لمحة عامة
أصبحت فلسطين عضوًا في المحكمة الجنائية الدولية رسميًا في 1 نيسان/أبريل 2015. وبات الفلسطينيون وأنصار العدالة الدولية حول العالم يترقبون الخطوةَ التاليةَ من مكتب المدعي العام، ولكن يَلزمنا في الأثناء أن نقيِّم مدى المشقّة التي تستطيع المحكمة في الواقع أن تتحملها في السياق الفلسطيني الإسرائيلي، وأن نتحرى سُبل المساءلة الأخرى إنْ وجدت.
وفي ضوء تاريخ فلسطين المضطرب في المحكمة الجنائية الدولية، رغم وجازته، تناقش الكاتبة الضيفة على الشبكة فالنتينا أزاروف الوضعَ الراهن لعضوية فلسطين في المحكمة، ومسارها المحتمل بالنظر إلى اعتبارات المحكمة من حيث السياسات والممارسات. وتناقش أيضًا الهجومَ القانوني الإسرائيلي على هذه الخطوة الفلسطينية، بما فيه الضغطُ الإسرائيلي على المحكمة ذاتها، وتناقش القدرة الكامنة لتحقيقات المحكمةِ على تعزيز الجهودِ الأخرى المبذولة من أجل المساءلة، بما فيها تلك الموجهة نحو الأطراف الفاعلة الثالثة، وتناقش الكاتبة الخطرَ المتمثل في أن يقوم مجلسُ الأمن التابع للأمم المتحدة بتعليق التحقيق. وبذلك تتصدى فالنتينا للعديد من المفاهيم المغلوطة المتداولة بشأن ما تقدر المحكمة الجنائية الدولية عليه وما لا تقدر عليه، وهي مفاهيم متداولة حتى بين واضعي السياسات الفلسطينية. وتختتم أزاروف مقالتها بتوصيات سياساتية من أجل المضي قدمًا.
فلسطين والمحكمة الجنائية الدولية: الوضع الراهن
أُنشئت المحكمة الجنائية الدولية لتكون الهيئةَ القضائية الدولية التي تلاحق مرتكبي الجرائم الدولية التي “هزت ضمير الإنسانية بقوة.” وبالنظر إلى محدودية مواردها وقدراتها، يُتوقع من المحكمة أن تحرص على كفاءة تدخلاتها وفاعليتها في حالات النزاع والفظائع الجماعية، من أجل مكافحة الإفلات من العقاب وردع الأفعال التي تديم النزاع.
وكأي هيئةٍ دولية أخرى، تُعتبر المحكمة الجنائية الدولية كيانًا سياسيًا يعتمد على رِضا الدول. وهي أيضًا “قوةٌ” تشريعية لتطبيق القانون الدولي على المجرمين الأفراد، وهي تجسد المصالح المشتركة للدول التي تحترم القانون. ولحماية آليات المحكمة، لا ينبغي تسييسها. بيد أنه من المؤسف أن جميع الأطراف أخضعت تحرُّك فلسطين لتفعيل اختصاص المحكمة – وأخضعت العدالة كذلك – إلى السياسة والتنازلات المرتبطة بمسعى إقامة الدولة الفلسطينية.
كان انضمام فلسطين إلى نظام روما الأساسي و15 معاهدة أخرى بتاريخ 1 كانون الثاني/يناير 2015 أحدث تأكيدٍ على مسعى إقامة الدولة الفلسطينية. فقد بدأت عملية المصادقة والانضمام في مطلع 2011، ودخلت فلسطين في عضوية منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) في وقت لاحق من العام ذاته. ومنذئذ صادقت فلسطين أو انضمت إلى ما مجموعه 44 معاهدة واتفاقية، بما فيها ثمانية اتفاقيات منبثقة عن اليونسكو في مطلع 2012، و20 معاهدة أخرى بما فيها صكوك رئيسية في القانون الإنساني الدولي والقانون الدولي لحقوق الإنسان في نيسان/أبريل 2014.
المدافعون عن إقامة الدولة الفلسطينية يؤطرون هذه العملية كخطوة تهدف إلى “تدويل النزاع،” وإيجاد بيئة تتكافأ فيها فرص الجميع، وتفعيل حقوق فلسطين السياسية والقانونية كدولة في النظام الدولي. لقد تركِّزت معظم المناقشات بشأن هذه التحركات على فوائدها السياسية – ولكنها أتاحت كذلك قنواتٍ وآلياتٍ قانونيةً بوسعها أن تساعد في تحقيق إنجازات ملموسة إذا ما استُخدمت بعناية وبنية حسنة مع الدول الأخرى والهيئات الدولية.
مارست منظماتُ حقوق الإنسان الفلسطينيةُ والدولية، التي أشادت بمسعى إقامة الدولة لقدرته على كفالة الحقوق والمساءلة، الضغطَ على القادة الفلسطينيين كي يلجأوا إلى المحكمة الجنائية الدولية. فهي تأمل من المحكمةِ أن تكبح جماحَ إسرائيل في استخدام القوة، وتلجمَ تصرفاتها غير الشرعية، وتتيح محفلًا قضائيًا يقصده الضحايا، ولو صوريًا على الأقل، من أجل مساءلة الجناة الإسرائيليين.
وفي الواقع، يسبق تاريخُ فلسطين في المحكمة الجنائية الدولية تصويتَ الجمعية العامة للأمم المتحدة على منح فلسطين صفة دولة مراقب غير عضو في العام 2012. فهناك نحو 400 شكوى مرفوعة لدى مكتب المدعي العام في المحكمة، رَفعت بعضها جماعاتٌ وأفراد عقب عملية الرصاص المصبوب التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة في 2008-2009. ومن تلك، شكاوى رفعها محامون من جنوب أفريقيا فيما يتعلق بمواطنين جنوب أفريقيين مجندين في الجيش الإسرائيلي، وحالات موثقة من جرائم الحرب قدمتها منظمات حقوقية فلسطينية في غزة.
وفي كانون الثاني/يناير 2009، عقب العدوان، أودع وزير العدل آنذاك علي خشان إعلانًا رسميًا بموجب المادة 12(3) من نظام روما الأساسي لدى مكتب المدعي العام، الذي كان يرأسه آنذاكلويس مورينو أوكامبو. ودخلت العملية طي النسيان بعد أن أبطأها المدعي العام بإثارة جدلٍ أكاديمي غير ضروري حول مسألة وضع فلسطين كدولةٍ في القانون الدولي. فلو كان وضع دولة فلسطين مشكوكًا فيه، لتعيَّن على المدعي العام أن يقبل إعلان فلسطين، أو يحيل المسألة إلى الدائرة التمهيدية.
وبعد أكثر من ثلاث سنوات من المداولات، امتنع المدعي العام فجأةً عن اتخاذ قرار بتاريخ 4 نيسان/أبريل 2012 طالبًا تسوية المسألة في الأمم المتحدة رغم التأكيد على وضع فلسطين كدولة في تشرين الأول/أكتوبر 2011 عندما صوتت غالبية الدول الأعضاء في الأمم المتحدة لصالح عضويتها في اليونسكو.
وفي الوقت نفسه، مارست إسرائيل وفرنسا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة ودول أخرى الضغطَ لثني المسؤولين الفلسطينيين عن تفعيل اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، ممّا زاد مسألةَ المحكمةِ تسييسًا. ورغم الضغوط، بعثَ وزير العدل في السلطة الفلسطينية سليم السقا والنائب العام إسماعيل جبر رسالةً بتاريخ 25 تموز/يوليو 2014 إلى مكتب المدعي العام، عبر مكتب فرنسي للمحاماة، وطلبا فيها فتح تحقيق على أساس بلاغ 2009. غير أن المدعية العامة آنذاك فاتو بنسودا، أجابت بأن “رئيس الدولة ورئيس الحكومة ووزير الشؤون الخارجية فقط” هم المخولون بالإعلان عن موافقة فلسطين على الامتثال لاختصاص المحكمة الجنائية الدولية. وجاء في الرد أن وزير خارجية فلسطين المالكي، الذي قام بزيارة مكتب المدعي العام في 5 آب/أغسطس 2014، لم يؤكد موافقة حكومته على الطلب.
وبغرض تبديد المفاهيم المغلوطة حول زيارة المالكي لمكتبها في آب/أغسطس 2014، كتبت المدعية العامة بنسودا مقالةَ رأي نشرتها صحيفةُ الغارديان، ونشرَ مكتبها بتاريخ 2 أيلول/سبتمبر2014 بيانًا يوضح بأن “الجرائم التي يُزعم ارتكابها في فلسطين تقع خارج النطاق القانوني للمحكمة الجنائية الدولية” لأن الحكومة الفلسطينية لم تتخذ الخطوات اللازمة لتفعيل اختصاص المحكمة إمّا بإيداع إعلان جديد بموجب المادة 12(3) أو الانضمام إلى نظام روما الأساسي كدولة عضو جديدة.
وفي الوقت نفسه، قرَّرت المدعية العامة في 6 تشرين الثاني/نوفمبر 2014 أن لا تفتح تحقيقًا في الدعوى التي رفعتها جزر القمر بموجب المادة 14 من نظام روما الأساسي بشأن هجوم القوات الإسرائيلية في أيار/مايو 2010 على أسطول الحرية أثناء محاولته بلوغَ قطاع غزة والذي راح ضحيته 10 مدنيين (كانت إحدى سفن الأسطول تحمل علم جزر القمر). وقالت المدعية العامة إن الحادثة لم تكن بالجسامة الكافية لتبرير تحرك المحكمة الجنائية الدولية، رغم الأساس المنطقي الدافع إلى الاعتقاد أن جرائم حرب قد ارتُكبت على متن تلك السفينة.
وفي 1 كانون الثاني/يناير 2015، وبعد تأخير قارَبَ العامين، سعت فلسطين لتفعيل آليتين من آليات الإقرار باختصاص المحكمة الجنائية الدولية، حيث أودعت إعلانًا جديدًا بموجب المادة 12(3) بأثر رجعي يعود إلى تاريخ 13 حزيران/يونيو 2014، ليتزامن مع لجنة تقصي الحقائق في حرب غزة عام 2014، وأودعت أيضًا وثائق الانضمام إلى نظام روما الأساسي لدى الأمين العام للأمم المتحدة. وأحال كاتبُ المحكمة الإعلانَ إلى مكتب المدعي العام بتاريخ 7 كانون الثاني/يناير 2015، ودخل صك الانضمام حيز النفاذ في 2 كانون الثاني/يناير 2015، ليصبح ساريًا في الأول من نيسان/أبريل. وفي 16 كانون الثاني/يناير 2015، أعلن مكتب المدعي العام أنه شَرع في دراسة أولية على أساس الإعلان الصادر بموجب المادة 12(3). ومن الجدير بالذكر أن الدائرة التمهيدية في المحكمة الجنائية الدولية قد تتدراس مسألةَ إقامة الدولة، ولكنها قطعًا ليست مؤهلةً لتقرر بأن فلسطين لا تستطيع الانضمام إلى نظام روما الأساسي.
إن التصريحات التي أدلى بها مسؤولون فلسطينيون في أعقاب الإعلان الأخير والانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية – وما أوردته تقارير – بأن “الطلب المقدم إلى المحكمة الجنائية الدولية سوف يُسحَب لو جمَّدت إسرائيل بناء المستوطنات” تشير إلى المحاولات المتواصلة لاستخدام المحكمة الجنائية الدولية كورقة مساومة سياسية. ومع ذلك، وباستثناء أن تسحب فلسطين إعلانها أو انضمامها، فإنها لا تملك سلطة الرجوع عن هذه الخطوة وإيقاف الدراسة الأولية التي تجريها المحكمة الجنائية الدولية لصالح العودة إلى المفاوضات.
وتجدر الإشارة إلى أن مجلس الأمن يستطيع أن يؤجل التحقيق أو الملاحقة القضائية لمدة 12 شهرًا قابلةً للتجديد، وفقًا للمادة 16 من نظام روما الأساسي، إذا ما اعتُمد قرارٌ صادرٌ بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة بموافقة تسعة أعضاء دون استخدام حق النقض. وقد استُخدم هذا البند، الذي يشترط وجودَ تهديدٍ صارم للسلم والأمن الدوليين، في مناسبتين سابقتين فقط (القراران 1422 و1487 اللذان يمنحان حصانةً لقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة من بلدان ليست طرفًا في النظام الأساسي). ومع ذلك، كانت هناك عدة محاولات أخرى لتطبيق هذا البند، وهناك شائعات في حالة فلسطين بأن تأجيل المحكمة الجنائية الدولية بموجب المادة 16 قد يكون أحد الخيارات المطروحة إذا قُدِّمَ مشروعُ قرارٍ أممي يحدد معايير التسوية السلمية من جانب فرنسا التي ربما تكون عاكفةً على إعداده، أو الولايات المتحدة التي تحدثت ضمنًا في هذا الشأن.
إن نطاق الدراسة الأولية وأي حالات محددة تُختار في نهاية المطاف للمحاكمة تقع أيضًا خارج سيطرة فلسطين. فمن المستبعد، على سبيل المثال، أن يقبل المدعي العام بقيود تحول دون ملاحقة الفلسطينيين قضائيًا أو تفرض عليه النظر في قائمة تحقيقات حسب الطلب. بل للمحكمة أن تحاسب على كل المخالفات الداخلة ضمن اختصاصها والمرتكبة في السياق الفلسطيني الإسرائيلي منذ 13 حزيران/يونيو 2014. وبالإضافة إلى ذلك، هناك العديد من العقبات الماثلة أمام فتح تحقيقات جنائية فعلية، مثل المعايير الإجرائية المرعية في مرحلة الدراسة الأولية، والعقبات الموضوعية المتعلقة باختيار الحالات المحددة.
المسائل الإجرائية: خيارات فلسطين (من عدمها)
إن قيام المكتب العام بفتح دراسة أولية لا يعني أن تحقيقًا من المرجح أن يتبعها؛ فمعظم الدراسات الأولية التي أجراها المدعي العام أُغلقت دون فتح تحقيقات. بل إن المدعي العام يفتح دراسةً أولية في كل حالة تُحال إليه. تتألف مرحلة الدراسة الأولية من تقييم أولي للمعلومات؛ وحل مسائل الاختصاص من خلال تحديد مكان وقوع الجريمة المعنية ونوعها؛ والنظر في مقبولية الوضع والحالات المحددة؛ وآثار تحرك المحكمة المحتمل على “مصلحة العدالة” في السياق الفلسطيني الإسرائيلي الأوسع.1
أفاد العاملون في المحكمة بأن كندا سعت، بالنيابة عن إسرائيل والولايات المتحدة، لإطلاق حملة في جمعية الدول الأطراف لمنع انضمام فلسطين. غير أنه لا يوجد إجراء رسمي للطعن في الانضمام. وقد جرى بالفعل تحديث نظام المعاهدات في الأمم المتحدة ليضم فلسطين باعتبارها الدولة الطرف الثالثة والعشرين بعد المائة في نظام روما الأساسي، وفعل موقع المحكمة الجنائية الدولية على شبكة الإنترنت الشيء نفسه.
واعتبارًا من 1 نيسان/أبريل، تستطيع فلسطين بموجب المادة 14 من النظام الأساسي، بوصفها دولةً طرفًا فيه، أن تحيل “وضعًا” دون اختيار حالات محددة؛ ويمكن أن يكون المضمون المُحال جديدًا، أو أن يحتوي على الإعلان الصادر في كانون الثاني/يناير 2015 بموجب المادة 12(3). وإذا حاولَ المسؤولون الفلسطينيون لفت انتباه مكتب المدعي العام إلى حالات محددة، فإنه قد يرفض الإحالة. وأي إحالة من هذا القبيل، كما هي حال الإعلان الصادر بموجب المادة 12(3)، لن تقيد نوع الحالات أو الأدلة التي ينظر فيها مكتب المدعي العام، ومن المستبعد للغاية أن تشيح انتباه المدعي العام عن الانتهاكات الفلسطينية.
إذا قرر المدعي العام فتحَ تحقيق ولكن قرر معاملة الإعلان الصادر بموجب المادة 12(3) على أنه منفصل عن أي إحالة قد تحيلها فلسطين كدولةٍ طرف بعد الأول من نيسان/أبريل، فإن التحقيق سيُفتح تلقائيًا وستكون موافقة الدائرة التمهيدية مطلوبة من أجل المضي قدمًا في التحقيق. وإذا قرر المدعي العام أن يعامل الإعلان الصادر بموجب المادة 12(3) على أنه إحالة من دولة بعد أن صار انضمام فلسطين فاعلًا وساريًا، أو إذا قدَّمت فلسطين إحالةً بموجب المادة 14 بالمعايير نفسها وبتاريخ يعود إلى 13 حزيران/يونيو 2014 – فعندئذ لا حاجة لموافقة الدائرة التمهيدية.
إذا رفض المدعي العام فتح تحقيق، فسيكون هناك أيضًا اختلافٌ إجرائي بين الإعلان الصادر بموجب المادة 12(3) والإحالة. فإذا كان قرار المدعي العام برفض فتح التحقيق مستندًا إلى اعتبارات “مصالح العدالة،” سيتسنى لفلسطين أن تلتمس من الدائرة التمهيدية أن تشرعَ في مراجعة “صارمة” مع إمكانية الرجوع عنها حالما تصبح دولةً طرفًا في الأول من نيسان/أبريل. وأمّا إذا كان قرار رفض التحقيق مستندًا إلى مخاوف بشأن المقبولية – بما في ذلك انتفاء خطورة الوضع أو توفر آليات محلية للملاحقة القضائية كما حدث للإحالة التي أجرتها جزر القمر – فإنه لا يسع الدائرة التمهيدية إلا أن تطلب من المدعي العام إعادة النظر، ولكن لا يمكنها أن تأمره بذلك.
يقول خبراء في شؤون المحكمة الجنائية الدولية إنه ليس من المرجح أن تنتقد الدائرة التمهيدية قرار المدعي العام بعدم التحقيق أو أن ترفض الموافقة على قرار المدعي العام بفتح التحقيق تلقائيًا. فلم يسبق قط أن أمرت الدائرة التمهيدية المدعي العام بفتح تحقيق. وفي هذا الصدد، يقول كيفين جون هيلر بخصوص الإحالة التي أودعتها جزر القمر بشأن قضية أسطول الحرية: “لا أحد يعرف تمامًا ما سيحدث لو [أن الدائرة التمهيدية] أمرت [المدعي العام] بإجراء تحقيق رسمي ضد إرادته.”
وهكذا، وخلافًا لتصريحات المسؤولين الفلسطينيين بأنه على فلسطين أن تودعَ إحالةً بموجب المادة 14 في الأول من نيسان/أبريل لتوجيه المدعي العام بفتح تحقيق – ولا سيما في ملف المستوطنات، حسبما نُقلَ عن وزير الخارجية الفلسطيني المالكي – فإنه لا يمكن “إجبار” مكتب المدعي العام على فتح تحقيق أو التقدم بطلب إلى الدائرة التمهيدية لفتح تحقيق رسمي. ولا يمكن لفلسطين كدولةٍ طرف، بعد الأول من نيسان/أبريل، أن توجّه قرار المدعي العام بالنظر في التحقيق في حالات معينة دون سواها.
المعوقات الموضوعية: محاولات إسرائيل للمقاومة
يقتضي فتح التحقيق من مكتب المدعي العام أن ينظر في مقبولية الوضع بموجب النظام الأساسي للمحكمة والسياسات والممارسات التي ينتهجها المكتب. تشتمل العناصر المؤثرة في حالة فلسطين على مبدأ التكامل؛ ورفض إسرائيل رسميًا أن تتعاون مع المحكمة؛ والاعتبارات المتعلقة “بمصالح العدالة”. ولا بد من دراسة هذه القضايا ومعالجتها في الملفات التي سوف تُرفَع إلى المدعي العام.
يعطي مبدأ التكامل الأسبقية للقضاء الوطني لاتخاذ إجراءات بحق مرتكبي الجرائم الدولية المزعومة. وتُقبَل الحالات والقضايا حين لا تتخذ الدولة التي يكون موظفوها مسؤولين عن الأفعال غير المشروعة أي إجراء، أو تتخذ إجراءات غير كافية، أو تُبدي عدم رغبة أو عدم قدرة (المادة17).
تستند العتبة المستخدمة في تقييم عدم رغبة الدولة الحقيقية في فتح تحقيقات إلى وجود نية لحماية الجناة، أو تأخر الإجراءات دون مبرر، أو الافتقار إلى الاستقلال والنزاهة، أو عدم وجود نية حقيقية لتقديم الجناة إلى العدالة (المادة 17(2)). ومن الدلالات الواقعية الأخرى: التسرع الذي ينم عن رغبة في تفنيد المزاعم؛ عدم كفاية التحقيقات المفتوحة؛ عدم كفاية الموارد المخصصة للتحقيقات المتجلية في قصور أساليب جمع الأدلة وغيرها من المخالفات الإجرائية؛ وعدم كفاية الاستقلال؛ ومنح الحصانات – بفضل التشريعات القاصرة – بغرض الحماية؛ والأحكام غير الكافية على الإطلاق. ومن الجدير بالذكر أن مكتب المدعي العام أكدَّ أن الجريمة المنسوبة لا يجب أن تعكس جريمةً منصوصة في نظام روما الأساسي؛ فالجرائم المحلية الخطيرة تكفي طالما أنها تغطي جوهر السلوك ذاته.
ومنذ عملية الرصاص المصبوب، حاكمت إسرائيل وأدانت أربعةَ جنودٍ فقط، وأصدرت أقسى عقوبة بحقهم في قضية سرقة بطاقات ائتمان، لذا فإن من شبه المؤكد أن سجلَّها هذا سوف يُعتَبر في نظر المدعي العام غير كافٍ لاستبعاد اختصاص المحكمة الجنائية الدولية. إن تقرير لجنة تيركل الإسرائيلية الثاني بشأن آليات التحقيق المتبعة في قوات الأمن الإسرائيلية لم يُسفر عن أي تغييرات جوهرية أو أي دلالة على أن توصيات التقرير سوف تُنفَّذ.
لا تكمن المسألة فيما إذا كانت إسرائيل “قادرةً” على إجراء تحقيقات، بل فيما إذا كانت “راغبةً” في ذلك، نظرًا لممارساتها القانونية والمؤسسية المعهودة كرفض تطبيق القانون الإنساني الدولي بمجمله في الأراضي الفلسطينية، وتوسعة نطاق تطبيق الاختصاص القضائي المحلي الإسرائيلي ليشمل الضفة الغربية، ورفض الإجماع الدولي القاضي بأن قطاع غزة هو أرضٌ محتلة. وعلاوةً على ذلك، ترفض المحاكم الإسرائيلية البتَّ في مسائل معينة، مثل بناء المستوطنات، احترامًا لمواقف السلطة التنفيذية، ويتعامل القانون الإسرائيلي مع المستوطنات باعتبارها جزءًا من إسرائيل. أمّا الممارسة القانونية والإدارية الإسرائيلية في سياق بعض الأعمال المجرَّمة دوليًا مثل “القتل المستهدف”، وهدم المنازل إدريًا وعقابيًا، والاستجواب باتباع أساليب غير قانونية مثل التعذيب، فإنها تنمُّ عن تعريفٍ فضفاض غير مشروع للأهداف العسكرية.
تُدرك إسرائيل مبدأ التكامل جيدًا، لذا تعكف على اتخاذ خطواتٍ لحماية نفسها من تحقيق المحكمة الجنائية الدولية. لذا، قرَّر مراقب الدولة في إسرائيل، القاضي يوسف شابيرا، في آب/أغسطس 2014 فتحَ تحقيق في عملية صنع القرار على المستويين العسكري والسياسي إبان عملية الجرف الصامد، مشيرًا إلى “جوانب في القانون الدولي” و”آليات التحقيق التي تتبعها إسرائيل في الشكاوى والمطالبات المتعلقة بانتهاكات النزاع المسلح وفقًا للقانون الدولي والمبادئ التوجيهية المحددة لإجراءات التحقيق.”
وفي 2 شباط/فبراير 2015، أفادت وسائل الإعلام أن فريقًا قانونيًا من مكتب رئيس الوزراء، والجيش الإسرائيلي، ووزارات العدل والشؤون الخارجية والدفاع، يعكف على إعداد تقرير مشترك حول عملية الجرف الصامد.
سوف يشكِّل قرارُ إسرائيل بالامتناع عن التعاون مع المحكمة عقبةً جوهريةً إضافية تعوق قدرة المدعي العام على إجراء التحقيقات، واختيار حالات محددة، وملاحقة المجرمين المزعومين. إن إحجام إسرائيل عن التعاون قد لا يعرقل الحالات الجلية والواضحة مثل أنشطة إسرائيل الاستيطانية وآثار الحصار المفروض على غزة وبعض الهجمات الإسرائيلية إبان عملية الجرف الصامد. ولكنه سوف يعوق قدرة المدعي العام على التحقيق في الحالات الأكثر تعقيدًا المتعلقة بالأعمال العدائية التي نفذتها إسرائيل في قطاع غزة، وبعض العمليات الإسرائيلية لإنفاذ القانون في الضفة الغربية. فإذا امتنعت إسرائيل عن عرض روايتها للأحداث، مثلًا، قد يستشعر المدعي العام عدم القدرة على إطلاق وإتمام تحقيق جنائي يزعم وقوع انتهاكات لقانون الاستهداف.
قد يخضع قرارُ فتح التحقيق في بعض الحالات لاعتبارات مضادة تتمثل في اعتبار “مصالح العدالة”. ففي حين لا ينبغي للمحكمة أن تتدخل في فرص إحلال السلام عند تحديد مصالح العدالة – وهو ما ينكره وجود المحكمة الجنائية الدولية بحد ذاته وينفيه مكتب المدعي العام رسميًا – فإن المحكمة قد تخلُص إلى أن هناك “أسبابًا جوهريةً تدعو للاعتقاد بأن التحقيق لن يخدم “مصالح العدالة” (المادة 53(1)). ومن الاعتبارات ذات العلاقة منعُ الجريمة، والأمن، وواجب حماية الضحايا والشهود.
ومع ذلك فإن الظروف التي يتسنى بموجبها الاحتجاج “بمصالح العدالة” هي ظروف استثنائية. وعلى ما يبدو أن نظام روما الأساسي يتطرق إلى احتمال أن يتسبب هذا المعيار المبهم بالضرر عن طريق منح الدائرة التمهيدية صلاحية إجراء مراجعة “صارمة” كما ذُكر أعلاه. وبالنظر إلى أن دور المحكمة هو “ضمان الاحترام الدائم لتحقيق العدالة الدولية،” فإن تفسيرًا ضيقًا “لمصالح العدالة” يتسق مع هدف النظام الأساسي وغايته. فمن المنطقي أن نتوقع بأن المحكمة سترى ضرورةً في التدخل، بحذر، في نزاع طويل الأمد يعيش ضحاياه فراغًا في المساءلة والمحاسبة.
سوف يكون المدعي العام كذلك ملزمًا بالنظر في درجة الخطورة من حيث الوضع العام والحالات المحددة. فإذا فتح المدعي العام تحقيقًا رسميًا يبدو مبررًا من حيث خطورة الوضع، فإن عليه بعدها أن يقرر أي الحالات المحددة مهمة بما يكفي لمتابعتها.
ما الحالات المحددة التي قد يقع عليها الاختيار؟
يدرس مكتب المدعي العام مسائل الاختصاص والمقبولية، وسوف يحدد في سياق العملية الحالات استنادًا إلى الأدلة المتوفرة، بما فيها تلك التي يقدمها الأفراد والجماعات. وسوف يحدد الحوادث والأنماط المحددة التي تدخل ضمن اختصاص المحكمة على الأراضي الفلسطينية (الضفة الغربية والقدس الشرقية، وقطاع غزة) بما في ذلك جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. وعند اختيار الحالات المحددة، سوف يراعي المكتب أيضًا اعتبارات مثل خطورة الحوادث المحددة والمتطلب “السياقي” القاضي بوجوب أن تكون كل جريمة مرتبطة بسياسات وممارسات تديم الفظائع. وبالإضافة إلى ذلك، سوف يراعي قدرتَه على متابعة كل حالة حتى النهاية – بدءًا بجمع الأدلة ومرورًا بالادعاء العام، وانتهاءً بجلب المجرمين المزعومين للمثول أمام المحكمة – في ضوء محدودية موارده.
لن يستطيع أي مُدعٍ عام أن يدرس، ناهيك عن أنْ يحقق، في كل جريمة حرب مرتكبة في فلسطين وواقعة ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية الزمني. غير أن البروفيسور بجامعة هارفاردأليكس وايتنج، الذي عملَ في مكتب المدعي العام، يصف هذا الوضع بقوله إن الأمر ينطوي في الغالب على “إجراء موازنات دقيقة وصعبة” بين الواقعية والمبدأ.
حين ينظر المدعي العام في درجة الخطورة، ولا سيما على مستوى الحالات المحددة، فإنه لا يقتصر على المعايير الكمية. فكافة الجرائم التي تدخل ضمن اختصاص المحكمة، وفقًا لممارستها الإجمالية، هي خطيرة بما يكفي لمتابعتها، غير أن الجرائم التي تجري متابعتها فعليًا تتوقف على سياسة مكتب المدعي العام. وعلى سبيل المثال، رغم أن الأشخاص الذين قضوا بسبب الصواريخ وقذائف الهاون التي أطلقتها الفصائل الفلسطينية المسلحة في قطاع غزة على إسرائيل قليلون نسبيًا، فإن الهجمات سوف تُعتَبر على الأرجح خطيرةً بما يكفي لإدراجها ضمن الحالات المحددة في إطار الوضع العام، ولا سيما في ضوء الأهمية السياسية المعلَّقة على التحقيق مع كلا الطرفين. ويمكن للسهولة النسبية التي تتسم بها متابعة بعض الحالات من حيث جمع الأدلة التي تؤيد الاتهامات بارتكاب جرائم حرب بموجب النظام الأساسي أن تقنع المدعي العام بمتابعة هذه الاعتداءات بموازاة حالات أخرى أكثر تعقيدًا.
وفي حالة جرائم الحرب، ينطوي النجاح في محاكمة المتهمين رفيعي المستوى على إثبات إساءتهم في استخدام السلطة وانتهاكهم سيادةَ القانون. وفي الحالة الإسرائيلية، قد يُثبت المدعي العام الانتهاكات على أساس القوانين المحلية والممارسة المؤسسية المتبعة. وفي هذا الصدد، يقول مارك أوزيل، وهو خبير في الفظائع الجماعية، إن “الهدف من القانون الدولي […] هو تحديدًا ليذكرنا بأن البيئة التشريعية التي تعنينا لا تقتصر مطلقًا على البيئة التشريعية الخاصة بدولتنا القومية وقانونها.”
إن محدودية الموارد المتاحة لمكتب المدعي العام وحساسيته السياسية تدفعه على الأرجح إلى ملاحقة أسلم القضايا من الناحيتين القانونية والعملية. تنطوي المستوطنات الإسرائيلية على مصادرة غير مشروعة ومكثفة للأراضي على نطاق واسع، ونقل المدنيين في دولة الاحتلال إلى الأراضي المحتلة بطرق مباشرة وغير مباشرة، لذا تُعتبر قضية المستوطنات من القضايا الأسلم والأكثر أمانًا من الناحية الاستراتيجية في سياق الوضع الإسرائيلي الفلسطيني. فما كان يتسنى بناء المستوطنات لولا الآليات القانونية والإدارية في أجهزة الدولة، وأعضاء الحكومات العسكرية والمدنية على حد سواء. تلعب الشركات الخاصة والأفراد أيضًا دورًا حاسمًا، فالشركات المسجلة لدى الإدارة المدنية الإسرائيلية (حكومة القائد العسكري في الأراضي الفلسطينية المحتلة)، مثلًا، تسهِّل إجراء معاملات عقارية احتيالية تستدعي إعلانها بأنها “أراضي دولة”، وغيرها من عمليات الاستيلاء على الأراضي غير المشروعة دوليًا. وهذه الشبكة من الجهات العامة والخاصة المرتكبة للانتهاكات هي شبكةٌ ممتدة بنيويًا ومهمةٌ جدًا بالنسبة لاعتبار “النجاعة” الذي يراعيه المدعي العام عند اختيار الحالات.
ومن المسائل القانونية الرئيسية بخصوص قضية المستوطنات مسألةُ ما إذا كانت طبيعة العمل الإجرامي المتمثل في مصادرة الأرض ونقل المستوطنين “مستمرة” طوال فترة وجود المستوطنة قيد النظر، أو ما إذا كانت الجرائم الواقعة ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية ستقتصر على عمليات المصادرة غير القانونية أو نقل المدنيين الإسرائيليين إلى الأراضي المحتلة بعد 13 حزيران/ يونيو 2014، وهو تاريخ سريان الاختصاص الزمني للمحكمة (وهو التاريخ الذي حددته فلسطين في إعلانها الصادر بموجب المادة 12(3)). وهناك ممارسات محدودة فيما يتعلق بهذا السؤال.
يمكن للمدعي العام أيضًا أن يحقق فيما إذا كانت المستوطنات والآثار المترتبة عليها – مثل وجود نظامين قانونيين منفصلين للفلسطينيين والإسرائيليين يرسخان الانتهاكات الممنهجة والمستشرية للقانون الإنساني – تخلق نظامَ فصلٍ عنصري. ورغم الأدلة الدامغة، قد يعتبر المدعي العام ملاحقةَ نظام الفصل العنصري قضائيًا أمرًا مُحدَثًا وتحديًا مشحونًا سياسيًا بدرجة مفرطة. وبما أن جريمة الفصل العنصري تتألف بشكل رئيسي من مجموعات فرعية من جرائم الحرب، فلربما يرى مكتب المدعي العام أن التحقيقَ في جرائم الحرب هذه وملاحقتها هو استراتيجيةٌ قانونية وسياسية أسلم وأقل تطلبًا للموارد مقارنةً بقضية إثبات أن النظام غير القانوني الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية يرقى إلى كونه فصلًا عنصريًا. وعلاوةً على ذلك فإن جدول الادعاء المعقد قد يؤدي إلى تأخر أكثر في فتح تحقيقات محددة.
نظرًا للنطاق الزمني للتحقيق بأثر رجعي بموجب إعلان فلسطين الجديد الصادر بموجب المادة 12(3)، فإن مكتب المدعي العام قد يدرس ويفتح عند اللزوم تحقيقات في الأعمال الإسرائيلية والفلسطينية إبان عملية الجرف الصامد التي شنتها إسرائيل في صيف 2014. وفي هذا الصدد، تكمن الصعوبة بالنسبة للمدعي العام في الحصول على الحقائق والتعرف إلى صناع قرار وقادة إسرائيليين محددين لضمان أن تجتاز الملاحقات القضائية الإجراءات الجنائية دون أن تفندها إدعاءات إسرائيل المضادة. تبدو بعض الحالات زاخرة بأدلة دامغة على وقوع جرائم حرب، بما فيها استهداف الأعيان المدنية المشمولة بحماية خاصة مثل المستشفيات، أو السياسة غير المعلنة المتمثلة في استهداف المنازل المأهولة بالسكان، والتدمير المكثف والمستهتر الذي استهدف المباني العالية في الأيام الأخيرة من الهجوم، وإقدام الجيش الإسرائيلي على استخدام المدنيين الفلسطينيين كدروع بشرية، والقصف العشوائي بالمدفعية الثقيلة في رفح والشجاعية وبيت حانون. فليس من غير المعقول، في ضوء ممارسة مكتب المدعي العام، أن نتوقع منه أن يفتح تحقيقات في الحالات الصعبة ويجمع حقائق تكفي لإصدار لوائح اتهام حتى لو لم تتعاون إسرائيل.
الحملة الإسرائيلية لمنع المحكمة الجنائية الدولية
لم يأت الرد الرسمي الإسرائيلي على تحركات فلسطين في المحكمة الجنائية الدولية مستَغربًا. فقد أمر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، كما تفيد التقارير، بإطلاق حملةٍ إعلامية ضد المحكمة الجنائية الدولية، بينما ذهب وزير الشؤون الخارجية افيغدور ليبرمان إلى حد القول إنه ينبغي إيقافها عن العمل. وحتى اللحظة، قاوم داعمو المحكمة وممولوها الرئيسيون، مثل ألمانيا والمملكة المتحدة وفرنسا، دعوةَ إسرائيل إلى قطع التمويل عن المحكمة. وليس واضحًا ما ستفعله هذه الحكومات حين يقرر مكتب المدعي العام بشأن خطواته القادمة.
حذّر بعض المعلقين من أن الحملة الإسرائيلية قد لا تخدم مصلحة حلفاء إسرائيل مثل الولايات المتحدة وكندا، أو حتى إسرائيل نفسها. فبعد سنوات من انسحاب الولايات المتحدة من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية في عام 2002، قال المستشار القانوني لوزارة الخارجية الأمريكية إن “علاقة التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية تخدم في نهاية المطاف مصالح الولايات المتحدة نظراً لِما تحظاه المحكمة من دعمٍ دولي كبير.” ويحاجج وايتنج بأن “انسحاب الولايات المتحدة من المحكمة الآن بسبب فلسطين” سيكون خطوةً تفتقر إلى الحصافة والحكمة وستؤتي نتائج عكسية. وحذَّرَ خبراء آخرون كذلك من التهديدات الأمريكية بقطع التمويل عن السلطة الفلسطينية.
بدأت إسرائيل هجمتها القانونية ضد انضمام فلسطين إلى المحكمة الجنائية الدولية في العام 2009 حين انبرت لنفي صفة فلسطين كدولة بُغية إبطال أهلية إعلانها الصادر في كانون الثاني/يناير 2009 بموجب المادة 12(3). ورغم أن قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 67/19 المؤرخ في تشرين الثاني/نوفمبر 2012 قد منحَ فلسطين صفة دولة مراقب غير عضو، فإن التأكيد على أن فلسطين لم تكن دولة كان الأساس لاعتراضات كندا والولايات المتحدة وإسرائيل المرفوعة إلى الأمين العام للأمم المتحدة، باعتباره وديعًا لنظام روما الأساسي، بشأن انضمام فلسطين.
ولأن المدعي العام لم يعد يرى مشكلةً في وضع فلسطين كدولة، ولا سيما بعد تشرين الثاني/نوفمبر 2012، فإن الهجوم القانوني الإسرائيلي على اختصاص المحكمة الجنائية الدولية تحوّل على ما يبدو إلى مسألة التكامل. فقد شرعت إسرائيل في سلسلةٍ من التحقيقات المحتمل أن تستغرق وقتًا طويلًا وتستنفد موارد كثيرة في الانتهاكات التي ارتكبتها قواتُها زعمًا في قطاع غزة، كما هو مبين أعلاه. ويصور الناطق باسم الجيش الإسرائيلي ومسؤولون آخرون فئاتٍ سكانيةً بأسرها من الفلسطينيين في قطاع غزة كدروع بشرية طائعين أو مكرهين، وذلك في إطار سعيهم غالبًا لتبرير الهجمات التي يمكن أن ترقى إلى مستوى جرائم حرب.
تظهر البحوث الكمية والنوعية بشأن تأثيرات إجراءات المحكمة الجنائية الدولية على الضرر غير القانوني اللاحق بالمدنيين، فضلاً على حملةِ إسرائيل الرامية لمنع المحكمة، إلى أن إسرائيل تحسب حساب التحقيقات والملاحقات القضائية التي تجريها المحكمة الجنائية الدولية. وفي هذا الصدد، يقول أحد الخبراء إن “غضب إسرائيل وحَنقها يعطي مصداقية للرأي القائل بأن المحكمة هي […] مؤسسةٌ ذات أهمية بالغة في السياسة الدولية.”
بعد الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية: استراتيجية لتوسيع نطاق المساءلة
المحكمةُ الجنائية الدولية هي واحدة من تجليات القيم والمعايير التي نصت عليها الدول في القانون الدولي. فحتى لو تباطأ المدعي العام في الدراسة الأولية، لن تكون تلك هي النهاية، فثمة عمليات أخرى لإنفاذ القانون الدولي، وبعضها جارٍ بالفعل، يمكنها أن تستفيد بصورة غير مباشر من آثار دراسة المحكمة الجنائية الدولية للانتهاكات الإسرائيلية.
إن وجود استراتيجية فلسطينية تهدف إلى الاستكثار من آليات وعمليات المساءلة الدولية والمشتركة بين الدول يمكن أن يخفف العبء السياسي على كاهل المدعي العام المضطر إلى التعامل مع أحد أكثر النزاعات تسييسًا في العالم. إن سعي فلسطين للتصديق على المعاهدات الدولية يتيح طائفة من الآليات والعمليات، كتلك المتاحة بموجب معاهدات اليونسكو ومنظومة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة. غير أن هناك الكثير من العمل اللازم فعله من أجل اغتنام الفرص التي يتيحها هذا المسعى.
هنالك فرصٌ كبيرة متاحة لإلزام القطاعين العام والخاص في أوروبا وأمريكا الشمالية بالوفاء بالتزاماتهما بموجب القانون الدولي – كما برهنت منهجية مجموعة متين في إطار علاقات دول الاتحاد الأوروبي بإسرائيل، وكما تؤكده موجة سحب استثمارات القطاع الخاص الأوروبي من إسرائيل في السنوات الأخيرة. فالقوانين المحلية في تلك الدول تتطلب منها أن تمحِّص السلوك الإسرائيلي وترفض التعامل مع الجهات الخاصة والعامة المشاركة في الأفعال الإسرائيلية غير القانونية أو العاملة في ظلها.
يمكن للدراسة التي تجريها المحكمة الجنائية الدولية بشأن سلوك إسرائيل أن تحفزَ الدولَ الأعضاء الثالثة، والشركات، والمنظمات الدولية على مراجعة تعاقداتها مع الكيانات الإسرائيلية وأن تحرص على عدم إضفاء صبغةٍ قانونية على السلوك الإسرائيلي غير القانوني. وفي بعض الحالات، يمكن للدول الثالثة أن تكون ملزمةً بإطلاق عمليات إنفاذ مشتركة بين الدول بهدف الحصول على ضمانات من إسرائيل بشرط استمرار العلاقات.
ومن الإجراءات التي يمكن للأطراف الثالثة أن تتخذها فيما يتعلق بالمخالفات الإسرائيلية: التعاون عسكريًا وقضائيًا وفي إنفاذ القانون، بما في ذلك التدريبات العسكرية متعددة الجنسيات (استُبعدت القوات الجوية الإسرائيلية في تشرين الأول/أكتوبر الماضي من قائمة القوات المسلحة المشاركة في التدريبات العسكرية في سردينيا)؛ بيع الأسلحة وقطع الغيار لإسرائيل، نظرًا لإقدام القوات الإسرائيلية على استخدام أسلحة معينة بوجه غير قانوني؛ فرض قيودٍ على سفر وأنشطة شخصيات إسرائيلية، سياسية وعسكرية ومن القطاع الخاص، بسبب مشاركتهم في أعمال غير مشروعة. وقد تبنى الاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، مجموعةً من هذه التدابير ضد روسيا بعد ضمِّها شبه جزيرة القرم وسيفاستوبول وتغيير ديموغرافيتها بصورة غير قانونية.
يمكن أن يبدأ إنفاذ القانون الدولي بالمؤسسات والقواعد الدولية ذات التطبيق الملموس من حيث الالتزامات وتدابير الإنفاذ في القانون المحلي. فعلى سبيل المثال، يمكن تحريك آليات اليونسكو لإصدار قرار يقضي بأن عمليات النهب الإسرائيلية المكثفة للقطع الأثرية، والحفريات الإسرائيلية غير القانونية في الأراضي المحتلة هي أفعال إجرامية دولية. ويمكن بعدئذٍ استخدام تلك القرارات لتحريك دعاوى محلية في دول ثالثة لمنع الأفراد والمؤسسات والشركات المشتركة في تلك الأعمال من ممارسة أنشطتها وجلب الممتلكات المكتسبة بطرق جرمية إلى الولايات القضائية التابعة للدول الأطراف الثالثة.
ما بعد مسعى الانضمام: الاستنتاجات والتوصيات
بناءً على الممارسات السالفة والاعتبارات السياسية المحتملة، يتنبأ بعض الخبراء بأن المحكمة الجنائية الدولية قد تستغرق سنوات قبل أن تفتح تحقيقًا تعقبه تحقيقات أخرى لإصدار قرارات، ما عدا قرارها بعدم فتح تحقيق. وثمة آخرون، مثل وايتنج، يقولون إن مكتب المدعي العام “لن يظل براغماتيًا إلى الأبد” و”سوف يُضطر إلى المضي قدمًا.” غير أن شدة تسييس الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ومحدودية الموارد المتاحة للمدعي العام، وعدم تعاون الدول يعني أن مسار فلسطين في المحكمة قد يتبع مسار أفغانستان وكولومبيا، حيث استغرقت الدراسات الأولية 8 و10 أعوام على التوالي. وهناك أيضًا الخطر المتمثل في أن يقوم مجلس الأمن، كما ذُكر آنفًا، بتأجيل أي تحرك للمحكمة الجنائية الدولية إلى أجلٍ غير مسمى بغية إنعاش عملية السلام المحتضرة. إن الرهانات الكبيرة المتوقفة على إجراءات المحكمة الجنائية الدولية تعني أن من الأهمية القصوى بمكان أن تعمل فلسطين ومؤيدوها بطريقة استراتيجية.
ينبغي لفلسطين أن تدرك أن خدمة مصالحها لا تكمن في إساءة تفسير المحكمة الجنائية الدولية كأداة سياسية بل في عدم تسييس دراسة المحكمة للوضع في فلسطين. وينبغي لها أن تتخذ موقفًا رسميًا موحدًا ومستنيرًا ازاء أهمية المحكمة كآلية محايدة تهدف إلى تطبيق العدالة الأساسية. لقد أُنشئت بموجب مرسوم رئاسي في 21 كانون الثاني/يناير 2015 اللجنة الوطنية العليا المسؤولة عن المتابعة مع المحكمة الجنائية الدولية وإعداد الملفات، والتشاور مع الخبراء الدوليين، والتنسيق مع المجتمع المدني. وأُنشئت كذلك لجنةٌ فنية ولجنةٌ معنية بالمجتمع المدني. وقد تعرضت اللجنة الوطنية العليا لبعض الانتقادات لافتقارها إلى الخبرة المتعمقة وعمليات صنع القرار الواضحة والشفافة، بالإضافة إلى أمور أخرى. ومع ذلك، ينبغي للجنة أن تحرص كل الحرص على أن يفهم مكتب المدعي العام النظامَ القانوني الإسرائيلي والقصورَ الجوهري الإسرائيلي في تطبيق القانون الدولي فهمًا دقيقًا وتامًا.
وفي الوقت نفسه، ينبغي إطلاع عامة الناس على مجريات الأمور. فرغم تنظيم حلقات عمل واجتماعات على طاولة مستديرة في الأسابيع الأخيرة، لا يزال عامةُ الجمهور مغيبين إلى حدٍ كبير بشأن الوضع الراهن، وقد تباينت التصريحات الرسمية الفلسطينية بشأن هذه المسألة، ونجمت عنها في أحيان كثيرة آثار عكسية.
ينبغي لفلسطين كذلك أن تقرنَ استراتيجيتَها القانونيةَ المتبعة في المحكمة الجنائية الدولية وخارجها بتدابير رئيسية داخلية تُظهر التزامها بالقانون الدولي. وينبغي أن تضمن الامتثال المحلي للقانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني، والقانون الجنائي من خلال التشريعات الكافية والممارسة المؤسسية. إن من المؤمل أن يحفزَ انضمامُ فلسطين إلى نظام روما الأساسي تعزيزَ الإصلاحات التشريعية والمؤسسية الضرورية، وأن يُسخِّر الحرص والقدرة المحلية على ملاحقة جرائم – وهذه إحدى نتائج الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية المعروفة باسم “التكامل الإيجابي”.
ثمة مسألةٌ أخرى على صعيد ترتيب الشؤون الداخلية لم تُعالج بما يكفي وهي تنطوي على هيكل الحكومة الفلسطينية ومسؤولياتها. فهناك حاجةٌ ملحّة للتمييز بين السلطة الفلسطينية وحكومة دولة فلسطين ومنظمة التحرير الفلسطينية التي تمثل الدولة خارجيًا.2 . ومن الأهمية بمكان أن نميز بوضوح بين تصرفات السلطة الفلسطينية، التي تخضع للإكراه السياسي والظرفي من جانب إسرائيل، وبين مواقف ممثلي منظمة التحرير الفلسطينية الذين يمثلون الدولة في علاقاتها الدولية.3 فحتى قضية المستوطنات ربما لن تكون واضحة ومباشِرة إذا فهمت المحكمة الجنائية الدولية إجراءات السلطة الفلسطينية بموجب اتفاقات أوسلو – التي تنص بوضوح على النشاط الاستيطاني في بعض الحالات، وإنْ كان بالإكراه – على أنها موافقة ضمنية من حكومة فلسطين على هذا النشاط.
إن تحرك المحكمة الجنائية الدولية قد يساهم على نحو غير مباشرة في توضيح موقف حماس داخل هياكل الحكومة الفلسطينية. فمسألة ما إذا كانت حماس، كحكومةٍ محلية، مسؤولةً بموجب معاهدات واتفاقيات القانون الدولي التي وقعتها حكومة فلسطين الائتلافية هي مسألة أساسية لأن مسؤولي حماس يُعتبرون رسميًا جزءًا من حكومة الوفاق الفلسطينية.
وختامًا، ولأن الطريقَ أمام تحقيقات المحكمة الجنائية الدولية يُتوقعُ أن تكون طويلةً ومضطربة، فإن من الضرورة بمكان أن نكسب دعم الدول الصديقة من أجل التحرك بصورة مستقلة على صعيد المحكمة. وعلاوةً على ذلك، فإن دعم الدول الصديقة، والدول التي أدرجت التزامها بالقانون الدولي في أنظمتها المحلية، سيكون ضروريًا لمواجهة جهود إسرائيل والولايات المتحدة لتسييس القضية. إن موقفَ الاتحادِ الأوروبي الموحدَ بشأن المحكمة الجنائية الدولية والتزامات الدول في سياساتها بأهمية تطبيق العدالة الأساسية التي تنص عليها المحكمة الجنائية الدولية هو “وسيلةٌ أساسيةٌ لتعزيز احترام القانون الإنساني الدولي وحقوق الإنسان،” وينبغي أن يكون الأساس للتبادلات البناءة التي يجريها المسؤولون الفلسطينيون والمجتمع المدني لطلب المشورة والخبرات وكسب دول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي إلى صفهم.
- تتقدم الكاتبة بشكرٍ خاص للأستاذ كيفن جون هيلر من كلية الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن، المحرر المشارك لمنتدى رأي قانوني/اوبنيو جوريسومؤلف مجموعة بارزة من المنشورات المهمة، على توجيهاته المستنيرة وشروحاته المفصلة. والشكر موصولٌ أيضًا لفكتور قطان، وشانتال ميلوني، وعطا هندي، والمحررين.
- للأسف قُدِّم إعلان فلسطين الصادر بموجب المادة 12(3) إلى المحكمة الجنائية الدولية في العام 2009 على ورقة تحمل ترويسة السلطة الفلسطينية وليس منظمة التحرير الفلسطينية
- See Valentina Azarov, An international legal demarche for human rights? Perils and prospects of the Palestinian UN bid, International Journal of Human Rights, Vol 18, No 4-5 (2014).