زراعة الزيتون أهمية الزيتون بالنسبة للهوية الفلسطينية والسوق المحلية والرفاه الاجتماعي والنفسي للفلسطينيين. فرغم كل الدمار الذي تخلِّفه الدولة الإسرائيلية والمستوطنون الإسرائيليون، يُدرُّ قطاع زيت الزيتون على بعض أفقر الأسر حوالي 100 مليون دولار، بحسب أوكسفام. لقد وثَّق مركز العمل التنموي (معًا) في موجزٍ جديدٍ حول الأشجار المعمِّرة – ذات الأعمار المتراوحة بين 100 و1,000 عام – قيمةَ أشجار الزيتون التي تُقتلع من الأراضي الفلسطينية المحتلة لتُباع في إسرائيل (بصورة غير قانونية في 50 % من الحالات) لقاء مبالغ تتراوح بين 8,000 و26,000 دولار. إن شجرة الزيتون بالنسبة للمزارع أمانةٌ مقدسةٌ تتناقلها الأجيال، وعليه فإن فقدها فاجعةٌ اقتصاديةٌ ومعنويةٌ على حدٍ سواء.
تشتهر شجرة الزيتون بأنها رمزٌ لفلسطين والوطن، والكثير من النساء الفلسطينيات، ولا سيما في المنفى، يرتدين قلائد تزينها مجسَّمات منحوتةٌ بعناية لشجرة الزيتون. ومع ذلك، حين يدور الحديث عن فلسطين المثالية ولا يتطرق إلى القدرة على مزاولة الزراعة، يكون الفلسطينيون مهددون بخسارة المعرفة بسُبل الاعتناء بالأرض والاعتياش منها وتقاسمها مع الأجيال القادمة. فلا بد للشعب المجرَّد من أرضه من تنمية العلاقات وتجديدها مع الأرض.
تُدرك قوات الاحتلال الإسرائيلي هذه الحقيقة تمامًا. فبالإضافة إلى الممارسات الصريحة المتمثلة في مصادرة الأراضي وضمّها، وهدم المنازل، وتدمير خزانات وآبار المياه وشبكاتها، ما انفكت إسرائيل تُسيِّسُ المحاصيل الأساسية كالزعتر منذ عقد السبعينيات من القرن الماضي. فعلى سبيل المثال، صادرت قوات الاحتلال الإسرائيلي أشتال الزعتر عند نقاط التفتيش، بزعم “حماية” السلامة الإيكولوجية للزعتر البري.3 كما [حظرت] السلطات الإسرائيلية على المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل قطف الزعتر البري كما اعتادوا، حيث أعلنت الزعتر البري “نبتةً محمية.”
وفي غزة المحاصرة، منعت إسرائيل في مرات عديدة مرور شحنات من الهيل والكمون وقطعان الماشية والأغنام والحمير وغير ذلك العشرات من البنود الأخرى عبر الحصار الذي تفرضه على القطاع. وفي بلدة بيت ساحور في الضفة الغربية، بذلت قوات الاحتلال الإسرائيلي قصارى جهدها للاستيلاء على الأبقار إبان الانتفاضة الأولى للحيلولة دون إنتاج الحليب محلياً (لا تزال الضفة الغربية حتى يومنا هذا تعتمد على الحليب الإسرائيلي اعتمادًا كبيرًا). وكإحدى المضايقات المستمرة التي يتعرض لها البدو، أقدم مستوطنون إسرائيليون على سرقة حمارٍ لهم. وما هذه الأفعال سوى أمثلة لسطوة إسرائيل وتدميرها للثقافة الغذائية الفلسطينية والقدرة الفلسطينية في إطار محاولات إسرائيل لقطع أواصر الصِلة بفلسطين نهائيًا. وكما زُعِم أن هنري كيسنجر قال ذات مرة: “تحكَّم في الغذاء، تتحكم في الناس.”
أراضٍ سجينة
يعرف الجميع القدرة الزراعية الكامنة في الضفة الغربية، وبدرجةٍ أقل، القدرة الزراعية المحتملة لقطاع غزة والتي قُدِّرت إمكانية وصول إنتاجه سنويًا إلى حوالي 300,000 طن من المحاصيل الزراعية والفواكه والحبوب المختلفة. أمّا نمط الحياة الرعوية الذي يعيشه البدو فلا يحظى سوى باهتمام ضئيل. وما انفك القطاع الزراعي في الأراضي الفلسطينية المحتلة يتعرض للتدمير بفعل السياسات الإسرائيلية، وسياسات السلطة الفلسطينية، وسياسات المانحين وممارساتهم.
لقد تضرر قطاع الزراعة حين ترك آلاف الفلسطينيين أراضيهم في الضفة الغربية وغزة واتجهوا للعمل في إسرائيل ومستوطناتها، ويُعزى بعض السبب في ذلك إلى ارتفاع الأجور المعروضة عليهم كجزءٍ من سياسة الإدماج/الاحتواء الاقتصادي التي انتهجتها إسرائيل مقارنةً بسياسة الفصل الاقتصادي، وأيضًا إلى القيود الاقتصادية الإسرائيلية التي حدَّت من فرص العمل المحلية. وبعد اتفاقات أوسلو، أصبحت المنطقة (ج)، التي تشكل 62% من مساحة الضفة الغربية وتضم معظم الأراضي الخصبة والموارد الطبيعية والمياه، خاضعةً تمامًا للسيطرة العسكرية الإسرائيلية وسيطرة المستوطنين.
وفي قطاع غزة، يشكل الحزام “الأمني” الذي تقيمه إسرائيل 17% من مساحة القطاع وهو يخضع أيضًا لسيطرتها العسكرية الكاملة. ولا يزال نحو 30% من الأراضي الزراعية في قطاع غزة يتعذر الوصول إليها، بعد أن كانت نسبة تلك الأراضي 25% قبل ثلاث سنوات.4 وكانت المحاصيل البعلية في هذه المنطقة تشمل القمح والشعير والفول وخضروات مختلفة وأشجار الزيتون واللوز والحمضيات وجُلَّ الإنتاج الحيواني في قطاع غزة. وقد أفادت الأمم المتحدة بأن ما مجموعه 46% من أراضي القطاع الزراعية كان بحلول العام 2009 متعذرَ الوصول إليه أو متوقفًا عن الإنتاج بسبب خراب الأراضي إبان العدوان الذي شنته إسرائيل في 2008-2009 على غزة وإنشاء المنطقة “الأمنية” العازلة.
وعلاوة على ذلك، تؤثر بقايا الفسفور ومخلفات القذائف المدفعية وارتفاع ملوحة التربة في جودة الغذاء الذي ينتجه المزارعون، ولذلك عواقب جسيمة على صحتهم وصحة عائلاتهم والمستهلكين أيضاً، إذ يُظهر تقريرٌ جديدٌ حول أطفال غزة علاقةً بين وجود النترات في البراز والأسمدة وتضاعُف حالات الإسهال المائي عند الأطفال منذ بدء الحصار الإسرائيلي. أمّا بالنسبة لصناعة صيد السمك في غزة، فإن 90% من الصيادين عاطلون عن العمل، علاوة على أن إسرائيل قيَّدت الصيد بمساحة ثلاثة أميالٍ بَحرية بدلًا من 20 ميلٍ بحريٍ متفقٍ عليها في اتفاقات أوسلو.
جرت العادة على تجاهل البدو في النقاشات الدائرة بشأن الزراعة الفلسطينية، وليس في فلسطين وحسب. فثمة اعتقاد خاطئ سائد في العالم العربي مفاده بأن المناطق الخضراء هي الأراضي الخصبة وذات القيمة، أما الصحراء فلا طائل منها. فمن ذا الذي يريد الموت في سبيل أرضٍ يجوبها البدو؟ والأسوأ من ذلك، هو أن هذه النظرة تمتد بالتالي لتشمل القاطنين في الصحراء باعتبارهم عديمي الفائدة والقيمة. ومن ناحية أخرى يميِّز المدنيون والفلاحون على السواء فيما بينهم أيضًا. وللأسف، يقع الكثيرون فريسةً لمفاهيم مادية تُسنِد قيمةً للأرض دون إدراك مدى أهمية المساحات الرعوية للناس ولتربية الحيوانات ولحرية التجوال وللشعب بحد ذاته. أمّا في الواقع، فإن نمط الحياة البدوية الرعوية يمثل الاستدامة. فهو وسيلة للاستقرار والعيش على الأرض والاقتيات منها على نحوٍ فعال ومُنتِج، وللمحافظة عليها بيئيًا للأجيال القادمة.
يعيش حوالي 13,000 بدوي فلسطيني في الأراضي الفلسطينية المحتلة، منهم حوالي 2,300 يقطنون في 20 تجمعٍ شرقي القدس. ومنهم ما يزيد على 80% من اللاجئين والقاطنين في المنطقة (ج)، وهناك 55% منهم يفتقرون إلى الأمن الغذائي. لقد أصبح البدو شبه عاجزين عن الوصول إلى الأراضي بسبب التطهير العرقي المقترن بالتوسع الاستيطاني. ويواجه معظهم أوامر بهدم تجمعاتهم، ويفتقرون إلى إمكانية الوصول الآمن إلى الماء والكهرباء. ويواجه الكثيرون منهم مخاطر أمنية جسيمة، بما فيها الإصابة بالألغام الأرضية.
ما فتئت إسرائيل تزاول الممارسات ذاتها منذ عقود على جانبي الخط الأخضر، ويُطلق الأكاديميون الإسرائيليون والصندوق القومي اليهودي على حدٍ سواء دعوات منادية بتطهير النقب. وقد تعرضت قرية العراقيب البدوية للهدم 35 مرة، بحسب التقارير، حيث يخطط الصندوق القومي اليهودي لزراعة “غابة السلام” على أنقاضها. فثمة حاجةٌ لتجاوز أي صيغة تسمح بالانتقاص من قيمة أي جزء من الوطن أو أناسه. وفي هذا الصدد، تُعتبر قدرة البدو الفلسطينيين على ممارسة أنماط حياتهم بحرية المحكَّ لحرية الفلسطينيين كشعب.
سوقٌ أسيرةٌ للسياسات
تُعتبر سياسات السلطة الفلسطينية والمانحين وبيلةً رغم أنها لا تضاهي الدمار الذي يُخلِّفه الاستعمار الإسرائيلي وتشريده للشعب الفلسطيني. فالسلطة الفلسطينية والمانحون يطبقون النظريات الاقتصادية التقليدية على الأراضي الفلسطينية المحتلة ويتوقعونها أن تزدهر من خلال التخصص في إنتاج السلع التي تتمتع بميزة تنافسية في إنتاجها. غير أن الهدف الرئيسي للشعب الرازح تحت الاحتلال ينبغي أن يكون تحرير الأرض وليس منافسة الشعوب الحرة باتباع مؤشراتٍ اقتصاديةٍ مُفرَّغةٍ من السياق السياسي.
تُعرِّي ورقة جورج كرزم هذه السياسات وتُبيِّن سخافتها بِجلاء، وتدافع عن التنمية الزراعية المعتمِدة على الذات. يصف الكاتب مقدار التحول الذي طرأ على الزراعة الفلسطينية من زراعة المحاصيل الأساسية إلى المنتجات السوقية الكمالية كالزهور نتيجةً للتشجيع الذي أبدته الحكومة العسكرية الإسرائيلية لمزارعي غزة منذ أواخر عقد الثمانينيات من القرن المنصرم. وكان الهدف يتمثل في “توجيه الزراعة الفلسطينية نحو إنتاج منتجات ترتبط بمتطلبات الاقتصاد الإسرائيلي، سواءً من أجل الاستهلاك المباشر أو سد العجز في الصادرات الإسرائيلية،” وفي الحيلولة دون منافسة السلع والبضائع الإسرائيلية.
أقدمت قوات الاحتلال الإسرائيلي إبان الانتفاضة الثانية على تدمير عددٍ كبير من الأشجار، ولا سيما أشجار الحمضيات، حيث يفضل مزارعو غزة زراعة البساتين ولكنهم غالبًا ما يُدفعون من مشاريع المعونة باتجاه زراعة الخضروات والقمع والشعير، في حين أن الجيش الإسرائيلي “يفضل” المحاصيل المنبطحة في المناطق المحظورة على امتداد حدود غزة الشرقية.
شجعت منظمة التجارة العالمية السلطة الفلسطينية والمانحين على دعم منتجي الزهور الفلسطينيين، حيث قدَّرت أن بوسع هذه الزراعة أن تُدرَّ مبالغ تصل إلى 14 مليار دولار، ودعت السلطة الفلسطينية إلى زيادة رقعة الأرض المخصصة لزراعة الزهور من حوالي 200 هكتار إلى 31,000 هكتار. وكما يتسائل كرزم: “لِمَ ينبغي توفير كل هذه التسهيلات لإنتاج سلعة كمالية وليس لزراعة محاصيل استراتيجية أساسية كالقمح؟”
وحالما تم الانتقال إلى أسواق التصدير، تسببت الإغلاقات الإسرائيلية الحدودية المتكررة (وشبه الدائمة في حالة غزة) في تلف المحاصيل وسُبل عيش المزارعين وبدَّدت الحلم المستوحى من الغرب بتحقيق عائدات “بالمليارات” من الصادرات الفلسطينية من السلع الكمالية كالزهور والتوت الأرضي (الفراولة) ومنتجاتٍ زراعيةٍ أخرى أقل غرابة. وعندما لا تحظر إسرائيل عبور الصادرات، فإنها تستفيد من الضرائب التي تجبيها لحسابها والتي تجبيها “بالنيابة” عن الفلسطينيين.
قطاعٌ يعاني الإهمال
أصدر المجلس الاقتصادي الفلسطيني للتنمية والإعمار في شهر حزيران/يونيو تقريرًا يبين أن المبالغ المخصصة للقطاع الزراعي، منذ تأسيس السلطة الفلسطينية، لم تتجاوز1% من مجموع الموازنة السنوية للسلطة. وكانت دراسةٌ سابقةٌ أظهرت بأن حوالي 85% من موازنة الزراعة في الأعوام 2001-2005 قد صُرِف كرواتب لموظفي وزارة الزراعة، وهو نمطٌ مستمر لغاية الآن. وتؤكد مصادر البيانات الفلسطينية الرسمية هذا التراجع الكبير في الزراعة حيث انخفضت نسبة مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي من نحو 13.3% في عام 1994 إلى 5.7% في عام 2008.
وعلاوة على ذلك، حصل القطاع الزراعي على نحو 1.41% فقط من مجموع المساعدات الدولية (14 مليون دولار من أصل مليار دولار) في الفترة ما بين 1994 و2000، وانخفضت هذه النسبة في الفترة 2000-2006 لتصل حوالي 0.74% (30 مليون دولار من أصل 4 مليارات دولار).5 وبالإضافة إلى ذلك، حظيت التنمية الريفية بحوالي 10% فقط من تمويل المانحين المقدَّم في الفترة 1999-2008 للمنظمات غير الحكومية الفلسطينية.6 ورغم أن نسبة المنظمات غير الحكومية العاملة في القطاع الزراعي إلى العدد الكلي للمنظمات غير الحكومية ارتفعت من 2.8% في 1999 إلى 5.5% في 2006، فإن ذلك الارتفاع كان مرتبطًا بزيادة مروِّعة في مستويات الاعتماد على المساعدات الخارجية في قطاع المنظمات غير الحكومية الزراعية من نحو 54% في 1999 إلى نحو 80% في 2006 (وإلى 94% في سياق المنظمات غير الحكومية العاملة في قضايا تتعلق بالمياه والبيئة).
تنم هذه الصورة عن ازدياد عدد المشاريع والمنظمات غير الحكومية مقابل تناقص مساحة الأرض وتراجع الزراعة. وحتمًا توجد نجاحات صغيرة هنا وهناك، ولكن ما لم تندرج في إطار جهودٍ واستراتيجيةٍ موحدة، فإن أثرها سيظل محدودًا للغاية. وثمة أمثلة أخرى حيث ينصب التركيز على المستوى الجزئي في حين يكون البناء بأكمله مهددًا بالانهيار، ومن ذلك المبادرات العديدة العاملة على تزويد المزارعين ببذارٍ مجانيةٍ لزراعتها في أراضٍ قد تلوثت تربتها، ممّا يؤدي إلى الهدر أو إلى ما هو أسوأ من ذلك كالمرض.
يقوم بعض المانحون (ليس فقط في فلسطين) بممارسات غير مرغوبة تضر بالقطاع الزراعي. فقد انتقد أحد وزراء الزراعة الفلسطينيين السابقين الوكالةَ اليابانية للتعاون الدولي (جايكا) علنًا بعد أن اكتشف بأن ما صرفته الوكالة في الأراضي الفلسطينية المحتلة ضمن مشروعٍ امتد لثلاث سنوات بلغ 700,000 دولار فقط من أصل 6 ملايين دولار تقريبًا خُصِّصت لذلك المشروع. وبالطبع، لا تقتصر هذه المسألة على جايكا، ولا بد من مراجعة ممارسات العديد من المانحين الآخرين.
ثمة قضايا عديدة أخرى تؤثر سلبًا في القطاع الزراعي، منها مشاكل تسجيل الأراضي، وتراجع مساحة الأراضي الصالحة للزراعة، وفرز الأراضي إلى قطع صغيرة، كما يظهر في دراسةٍ أصدرها مؤخرًا معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني.7 كما إن التوسع العمراني على حساب الأراضي الزراعية يمثل مشكلةً خطيرةً في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
تصويب الأخطاء
يدعو النهج التقليدي الذي تروِّجه مؤسسات التمويل والتنمية الدولية لتحقيق الأمن الغذائي إلى الاعتماد على الأسواق والتجارة الحرة. وقد أدى هذا النهج إلى اندثار نُظم الغذاء المحلية حول العالم. وهو أيضًا لا يعترف بالحق في إنتاج الغذاء واستهلاك الغذاء المنتج محليًا.
سوف يحقق الفلسطينيون أمنهم الغذائي عندما يتمكنون من زراعة قوتهم في أرضهم والاصطياد من بحرهم، بحيث يستعيضون عن المنتجات الإسرائيلية بالمنتجات المحلية. إن تناول المنتجات المزروعة محليًا يُكسِب الجسم المغذيات الدقيقة الضرورية، ويغذِّي التربة، ويعزز الروابط البيئية بين الإنسان والأرض، في مقابل الاتكالية التي خلقتها سياسات التطبيع، والمساعدات، والواردات الزراعية. فالشراكات الثنائية الداعمة لاقتصاد المحاصيل النقدية في غزة تساهم مباشرةً في سوء تغذية الفلسطينيين. فكيف يمكن التفكير في تسخير الأرض والموارد لزراعة الزهور والتوت الأرضي (الفراولة) مثلاً للأسواق الأوروبية في حين أن 88% من سكان غزة يتلقون المعونات الغذائية و75% منهم يعانون سوء التغذية؟
ثمة حاجةٌ لوضع استراتيجية للعلاقة بالأرض بحيث تربط قدرَ ما أمكن من سُبل العيش بالأرض، ولا سيما بالأراضي الواقعة في المنطقة (ج) حيث يعيش الآن 5% فقط من الفلسطينيين. ولا بد من تمكين المزارعين الفلسطينيين، من خلال الإصرار والالتزام والاستخدام الذكي للمعونات الزراعية، من البقاء في أراضيهم وتعزيز قدرتها الإنتاجية. إن بوسع السياسات التي تدعم الزراعة منخفضة الكثافة أن تشجع على خلق أكبر عددٍ من فرص عمل. وينبغي توجيه تلك المحاصيل للاستهلاك المحلي في المقام الأول مع إيلاء الأولوية، حيثما أمكن، للاستعاضة عن المساعدات الغذائية والمنتجات المستوردة. إن المزارع العاكف على زراعة أرض فلسطين وتنميتها لهو أشد تأثيرًا من المقاتل. فالزراعة شكلٌ مهمٌ من أشكال المقاومة، ولمزارعينا مكانةٌ في صميم الكفاح من أجل البقاء ونيل الحرية.
إن وجود برنامجٍ زراعي هو أمرٌ أساسي لبناء اقتصادٍ مقاوم. وهناك طرقٌ كثيرةٌ لتنمية سُبل العيش المحلية، وفي الوقت ذاته، التقليل من الاعتماد على المساعدات وضمان ممارسة الشعب الفلسطيني لحقه في فلاحة أرضه، حتى في ظل الاستعمار الاستيطاني والاحتلال المستمر. وفي هذا الصدد، يقترح كرزم “وحدةً زراعيةً متكاملةً داخليًا وحسنةَ التصميم.” فعلى سبيل المثال، تُعتبر الأغنام مصدرًا للغذاء والسماد والدخل. كما أن الأشجار المزروعة على طول الجدران الاستنادية مثل الخروب والبلوط وكروم العنب لا تَحدُّ من انجراف التربة والتعرية المائية وحسب، بل يُقتاتُ أيضًا على ثمارها وأوراقها، ويمكن استخدام أخشابها كوقود، واستخدام قشورها وأوراقها كعلفٍ للحيوانات. أما البقوليات فتساعد التربة في الاحتفاظ بالماء والمغذيات، في حين يمكن استخدام الأعشاب كعلف أخضر في فصل الشتاء.8 وفي نموذجٍ متكاملٍ من هذا القبيل، يعمل الفنيون والمهندسون الفلسطينيون على إنتاج وصيانة الأدوات والآلات اللازمة لإدارة عجلة الإنتاج المحلي عِوضًا عن الاستمرار في استيراد “أساليب غيرِ ذات صلةٍ من الخارج.”9
تشير منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة إلى إمكانية اتباع أساليب الزراعة الحضرية والحدائق العمودية والزراعة المائية السمكية (aquaponics) في قطاع غزة، نظرًا لكون الغالبية العظمى من سكانها إمّا من سكان الحضر أو المخيمات.10 ويمكن الاستفادة من النماذج البديلة المجربة في المجتمعات المتضررة من الحرب في لبنان والسودان ومجتمعات اللاجئين الفلسطينيين من أجل تحقيق التنمية الفلسطينية في ظل الاحتلال.
وعلاوة على ذلك، وفي إطار الجهد المبذول لتطبيق نماذج بديلة، هناك حاجة لتحري الكلفة البشرية المترتبة على الاحتلال على المدى الطويل من وجهة نظر التاريخ الاقتصادي. فهذا بوسعه أن يساهم في دعم صمود الوجود الفلسطيني على الأرض ووضع تصورات لنماذج اقتصادية اجتماعية تُبين كيف أن العيش على الأرض والعمل فيها يحقق منافع تفوق بكثير ما قد يكون مروجًا له.
حملةٌ لمزاولة الحق في الزراعة
ثمة حاجةٌ لإطلاق حملةٍ لإعمال الحق في الزراعة تعبئ المجتمعات المحلية والناشطين المتضامنين والاتحادات الزراعية والمانحين من أجل إقامة اقتصادٍ مقاوم يرتبط ارتباطًا وثيقًا بثقافات الشعب الفلسطيني وتاريخه وأرضه وتطلعاته السياسية. وعلى خلاف خطاب وسراب بناء “الدولة” أو “المؤسسات”، فإن بوسع السياسة الزراعية أن تضع التنمية الفلسطينية على الطريق القويم، إذ إن من شأنها أن تربط فيما بين المستهلكين والمزارعين والبدو واللاجئين والمنفيين الفلسطينيين في إطار اقتصادٍ مقاوم. ومن شأن ذلك أن يخلق فرص عملٍ ويعزز الأسواق المحلية، ليستعيد بذلك شيئا من السيطرة على زمام الاقتصاد الفلسطيني.
تستطيع الوزارات ومنظمات المجتمع المدني والاتحادات الزراعية الفلسطينية أن تشجع العمل التطوعي والحمائي لزراعة الأراضي ولا سيما في أوساط الشباب. وثمة مبادرات قائمة، كمبادرة “العونة” المعنية بالتطوع في استصلاح الأراضي المهملة ومبادرة “إحنا غير،” يمكن تحرّيها وتكرارها. وتساعد هاتان المبادرتان التطوعيتان الشبابيتان المزارعين في إعادة تأهيل أراضيهم واستصلاحها ولا سيما في المناطق المهددة بالتوسع الاستيطاني. وتأمل المبادرتان أن يشجِّعا الشباب على العودة لزراعة الأرض والحفاظ عليها في وجه التوسع الاستيطاني ونقل رسالةٍ واضحةٍ إلى السلطة الفلسطينية بأهمية الأرض وأهمية الزراعة.
يمكن لحركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (BDS) أن تساهم أيضًا في هذا المسعى بتوفير منصةٍ لربط مبادرات الزراعة والرعي بالحركات العالمية. فبوسع المنظمين والناشطين داخل الحركة الضليعين أصلًا في بيان أهمية مقاطعة المنتجات الإسرائيلية أن يتواصلوا مع الاتحادات التعاونية الزراعية لنشر الوعي والمساعدة في تعزيز العلاقات مع المزارعين الفلسطينيين.
سوف يُدرك المانحون، المحبطون بسبب إقدام إسرائيل على تدمير مشاريعهم ، أن دعم سُبل عيش المزارعين والرعاة مباشرةً هو مشروعٌ أكثر فعاليةً وقابليةً للاستمرار. وينبغي توجيه التمويل المخصص للمنطقة (ج) إلى الزراعة منخفضة الكثافة من أجل إيجاد أقصى عددٍ من فرص العمل، وإرسال المحصول للاستهلاك المحلي للاستعاضة به عن المساعدات الغذائية.
إن التحول إلى الزراعة كوسيلة للصمود والمقاومة الاقتصادية لن يكون أمرًا هينًا. فالاحتلال الإسرائيلي عازمٌ على فصل الفلسطينيين عن الأرض، وهو هدفٌ يكمن في صميم المشروع الصهيوني منذ بداياته. ولكن، كما نوقش آنفًا، هناك سُبلٌ يمكن – ويجب – من خلالها إنجاز هذا التحول.
إن الفقر في فلسطين كارثةٌ إنسانيةٌ مدبَّرةٌ سياسيًا يتناقض في إطارها مشروع النمو الاقتصادي مع مشروع التحرر. كما إن طبيعة التشريد الفلسطيني تقتضي أن يكون سبيل الحرية هو الأرض بكل ما فيها من مزارع وحقول وبحر وصحراء وفلاحين وبدو وحليب وزيتون. إن استرجاع الأرض الفلسطينية ليس استحضارًا لماضينا وحسب بل هو الطريق لبناء مستقبلنا.
- نشكر آن غوف وناديا حجاب على ملاحظاتهما القيِّمة.
- تتوفر كافة إصدارات الشبكة باللغتين العربية والانجليزية (اضغط/ي هنا لمطالعة النص بالإنجليزية). لقراءة هذا النص باللغة الفرنسية، اضغط/ي هنا. تسعد الشبكة لتوفر هذه الترجمات وتشكر مدافعي حقوق الإنسان على هذا الجهد الدؤوب، وتؤكد على عدم مسؤوليتها عن أي اختلافات في المعنى في النص المترجم عن النص الأصلي.
- Ross, Fiona. ‘Palestinian Territories’ in Albala, Ken (ed.) Food Cultures of the World Encyclopedia, Volume 1, 2011, pp285-296; page 287.
- رامي زريق وآن غوف. “Control Food, Control People: The Struggle for Food Security in Gaza” مؤسسة الدراسات الفلسطينية، يصدر قريبًا.
- Sahar Taghdisi-Rad, The Political Economy of Aid in Palestine: Relief from Conflict or Development Delayed? Routledge,2011.
- تتبع الدعم الخارجي للمنظمات الفلسطينية غير الحكومية في الضفة الغربية وقطاع غزة خلال الفترة 1999 – 2008، علاء الترتير وجوزيف ديفوير، معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني ومركز تطوير المؤسسات الأهلية الفلسطينية. متوفر على شبكة الإنترنت عبر الرابط التالي:
http://www.ndc.ps/uploads/File/Researches/Tracking%20Donor%20Fund%20Ar.pdf - للاطلاع على الموجز التنفيذي باللغة الإنجليزية، http://www.mas.ps/Newsite/webfm_send/83
- كرزم، الكتاب الآنف الذكر، الصفحات 30-32.
- المرجع السابق، الصفحة 24.
- تَجمَع الزراعة المائية السمكية (aquaponics) بين زراعة الخضروات من دون تربة (الزراعة المائية) وتربية الأسماك (تربية المائيات) في نظامٍ مغلق، حيث تُستخدم المياه الغنية بالمغذيات من أحواض السمك كسمادٍ عضوي لإنتاج النباتات، ممّا يقضي على الحاجة الدائمة للأسمدة الكيماوية.