لمحة عامة
اجتاحت الأراضي الفلسطينية المحتلة على مدار العقدين الماضيين تغيراتٌ اجتماعية وسياسية وثقافية ومؤسسية. ويمكن اعزاء الكثير من تلك التغيرات إلى عملية أوسلو، ومنها إنشاء السلطة الفلسطينية، وإعادة ترتيب العلاقات الرسمية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وإشراك المانحين الدوليين، والتحول الجذري في الاقتصاد السياسي للأراضي المحتلة. وفي هذا الصدد، يحاجج عضو السياسات في الشبكة، طارق دعنا، بأن المجتمع المدني الفلسطيني أساسيٌّ لفهم هذه التغيرات المتراكبة التي أثرت سلبًا في المجتمع الفلسطيني. ويحدد الكاتب أربعةَ أبعادٍ “لمكمن العِلّة” منذ أوسلو – التحول في أجندة المنظمات، ودور القاعدة الشعبية، والعملية السياسة، وإنتاج المعرفة – ويختتم بعرض توصياتٍ تهدف إلى إحياء المجتمع المدني باعتباره بيئةً خصبةً لإحداث التغيير الاجتماعي الجذري.
مرحلتان لمسيرة المجتمع المدني
يُمثل مطلع التسعينيات في القرن الماضي حدًا فاصلًا بين مرحلتين في مسيرة تطور المجتمع المدني. اتسمت أولهما بروابطها الشعبية وتجذرها في حركة التحرر الوطني طِوال عقدي السبعينيات والثمانينيات قبل أوسلو، في حين تتسم الثانية إلى حدٍ كبير ببروز مجموعةٍ من المنظمات غير الحكومية ذات الطابع الاحترافي العاملة كوسيطٍ بين الدينامية العالمية والسياق المحلي.
إن ما يُعرف عمومًا اليوم بالمجتمع المدني الفلسطيني يضم طائفةً متنوعةً من الفاعلين كالنقابات العمالية والمنظمات الشبابية والشعبية والجمعيات الخيرية والنسائية والدينية والارثية والمعاهد التعليمية والمنظمات غير الحكومية المحترفة. وستقتصر هذه المقالة على تناول التغيرات الطارئة على المنظمات غير الحكومية المحترفة في المجتمع المدني والتي انتشرت وسادت منذ أوسلو على حساب أشكال أصيلةٍ أخرى من التنظيم في المجتمع المدني ولا سيما الحركات الجماهيرية.
أخذت المنظمات غير الحكومية في الانتشار إبان عملية أوسلو وغزو نظام الحُوكمة النيوليبرالي الذي أوجدته الوكالات المانحة والمؤسسات المالية الدولية. وهذا قاد الكثير من الفلسطينيين إلى تعديل فهمهم للكيفية التي ينبغي للمجتمع المدني أن يعمل بها من أجل تلبية متطلبات “عملية السلام” وما يرافقها من برامج بناء الدولة والتنمية الاقتصادية. وبناءً عليه، انخرطت شريحةٌ كبيرةٌ من المنظمات المحلية في مسار “الانجزة ” او “التنظيم الحرفي الغير الحكومي” الذي اكتسب أهميةً متزايدةً نظرًا لكثرة تلك المنظمات وقدرتها على جذب أموال المانحين والتحدث باسم المجتمع المدني الفلسطيني، وامتلاكها نهجًا إداريًا وهيكلًا هرميًا، واعتمادها على التمويل الأجنبي، وتنفيذها مشاريعَ منطلقةً من القمة إلى القاعدة لإحداث التغيير الاجتماعي بصرف النظر عن مجال عملها سواءً في التنمية أو الإغاثة الإنسانية أو حقوق الإنسان أو تعزيز الديمقراطية أو تمكين المرأة.
إن مقارنة المجتمع المدني القائم على العمل الجماهيري السائد قبل أوسلو بالمجتمع المدني الذي تقوده المنظمات غير الحكومية بعد أوسلو تكشف عن أربعة أبعادٍ متضادةٍ ضروريةٍ لفهم كيفية تحول المجتمع المدني الفلسطيني وتُبيِّن مَكمن العِلَّة في تلك العملية. وهذه الأبعاد هي التغير في أجندة المنظمات، ودور القاعدة الشعبية، ومكانة السياسة، وإنتاج المعرفة.
الأجندة الوطنية في مقابل الأجندة المعولَمة
شكّلت الأجندة الوطنية ركيزةً للحركات الجماهيرية الفلسطينية وصاغت بانتظام خطابات تلك الحركات وأهدافها بحيث اعتمدت مبادئ حركة التحرر الوطني وأدرجتها في تنظيمها على أرض الواقع.
عملت الحركات الجماهيرية على نحوٍ وثيق مع الأحزاب السياسية والقواعد الاجتماعية في البلدات والقرى ومخيمات اللاجئين كلِّها تقريبًا، ممّا مكَّنها من التعرف إلى الأجندات على أساس توليفةٍ فعالةٍ مكونةٍ من آليات ثلاث. فالحركات الجماهيرية:
- وفَّرت شكلًا مُسيَّسًا لتقديم الخدمات كان ضروريًا لدعم صمود المجتمعات المحلية. فهي لم تتطرق، على سبيل المثال، إلى مسألة الفقر كظاهرةٍ مستقلة وإنما كنتيجةٍ مباشرةٍ لسياسات الاحتلال الإسرائيلي. وفي الوقت نفسه، لم يكن تقديم الخدمات للسكان الأشد فقرًا مصوَّرًا كإغاثةٍ إنسانيةٍ بطابعها السلبي وإنما ضمَّ أبعادًا سياسيةً حاسمةً تصدت للسبب الجذري وراء المظالم الاجتماعية والاقتصادية. وقد كان ذلك فعالًا بوجه خاص في تعزيز روح التضامن والتمكين الجماعي.
- نمَّت الوعي العام بالقضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية وبأهمية إحياء التراث الثقافي، الأمر الذي كان له أهميةٌ بالغةٌ في عملية التمكين الجماعي. واشتمل رفع الوعي العام على تدريبات محددة من أجل التصدي للمشكلات الاجتماعية الداخلية، والمسائل الصحية، وأساليب البقاء الاقتصادي، وعلى لجانٍ متخصصةٍ (في الزراعة، والصحة، وتمكين المرأة) وفرت المساعدة التقنية لقواعدها الشعبية.
- استثمرت في التعبئة السياسية بُغية تحويل مظالم الناس إلى عملٍ جماعي ملموس في سياق النضال من أجل التحرير الوطني.
ومع انطلاق عملية أوسلو، غدت البيئة المؤسسية والعملية الإنمائية الفلسطينية والمجتمع الفلسطيني بعمومه خاضعةً لقسوة المساعدات الدولية المشروطة التي أثَّرت في الأجندة الوطنية تأثيرًا بالغًا. فقد اقتضت المساعدات المشروطة إعادةَ هيكلةٍ كبرى لمنظماتٍ محليةٍ عديدة لكي تتوافق مع إطار عمل أوسلو. وعليه، غيرت تلك المنظمات أجنداتها لخدمة “عملية السلام،” فأخذت تنفذ طائفةً متنوعةً من المشاريع الأكثر ملاءمةً لسياقات ما بعد النزاع. وأدى ذلك إلى تغيرٍ كبير في نظرة المنظمات لأنفسها وفي ارتباطها بحركة التحرر الوطني وقواعدها الاجتماعية النشطة سابقًا. فقد عدَّلت المنظمات غير الحكومية الفلسطينية رؤيتها من أجل استيعاب المطالب الخارجية، وأخذت على نحو متنامٍ تحدد المشكلات الاجتماعية المحلية ومتطلبات التنمية وفقًا للمعايير التي صاغتها “صناعة” التنمية الدولية والتي تميل إلى منح الأولوية للحلول العالمية للمشكلات المحلية ذات الخصوصية.
وهذا، بدوره، قوَّض قدرة المنظمات غير الحكومية على مقاومة إملاءات المانحين وعلى وضع خططٍ واقعيةٍ ترتكز على الأولويات الوطنية. ويتجلى هذا الوضع في انتشار ورش العمل والمؤتمرات والدورات التدريبية المنعقدةِ برعايةٍ دوليةٍ والمعنيةِ بتعزيز الديمقراطية والحكم الرشيد والمواطنة وحقوق المرأة وحل النزاعات وما شابه. وغالبًا ما تُعلِن المنظمات غير الحكومية عن تلك الأنشطة وتنظمها مع إظهار شعار الجهة المانحة الراعية للنشاط كالوكالة الأمريكية للتنمية الدولية أو الاتحاد الأوروبي أو مؤسسة فورد وغيرها. ويشير ذلك إلى الاعتماد الكبير لهذه المنظمات غير الحكومية على المانحين الدوليين في استمداد شرعيتها.
الجماعية في مقابل النخبوية
تميزت فترة ما قبل أوسلو بالعمل الجماعي رغم أن مستوى التعبئة كان يتباين من منظمة إلى أخرى. وكان ظهور اللجان الشعبية في الانتفاضة الأولى قصةً تكللت بالنجاح نتيجةً لثلاثة عوامل مترابطة. فقد اتسم هيكلها التنظيمي باللامركزية التي تعمَّقت بفعل سياسات الاحتلال القمعية، وبالمرونة الأفقية، وبالتواصل واسع النطاق ممّا مكنها من إشراك شريحةٍ عريضةٍ من السكان. وأُشرِك أعضاء اللجان في عملية صنع القرار، فأكسبهم ذلك مهارات في القيادة وساعدهم في التقدم إلى تولي أدوارٍ قياديةٍ، وهو ما عزَّز الطابع التشاركي للجان الشعبية وضَمِن أن قراراتها كانت تعكس استعداد الأشخاص المعنيين لتحديد الأجندات الفرعية والتنسيق فيما بينها في سياق عملهم اليومي. وكان لتحفيز الروحِ التطوعيةِ الجماعية لخدمةِ الصالح العام دورٌ حاسمٌ في رفد العمل الجماعي العام.
وكجزءٍ لا يتجزأ من سياسة الصمود، لعبت الحركات الجماهيرية دورًا رئيسيًا في تسييس وعي الناس، حيث استخدمت أساليبَ مختلفةً لتعزيز المشاركة الشعبية في المجال السياسي، ومنها استقطاب أعضاءَ جدد في الأحزاب السياسية، والتعبئة السياسية واسعة النطاق، وتنظيم العمل الجماعي. وساهم ذلك أيضًا في وضع سياساتٍ بديلةٍ من أجل التنمية والبقاء الاقتصادي. إن المساهمةَ الكبيرة التي قدمها المجتمع المدني في التجربة السياسية الفلسطينية إبان السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي أوجدت شعبًا يوصَفُ بالأكثرِ انخراطًا في الحياة السياسية في المنطقة وبرزَ في أجلى تعبيراته إبان الانتفاضة الأولى.
وفي مرحلةِ ما بعد أوسلو، وفَّرت مساعدات المانحين الدوليين للمجتمع المدني رواتب عالية وامتيازات اقتصادية أخرى. وبات بمقدور قادةِ المنظمات غير الحكومية أن يتفاعلوا مع السياسيين المحليين والدوليين والدبلوماسيين الأجانب، والبرلمانيين، ومسؤولي الأمم المتحدة، والوكالات الدولية. ووجِّهت لهم دعواتٌ في الكثير من الأحيان للمشاركة في الفعاليات والمؤتمرات الدولية وللظهور في وسائل الإعلام. لقد ساعدت تلك الامتيازات في إفراز نوعين من النخب، تضم النخبةُ الأولى قادةً وناشطين سابقين ينتمون عمومًا إلى الطبقة المتوسطة وينتسبون سياسيًا إلى الفصائل اليسارية، وهم ممن بنوا سمعتهم وقدراتهم المهنية من خلال نشاطهم السياسي السابق. أما النخبةُ الثانية فتضم جيلًا أصغر من المهنيين ذوي التوجه الوظيفي الذين اكتسب معظمُهم معارَفه ومهاراته من الجامعات الغربية أو الخبرة المهنية في الخارج. وهذه النخبةُ مطلعةٌ على آخر المستجدات على صعيد ديناميات صناعة المساعدات، وتمتلك في العادة شبكاتٍ واسعةٍ من الاتصالات الخارجية.
تتجلى نخبوية المنظمات غير الحكومية في جوانب أخرى منها التركيز المتنامي للسلطة في يد قلةٍ قليلة، حيث أصبحت الكثير من المنظمات غير الحكومية متمحورةً حول أشخاصٍ بعينهم لدرجة أن اسم رئيس المنظمة غير الحكومية بات يطغى على اسم المنظمة نفسها، بل إن بعض رؤساء المنظمات غير الحكومية الفلسطينيين ما فتئوا يشغلون مناصبهم منذ قرابةِ 30 عامًا! والمفارقةُ أن الجهات المانحة الرئيسية المعنية بقضايا الدمقرطة تدعم تلك الترتيبات المنافية للديمقراطية. إن التناقض بين خطاب تعزيز الديمقراطية والممارسات الداخلية المنافية للديمقراطية يثيرُ تساؤلاتٍ حول نزاهة تلك المنظمات غير الحكومية ومصداقيتها ويساهم في انعدامِ ثقةِ العامة بها. وبحسب استطلاع أجرته مؤسسة فافو النرويجية للدراسات والأبحاث سنة 2011، قال 59% من المشاركين في الاستطلاع إنهم لا يثقون بالمنظمات غير الحكومية الفلسطينية.
تتجلى المسافةُ الفاصلةُ بين المنظمات غير الحكومية والقاعدة الشعبية بوضوحٍ أكبر عند استخدام التوصيف السلبي للقواعد الاجتماعية بأنها “فئات مستهدفة” أو “عملاء” أو “أصحاب مصلحة” أو “مستفيدون”. فقد باتت هذه المفاهيم، المستخدمة على الدوام في تقارير وكالات التنمية الدولية، من المسلَّمات في لغة المنظمات غير الحكومية المحلية. وتنطوي هذه المفاهيم ضمنًا على عمليةِ استبعادٍ تُمعِن في إزالة التسييس عن الشعب بعامته، وتنفيس تعبئته، وخلع تطرفه، وتحويل القاعدة الشعبية الفلسطينية الصلبة المتماسكة سابقًا إلى مجموعات مجزأةٍ عاجزةٍ تقبع في الطرف المتلقي للخدمات والقيم من الخارج.
ومن أجل استدامة هذا التوجه النخبوي، تعمل العديد من المنظمات غير الحكومية الشبابية على استنساخ النموذج الليبرالي الغربي للقيادة المجتمعية. فتُدعى في الغالب مجموعاتٌ شبابيةٌ مختارةٌ بعناية للمشاركة في ندوات وورش عملٍ محلية ودولية مختلفة تسعى إلى تغيير وجهات نظر الشباب ونظرتهم المستقبلية بطريقتين: إعادةُ ضبطِ بوصلتهم السياسية لتنسجم وعملية أوسلو وكذلك تعزيز جهود التهدئة والقيم الديمقراطية الليبرالية والتسامح والتربية المدنية؛ وثانيًا إعادةُ ضبطِ بوصلتهم الأيديولوجية على أساس القيم النيوليبرالية المتمثلة في الفردية والنزعة الاستهلاكية، وعلى أساس تشجيع روح المبادرة، والخيارات العقلانية، والمسؤولية الذاتية، وتحمل المخاطر.
السياسة في مقابل اللاسياسة
اطلعت الحركات الجماهيرية، باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من سياسة الصمود، بدورٍ رئيسي في تسييس وعي الناس، كما يبين الحديث عن الروح الجماعية أعلاه. ولعبت المشروطية السياسية التي فرضها المانحون دورًا حاسمًا في خلق هوةٍ بين المدني والسياسي. فمن وجهة نظر المانحين، لا ينبغي أن يكون للمنظمات غير الحكومية الفلسطينية انتماءاتٌ سياسيةٌ أو أن تنخرط في أي شكلٍ من أشكال السياسة الوطنية، بل إن بعض المانحين ذهبوا إلى حدِّ تجريم المقاومة. وقد تَمثَّل الإجراءُ الأكثرُ مدعاةً للقلق في فرض معايير تقييدية للغاية مثل شرط مناهضة الإرهاب الذي فرضته في بادئ الأمر الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية سنة 2002، باعتباره شرطًا أساسيًا للتعاقد مع المنظمات غير الحكومية المحلية. وحذت حذوها، منذ ذلك الحين، جهاتٌ مانحةٌ أخرى ووكالاتٌ تابعةٌ للأمم المتحدة.
إن النظرة اللاسياسية في الظاهر لدى المنظمات غير الحكومية هي سياسيةٌ بطبيعتها لأنها تُفضي إلى نتائج سياسية لا ينبغي الاستهانة بها. فالسياسة، على سبيل المثال، جزءٌ لا يتجزأ من خطاب التنمية وممارستها، لكن التنمية تغدو غير مسيَّسةٍ بفضل تدخل المنظمات غير الحكومية. وهناك الكثير من المنظمات غير الحكومية المحلية التي تضرب مثالًا لهذا النوع من التنمية، وتختزل تعقيد السياق المحلي في برامج تقنية، ونادرًا ما تلتفت إلى المسببات الكامنة وراء مسائل عدم المساواة والظلم. بل إن المنظمات غير الحكومية الفلسطينية، بقبولها أولويات المانحين وأجنداتهم من حيث التمويل، تُصبح متورطةً في التهرب الغربي المتعمد من السياقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الكامنة في صميم تراجع التنمية الفلسطينية. وعلى وجه الخصوص، تستتفه التقارير والتقييمات الصادرة من المنظمات غير الحكومية مسألةَ التصدي للسبب الجذري المتمثل في البنيةِ الاستعمارية الإسرائيلية باعتبارها العقبةَ الرئيسيةَ الماثلة أمام التنمية. وتعكف، بدلًا من ذلك، على توفير الحلول التقنية للأعراض الإنسانية المزمنة المترتبة على عدوان الاحتلال.
ومن غير المستغرب أن التسييس الذي أزالته المنظمات غير الحكومية عن المجتمع المدني قد عطَّل بالضرورة تطوَّر الحياةِ السياسية. فقد شَهِد الشعب الفلسطيني، الذي كان يُنظر إليه ذات يومٍ باعتباره الأكثر تسييسًا في المنطقة، تدهورًا كبيرًا على صعيد الوعي والمشاركةِ السياسية. فالمنظماتُ غير الحكومية التي ترفد الحياةَ العامة بجرعاتٍ من المشاريع المحددة سلفًا المنطلقة من القمة إلى القاعدة والتي تتعامل مع مسائل رأس المال الاجتماعي، و[التربية المدنية](والتربية المدنية)، وأنشطة تعزيز السلام والديمقراطية، والحكم الرشيد، تُشكِّل عن غير قصد جزءًا من سياسة إعادة الهيكلة الاجتماعية التي تهدف إلى التأثير في المواقف الشعبية والسلوك الاجتماعي كوسيلةٍ لتحقيق غايةٍ سياسية، ألا وهي تعزيز استقرار ما يُعرف بعملية السلام.
إن إزالة التسييس عن شريحةٍ كبيرةٍ من المجتمع المدني الفلسطيني يساعد في استدامة الوضع السياسي الراهن ويلغي نظام الضوابط والموازين التي يمارسها المجتمع المدني على السلطة الفلسطينية. وقد برَزَ الدعم الواضح الذي تقدمه المنظمات غير الحكومية للوضع السياسي الراهن بجلاءٍ أكبر عندما قررت منظماتٌ غير حكوميةٍ عديدةٌ أن توائم برامجها مع أهداف خطة فياض للإصلاح والتنمية التي واجهت انتقادات واسعة (خطة الإصلاح والتنمية الفلسطينية 2008-2010) وما تبعها.
المعارف الأصيلة في مقابل معارف الاستعمار الجديد
أوجدَ المجتمع المدني الفلسطيني إبان السبعينيات والثمانينيات جسمًا معرفيًا هدَفَ إلى الحفاظ على الوعي السياسي القائم على مبادئ المقاومة وتقرير المصير. وكان هذا الجسم المعرفي مركزيًا في بيئةٍ أصيلةٍ شدَّدت على الثقافة المحلية باعتبارها حجرَ الزاوية في بناء الهوية الجماعية ونشر ثقافة المقاومة. وركَّزت المعارف المنبثقة بوجه خاص على المراحل التاريخية المختلفة التي مرَّ بها النضال الفلسطيني المناهض للاستعمار البريطاني ومن بعده الصهيوني. وتضمنت عملية البناء المعرفي هذه تجاربَ ثوريةً أخرى لربط المقاومة الفلسطينية بحركات التحرر في العالم الثالث كالحركات في الجزائر وفيتنام وجنوب إفريقيا. واستند جزءٌ أساسي من هذه المعارف المناهِضة للاستعمار إلى الأسس الأيديولوجية للعروبة، والماركسية، والاشتراكية وغيرها.
اهتزّ نظام الإنتاج المعرفي المناهِض للاستعمار بفعل التغيرات الصادمة التي جلبتها أوسلو. فمع ازدياد المنظمات غير الحكومية، تحول الإنتاج المعرفي جذريًا لينسجم والمعارف التي تروجها المؤسسات الغربية الليبرالية. وتقوم هذه الأشكال الجديدة من المعرفة على مفاهيم الاستعمار الجديد المتمثلة في “التحديث الثقافي” التي تهدف إلى تغيير الهياكل والعلاقات الاجتماعية بغرض الهيمنة والسيطرة عليها. واليوم، تضطلع المنظمات غير الحكومية الفلسطينية بدورٍ أساسي في نقل هذه المعرفة وتسويقها واستهلاكها.
لا تقتصر المنظمات غير الحكومية على إنتاج المعرفة الهادفة إلى تضييق تعريف المجتمع المدني، بل تُنتِج كمًّا كبيرًا من المنشورات والبحوث والمؤتمرات والندوات التي تنزِع إلى تغيير وجهات النظر المحلية ورفد مجتمع المانحين بمعلومات مفصَّلة عن السياق المحلي. وفي كلتا الحالتين تؤثر تصورات المانحين في التوجه العام لإنتاج المعرفة أو تتدخل فيه تدخلًا مباشرًا.
تبلغ نسبة البحوث التي تجريها المنظمات غير الحكومية في الأراضي المحتلة 90% من مجموع البحوث، في حين تقدم الجامعات الفلسطينية مساهمةً متواضعةً تبلغ نسبتها 10%. ويكشف هذا الفارق الهائل منطقَ السوقِ الذي يتحكم بإنتاج المعرفة والذي يسعى إلى تمكين بحوث القطاع الخاص على حساب المؤسسات التعليمية العامة.
وعلاوةً على ذلك، ينبغي للمرء أن يلاحظ أنه لا يترتب على هذه الطريقة في إجراء البحوث أثرٌ “نفعي متواتر”. بل إنها تساهم في تشتيت دوائر البحوث الفلسطينية مع ممارستها شبهَ احتكارٍ لهذه الصناعة. فبالإضافة إلى تهميش دور الجامعة في إنتاج المعرفة، أفرز هذا الاحتكار شريحةً من الباحثين الأقدمين العاملين بالتعاقد القائمين على تقويض قدرة الباحثين والخِريجين الجدد على الحصول على فرصٍ أفضل واكتساب المهارت. لذلك، لا يسعُ المرءَ إلا أن يستنتج أن إنتاج المعرفة في فلسطين ليس عمليةً أصيلةً تعكس الشواغل المحلية الحقيقية، بل هي صدى لتوصيات المانحين ومصالحهم.
تحرير المجتمع المدني الفلسطيني
لم يَفُت الوقت بَعدُ لإنقاذ المجتمع المدني الفلسطيني ممّا تعرَّض له من تقويضٍ متعمدٍ وغيرِ متعمد منذ أوسلو بسبب تكاثر المنظمات غير الحكومية بطريقةٍ تخدم “عملية السلام” ومصالح الجهات المانحة. وثمة وسائل عديدة لإنقاذه منها ما يلي:
- ينبغي لناشطي المجتمع المدني والممارسين والأكاديميين أن يعيدوا التفكير سويًا بمفهوم المجتمع المدني على نحوٍ يتجاوز تقييداته الحالية والتركيز الضيق المقتصر على المنظمات غير الحكومية المحترفة. وينبغي لهذه الجهود، بوجه خاص، أن تعيد تركيز النقاش حول وضع رؤيةٍ للمجتمع المدني تولي الأولوية لأجندة التحرر الوطني، والتعبئة الشعبية، والمشاركة، والمقاومة، والسياسة والمعرفة المناهضة للاستعمار.
- ومن الضرورةِ بمكان أن تُعطى السيادة والأولوية للتصورات الوطنية ولفهم تعقيدات السياق المحلي. أي أنه ينبغي لمنظمات المجتمع المدني أن تنظر إلى المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية من منظورٍ محلي، وأن تقدم حلولًا مبنيةً على مقاربات متدرِّجة. وهذا يتطلب هياكلَ تشاركيةً وديمقراطيةً تركز على العنصر البشري مثل التعاونيات والنقابات العمالية والحركات النسائية والشبابية وغيرها من أشكال التنظيم الاجتماعي الشعبي. إن النهج التشاركي هو أفضلُ وسيلةٍ لضمان أن المهمشين والمستبعدين من عمليات التنمية قادرون على الانخراط في الحياة العامة وفقًا لشروطهم. وفي الوقت نفسه، لا بد من الجمع بين الخبرات السابقة القيِّمة وتجارب نضالات الشعوب الأخرى في العالم.
- هناك حاجةٌ لتصور بدائلَ لنظام المعونة الحالي وذلك بإيجاد مصادر تضامنية جديدة لتمويل أنشطة المجتمع المدني. وقد يشمل ذلك مخططات التمويل الذاتي التي من شأنها أن تُشرِك المزيد من الفلسطينيين في الشتات، ومجموعات التضامن الدولي، وحركات العدالة الاجتماعية، وأن تساعد في تقليل الاعتماد على التمويل المشروط.
- ينبغي للمجتمع المدني الفلسطيني أن يتحدى ركائز نموذج التنمية الحالي الذي ثبت ضرره وعدم قابليته للاستدامة لأنها تناقِض الحقائق الأساسية على أرض الواقع. وفي المقابل، ينبغي للجهات الفاعلة في المجتمع المدني المعنية بالتنمية أن تحدد الأسباب الهيكلية التي تعوق التنمية وأن تستحدث نُهُجًا مبتكرة للتنمية تضع الاستدامةَ الذاتيةَ والمقاومةَ الاجتماعيةَ والاقتصاديةَ والثقافيةَ فوق المعايير التقنية المصطنعة.
وهذه بعض الطرق التي يمكن من خلالها لمنظمات المجتمع المدني وقواعدها الشعبية أن تمارس التمكين المتبادل وأن تساهم مساهمةً حقيقيةً في النضال الفلسطيني من أجل تقرير المصير وإحقاق العدالة وإحياء الدور الحيوي الذي اطلعت به إبان الانتفاضة الأولى.