The Politicization of Public Sector Employment and Salaries in the West Bank and Gaza

ملخص تنفيذي

لا تزال السلطة الفلسطينية عاجزةً عن تلبية احتياجات موظفيها العموميين. وباتت مسألة الراتب في الضفة الغربية وغزة تحظى بتغطية إعلامية واسعة في الآونة الأخيرة. تُبرز هذه الورقة السياساتية ممارسة السلطة الفلسطينية في تسييس الوظيفة والراتب في القطاع العام الفلسطيني، وكيف تستغلهما في المقايضات السياسية وليس كحقٍ طبيعي للموظفين. ويرى المؤلفان أن الفجوةَ الهائلة في الرواتب بين موظفي القطاع العام تمثِّل مصدرًا أساسيًا لعدم المساواة في المجتمع الفلسطيني.

دون الانتقاص من دور استراتيجيات النظام الإسرائيلي في التلاعب بمصادر تمويل السلطة الفلسطينية، مثل أموال المقاصة والتسرب المالي، ومن دور التداعيات الاقتصادية المترتبة على جائحة كوفيد-19، تركز هذه الورقة على التعرف إلى الآليات الداخلية المستخدمة في السلطة الفلسطينية في توزيع الموارد المالية على شكل وظائف ورواتب كوسيلةٍ لخدمة أجندة النخبة المهيمنة. وتختم الورقة بتوصيات حول سُبل معالجة هذا الوضع وتحقيق مساواة اقتصادية حقيقية.

تأسَّست السلطة الفلسطينية عام 1994، واتسمت بقطاعها العام الموسَّع على المستويين المدني والأمني، حيث بلغ عدد العاملين في القطاع العام 39,000 موظف في 1994، وبحلول العام 2003 ارتفع هذا العدد إلى 124,000. تستند التعيينات في السلطة الفلسطينية إلى الولاء الفصائلي والمحسوبية، ما يؤدي إلى تعيين موظفين غير مؤهلين في مناصب رفيعة. ومن صلاحيات رئيس السلطة الفلسطينية تعيين وكلاء الوزارات، والمدراء، والمحافظين، ورؤساء السلطات والهيئات العامة، والمؤسسات العامة غير الوزارية والذين في معظمهم من أتباع حركة فتح.

اضطُرت السلطة الفلسطينية بسبب عجزها عن تلبية معظم التزاماتها الاقتصادية إلى الاستجداء من الوكالات المانحة الدلية، واضطُرت بالتالي إلى الامتثال إلى معاييرها وشروطها التي زادت تشددًا. واشتمل ذلك على فرض التنسيق الأمني على السلطة مع إسرائيل والولايات المتحدة، ما أفضى إلى تأخيرٍ إضافي في دفع رواتب موظفي القطاع العام.

تفاقم الوضع سوءًا بسبب الانقسام السياسي الذي أصاب القيادة الفلسطينية عقب فوز حماس في انتخابات 2006. فقد ردت إسرائيلُ بالامتناع عن تحويل عائدات المقاصة إلى الفلسطينيين، بينما توقفت تقريبًا كل المساعدات والمنح الدولية المقدمة للحكومة الفلسطينية. وثم في 2008، نفَّذ رئيس الوزراء سلام فياض سياسات نيوليبرالية تبنت مقاربةً تقشفية إزاء التوظيف في القطاع العام. ولكن الخطة فشلت في تغيير واقع التضخم الوظيفي في الجهاز البيروقراطي للسلطة أو التعيينات المرتبطة بالولاءات السياسية والزبائنية والمحاباة.

وفي 2017، فرضت السلطة الفلسطينية سلسلةً من العقوبات على حكومة الأمر الواقع في غزة. وتجلَّت العقوبات في عدة أشكال أبرزها قطع رواتب الموظفين مما أثَّرَ كثيرًا في كافة القطاعات الاقتصادية في غزة. كما استمر العمل بالعقوبات التي جاءت بإحالة عدد من الموظفين إلى التقاعد المبكر. واستمرت العقوبات حتى نهاية النصف الأول من العام 2018، حيث استلم 32,000 موظف في غزة 50-70% فقط من رواتبهم.

وعلاوة على ذلك، يعاني القطاع العام من التفاوت الاقتصادي واللامساواة، حيث يتقاضى أكثر من نصف العاملين في القطاع العام راتب 2200 شيقل (664 دولار) فأقل، في حين تصل رواتب بعض مدراء المؤسسات العامة أكثر من 10 آلاف دولار شهريًا. وتزداد الفجوة اتساعًا بنحو 15% لصالح العاملين في قطاع الأمن مقارنة بموظفي القطاع المدني.

تتجه السلطة لتخفيف وطأة الضغوطات الاقتصادية التي تواجهها، وتناقص المساعدات الدولية، من خلال إلقاء هذا العبء على كاهل السكان باستخدام أساليب مثل خفض مصاريف الرعاية الاجتماعية على ذوي الدخل المحدود، وقطع مدفوعات موظفي غزة، وزيادة الضرائب على المزارعين والتجار الصغار. بينما تُحجِم السلطة عن وضع خطط استراتيجية لعمل استقطاعات واسعة من رواتب كبار الموظفين وإعادة توزيعها بشكل أكثر عدالة.

إنَّ ما تمارسه السلطة الفلسطينية من تسييس القطاع العام والراتب يمثل إساءةً جليةً لاستخدام السلطة. ولمعالجة هذا الوضع، لا بد من تنفيذ التدابير التالية:

  • يجب على الحكومة إعادة بناء الهياكل التمثيلية وإبطال سياسة حكم الحزب الواحد.
  • يجب تعزيز استقلال القضاء، بما في ذلك تعيين قضاة على أساس الجدارة والاحتراف.
  • يجب على الحكومة أن تُقرَّ بطاقات الوصف الوظيفي.
  • يجب على الحكومة أن تلتزم بمعايير تضمن حق الفلسطيني في العمل في الوظائف العامة.
  • يجب على الحكومة أن تضع سياسة ومعايير لتحديد رواتب ومكافآت رؤساء المؤسسات العامة.
  • يجب إعادة إحياء النقابات العمالية المستقلة، والتي تمثِّل العمال والموظفين ومصالحهم بشكل ديمقراطي وشفاف، بعيدًا عن تأثيرات النخب السياسية والاقتصادية والحزبية أو التهديدات الأمنية.
  • يجب على منظمات المجتمع المدني أن تدعم الحِراكات النقابية المطلبية، ويجب أن تكون هذه الحِراكات القاعدية جزءًا من جُهد وطني جاد لإعادة النظر في بنية السلطة جذريًا، مع الأخذ في الحسبان الدورَ الأوسع لإعادة بناء الحركة الوطنية ومؤسساتها التمثيلية.

تمهيد

تعكس الوظيفة العامة والراتب في الضفة الغربية وغزة حالة من التأهب والتوجس والانتظار الدائم لدى الفلسطينيين، كنتاج لحالة عدم الاستقرار والتقلبات السياسية التي تمر بها السلطة الفلسطينية منذ نشأتها في عام 1994، سواء في علاقتها بالاحتلال الإسرائيلي والدول المانحة، أو نتيجة للصراعات السياسية الداخلية وتسييس الوظيفة العامة واستغلالها في خدمة الشبكات الزبائنية الخاصة وشراء الولاءات والمحسوبيات. 1

وهذا ما جعل الراتب أحد القضايا البارزة التي تطغى على النقاشات العامة بشكل دائم، فيكاد هاجس الراتب يحول الحالة الفلسطينية إلى حالة فريدة من نوعها حيث يشعر العديد من الفلسطينيين بالقلق المستمر بشأن متى سيتلقون رواتبهم، وإذا على الإطلاق. فتقدم وسائل الإعلام المحلية أخبار عاجلة شهرية حول موعد الراتب ونسبته، ويتفاعل مستويات عالية من الجماهير على وسائل الإعلام الاجتماعي حول موضوع الراتب، لاسيما من خلال الصفحات المتخصصة في نشر أخبار الراتب في السلطة الفلسطينية.

تسلط هذه الورقة السياساتية الضوء على تسييس السلطة الفلسطينية للوظيفة والراتب في القطاع الفلسطيني العام، وآليات استغلالهما بوصفهما مقايضة سياسية وليس حقًا من الحقوق القانونية للموظف التي لا يجوز المساس بها. تجادل الورقة بأن الفجوات الكبيرة في توزيع الرواتب تمثل أحد مصادر اللامساواة الاقتصادية في المجتمع الفلسطيني.

وبرغم أن هذه الورقة تأخذ بعين الاعتبار بعض أساليب إسرائيل في التلاعب بمصادر تمويل السلطة مثل أموال المقاصة والتسرب المالي، فضلًا عن الخسائر الاقتصادية الناتجة عن جائحة كوفيد-19 والذي تسبب في أضرار جذرية في قدرة السلطة على تلبي احتياجات الشعب الفلسطيني الاقتصادية، إلا أن تركيز الورقة الأساسي يكمن في ضرورة تبيان الآليات الداخلية للسلطة في توزيع موارد المالية على شكل وظائف ورواتب لخدمة أجندة النخب المهيمنة، من أجل ترسيخ سطوتها وإقصاء كل من يخالفها سياساً، أو حتى من له مطالب إصلاحية. ويختتم الموجز السياساتي بتوصيات لمعالجة هذا النظام.

تضخم القطاع العام والراتب والشبكات الزبائنية

استند تأسيس السلطة الفلسطينية عام 1994 إلى تشكيل قطاع عام واسع من وزارات وهيئات حكومية وأجهزة بيروقراطية في القطاعات المدنية والأمنية، وكان الهدف الرئيس من وراء هذا التضخم هو استيعاب أكبر قدر من الموالين والحزبيين بغرض ضمان الاستقرار الداخلي للسلطة في فترة سنوات التأسيس. 

بدايةً، كان عدد الموظفين في القطاع العام 39 ألف موظف (25 ألف موظف مدني، 14 ألف موظف أمني)، تم تعيينهم بطريقة عشوائية تخللها اعتبارات المحسوبية، والمحاباة، واعتبارات حزبية وسياسية، إضافة إلى تعيين العديد من الأشخاص غير المؤهلين في مراكز وظيفية عليا، وأحيانا دون وجود وظائف شاغرة. استمر هذا الواقع على مدار التسعينات، حيث تضخمت مؤسسات السلطة بشكل فوضوي بسبب التعيينات المتسارعة، وبلغ عدد الموظفين في العام 1997، أي بعد ثلاث أعوام على نشوء السلطة، 83 ألف موظف بتكلفة حوالي نصف مليار دولار، أي 55% من النفقات الجارية، تمول في معظمها من الإيرادات المتأتية من المانحين وأموال المقاصة والتي هي مجموع الضرائب الفلسطينية التي يجبيها الاحتلال ويقوم بتحويلها للسلطة الفلسطينية مقابل خصم 3% كعمولة إدارية.

وفي سنوات الانتفاضة الثانية وما رافقها من صعوبات مالية نتجت عن تضييقات المانحين وتلاعب إسرائيل بتحويل أموال المقاصة، استمرت فوضى التوظيف في السلطة الفلسطينية دون رادع، حيث وصل عدد موظفين القطاع العام عام 2003 حوالي 124 ألف موظف (71 ألف مدني، 53 ألف أمني)  بتكلفة رواتب الموظفين 665 مليون دولار. 

رئيس السلطة الوطنية هو الذي يعين وكلاء الوزارات، والمدراء، والمحافظين، ورؤساء السلطات والهيئات العامة، والمؤسسات العامة غير الوزارية والذين في معظمهم من أتباع حركة فتح Share on X

وقد افتقرت هذه التعيينات الى المهنية، وتم ربطها أساساً بالولاءات السياسية، وبالنظر إلى المناصب العليا على وجه الخصوص وآليات التعيين، فقد كانت التعيينات تتم بقرار رئيس السلطة حيث أن رئيس السلطة الوطنية هو الذي يعين وكلاء الوزارات، والمدراء، والمحافظين، ورؤساء السلطات والهيئات العامة، والمؤسسات العامة غير الوزارية والذين في معظمهم من أتباع حركة فتح.

دفعت المخاطر المالية وتراجع قدرة السلطة على دفع فاتورة رواتب الموظفين، مما قد يهدد وجودها المتهالك أصلاً بفعل العدوان الإسرائيلي، إلى الاستجداء أكثر بالمانحين والامتثال إلى معاييرهم وشروطهم التي زادت تشدداً ورقابة، بما في ذلك من خلال تدخلات سياسية مباشرة في قرارات السلطة. فمثلا أوصى البنك الدولي، بالاشتراك مع العديد من  المانحين الغربيين، بتكثيف السياسات النيوليبرالية، وإعادة هيكلة السلطة ومؤسساتها العامة وأجهزة الأمن الفلسطينية بشكل منهجي لفرض الاستقرار السياسي عن طريق ربطها بمصالح الأمن الإسرائيلي والأمريكي.

ونتيجة لذلك تأسّس مجلس الوزراء عام 2003 ووُضعت خطة المائة يوم للإصلاح، وأُنشيء الحساب الموحد، واتخذت الحكومة العديد من القرارات لضبط عمليات التوظيف وتنظيم العلاقة مع ديوان الموظفين فيما يتعلق بالقطاع المدني، وما رافقها من مأسسة التعيينات والترقيات. إلا أنه وبالرغم من الإجراءات المتخذة للحد من التوظيف بلغَ عدد الموظفين عام 2005 مستوى غيرَ مسبوق – 150 ألف موظف، 79 ألف مدني، 71 ألف عسكري.

وبعد الانقسام الفلسطيني-الفلسطيني وتقلُّد حكومة تسيير الأعمال، أصدر رئيس الوزراء سلام فياض، قرارًا يقضي بوقف جميع التعيينات بعد 31/12/2005، ووقف دفع الرواتب المترتبة عليها، وتم تخفيض عدد الموظفين إلى 150 ألف موظف منتصف العام 2007 بعد أن وصلت إلى أكثر من 180 ألف موظف. وبعد تقلد سلام فياض رئاسة الوزراء، تم إطلاق خطة التنمية الفلسطينية 2008-2010 التي تضمنت برامج الإصلاح المالي وإدارة المال العام وتنفيذ رزمة من السياسات النيوليبرالية التي اتخذت نظرياً منحى تقشفياً في التوظيف. 

ولكن لأسباب استراتيجية تتعلق بالحفاظ على قاعدة مجتمعية وحزبية داعمة للسلطة، قامت السلطة بحفظ حالة من التوازن ما بين متطلبات التقشف وواقع التضخم الوظيفي في الجهاز البيروقراطي للسلطة من خلال الاستمرار بتبني نمط التوظيف المرتبط بالولاءات السياسية والزبائنية والمحاباة والعلاقات الخاصة. فعلى سبيل المثال، بلغ عدد الموظفين عام 2009 الذي يتقاضون راتبًا من حكومة السلطة الفلسطينية (حكومة الضفة) 169 ألف موظف (91 ألف موظف مدني، 77 ألف موظف أمني) بتكلفة رواتب 1.4 مليار دولار، منهم أكثر من 17 ألف موظف يتلقون رواتبَ دون أن يكونوا على رأس عملهم. وعند انتهاء ولاية حكومة سلام فياض كان عددُ الموظفين في القطاع العام قد بلغ 180 ألف موظف، أي حوالي 22% من القوى العاملة، بتكلفة رواتب حوالي 2 مليار دولار. 

وبرغم الادعاء بالقيام بإصلاحات واسعة النطاق وبناء المؤسسات على أسس مهنية، استمرت الحكومات الفلسطينية المتتالية في تبني معيار تسييس الوظيفة العامة وتحديد مستحقي الراتب بناءًا على اعتبارات مصلحية خاصة، مما كان له بالغ الأثر في توسعة الشبكات الزبائنية والعلاقات الشللية. وتلعب الصراعات الداخلية بين رموز السلطة وتدخلات الأجهزة الأمنية المتعاظمة في المؤسسات المدنية الدورَ الأساسي في العملية، ويأتي ذلك كجزء من المنافسة المتصاعدة بين مراكز القوة في السلطة من أجل تقوية قواعدها وزيادة نفوذها. 

فمثلاً، وبرغم ما أُشيع بأن حملة الإحالة إلى التقاعد المبكر في العام 2017 لحوالي 22 الف موظف، جاءت تحت ذريعة تقليص عدد العاملين في القطاع العام، وتقليص فاتورة الرواتب، الا أن تقرير أمان للعام 2018 أشار إلى أن “قرارات إحالة موظفين للتقاعد المبكر ‘إجباريا’ كشفت استغلال بعض المسؤولين لها بهدف تصفية حسابات حزبية أو شخصية حيث تمت إحالة البعض للتقاعد المبكر قسريا بالرغم من أن تقييمهم كان جيدا، كما أنها شجعت وجود وممارسة الواسطة لاستثناء بعض الموظفين بتأثير وتدخل شخصيات متنفذة.”

يتضمن ذلك أيضاً تقليص عدد الموظفين من خلال تصفية الخلافات الحزبية، وإحالة الموظفين إلى التقاعد وفقا لانتماءاتهم السياسية، فعلى سبيل المثال تم إحالة العديد إلى التقاعد المبكر قسريا، أو نقلهم من مناطق عملهم لمناطق بعيدة كإجراء عقابي على خلفية مشاركتهم ونشاطهم في الأنشطة المطلبية النقابية، وعلى خلفية انتماءاتهم السياسية دون وجود أي معايير واضحة تبين آلية التقاعد المبكر.

التوظيف والراتب في الانقسام السياسي الفلسطيني

يبرز تسييس السلطة للوظيفة العامة والراتب في القطاع العام بشكل جلي في تمكين الشبكة الزبائنية للسلطة وخدمة المصالح الخاصة للرئاسة ونخب السلطة المتنافسة، فهي تستغل الوظيفة والراتب بشكل استراتيجي في صراعها مع سلطة حماس وغزة.

تعارضَ فوزُ حركة حماس في المجلس التشريعي وتشكيل الحكومة الفلسطينية بعد انتخابات 2006 مع التوقعات الإسرائيلية وأجندة المانحين، وقد أفضى ذلك إلى قيام اسرائيل بتجميد تحويل أموال المقاصة، والذي بلغ 4.8 مليار شيقل (1.5 مليار دولار) في 2006-2007، ووقف المساعدات والمنح الدولية للحكومة الفلسطينية بشكل شبه تام. ونتيجة لقطع الرواتب لعدة أشهر، تأثر قطاع واسع من العائلات المعتمدة كليًا على رواتب السلطة، وصل إلى 942 ألف فلسطيني تقريبًا (25% من السكان)، كما ارتفعت نسبة الفقر في الضفة الغربية وغزة في عام 2007 إلى 60% وهي أعلى نسبة تم تسجيلها خلال عقد من الزمن.

كان للرغبة في السيطرة على عملية التوظيف وتحديد مستحقي الرواتب دورٌ مهم، رغم قلة ذكره، في فهم علاقة الصراع بين حماس وفتح ما بعد انتخابات 2006 وما رافقها من انقسام بين سلطتي رام الله وغزة. فبرغم قطع المساعدات المالية الدولية عن الحكومة التي شكلتها حماس بعد انتخابات 2006، الا أن الإدارة الأمريكية استمرت في تحويل الأموال لمكتب رئيس السلطة محمود عباس من أجل صرف رواتب القوات الأمنية الموالية له لاسيما قوات الحرس الرئاسي بهدف ردع تغلغل حماس في القطاع الأمني للسلطة. 

طلبت السلطة من الموظفين العموميين في غزة بالاستنكاف عن العمل عقب فوز حماس في الانتخابات، مع استمرار دفع رواتبهم، والبالغ عددهم آنذاك حوالي 70 ألف موظف Share on X

وعقب الانقسام السياسي، حاولت كلتا السلطتين في رام الله وغزة فرض هيمنتهما على الوظيفة العامة، وإقصاء كل من لا ينسجم وشروط الحزب المسيطر. فمثلاً، بعد قيام السلطة بتشكيل حكومة تسيير الأعمال، تم العمل بسياسة “شرط السلامة الأمنية” والتي أُقصي بموجبها كلُّ مَن لا يلبي شروط “السلامة الأمنية”، بحسب تعريف السلطة، وكان الهدف لإقصاء كلِّ مَن له علاقة بحركة حماس. 

وعلى إثر ذلك تم فصل عدد من العاملين في وزارة التربية والتعليم خلال عامي 2008 و2009، وبعد تقديم الطعونات والاعتراض على قرار وزيرة التربية والتعليم بفصل المعلمين لعدم موافقة الجهات الأمنية على تعيينهم أُعيد بعض الموظفين إلى عملهم، “حيث اعتبرت المحكمة أن قرار تعيينهم قد تحصن بمرور فترة التجربة، وأنّ شرط السلامة الأمنية ليس من ضمن مسوغات التعيين في الوظيفة العمومية عملاً بأحكام القوانين ذات الصلة.”

وطلبت السلطة من الموظفين العموميين في غزة بالاستنكاف عن العمل عقب فوز حماس في الانتخابات، مع استمرار دفع رواتبهم، والبالغ عددهم آنذاك حوالي 70 ألف موظف، حوالي 60% منهم استنكفوا عن العمل في حين 40% منهم لم يلتزموا بهذا القرار مع العلم بأنه جاء كأحد تجليات الانقسام والمناكفات ما بين الحكومتين، ولتعطيل سير العمل في الدوائر الحكومية في غزة. على أثر هذا القرار، لجأت حماس في غزة إلى تعيين 28 ألف موظف، ولم تستطع الاستمرار في دفع راتبهم بشكل كامل، حيث كان يتم دفع جزء من الراتب في بعض الأحيان، ومع عدم الانتظام، الأمر الذي أدى إلى حدوث العديد من الإضرابات والاعتصامات احتجاجًا على ذلك.

وخلال تشكيل حكومة التوافق الوطني العام 2014 على إثر اتفاق المصالحة بين حكومة الضفة الغربية وحكومة الأمر الواقع في غزة، وإعلان اتفاق الشاطئ، تم تبني آليات التعامل مع الموظفين في غزة، وعودة الموظفين المستنكفين عن العمل في غزة إلى العمل، إلا أن هذا الاتفاق فشل، واستمرت السلطة بدفع رواتب المستنكفين عن العمل، كما استمرت هذه الحكومة بتطبيق شرط السلامة الأمنية كشرط للحصول على وظيفة، أو حتى أي امتيازات لمَن كانوا أصلا داخل الوظيفة، كترقيات أو علاوات وغيرها.

شِهدَ عام 2017 سلسلةً من العقوبات التي فرضتها حكومة الضفة الغربية على حكومة الأمر الواقع في غزة كنتيجة للمناكفات السياسية بين الحزبين. وتمثلت العقوبات في عدة أشكال أبرزها قطع رواتب الموظفين وما تبعة من أثر جلي على كافة القطاعات الاقتصادية. فمثلاً، تم خلال شهر آذار من العام 2017 إجراء خصومات على رواتب الموظفين المدنيين والعسكريين، الذين أجبروا على الاستنكاف عن العمل عام 2006 إثر سيطرة حماس عسكريا على القطاع. 

كما استمر العمل بالعقوبات التي جاءت بإحالة عدد من الموظفين إلى التقاعد المبكر. ويقول محمد الهزايمة وهو مدير الموازنة العامة في وزارة المالية في رام الله أن النصف الأول من عام 2018 شهد استمرارًا لتلك العقوبات وإجراء خصومات على رواتب 32 ألف موظف في غزة (19 موظف عسكري، و13 ألف موظف مدني) حيث كان يحول فقط 50-70% من رواتبهم.2

يشير تقرير الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان إلى أن الهيئة تلقت في العام 2019 17 شكوى في الضفة الغربية وغزة، تتعلق بالفصل التعسفي من الوظيفة العامة، دون الالتزام بالمعايير القانونية لتوقيف أو فصل الموظف العام، كما أشار التقرير إلى أن حجم الشكاوى لا يعكس بالضرورةِ حجم الانتهاك، بسبب استمرار عدم استجابة أصحاب الواجب لشكاوى الموظفين في غزة وتظلماتهم.

فجوة الرواتب واللامساواة الاقتصادية  

تعتبر رواتب القطاع العام أحد اهم مصادر التفاوت الاقتصادي واللامساواة في المجتمع الفلسطيني، حيث يعاني القطاع العام الفلسطيني من وجود فجوات واسعة في رواتب الموظفين، سواء كانت فجوات داخل المؤسسة، أو عند مقارنة الدرجة الوظيفية بين المؤسسات الحكومية المختلفة. كما أن أكثر من نصف العاملين في القطاع العام يتقاضون راتب 2,200 شيقل  (664 دولار) فأقل، في حين تصل بعض رواتب مدراء المؤسسات العامة أكثر من 10 آلاف دولار شهريًا

وتزداد الفجوة اتساعًا عند مقارنة القطاع الأمني بالمدني، والذي يصل إلى حوالي 15% لصالح العاملين في قطاع الأمن. يشير هذا التفاوت إلى وجود حالة مزرية من اللامساواة الاقتصادية في توزيع رواتب العاملين في القطاع العام، الأمر الذي قد يشكل بيئة حاضنة لتفشي أشكال الفساد، والتي تظهر جلياً من خلال استغلال الترقيات والتعيينات في الوظائف العليا ومنحها لغير مستحقيها، بحيث يطغى أسلوب الواسطة والمحسوبيات واحتكار الدرجات الوظيفية العليا من قبل بعض النخب والموالين لهم. 

تتجه السلطة لتخفيف وطأة الضغوطات الاقتصادية التي تواجهها، لا سيما التسرب المالي الذي قدر في العام 2017 بحوالي 542 مليون دولار، وتناقص المساعدات الدولية، من خلال تحويل هذا العبء على كاهل السكان باستخدام أساليب مثل خفض مصاريف الرعاية الاجتماعية على ذوي الدخل المحدود، وقطع مدفوعات موظفي غزة، وزيادة الضرائب على المزارعين والتجار الصغار. بينما لا يتم وضع خطط استراتيجية لعمل استقطاعات واسعة من رواتب كبار الموظفين وإعادة توزيعها بشكل أكثر عدالة.

أن أكثر من نصف العاملين في القطاع العام يتقاضون راتب 2,200 شيقل (664 دولار) فأقل، في حين تصل بعض رواتب مدراء المؤسسات العامة أكثر من 10 آلاف دولار شهريًا Share on X

ومع بداية العام 2016، ابتدأ اضراب المعلمين، كحراك احتجاجي ضد السياسات الجائرة في توزيع الدخول في السلطة الفلسطينية، وإعادة إحياء النضال النقابي من أجل المطالبة بالحقوق، حيث برزت مطالبات بزيادة رواتب المعلمين بوصفه قطاعًا حيويًا في المجتمع، وتحسين أوضاعهم المعيشية والاجتماعية. عملت السلطة على مواجهة هذا الحراك، بدءًا بمحاولات إفشال التجمع والتظاهر، إلى اعتقال عشرات المشاركين بواسطة أجهزة السلطة الأمنية، انتهاءً بإحالة 117 معلمًا للتقاعد المبكر خلال عام 2018.

وقد أثار الشارع الفلسطيني مؤخراً قرارٌ رئاسي بإحالة ستة من القضاة المشهود لهم بالكفاءة والحياد للتقاعد المبكر، ومن المرجح أن تكون أسباب هذا القرار سياسية في المقام الأول، فقد كان لهؤلاء القضاة، بحسب نادي القضاة الفلسطيني، “قراراتٌ جريئة جداً في مواجهة السلطة التنفيذية”. وقد ترافق هذا القرار مع تعيين قاض متقاعد في عقده الثمانين رئيسًا للمحكمة العليا.

وهذا ما اعتبره الشارع الفلسطيني انتهاكاً للقضاء عبر فرض إحالات للتقاعد المبكر وتعيينات لا قانونية لقضاة مواليين للرئاسة في سياق حرب السلطة التنفيذية ضد النزاهة في النظام القضائي للسلطة. وبالإضافة الى ادعاء السلطة بعدم الرضوخ لطلب إسرائيل في منع دفع مستحقات الأسرى إلا أنها تستهدف أسرى محررين بعينهم وتقطع عنهم مستحقاتهم تحت ذرائع أمنية. 

ولعل أبرز الأمثلة الحديثة هو ما تداولته وسائل الاعلام حول قطع رواتب 165 من الموظفين ، وتقديمهم دعاوى قضائية أمام محكمة العدل العليا، وتهديدهم باللجوء إلى مؤسسات الاتحاد الأوروبي والمؤسسات الدولية. وقضت محكمة العدل العليا بعدم جواز قطع رواتبهم نظرا لأن قطع رواتبهم جاء على خلفية الخلافات السياسية بين السلطة الفلسطينية وتيار محمد دحلان، وهو مسؤول فتح المنفي والخصم السياسي لمحمود عباس. وأيضاً ما جرى من إقالات/ استقالات لكل من رئيس هيئة مكافحة الفساد، ورئيس سلطة النقد دون انتهاء مدد ولاياتهم، والتي على الأرجح نتجت عن خلافات سياسية غير مفهومة حتى الآن بسبب غياب آليات الشفافية والمحاسبة.

ما يجب القيام به 

تعكس ممارسات السلطة الفلسطينية واستخدام عملية التوظيف والراتب كأداة للمقايضة حالةً واضحة لاستغلال النفوذ لإحكام السيطرة وإدارة المؤسسات وفقا لأهواء ومصالح قلة من المتنفذين، كما أن الحالة العامة تعكس توسعاً في ممارسات الفساد، وتعميق اللاعدالة والإقصاء السياسي والاجتماعي. 

يتوضح بعد ما يقارب من ثلاثين عاماً من اتفاقية أوسلو بأنه يصعب إقناع صانعي القرار في السلطة الفلسطينية بجدوى استغلال الهامش الضئيل المتوفر للمؤسسات الرسمية الفلسطينية بضرورة عمل تغييرات هيكلية واسعة تأخذ بعين الاعتبار مبادئ العدالة في التوزيع والمهنية في التوظيف لتحقيق المصلحة المجتمعية العامة. لذا لا مفر من الحراكات المجتمعية والنقابية واسعة النطاق والعابرة للقطاعات كأداة ضغط يكفلها القانون الفلسطيني.

وفي هذا الصدد لا بد من الأخذ بعين الاعتبار مجموعةً من النقاط الأساسية للوقوف عند هذا الموضوع:

  • يجب على الحكومة إعادة بناء الهياكل التمثيلية وإبطال سياسة حكم الحزب الواحد، وتفعيل مفاهيم المشاركة في اتخاذ القرارات والمراقبة والمحاسبة.
  • يجب تعزيز استقلال القضاء، مما يشمل تعيين قضاة على أساس الجدارة والاحتراف.
  • يجب الضغط على الحكومة من أجل إقرار بطاقات الوصف الوظيفي وتحديدا لموظفي الفئات العليا، والرقابة على الالتزام بها. 
  • يجب على الحكومة العمل على معايير تضمن حق الفلسطيني في العمل في الوظائف العامة بغض النظر عن توجهاته أو انتماءاته السياسية.
  • يجب على الحكومة تحديد سياسة ومعايير محددة ومعتمدة لتحديد رواتب ومكافآت رؤساء المؤسسات العامة.
  • يجب إعادة إحياء النقابات العمالية المستقلة، والتي تعمل على تمثيل العمال والموظفين ومصالحهم بشكل ديمقراطي وشفاف، بعيداً عن تأثيرات النخب السياسية والاقتصادية والحزبية أو التهديدات الأمنية.
  • على منظمات المجتمع المدني، دعم الحراكات النقابية المطلبية، والضغط باتجاه تحقيق العدالة في الأجور وتخفيض الفجوة بين الرواتب، وتنفيذ حملات ضغط رادعة لسياسات الإقصاء أو فرض التقاعد القسري وتسييس الوظيفة العامة. ويجب أن تكون هذه الحراكات القاعدية جزءًا من توجه وطني استراتيجي نحو إعادة النظر بشكل جدي وجذري في بنية السلطة، آخذة في الحسبان الدورَ الأوسع لإعادة الاعتبار لبناء الحركة الوطنية ومؤسساتها التمثيلية.
  1. لقراءة هذا النص باللغة الفرنسية، اضغط/ي هنا. تسعد الشبكة لتوفر هذه الترجمات وتشكر مدافعي حقوق الإنسان على هذا الجهد الدؤوب، وتؤكد على عدم مسؤوليتها عن أي اختلافات في المعنى في النص المترجم عن النص الأصلي.
  2. تم جمع المعلومات خلال مقابلة أجراها المؤلفين مع مدير الموازنة العامة في وزارة المالية، رام الله، آب/أغسطس 2019.
لميس فراج، باحثة في السياسات الاقتصادية والسياسات التنموية، حصلت على درجة الماجستير في الاقتصاد من جامعة بيرزيت عام 2016، وعلى درجة البكالوريوس في الاقتصاد من جامعة بيرزيت عام 2010.
طارق دعنا هو أستاذ مساعد في دراسات النزاع والإنسانية في معهد الدوحة للدراسات العليا، ومحاضر مساعد في جامعة نورث وسترن في قطر. عمل في منصب...

أحدث المنشورات

 السياسة
بعد عام من المعاناة تحت وطأة العنف والدمار المستمرين ، يقف الفلسطينيون عند لحظة مفصلية. تتناول يارا هواري، في هذا التعقيب، الخسائر الهائلة التي تكبدها الشعب الفلسطيني منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023 والفرص المنبثقة عنها للعمل نحو مستقبل خالٍ من القمع الاستعماري الاستيطاني. وترى أنّ الوقت قد حان الآن لكي تتحول الحركة من رد الفعل إلى تحديد أولوياتها الخاصة. وكجزء من هذا التحول، تحدد يارا ثلاث خطوات ضرورية: تجاوز التعويل على القانون الدولي، وتعميق الروابط مع الجنوب العالمي، وتخصيص الموارد لاستكشاف الرؤى الثورية لمستقبل متحرر.
Al-Shabaka Yara Hawari
يارا هواري· 22 أكتوبر 2024
منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، قتلت القوات الإسرائيلية ما يزيد عن 40,000 فلسطيني في غزة، وجرحت 100,000 آخرين، وشرَّدت كامل سكان المنطقة المحتلة تقريبًا. وفي ذات الوقت شرَعَ النظام الإسرائيلي في أكبر اجتياح للضفة الغربية منذ الانتفاضة الثانية مما أدى إلى استشهاد ما يزيد عن 600 فلسطيني واعتقال 10,900 آخرين. كما وسعت إسرائيل نطاق هجومها الإبادي الجماعي في لبنان، مما أسفر عن مقتل ما يزيد على ألف شخص ونزوح أكثر من مليون آخرين. يسلط هذا المحور السياساتي الضوء على مساعي الشبكة في الاستجابة لهذه التطورات على مدار العام الماضي، من وضع أحداث السابع من أكتوبر في سياق أوسع للاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، إلى استجواب آلة الحرب الإسرائيلية متعددة الأوجه، إلى تقييم العلاقات الإقليمية المتغيرة بسرعة. هذه المجموعة من الأعمال تعكس جهد الشبكة المستمر في تقديم رؤية فورية للوضع الفلسطيني.
لا تنفك شركات الأسلحة البريطانية تتربّح من بيع الأسلحة لإسرائيل من خلال التراخيص الصادرة من الحكومة البريطانية، حيث بلغ إجمالي هذه الصادرات منذ العام 2008 ما يقدر بنحو 740 مليون دولار، وهي ما تزال مستمرة حتى في ظل الإبادة الجماعية الجارية في غزة. يشعر البعض بتفاؤل حذر إزاء احتمال فرض حظر على الأسلحة بعد فوز حزب العمال في انتخابات يوليو/تموز 2024، وبعدَ أن وعدَ بالانسجام مع القانون الدولي. في سبتمبر/أيلول 2024، علقت الحكومة البريطانية 30 ترخيصاً من أصل 350 ترخيصاً لتصدير الأسلحة إلى إسرائيل. ويرى الناشطون وجماعات حقوق الإنسان أن مثل هذا القرار محدود للغاية. وبناء على ذلك، تُفصِّل هذه المذكرة السياساتية الالتزامات القانونية الدولية الواقعة على عاتق بريطانيا وكذلك المناورات الحكومية الممكنة فيما يتصل بمبيعات الأسلحة لإسرائيل.
شهد الحموري· 15 سبتمبر 2024
Skip to content